على إثر ما دبّ من تحوّلات في تونس، بدأ حوار اجتماعي واعد يطلّ عبر خطاب سياسي وإعلامي، يتلمّس رسم معالم علاقات جديدة بين مجالات الدين والدولة والدنيا. فقد سادت ممارسات وأساليب، كانت الغلبة والكلمة الفصْل فيها لبأْس الدولة. لكن الطابع الجلي، في التعامل المستجدّ، يشي بخفوت نبرة التسلّط، إن لم نقل انعدامها، وعلوّ منطق التحاور والتروّي، وهو دأْب لم تعهده تونس. فلا غرو أن البلدان العربية تعيش وعيا متردّيا مع الدين، وهي تدور منذ عقود في دوّامة ما سمي بالأصولية وتبعاتها الأمنية والسياسية بدون مخرج.
وفي الراهن الحالي، وإن يكن المجتمع التونسي لا يزال يعيش برمّته حالة ثوران اجتماعي، فإن الفترة تتّسم بشكل عام بإقرار السواد الأعظم أن تونس دولة مسلمة، أكان الفهم لذلك بشكل عقائدي، أو ثقافي، أو تاريخي. لكن ضمن ذلك الوفاق، يبرز توجّهان: شقّ يشايع بناء دولة ذات طابع عربي إسلامي جليّ الملامح في دستورها، مقصده ليس التعنّت ضدّ الشق المقابل، بل تقويم ما لحِق بتونس من طمس لهويّتها، طوال العهدين السابقين؛ وهناك من الجهة الأخرى شقّ يرفع شعار الدولة اللائكية أو العلمانية، ضمانة ضد أي انزلاقات قد تنجرف إليها البلاد، وليس نكرانا لهوية البلد التاريخية، وقد تختلف درجات هذه الطروحات ومفاهيمها من امرئ إلى آخر.
والجلي أن جوهر المشكلة عائد إلى أن الباحث الاجتماعي التونسي كان محاصَرا عقله ومحدَّدا حقله. لذلك يجد التونسي نفسه اليوم أمام ظواهر لا عهد له بها، ولا بلغتها، ولا بتعرّجاتها. ربما كان من المحرّمات الحديث عن "النهضة"، أو "حزب التحرير"، أو عن "الفكر الشيعي"، أو عن "اليهود التونسيين". يعرف المتابع للشأن التونسي كيف أُكرِه الإعلام، طيلة عقد التسعينيات، على ترديد عبارة "المقاومة الوطنية اللبنانية" بدل "حزب الله"، وغيرها من أساليب الاستِحْمار لوعي التونسي، بدعوى قطع دابر التعاطف مع التيارات الدينية. ولذلك من الطبيعي أن يحدث شيء من التوتّر اليوم بين حساسيات المجتمع، لأن المرء لا يعرف بني جلدته. وإذا رمنا الخروج من التنافر فينبغي أن يعرف الإسلاميُ اليساريَ، وأن يعرف الليبرالي القومي، وأن يعرف المسلم غير المسلم، بإيجاز أن يعرف التونسيُ التونسيَ.
وبرغم اللّغْو الذي هزّ بلدنا طيلة العشريتين السابقتين بشأن "المجتمع المدني"، كان الأمر جعجعة عابرة في عتمة ليل ثقيل. ففي الوقت الذي علا فيه الحديث عن "حقوق الإنسان" اشتد فيه الانتهاك لكرامة التونسي. وقد ترافق ذلك، في السنوات الأخيرة، مع حديث في الغرب عن آفاق الديمقراطية في العالم الإسلامي، وكانت كلما طرحت المسألة بجدّية إلا وخلص أصحاب القول الفصل إلى أن البراغماتية تُملي بقاء الحال على ما عليه، لأن حكام العرب -كما يُقدِّرون- هم صمّام الأمان ضدّ شرور الأصولية، أو كما وصف الفرنسي جيل كيبيل أوضاعنا التي سبقت الثورة، في تصريح له على أعمدة صحيفة "لاريبوبليكا" الإيطالية (5 مارس 2011): "أن خيار الغرب كان بين بن علي وبن لادن"، حتى جاءت الثورة وكنست تلك المعادلة التي هيمنت على العقل السياسي الغربي واستبدّت به، في برلماناته وفي أكاديمياته.
ولكن الجليّ أنه ليس بالجدل وحده تُبنى الديمقراطيات، بل بالوفاق والالتفاف حول صياغات جامعة، لها من الجدوى والواقعية ما يسندها. فنحن نبحث عن رباط يشدّ الجميع، ولا أظن أننا في غير روح الإسلام نجده. وأقدّر أن الصياغة الوفاقية بين دعاة البعد الديني والطابع العلماني للدولة هي في مفهوم "الدين المدني"، بصفته التصعيد للقيم العليا لدين الناس ليلتحم بالسياسة.
ربما كان أول من اقترح صياغة "الدين المدني"، جون جاك روسو في "العقد الاجتماعي" 1762، وهو ما سارت على هداه الثورة الأمريكية، ولا يزال يقود سياسة ذلك البلد حتى الراهن، عبر ما يتجلى في شعارات "الرب يبارك أمريكا" و"في الله نثق"، وهو ما تناوله بالشرح عالم الاجتماع روبار بلاّه في مؤلّفه: "الدين المدني في أمريكا" 1967.
ذلك أن الدول تختلف في تعاملها مع الشأن الديني، فهناك دول أوروبية تقرّ في دساتيرها أو في أعرافها، بأن رأس الدولة، هو وكيل أمر المسيحية وراعيها الأول، وهو من يتولى تعيين الأساقفة ورؤساء الأساقفة: كما الشأن في أنجلترا (مع الأنغليكانية) وفي الدنمارك والنرويج والسويد (مع اللّوثرية). وبالتالي، التجارب عديدة والصياغات مختلفة لكيفية تعامل الديني مع السياسي، فليس في تسلّط أحدهما، أو في الفصل المجحف بينهما الخلاص، بل في وفاق الأطراف الاجتماعية حول تراضي الفصل أو تأكيد الوصل.
ذلك أن علاقة الدين بالسياسة نصنعها نحن التونسيين، وليست لباسا نستعيره من مشْجب الغير. والحقيقة أن الرِّيبَة من الإسلام اليوم، هي جرّاء تحويلنا إياه، في تصوراتنا، إلى دين غير مدني، ونُصرُّ على استهلاك تلك الصورة عنه. فـ"القرآن كتاب مسطور لا ينطق وإنما ينطق به رجال" على حدّ قول الإمام علي، وبالتالي يبقى الإسلام الديناميكي وحده القادر على بناء الديمقراطية التونسية.
فكما يتبين أن مفهوم الدين المدني لسنا غرباء عنه، فلو تأملنا في تراثنا القديم لوجدنا ما يحيل على ذلك، ففي نصّ "مدينة الله" للقدّيس أوغسطين الإفريقي (354-430م) حديث عن "اللاهوت المدني". والواقع يكشف أن الدين بشكل عام ينهض بنهوض الناس وينتكس بانتكاسهم، لذلك يُلوّن البشرُ معتقداتهم باللون العقلي واللبوس الحضاري الذي يتلوّنون به.