النسق الهوياتي-الثقافي العربي ـ البوعيادي محمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

0" الثقافة هي ما يتبقى عندما ننسى كل شيء"
بمعنى أن الثقافة هي ذلك العنصر الكامن وراء العقل المكوًّن ، أي إنها تلك الخلاصات الرابضة بالذهن و التي تشكل  المفهوم العام للثقافة بعيدا عن أي تخصيص ، و العرب مثلهم مثل كل أمم العالم لديهم ثقافة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ و الزمن ، بدء مما سمي " العصر الجاهلي" إلى يومنا هذا و امتدادا في الزمن الحاضر و حتى المستقبل ، و ثقافتهم هذه لا يمكن رصدها بعيدا  عن إبداعاتهم [ فكرهم \ شعرهم \ بلاغتهم \خطابتهم \ دينهم .....] أو عن ذكرياتهم و تصوراتهم ، فتعريف الثقافة  يشمل عدة عناصر تشكل هوية الأعرابي أيا كان و أينما كان ، و لعل تعريف الأستاذ الجابري يلخص هذه العناصر المكونة للثقافة بشكل عام : " الثقافة ذلك المركب المتجانس من الذكريات و التصورات و القيم  و الرموز و التعبيرات و الإبداعات و التطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية بهويتها الحضارية في إطار ما تعرفه من تطور بفعل ديناميتها  الداخلية و قابليتها للتواصل و الأخد و العطاء، و بعبارة أخرى الثقافة هي المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم ، عن نظرة هذه الأمة للكون و الحياة و الموت و الإنسان  و مهامه و قدراته و حدوده و ما ينبغي أن يعمل و ما لا ينبغي "فكر و نقد ، عدد 2 ص (5-6) 1998
و لعلنا نستطيع وفقا لهذا التعريف أن تستقي بعض المكونات الثابثة في كل ثقافات العالم  لنقيس عليها الثقافة العربية و نحدد مكوناتها الداخلية التي تشكل النسق  بدء بالهوية العربية على أساس أن الهوية الثقافية هي الأخرى تتمثل النسق الثقافي و تتشربه . فما هي مكوناتها ؟


وفقا للتعريف السالف ذكره تتلخص المكونات الأساسية لكل هوية في ثلاثة موضوعات متفاوتة طبعا متساوية أهمية و أولها :
₁- اللغة:
تشمل الهوية العربية اللغة كمحدد أساسي أولي و هي اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن و البيان، تشكلت إثر وضع الخليل ابن أحمد الفراهيدي حروفها وضعا يناسب بنيتها التي كانت شفوية بالأساس  ثم تحولت على يد الخليل إلى مستوى البنية الكتابية ، و أصل الخط العربي مختلف فيه بين من يرده إلى الأصول النبطية و بين من يزعم أن له أصولا كلدانية طورها الخليل و تمت على يديه صورتها الأخيرة التي نعرفها الآن ، أما من حيث اللغة الصوتية ذاتها فقد تشكلت وفق مزيج من اللهجات القبلية (تميم ، هذيل ، قيس عيلان، طائف ....)غير أن الرافد الأهم فيها هو رافد قبيلة قريش  الحاكمة و  التي  خرجت منها الدعوة النبوية، و لم يكتمل صرح اللغة العربية إلا في المرحلة المسماة مرحلة " جمع اللغة " حيث تواترت زيارات فقهاء اللغة إلى القرى و البوادي لأجل تصحيف المفردات و جمعها في معاجم مبوبة ، فكانت تلك هي القفزة النوعية التي أسست لعلم الدلالة  عند العرب، و قد حدد المعيار الأصيل لجمع اللغة  في مدى  قربها من البادية و نتوجها على يد البدو  لأنهم ذوو السليقة  و اللسان الأثيل ومن ثمة تراكم المحصول اللغوي عند العرب و صارت لغتهم محفوظة من الضياع خاصة و أنها لغة القرآن التي قال لهم ربهم أنه سيتكفل شخصيا بحفظها  من حيث إنه يحفظ القرآن الذي لم يكن  سوى بهذه اللغة ذاتها" إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون" ...

