التحفة هي الشيء الثمين النادر الذي يبقى خالدا ويدوم ذكره على مر الأزمنة والعصور. وقد كان ابن بطوطة على وعي بهذه المسألة لمّا سمّى رحلته: "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". لتكون بذلك تحفة للناظرين ومقصدا لمن يبحثون عن عجائب وغرائب البلدان التي ظلوا يسمعون بها ولا طاقة لهم لرؤيتها، أو لمن يريدون حديثا عن بلدان لم يسمعوا بها قطُّ. فغرائب الأمصار هي السبل الغريبة عن المتلقين، وعجائب الأسفار هي تلك الأخبار والقصص العجائبية (الفانتاستيكية) التي تثير استغراب المتلقين مما رواه ابن بطوطة. وإذا كان رحالتنا قد زار سبلا وبلدانا غريبة لم يصلها رحالة مسلم قبله، فإن هذا المقال المتواضع يسعى إلى تتبع بسيط لأهم الأماكن التي زارها وعاش فيها، وتعايش مع أهلها.. وقبل ذلك؛ لا بد من إطلالة على ابن بطوطة ونشأته، ثم عن مستواه العلمي والأخلاقي. حتى تكون حجة ضد الذين يشككون في وصول ابن بطوطة إلى هذه الأماكن، وينفون المصداقية عن الأخبار التي ذكرها.
فصاحب الرحلة هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللواتي الطنجي المشهور بابن بطّوطة، والملقب في المشرق بشمس الدين. وُلِدَ بِطنجة يوم الإثنين 17 رجب 703 هجرية، الموافق لِ 24 فبراير 1304 ميلادي. ولواتة التي ينتسب إليها هي "قبيلة مغربية منازلها الأصلية بِبرقة من أرض طرابلس، وتوطن منها بجهات المغرب أقوام..."[1].
وكانت الرحلة حدثا هاما في حياة ابن بطوطة، إذ هي سبب شهرته وخلود اسمه. وهي التي قدّمت لنا معلوماتٍ محدودةً عن حياته، تقتصر على الفترة التي قضاها في الترحال. أما مرحلة طفولته ونشأته، فلا نجد سوى إشارة ذكرها ابن الخطيب نقلا عن أبي البركات، وهي قوله عن ابن بطوطة: "هذا رجل لديه مشاركة يسيرة في الطلب"، لذلك يبقى الحديث عن هذه الفترة مجرد افتراضات. وقد لقِيَتْ هذه الشخصية إهمالا كبيرا من لدن المترجمين في عصره، فرغم معاصرته لابن الخطيب، لا نجد له سوى المعلومة السابقة في الإحاطة، إضافة إلى معلومة عن مراسلته له في نفاضة الجراب: "وخاطبت القاضي ابن بطوطة بتامسنا، وقد عزمت على إثارة الأرض بجواره. لتَعْلم سيادة القاضي شمس الدين، معلم المواقف الحبسية والميادين ..."[2] . أما ابن خلدون، فقد تحدث عنه بتجاهل لشأنه، مسجلا موقفه من عجائب رحلته: "ورد علينا لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق ...".
ويبدو أن ابن بطوطة –عكس ما ذهب إليه بعض الباحثين- ينتمي إلى أسرة علمية ظهر فيها القضاة ومشايخ العلم، كما يتبين من خلال ما أخبر به في رحلته حين خيّرَه ملك الهند بين وظائف الوزارة والكتابة والإمارة والتدريس: "أما الوزارة والكتابة فليست شغلي، وأما القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي"، إضافة إلى إشارة وردت في رحلته إلى الأندلس، إذ ذكر أن قاضي رندة زمن دخوله لها هو ابن عمه الفقيه يحيى بن بطوطة. إضافة إلى ذلك، فقد افترض بعض الباحثين أن ابن بطوطة استفاد من الازدهار العلمي للفترة المزدهرة التي نشأ فيها من عصر بني مرين. ويؤكد ذلك أن توليه القضاء بدلهي وجزائر ذيبة المهل لم يتم فقط لاتصاله بالعلماء في رحلته الطويلة، بل راجع لنشأته العلمية بدليل اختيار القوم له ليكون قاضيا على الركب التونسي وهو لا زال في بداية رحلته، وعمره أقل من ثلاث وعشرين سنة .