بهذا الشكل تعرض كتب فقه اللغة  لمرحلة تأسيس اللغة العربية ووضع قواعدها الأولية ولكن الذي يكاد يفاجئنا الآن هو أن معظم التصنيفات الحديثة  حتى التي تتبع مناهج إبستيمولوجية علمية لا تكاد  تتكلم عن اللغة  إلا في العصور التي ولت ، و كأن العربية لغة لا توجد إلا في الماضي أو كأنها لغة تفتقد  لحياة و استمرارية فيرفع عنها الطابع التاريخي التطوري الذي يشكل جوهرا في كل لغات العالم ، و لعل ذلك راجع بالأساس إلى أن المبحث اللغوي الحديث انتقل مشعله من مجال فقه اللغة  إلى مجال الألسنية و المبحث السيميولجي، هذا إضافة إلى أن التصور الجمعي الذي تأسس عند العربي عن لغته هو تصور لا يخلو من تقديس لهذه اللغة مع العلم أن اللغة كائن يموت كلما اقترب من التقديس و الجمود، لأن تقديس  لغة ما يعني الحكم عليها بالموت السريري و تجميدها  حتى تصبح زاحفة غير قادرة على مسايرة ركب التطور ، و لا يخفى على فهيم أن اللغة العربية في أيامنا هذه تعاني من مرض التقديس المزمن و الذي لم يعد مقبولا لا من الناحية التاريخية و لا من الناحية العلمية ، فالعقل العربي لا يمكن أن يتطور إلا من خلال اللغة كما أن اللغة لا تتطور في معزل عن العقل ، غير ذلك سيبقى العقل اللغوي و اللساني متخلفا تخلفا ذاتيا دونما الحاجة إلى مقارنته مع العقل اللغوي الأوروبي الذي يجاوره في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط ، لذلك نرى أن سحب طابع القدسية على القرآن كبنية لغوية يعيق تقدم البحث اللساني ، لأنه لا يعقل ان يظل كل مبحث جديد  يعاني من فوبيا  التجاوز الدلالي أو اللغوي للقرآن كما انه لا يمكن أن يظل كل باحث ملزما بالمنهجية التاريخية السردية التي تفرضها متون النصوص القديمة على كل بحث أراد أن يعالج مبحثا في البلاغة أو علم الدلالة ....و بالإضافة إلى الإشكال المذكور لا يمكن تجاهل عنصر آخر لا يقل أهمية و هو عنصر خارجي و داخلي في الوقت ذاته، إنه عنصر التقدم الاقتصادي و العلمي، ففي الوقت الذي تبتكر فيه يوميا عشرات التسميات لآليات و منتجات تقنية و علمية بلغات أخرى (اللغة الإنجليزية خصوصا) نكاد لا نسمع عن اي اختراع تكنولوجي اجترح له لفظ عربي ، ذلك ببساطة لأن العقل العربي لم يعد قادرا على الإنتاج بشكل يسمح له بفرض لغته و تأسيس قاعدة معجمية عريضة لها تستقي من منتجات و ابتكارات العقل في مجالات الفكر و الصناعة الاقتصادية و التكنولوجية و الرياضية ...
و عموما تشكل اللغة العنصر التأسيسي للهوية العربية عنصرا يمكن اعتباره  المشكاة التي تنير جوانب باقي المكونات بما في ذلك العنصر الذي سيأتي ذكره حالا.

²- الدين:
يشكل الدين عنصرا خطيرا في تشكيل الهوية العربية الإسلامية(على اعتبار أكثر من تسعين في المائة من ساكنة العالم العربي مسلمة لم نميز بين الهوية الإسلامية بإيحائها الديني و بين الهوية العربية ، و لكن ذلك لا يعني أن الفصل بينهما غلط بل ربما يكون هذا الفصل مطلوبا في سياق آخر إلا أننا ذكرناهما معا لندخل دولا غير عربية لكنها إسلامية في نسيج هذه الثقافة كماليزيا و تركيا ..)، فمن الدين  انبثقت باقي الخطابات العلمية و غير العلمية ، العقلية و النقلية منها، من الدين و قياسا على القرآن و ركونا إليه تأسس الذوق العربي و الحس البياني اللغوي، لآجل الدين نشأ علم النحو كما تذكر المراجع القديمة و الحديثة بغية تجنب اللحن في القراءة وتأسست معه علوم الفقه بفروعها كاملة بشقيها الظاهري و التأويلي  لاجل تفسير الوحي و النفاذ إلى تعاليمه و معانيه الكامنة " كالدرر"، من القرآن استيقت الركائز الأولى لعلم البلاغة و علم الدلالة ، بل إن كل العلوم حقة كانت أم دون ذلك تأسست عند العرب إما على القرآن و السنة وإما أنها تأسست في علاقة غير مباشرة معهما كما هو الحال لما يسمى "الطب النبوي" مع العلم أن صفة العلمية وفقا للمعايير الآنية لا تنطبق على هذه الظاهرة ، و حتى العقلانية العربية ما كانت لتعارض الدين كما حصل في أوروبا الحديثة ، مع العلم ان الطابع و الشرط التاريخيين لأوروبا الوسيطة لا ينمازان  عن نظيريهما العربيين من حيث البنية و الهيكل الذي تأسست وفقه العلوم و الآداب( في العصر الوسيط كانت هيمنة المسيحية الكاثوليكية أشبه بهيمنة الإسلام في الدولة العربية) ، بل إن هذه العقلانية انطلقت من الدين و لأجل الدين ، والمقصد هنا علم الكلام ذي الطابع العقلي خاصة برافديه المهمين ، التيار المعتزلي و التيار الأشعري الذي حمل المشعل بعده فمعظم رواد وكبار هذين التيارين( أبو هذيل العلاف – الخياط المعتزلي – إبراهيم بن سيار النظام-أبو علي و أبو هاشم الجبائيين – الجاحظ ...[المعتزلة] \ الأشعري أبو حسن ، الغزالي ، الباقلاني ...[الاشاعرة] )  معظم هؤلاء لم يتجرأوا على نقد البنية الدينية من أساسها و طابعها الخرافي اللاعقلاني (الحديث هنا عن نص الوحي) ، بل غنهم تجندوا لمواجهة الفلسفة العربية الإسلامية  التي نشأت باحتكاك مع الفكر المنطقي اليوناني " ليردوها على أعقابها" ، فالبرغم من وجود بعض الأبحاث التي تحاول إن تخلع الطابع العقلاني الصرف على التيار المعتزلي فتميزه عن التيار العام الذي ساد الثقافة الإسلامية آنذاك ، إلا أن الأمر يتضح عكس ذلك إذا أمعنا النظر و التفكر قليلا ، فالمعتزلة لم يختلفوا عن التيار الفقهي الأصولي مع الشافعي أو التيار العقدي الأصولي مع الأشعري في الجوهر بل اختلفوا منجيا فقط ، أما من حيث الجوهر فقد كانوا على وفاق و اتفاق من حيث المبادئ الأربعة المؤسسة للعقيدة و للتشريع معا ، ففي الحين الذي قدم فيه أهل الفقه الكتاب على السنة ثم يليهما الإجماع ثم العقل في مرتبة أخيرة=ة كمراجع التشريع  قام المعتزلة بتقديم العقل على باقي المكونات المذكورة ، يقول الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي المعتزلي(169-246هجرية)في مطلع رسالته "أصول العدل و التوحيد":
" جاءت حجة العقل بمعرفة المعبود، و جاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد وجاءت حجة الرسول بمعرفة كيفية العبادة، و العقل أصل الحجتين الأخيرتين لأنهما عرفا به و لم يعرف بهما فافهم ذلك"، و لعل مثل هذه المتون  التي تجعل العقل في مرتبة متقدمة على "حجة النبوة" وأكثر من ذلك "حجة الكتاب" أوحت لبعض الكتاب أن رواد التيار المعتزلي كانوا حماة العقل و المنطق ضد المد النقلي الجارف الذي اكتسح فضاء الهوية و الثقافة العربيين منذ مجيء محمد، لكنهم يتناسون في ذلك أن كل هذه اللعبة مبنية على غاية واحدة هي النص ، أصل التشريع هو فهم النص، وظيفة العقل وفقا لذلك تكون دعوة غرضها موافقة النص باعتماد بعض المقولات المناسبة ، الدعوة للعقل هنا لم تكن دعوة نابعة من رغبة في تحكيمه مستقلا عن النص بل كانت لأجل إضفاء  تفسيرات نصف- منطقية على تخريفات النص الديني ، لذلك "فالعقل هنا مع المعتزلة أو هناك مع الشافعي مجرد أداة، فهو في جميع الأحوال في خدمة الكتاب و السنة و ليس بديلا عنهما" تكوين العقل العربي ص 120.

أما الأشاعرة فكانوا أكثر تحفظا في التعامل مع العقل ، لم يؤمنوا بالضرورة العقلية أصلا بل ذهبوا إلى اعتبار المقولات الأساسية للعقل – كما حددها أرسطو- من قبيل التقليد الكتابي ، من قبيل العادة ، فاعتبروا المقدمات العقلية مجرد إكليشيهات جرى التقليد على تضمينها في المصنفات و الرسائل دونما أن تلعب دورا تأسيسيا في مجال العقيدة، لان العقيدة ثابتة ثبوت الخاتم في اليد و ما إدراج المقدمة العقلية إلا لخدمة النتيجة المحسومة سلفا ، هذا إذا علمنا أن شقا كبيرا من الفلاسفة العرب  ارتبط