وقد اعتقد بعض الباحثين ضعفَ المستوى العلمي والمعرفي لابن بطوطة، نظرا لتكليف ابن جزي بترتيب الرحلة بدلا من أن يرتبها هو نفسه، لكنه استنتاج فيه الكثير من التسرع. أولا؛ إن تكليف ابن جزي بكتابة الرحلة لم يحصل إلا لكونه من أبرع الكتاب في المغرب والأندلس في عصره، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الرحلة الأصلية من تدوين ابن بطوطة قد ضاعت، أما النسخة المنشورة حاليا ليست إلا تلخيصا لابن جزي، مستفادهم من ذلك قول ابن جزي: "أنتهي لتدوين ما لخصته من تقييد ابن بطوطة". ثم ثانيا؛ الأوصاف التي ذكرها ابنُ جزي عن ابنِ بطوطة في المقدمة: "فهو الشيخ، وهو الفقيه وهو الثقة وهو الصدوق..."، كلها ملاحظات تلغي أي شك في المركز العلمي المرموق لرحالتنا[3]. إضافة إلى ذلك فابن بطوطة كان معدودا في صدر رجالات الفكر والعلم، وفي صدر المجلس العلمي لأبي عنان .
وفي الرحلة مجموعة من الملاحظات تؤكد المستوى العلمي الجيد لابن بطوطة، منها "المنهج الذي لازمه طيلة الرحلة، بما أبداه من ملاحظات وتفصيلات ومناقشات لا يمكن أن يتيسر بذلك المستوى الرفيع إلا لذكي مثقف له إلمام بالفقه ومذاهبه، واللغة وتفصيلاتها...". وأيضا "حرصه على الإشارة إلى مذهب أهل كل بلد حلّ به مما ينبئ عن معرفته لهذه المذاهب واطلاعه عليها"[4]. والإجازات التي ظل حريصا على الحصول عليها في طريقه والشام، وتقديم عبد الله المرشدي له ليؤم بهم الصلاة، إضافة إلى ملاحظته لخطيب البصرة في صلاة الجمعة يلحن لحنا كثيرا، و يكثر التعجب من ذلك لكون البصرة المدينة التي إلى أهلها انتهت رياسة النحو، هذه الملاحظات إن دلت على شيء فإنما تدل على انتساب الرجل إلى بيت العلم والفقه والحديث ...
بالإضافة لذلك، فابن بطوطة "كان ينظم شعرا وسطا على عادة العلماء المتفننين، وقد أعطانا نموذجا منه في الرحلة، وهو سبعة أبيات من قصيدة مدح بها ملك الهند، فهذا أيضا دليل على ثقافته الأدبية". إنّ تعَلُّمه للقرآن الكريم وأصول الدين والفقه في صغره زرع فيه رغبة لحج بيت الله الحرام وعمره لا يتجاوز اثنين وعشرين عاما، ومن أجل الحج كانت رحلاته الثلاث التي وهبها من العمر نحو الثلاثين عاما.
هذا عن تكوينه العلمي، أما بالنسبة لتكوينه الأخلاقي فيبدو أنه تربى "تربية دينية متينة، فكان قوي العقيدة، محافظا على أداء الشعائر الدينية، صبورا صدوقا واثقا بالعناية الإلهية، لاسيما عند الشدائد". و بتربيته الأخلاقية تلك، استطاع أن "يتحبب إلى الناس و يتقرب إليهم بما أوتيه هو، نفسه، من خصال العلماء وفضائل الفقهاء". ولعل لِبَلَدِ نشأته طنجة التي هي طريق رئيسي بين الشرق والأندلس وطبيعة أهلها المنشرحة دخلا في ذلك. ولا بد من الالتفات إلى عنصر آخر كان ضروريا لتكوين شخصية ابن بطوطة، وهو متانة بنية الرجل وشدة أسره، ولا نعدم في الرحلة ما يدلنا على ذلك من المشاق والمتاعب بل والمعارك المسلحة التي اشترك فيها وواجهها بثبات وشجاعة، إضافة إلى ما كان عليه من شدة الملاحظة وقوة الذاكرة .