إنتاجهم الفلسفي بمحاولات التوفيق بين العقل و العقيدة لأجل نصرة الدين بدرجة أولى و ليس لأجل ترسيخ تقليد فلسفي أو لوضع قواعد للتفكير المنطقي العقلاني كهدف أولي، و لنا في أفكار بعض الفلاسفة أسوة حسنة ، حيث استقوا فكرة الفاعل الأول مقلا من أرسطو فأضفوا عليها طابعا روحانيا  مع العلم أنها فكرة ولدت خارج سياق الدين  في أحضان الفكر الفلسفي ، أخدها المسلمون و تحدثوا عن " الصانع الذي يعرف بدلالة المصنوعات" (جابر بن حيان) وهنا أيضا يظهر المبدأ الهام الذي شغل عقول المفكرين المسلمين طويلا وهو مبدأ السببية حيث إنهم ركزوا القول في هذا المبدأ و اجترحوا له الأمثلة تلو الأخرى لتعزيزه ( يمكن أن نسمي هذا المبدأ حمار الفلاسفة المسلمين) فضلا عن مثال الطاولة و النجار الأرسطي أصلا ، لكنهم (المتفلسفون العرب) لم يميزوا بين الإله الأرسطي ذي الطابع الرياضي و العلمي الصرف و الإله الثيولوجي الذي يسكن السماء و الذي يمنح و يمنع ، علاوة على أن العقل الفلسفي العربي اجتر إلهيات أرسطو اجترارا حماسيا انتقائيا ، حيث أن المطلع على شروحات العرب لأرسطو  يعجب من التفسيرات المغالية و المروحنة لفكره في الإلهيات في مقابل إهمال كبير لمصنفاته في السياسة و المنطق التي تقابل ببرود ، خاصة أن الفكر السياسي الإسلامي لم يكن قادرا على محاورة الفكر السياسي الإغريقي الذي كان متقدما (ولازال) عليه  و الذي اعتبر المشتل التاريخي و الأركيولوجي للممارسة الديمقراطية في التاريخ السياسي للبشر ­(تجمعات ساحة الآغورا)، فالممارسة السياسية في الإمبراطوريات الإسلامية لم تكن لتستقي أسسها من التنظير الفلسفي(وربما يفسر هذا غياب الفلسفة السياسية عند العرب)  ذلك لأنها مغلولة بتوجيهات الشريعة "الإلهية" ، و ليس هذا و حسب بل إن واقع الطابع  الحليفي لتسيير الشأن العام داخل الدولة الإسلامية لم يكن يسمح بفتح آفاق ممكنة أمام العقل السياسي العربي الذي لم يكن ليرتفع إلى فهم مبادئ المشاركة السياسية الأثينية المتمثلة في شبه اقتراع جماعي على القوانين الخاصة بالتسيير الدولتي ، بل إن القرار السياسي كان محتكرا و لازال من قبل البلاط،  هذا القرار الذي يتم دعمه من قبل فقهاء الدولة الذين يدافعون عن إيديولوجيتها بإضفاء الطابع الشرعي على التوجهات السياسية التي تلتمس لها الدلائل من الكتاب الذي لا يبخل بدوره بالأحكام التي توجب الطاعة التامة لصاحب السلطة ، لأن التوجيهات السياسية التي يتضمنها القرآن محكومة بطابع تاريخي يرافقها منذ نشأتها و تأليفها ، بمعنى أن التوجيه السياسي الذي يحتويه القرآن كان ملزما بأن يخدم مصالح الدولة القائمة و الجديدة و نحن نعرف أن مرحلة التأسيس لا توطد فيها الأحكام و الممارسات الديمقراطية لأنها قد تخل تقوض البناء العام للدولة قبل إنشائه حتى ، و قد رأينا فيما بعد كيف التمس أبو بكر الطرطوشي الدلائل النصية لوجوب الطاعة التامة للحاكم و رأينا كيف وطد الماوردي في "أحكامه السلطانية"  لمبدأ الحكم الخليفي بناء على تحديدات الشريعة التي  لم تكن إلا لتغلب كفة المحكوم على الحاكم للسبب الذي ذكرناه و عموما لا يمكننا أن نزعم أن الفلسفة العربية كانت قائمة بذاتها مستقلة عند العرب لأنها نشأت في وسط غير قابل لاستنبات الفكر المنطقي وسط تحكمه نظم المعرفة البيانية أكثر مما تحكمه نظم المعرفة البرهانية ، بل إن فيلسوفا من قيمة الفارابي اعتبر المنطق العقلي متضمنا في الدين أصلا ، و كي لا يكون كلاما في الهواء نسوق شاهدا له في سياق حديثه عن موقف النظرة الفيضية من ثنائية الشريعة\ الحقيقة في الفكر الإسلامي ، يقول " الآراء النظرية التي في الملة براهينها في الفلسفة النظرية و تؤخذ في الملة بلا براهين" كتاب الملة ص 47 ، تحقيق محسن مهدي،دار المشرق- بيروت 1968.

واضح هنا أنا أبا نصر يتجاوز عن الطابع اللاعقلاني و الهرمسي لنص الوحي فيجعله على قدم المساواة مع الفلسفة من حيث ارتكازهما على البرهان العقلي كما زعم ، و هو أمر ليس مستغربا على الإطلاق بل إنه مفهوم في سياق ما قلناه عن النزعة التوفيقية في الفلسفة الإسلامية و التي تنصرف عن العقل لصالح الوحي ، بل أكثر من ذلك تستخدم العقل بكل مقولاته و محدداته البنيوية لتضفي طابع العقلانية على الدين فيما أسماه الأستاذ الجابري " المعقول الديني" في الجزء الأول من مشروعه" نقد العقل العربي" ، المعقول الديني يتلخص في محاولة إضفاء البرهان على البيان و اقتياد هذا البرهان راغم الأنف ليخدم بنية أقل علمية منه و أقل رزانة من حيث بناؤها الداخلي ، و قد بلغت المسألة مبلغا يهدد مصداقية الأصول التي تفهم الثقافة العربية على ضوئها، وصل كتاب كبار معتمدون لفهم التراث الإسلامي إلى حد انتحال أقوال و إلصاقها لفلاسفة لا يعقل أن تكون لهم بالنظر إلى البنية النصية و الفكرية لفلسفة هؤلاء ، فأبو الفتح الشهرستاني  بقيمته العلمية و التاريخية نسب نصوصا ذات طابع ديني إلى الحكماء السبعة ( أساطين الحكمة)، و لكي لا نفتري على صاحب " الملل و النحل" نسوق النص الذي كشف الأستاذ الجابري عن كونه منتحلا بشكل فاضح ، النص الذي يكشف أن أكبر مؤرخي العالم الإسلامي إلى جانب البيروني يخلط بين أفكار ذات طابع فلسفي خالص و بين مكونات دينية محضة ، يقول الشهرستاني في سياق نسبه نصا لأمباذوقليس " ثم قال انباذوقليس [يعرض أقواله الفلسفية الأصيلة] ...و قد تمردت قوى الطبيعة هذه لبعده عن العلة الأولى لكونها معلولة عن كلياتها و طاوعتها الأجزاء النفسانية مغترة بعالمها الغرار الغدار فركنت إلى لذات حسية من مطعم و مشرب [...]و نسيت ما طبعت عليه من ذلك البهاء و الحسن و الكمال الروحاني و النفساني العقلي ، فلما رأت النفس الكلية تمردها و اغترارها أهبطت إليها جزء من أجزائها و هو أزكى و أشرف [...]يحبب إلى النفوس المغترة عالمها و يذكرها بما نسيت و يعلمها ماجهلت و يطهرها بما تدنست فيه و يزكيها عما تنجست به ، وذلك الجزء الشريف هو النبي المبعوث في كل دور من الأدوار ، فيجري على سنن العقل و العنصر الأول من رعاية المحبة و الغلبة فيتألف بعض النفوس بالحكمة و الموعظة الحسنة و يشدد على بعضها بالقهر و الغلبة ..." أبو الفتح الشهرستاني ، الملل و النحل ، ج2ص 126.
لا شك أن النص منحول و انتحاله بين لكل لبيب فهو ليس في حاجة إلى التدليل عليه حتى ، فهو من الناحية اللغوية يحتوي على مفردات نشأت في حضن البيان العربي مثل " الموعظة الحسنة" و "النفس المغترة" فأين لانباذوقليس  بالحديث عن النفس المغترة ، تلك التي تذكرنا بالنفس الآثمة الأمارة بالسوء ، هذا علاوة على أن الفيلسوف  لا يمكن أن يتحدث عن النبوة " النبي المبعوث" فالأساطير اليونانية لم تحتوي على فكرة النبوة لأنها فكرة استبدت بها الديانات الرسالية على وجه الاختصاص ، وهي قطعا لا تشكل فكرة فلسفية لا عند الحكماء السبعة و لا عند أفلاطون و لا في طور العقلانية اليونانية مع أرسطو و تلامذته ، وهذا الانتحال ( الذي يعتبر ظاهرة شمولية عند العرب خاصة في عصر التدوين حيث دونت النصوص المؤسسة )تكرر كثيرا في مجالات الفكر العربي القديم و الحديث و لا زال يتكرر ، و نحن لا نحاكم أجدادنا بمنطق الصرامة العلمية منهجا و مادة لأنهم على كل حال ما كانوا ليتجاوزوا شرطهم التاريخي و المعرفي آنذاك ، لكن و بالمقابل ننكر على بعض الكتاب " المعاصرين" ما يمارسونه من مسخ للفلسفة في ظل المد الإسلاموي واستفحال الظاهرة الأصولية " المحدثة" و الشاذة إن جاز التعبير فاقتياد نصوص مجزوءة و مقتطعة يفقد النص طابع المصداقية و يغرقه في المد البياني الأجوف الذي يركز على الألفاظ الرنانة و البراقة في مقابل إهمال التمحيص العقلي للمادة المدروسة ، و إن اقتياد نصوص مقتطعة من سياقها التداولي يسيء كثيرا إلى مصداقية مشروع القول في أي قضية من القضايا الأصولية التي تكرر نفسها بعد مرور قرون و قرون لأن مادتها "أزلية" للأسف  خاصة في نصوص الظاهرة الدعوية حيث يدنس النص الفلسفي أيما تدنيس ، وهم يدنسونه من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون حين يجعلونه خادما لخطاب غيبي غير منطقي ، لا عقلاني، يعج بالخوارق و المتناقضات التي تهزأ بالعقل و تضحك على الذقون.