وبذلك صار ابن بطوطة أشهر رحالة إسلامي، وصاحب أعظم رحلة، لأنه لم "يقم من جابهه في الشرق والغرب والشمال والجنوب، ودوَّن مشاهداته فيها، وترك لنا هذا الأثر الجغرافي..". وقد قام برحلة ممتدة في الزمان والمكان، شملت معظم البلاد المسكونة التي كانت معروفة في ذلك الوقت، من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ثم الأندلس غربا إلى الصحراء الإفريقية الكبرى جنوبا، لمدة حوالي ثلاثة عقود. وقد خرج في رحلته هذه من طنجة يوم الخميس 12 رجب عام 725، وكان الدافع إلى خروجه في البداية ديني هو أداء فريضة الحج، يقول: "معتمدا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام"[5]. إلا أنه منذ أن كاشفه الشيخ عبد الله المرشدي بتوفيق الله له في زيارة بلاد اليمن والعراق والترك والهند، أصبح مهيأ لمواصلة الجولة والسعي إلى أقصى نقطة في العالم، فبدأت رحلته "انطلاقا من مصر تسعى لتحقيق الهدفين معا، وتوفق بين الباعثين الديني والسياحي"[6].
ومما ساعده أيضا على متابعة المسير والتجوال ما لقيه من عطف وتشجيع ومساعدة واحترام من طرف الشيوخ والحكام والأمراء... "فاندفع إلى المغامرة واكتشاف المجاهيل، فنسي الرحالة أهله وبلده وسط هذه المتعة التي يحس بها وهو ينتقل من مفاجأة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، ومن زاوية إلى أخرى..."[7].
وإن كان ابن بطوطة قد وهب للرحلة أزيد من ثلاثين سنة من عمره، فقد أتيح له زيارة أغلب البلدان المعروفة في عصره. وقد قسّم رحلته إلى ثلاث، تُحدد بداية كل منها بانطلاقه من المغرب، كما تحدد نهايتها بالعودة إليه. لأن الرحّالة بعد عودته لمسقط رأسه لا يلبث طويلا حتى يغمره الشوق من جديد ليشد الرحال نحو وجهة أخرى. وقد انطلق في رحلته الأولى من المغرب وتوغل كثيرا جهة الشرق، واتجه في الثانية جهة الشمال، ثم إلى جهة الجنوب في رحلته الثالثة.
الرحلة الأولى:
* المغرب الكبير: انطلق ابن بطوطة من طنجة يوم الخميس 12 رجب 725 أيام السلطان أبي سعيد المريني الأكبر، في اتجاه الحجاز، سالكا الطريق البري. ودخل البلدان التي في طريقه بشمال إفريقيا، وفي طريقه أصيب بالحمى، لكنه تحامل على نفسه، وبتونس شدّهُ الحنين لبلاده وأهله أول مرة وآخرها .
وفي تونس، قُدِّم قاضيا على الركب المتجه إلى الحجاز الشريف، سالكين طريق الساحل[8]. إلا أن حديثه عن هذه الفترة ببلدان المغرب موجز، ووصفه لها مختصر.
* مصر: بعد عشرة أشهر من مغادرة ابن بطوطة للمغرب وصل الركب إلى مدينة الاسكندرية، ويخصها الرحالة بوقفة طويلة وَصَف فيها عجائبها وذكر بعض علمائها بما يدل على إعجابه بها. فركب النيل ووصف شواطئه إلى أن وصل إلى قاهرة مصر "أم البلاد وقرارة فرعون ذي الأوتاد"[9] فبهرته بعظمتها، ووصف مشاهدها ومعالمها وما تتضمنه من مدارس وزوايا ومزارات، و يكثر من وصف نيلها وأهرامها، فذكر شيئا من أخبار أمرائها وأخلاق أهلها، وكان سلطانها وقتئذ محمد الناصر بن قلاوون .
هكذا، سافر رحالتنا من مصر قاصدا الحجاز بالإبحار من عيذاب إلى جدة، ولم يتأتى له ذلك لأنه وجد صاحبها في حالة حرب مع الملك الناصر وقد خرق المراكب، فعاد إلى شمال مصر قاصدا الطريق الشامي.
* الشام: مع التأخر عن موسم الحج، وجد ابن بطوطة نفسه أمام فرصة لزيارة الشام، في انتظار الموسم المقبل للحج. فزار غزة، منها إلى مدينة الخليل ثم إلى القدس، فزار مشاهدها ووصف المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وذكر مشايخ القدس. فيمر بنا بين إيجاز وإسهاب في الوصف من القدس إلى عسقلان إلى حلب فاللاذقية ثم دمشق، عاصمة الشام.