ثالث مكون من مكونات الهوية العربية :

³-التقاليد  و الأعراف و الرؤية العامة للكون:
يبقى العنصر الثالث المتعلق بالرؤية العامة للكون مرتبطا في جوهره بالدين هو الآخر، نتضح ذلك في نوعية الرؤية الإسلامية للكون حيث إن للإنسان المسلم رؤية متعالية متسامية عن العالم متركزة في مثل مفارقة للكون و للمادة عموما بأي شكل كانت ، يشترك المسلمون في ذلك مع الشعوب التي تنتشر فيها الديانات الموحدة لمبدأ الخير الكلي "الله" : المسيحية و اليهودية بدرجة أولى ، فالعالم في منظور الإسلام كما هو في منظور هاتين الديانتين معبر مؤقت لعالم منماز بقيمه الخير المطلقة ، حيث لا صراع و لا تطاحن حول السلطة أو المال و لا وجود  للشر فالغلبة هناك للقيم الإلهية وحدها تلك القيم التي سمّى الله نفسه بها " أسماء الله الحسنى"،  هذه الرؤية العامة و المحددة للمنظور الوجودي عند المسلم لم تسلم من محاولات التجميد و الاستلاب التاريخيين كما حصل للغة إلا أنها  بالرغم من ذلك لم تخضع لمنطق الظاهرة الأصولية التي أصابت اللغة كما سبق أن
تطورت هذه الرؤية تبعا للزخم الكبير من التغيرات العسكرية و الاقتصادية و الفكرية على الساحة العالمية و بفضل عمليات التثاقف أيضا بل و حتى بسبب المد الإمبريالي خلال نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين ، و بعد ذلك اشتد الاحتكاك مع الثقافتين الأوروبية و الإنجليزية حيث انتشرت أصداء الفلسفة الوجودية  في فترة الثلاثينات إلى حدود الستينات من القرن العشرين  ليفتح الباب أمام المد الشيوعي و الفكر الماركسي الذي غزا البيوت و الجامعات خلال السبعينات بالإضافة إلى انتشار مختلف التيارات الفلسفية و ظهور دراسات أعادت قراءة التراث بمنظار الحداثة  فتغير تلقي الكثير من المذاهب و الشخصيات في التاريخ الإسلامي ذاته ، فتغيرت مع كل هذه الروافد نظرة العربي للكون و انتشرت المذاهب الإلحادية و اللادينية و اللاأدرية  ليعود المد الإسلاموي مع مطلع الثمانينات و لتنتشر الظاهرة السلفية على نطاق واسع ، لكنها بالرغم من ذلك لم تستطع أن تعود بالإنسان العربي غلى نقطة الصفر ، فأصبحنا نتحدث عن رؤى وجودية للكون و لله و للإنسان و ما عاد بمقدورنا أن نتحدث عن رؤية  أحادية مستبدة بالعقل و الوجدان العربيين كما كانت لقرون طويلة ، خاصة وأن الإيديولوجية الإسلاموية من حيث شقها السياسي المتمثل في الحركات السرية و العلنية تتعارض مع إيديولوجيات الحكام العرب و مع أنظمتهم الاستبدادية التي تتلفع برداء الحداثة السياسية ، من جهة أخرى ينقسم العالم الإسلامي على ذاته انقسامات بينة لا يمكن تجاهلها فيما يخص التقليد الفلسفي و الفكري على الأقل ، فسيادة النزوع إلى العقلانية في المغرب الإسلامي تبدّت واضحة المعالم منذ ابن رشد و ابن طفيل في مجال الفلسفة و ابن خلدون في مجال التاريخ "علم العمران" و ابن البناء المراكشي و الشريف الإدريسي و غيرهما في مجالات العلوم الحقة مع العلم أن مفهوم الاجتهاد الكلي لم يكن قد اختفى  بعد إلى حدود القرن الثامن الهجري، هذا الطابع العقلاني لمفكري الغرب الإسلامي رافقه و قابله طابع عرفاني إشراقي في المشرق الإسلامي و لا غرو في ذلك ، ففي المشرق الإسلامي تبقى سلطة الجغرافية( القرب من منشإ الدين ) و سلطة التاريخ أكثر استحكاما في البنية المعرفية، فهناك نشأت العلوم العرفانية من تصوف و تشوف و كان طبيعيا(نسبيا ) أن  يظل العامل المضمر (الدين) منبعا لكل ابتداع يكون في جوهره اتّباعا ، وكان طبيعيا أن يكون "أصلا" لكل "فرع" مهما حاول هذا الفرع أن يتنصل  من قيود النقل و مهما حاول الجنوح نحو العقل و قد أشرنا إلى علم الكلام و الفلسفة الإسلامية و كيف أنهما ظلا حبيسي التقليد و التوفيق بين الدين و العلم قافزين في ذلك على البنية الأسطورية للدين ذاته و التي كانت في كل مرة تعري نصوصهم من الأصالة و تجعلها خطى غير واثقة فباستثناء أولئك الدهريين القلائل و أولئك المعتزلة المتطرفين الذين يعدون على أصابع اليد
الواحدة كان جماع الفكر الإسلامي يقدم خطوة نحو العقل و يتراجع خطوتين نحو النقل خوفا من " الانزلاق الحر" نحو العقل أو نظرا لظروف سياسية و اجتماعية قاهرة دفعت عباقرة مثل ابن المقفع ليلعبوا لعبة التقية(التقية مذهب شيعي بمقتضاه يخفي الشيعة مذهبهم خوفا من السجن كما كان الحال في عهد الخليفة المهدي في العصر العباسي)، أو دفعت مجانين رائعين مثل ابن الراوندي إلى حد المقصلة الخليفية ، و حتى أولئك الرائعين الذين لم ينكروا الملة و الله لكن أحبوه بطريقتهم (المتصوفة) عانوا الأمرين من البلاط المهدوي ، فحرق ابن سبعين و رجم أبو الحسين الحلاج أمام أنظار العامة قبل أن تصلب جثته و يعلق ( كانت تلك واحدة من أجمل القصص الرومانسية في تاريخ الفكر الإسلامي ، فوفق لويس ماسينيون رجم الحلاج في وسط المدينة بعد أن وسوس فقهاء الدولة للخليفة فاتهموه بالإلحاد ، و حين كان الجمع يرميه بالأحجار تقدم شيخه و معلمه  الشيخ الجنيد و دموعه في عينيه و أخد يرمي تلميذه الحلاج بالزهور و الورود ....
هذه البنية الدينية التي تحدثنا عنها و التي استحكمت سيطرتها  على العقل و العاطفة العربيين هي التي رابضت و ترابض وراء الممارسات  و السلوكيات و التقاليد اليومية  للإنسان المسلم  و منها تستقي هذه التقاليد أساسها الشرعي ، بل في حالات عدة تكون الممارسات و العادات في صلب الشريعة كالأعياد الدينية التي تشكل أهم الأحداث على مدار السنة الهجرية (عيد الأضحى-عيد الفطر-احتفالات عاشوراء- ليلة القدر- عيد المولد النبوي...)و حتى إن لم تكن الشريعة هي المنبع المباشر للحدث فإنها تحضر فيه بشكل أو بآخر ، في الموت (قراءة القرآن) في الأفراح  يحضر القرآن بقوة و يشكل محور الحدث ، لذلك قلنا إن التقاليد و الأعراف العربية معظمها تكتسي طابعا دينيا بالأساس ، لكن ذلك لا يعني غياب احتفالات ذات طابع مغاير خاصة في القرن الأخير (العشرين) حيث انتشرت ظاهرة "عولمة الثقافة" فاستنسخ العرب ممارسات ثقافية  مغايرة  كالاحتفال برأس السنة و عيد الحب و تلك الأعياد المدنية و حتى الدينية أحيانا التي نشأ معظمها في القارة الأوروبية كعيد العمال و عيد المرأة و عيد الطفل و عيد الأم ، خاصة عيد المرأة  فبتصوري لم تكن المرأة لتحظى بعيد يمجدها و يحترمها في ثقافة العربان عكس أوروبا  نظرا لانتشار حقوق الإنسان (الإعلان العالمي الفرنسي لحقوق الإنسان)  و الانتشار الواسع  للفلسفات الأنوارية  فيها و التي تجعل المرأة و الرجل  على قدم المساواة (نص روسو  في العقد الاجتماعي على حق المرأة في المشاركة السياسية إلى جانب الرجل) و قد توطدت مثل هذه الأعياد في المجتمع العربي  المعاصر في ظل ما يسميه "فطاحلة" الاتجاه السلفي بالتبعية "للغرب الكافر" و في ما يسميه آخرون ب"المثاقفة" التي تعتبر ميكانيزما يساعد على تبلور الثقافات المحلية ، إذ إن الثقافة المحلية لا يمكن أن تبقى حبيسة أفقها المنغلق فالتثاقف  فعل جبري حتمي و إيجابي(مالينوفسكي) و هو يؤثر على السلوكيات و التصورات و يمكن أن يغنيها و ينعشها و في الحقيقة هذا هو دأب الثقافات التي نشأت حول الحوض الأبيض المتوسط منذ القديم ، استفاد العرب و تثاقفوا  مع اليونان ، ثم استفادت أوروبا الوسيطة من الفكر الإسلامي الفلسفي و العلمي خاصة( الطب – الفلك – الكيمياء – التنجيم...) لقرون طويلة  و ها نحن نستفيد آنيا من منتجات العقل الغربي كما يستفيدون هم أيضا من عقول العرب ( هجرة الأدمغة) غير أن نسبة الاستفادة و التبادل متفاوتة احتكاما إلى التقدم الاقتصادي و القوة الإنتاجية التي يمتاز بها العقل الغربي مقارنة بنظيره العربي (حاليا)  و بالأخص في مجالات العلوم التطبيقية و التجريبية ، كل ذلك في ضوء ما أسماه ابن خلدون ب"تبعية المغلوب للغالب" فالعرب طالما فهموا  العلاقات الثنائية بمنطق الصراع يساويهم في ذلك الأوروبيون في العصر الوسيط إلى حدود نهاية المد الاستعماري ، لكن هذا المنطق أصبح صعب التقبل أو على الأقل لم يعد مجديا  فذلك " الآخر" الذي طالما اعتمدت الثقافة العربية على وجوده لتقوم اهتزازاتها الداخلية و تحقق تعاضدها الداخلي حين تتهمه ب"المؤامرة" على الدين و الملة ، ذلك الآخر  لم يعد واحدا موحدا ، بل إن العالم لم يعد مجرد  غرب\شرق  فهناك قوى اقتصادية و ثقافية جديدة ظهرت على الساحة و لم يعد فهم المسألة  بمنطق العدو الكافر ممكنا كما فهمه أجدادنا ، بل الذي يمكن أن نتحدث عنه اليوم هو منطق " النّدية" حيث لا ينتفي مفهوم الصراع ، لكن في الوقت ذاته تبقى إمكانات التبادل و التجاور و التثاقف قائمة ، وعموما تبقى الممارسات اليومية و الأعراف و التقاليد و الأعياد و الأحزان العربية منقسمة بين ماهو ديني و هو الذي يشكل الممارسات الأصيلة لأنها ناشئة في ظل الثقافة العربية و بين ما هو مدني و اغلبه ذو أصل أجنبي أوروبي خاصة .