وقد استهوت بلاد الشام الرحالة ونالت إعجابه، إذ زار آثارها ومعالمها، وأطنب في وصف ما بها من مدارس وأسواق ومشاهد ومزارات وما يحيط بها من قرى، وتحدث عن جامع أمية وما به من سواري وقباب وأبواب ومؤذنين وقراء وأئمة ومجاورين، فنوَّهَ كثيرا بأخلاق أهل دمشق وبحسن معاملتهم للغريب وكرم ضيافتهم... وفيها حصل على إجازات العلماء.
غادر ابن بطوطة دمشق رفقة الركب الحجازي في مستهل شوال، واصفا ما بها بطريقه بإيجاز، إلى أن تحقق له الوصول إلى المدينة المنورة.
* الحجاز: حين وصل إلى المدينة المنورة، أسهب في وصف ما زاره من بقاع مقدسة كالروضة الشريفة ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وجبل أُحُد، وذكر أخبارها وتاريخها، وتحدث عن المجاورين بها... ثم توجه إلى مكة على الطريق المعتاد، فتحقق له هدفه الذي خرج من أجله وهو زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام. فتحدث عن مكة بإسهاب وتفصيل وذكر أبوابها ومسجدها الحرام والكعبة والحجر الأسود وقبة بئر زمزم ، وتحدث عن الصفا، وما حولها من جبال، والشعائر والمناسك، وأثنى على أهلها الثناء الحسن.
وقد جعل ابن بطوطة من الحجاز "قطب الرحى لا يبارحه إلا ليعود إليه"، يقول عبد الهادي التازي: "لا أعتقد أن رحالة من الذين قصدوا الحجاز استطاع أن يكتب ما كتبه ابن بطوطة عن مكة المكرمة كما وكيفا، شكلا ومضمونا، فقد ظلت مكة المكرمة شاخصة في مذكراته عند كل منعرج من تحركاته حتى أرج الحجاز.. ويكفي أن له أربع رحلات إلى مكة، وسبع حجات، و أنه صام فيها ثلاثة رمضانات، وهذا ما لم يتيسر لغيره"[10]. ولا ننسى أنه في رحلته الثانية إلى مكة قد جاور بها ثلاث سنوات 727، 728، 729هـ.
* العراق وبلاد فارس: بعد أن انتهى موسم الحج، خرج من مكة صحبة الركب العراقي في العشرين من ذي الحجة، وكان ركبا حافلا يحتوي على جمع من العراقيين والخرسانيين والفارسيين، وأميره يدعى البهلوان. فابن بطوطة يصف هذا الركب "لا يحصى عددهم كثرة، تموج بهم الأرض موجا، ويسيرون سير السحاب المتراكم ..." ويصف تجهيزاته من مواد ومؤن وأدوية، وما بالطريق من منازل ومراحل. و في العراق تحدث عن القادسية وما تعرضت له من تخريب "لم يبق منها إلا مقدار قرية كبيرة"، ثم مدينة النجف، وتحدث عن أسواقها والروضة والقبور التي بها، وأهلها الرافضيون، وفيها تخلى عن الركب وسافر رفقة عرب خفاجة، ليصل واسط "و أهلها من خيار أهل العراق" ثم البصرة. ويصف البصرة "بإحدى أمهات العراق"، وأهلها "لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه". ومن أهم ما أثار اهتمامه بالبصرة مسجد علي بن أبي طالب الذي هو "من أحسن المساجد"، وفيه شهد الخطيبَ يلحن لحنا كثيرا في صلاة الجمعة. وكان يريد زيارة بغداد، لكن بعض أهل البصرة أشار عليه بالسفر صوب بلاد العجم فعمل بإشارته.
رحل بعد ذلك إلى بلاد فارس، فأقام 61 يوما عند الشيخ صدر الدين بمدينة تستر. وزار إصفهان وقد "خرب أكثرها بسبب الفتنة بين أهل السنة والرَّوافض"، وزار مدينة شيراز فأفاض من وصفه لها، وجعلها نظيرة دمشق في كثير من الأوصاف مما يدل على إعجابه بها، إذ وصف أهلها وتحدث عن مشاهدها.
وبعد عودته للعراق زار مدنا لم تتح له زيارتها، منها الكوفة وكربلاء، ثم بغداد وما بها من مساجد وحمامات، ومدارس.. ثم مدينة الموصل. بعدها سافر من الموصل ليلحق بالركب العراقي المتجه إلى مكة، فأقام ثلاث سنوات مجاورا بالحرم الشريف. و بعد وقوع فتنة بمكة، خرج منها إلى جدة، وركب البحر لأول مرة إلى اليمن.