بعد أن حددنا المكونات الثلاث للهوية العربية و التي لا تخلو أي هوية  منها
يجدر بنا أن نشير إلى أن الهوية الثقافية مفهوم غير ثابت في الزمن و المكان و بأنها متغيرة زمنيا و خاضعة لمفهوم التطور خاصة بعد أن طال النقاش الفلسفي و الاجتماعي حولها  و الذي تمخضت عنه قناعة راسخة   مفادها أن كل هوية هي ليست هوية مكتملة الإنجاز  و أنها غير متعالية على التاريخ و أنها غير منعزلة بذاتها و غير مكتفية بذاتها عما سواها و هذا القول ينطبق أيضا على مفهوم الثقافة  فكل الثقافات تتجاور و تحتك و تتبادل و مادامت الهوية لا تنفصل عن الثقافة بل تنضوي تحتها فإن كليهما خاضعتان  للتغير   و الاحتكاك ...ولنعد الآن إلى ما  بدأناه عن مفهوم النسق الثقافي العربي بعد أن وضحنا معالم الهوية العربية التي تتضمنها الثقافة و تشملها ، هنا تجدر الإشارة إلى أن النسق الثقافي لا يقصد به  تلك الأحداث الواقعة في التاريخ  في الزمن الغابر و الحاضر ، بل إن مفهوم النسق يفرض عكس ذلك تماما ن يرفض هذا المفهوم كل الجزئيات المتعلقة بالأحداث الجزئية ليفتح الطريق أمام العام و الكامن في الثقافة ، أي أمام الملامح العامة لثقافة ما بعيدا عن التخصيص و التجزيء ، فالنسق الثقافي مفهوم يرتبط بالرؤية العامة ، بأسلوب عيش الأمم ، بالقيم الثاوية و الثابتة ، بالطريقة المشتركة للحياة، و هذا النسق هو الذي " يعكس المثل السائدة حول ما يتوجب على الحياة الإنسانية أن تكون عليه " دليل أكسفورد للفلسفة، الجزء 1، ص 220.
و يمكن أن نستعير مفهوما أخر من مجال النقد الثقافي يوضح بجلاء المقصود بالنسق الثقافي ألا و هو مفهوم " النسق المضمر"  أي مايقع وراء النصوص من أحكام و قيم مقصودة و غير مقصودة تدور حول موضوعة معينة ، و بالكيفية ذاتها يتوارى النسق الثقافي في اللاشعور المعرفي الجمعي في مقابل اللاشعور  المعرفي الفردي ( جون بياجيه)....

الثقافة العربية إذا كمفهوم كلي هي  ذلك النسق المتواري و الذي يحكم سلوكيات و أنماط تفكير الفرد المنتمي لها ، يتشرب هذا النسق من مكونات الهوية العربية التي أشرنا إليها، بمعنى أبسط هو ذلك المضمر الذي يوفر لنا إمكانية  استشعار الثقافة و طابعها الأثيل  دونما الخوض في تفاصيل بعينها، أي إن الواحد منا عندما يتكلم عن الثقافة العربية لماما  في كليتها يكون ساعتها منطلقا و موجها بتوجيهات النسق المضمر و يكون قد استحضر بشكل غير محسوس و مباشر و غير واع كل تلك المكونات  التي تدخل في تشكيل الهوية العربية الإسلامية من دين و لغة و أعراف ، خاصة اللغة لأنه يفكر بها و فيها ، فالنقاش الذي دار حول علاقة اللغة بالفكر تمخض عنه اعتبار اللغة أكثر من أداة ، أي أنها هي الأخرى تسهم في بناء الفكر كما يسهم هو فيها و للفلاسفة المسلمين أقوال مطولة في ذلك بين ما حدده الأصوليون كالشيرازي و بين ما قال به الفلاسفة كالشيخ الرئيس  ، لكن عموما تتضمن اللغة الفكر و يتضمنها كأنهما وجهان لعملة واحدة لهذا يشكل الزخم الكبير من نصوص الأدب و الفلسفة و علم الكلام ...رصيدا هاما و مادة خام لاستكشاف ما استضمر و توارى خلف أستار اللغة من قيم و أحكام و مبادئ ارتبطت معظمها بالدين و ببنيته الأخلاقية المتعالية كما أشرنا  إليها ، تلك البنية التي شكلت و لاتزال تشكل أهم مكونات النسق الثقافي و الهوياتي العربي .

البوعيادي محمد

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