* اليمن وشرق افريقيا: طاف ابن بطوطة أرجاء القطر العربي العريق، وتوقف في مراسي البحر الأحمر، وجال بلدان الشاطئين الافريقي والآسيوي. فقد زار مدن اليمن كحلي وزبيد وتعز وصنعاء وعدن، وفي الساحل الافريقي زار مدينة زيلع ومقدشو، بقي فيها في ضيافة السلطان، ثم انتقل إلى مدينة ظفار عبر البحر، ووصف الحياة بها، وذكر سلطانها، وما لاحظه من تشابه بين أهلها والمغاربة، يقول: "ومن الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس بأهل المغرب في شؤونهم...".
* الخليج الفارسي: ينتقل ابن بطوطة من ظفار في اتجاه الخليج الفارسي عبر سواحل اليمن، المطلة على المحيط الهندي، قاصدا مدينة عمان. فقد تحدث عن عمان وذكر سلطانها وأهلها، و الحرب القائمة بينهم، وتحدث عن نسائها: "ونساؤهم يكثرن الفساد ولا غيرة عندهم". وبعد أن زار هرمز ومدينة لار والبحرين، وتحدث عن مغاص الجوهر بها، عاد مجددا إلى مكة ليحج للمرة الخامسة، وذلك سنة 732هـ.
* آسيا الصغرى: بعد أن قضى ابن بطوطة سبع سنوات ونصف من الترحال، يكون قد حج خمس حجات، وطاف العالم العربي في المشرق. فقد تعذر عليه السفر إلى الهند، فشد الرحال إلى آسيا الصغرى عن طريق جدة ثم مصر فالشام، ليصل إلى بلاد العلايا. ويصف العلايا بأنها "أول بلاد الروم". ويبدي إعجابه ببلاد الروم، إذ يقول: "هذا الإقليم المعروف ببلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا". ودخل حوالي سبع وعشرين مدينة من بلاد الأتراك وتحدث عن سكانها وأحوالها وعادات أمرائها، ومما يلفت النظر في حديثه عن هذه البلاد الأخيةُ الفتيان المنتشرون في البلاد التركية "لا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفاء بالغرباء"، وقد اعتبر حافزا آخر على إتمام الرحلة.
* شمال آسيا الصغرى: انتقل صاحبنا إلى شبه جزيرة القرم، ثم آزاق ثم بلاد البلغار، وفيها رأى ما رأى من قصر الليل. وبعد أن تقرب رحالتنا من السلطان أوزبك خان، كلفه السلطان بمرافقة زوجته الخاتون إلى القسطنطينة لزيارة أبيها ملك الروم. فكانت فرصة أمامه وصف فيها المدينة وكنيستها العظمى، وبعض مظاهر الحياة بها.
* آسيا الوسطى: عاد الرحالة إلى مدينة السرا، ثم اخترق الطريق إلى خوارزم عبر سراجوق فبخارى، وتحدث عن تخريب التتار لها. ثم إلى سمرقند وتِرْمذ وخراسان وأفغانستان، وتحدث عن هذه البلدان وأهلها. وكان في زيارته لهذه البلدان قاصدا بلاد الهند.
* الهند: وصل ابن بطوطة إلى نهر السند، أول بلاد الهند، وذلك في محرم عام 734 هـ. وقد علم سلطان الهند به فأمر بإكرامه، ثم اتصل به فحظي عنده ووَلّاه منصب القضاء في عاصمته دلهي لحوالي سبعة أعوام. وقد بلغت مدة إقامته بالهند حوالي عشرة سنوات مقربا من السلطان محمد شاه، لذا تحدث عن أحواله وحاشيته وبلاطه. وتنقل خلال العشر سنوات في البلاد الهندية حتى ألِف العيش بها، واطلع على أحوالها ومعالمها المختلفة، وشاهد عاداتها وتقاليدها؛ من ذلك عادة إحراق النساء أنفسهن بعد وفاة أزواجهن...
ولم يغادر ابن بطوطة الهند إلا للقيام بسفارة عظيمة إلى الصين، لكنها فشلت رغم الاستعدادات الفائقة. فشاءت الأقدار بصاحبنا إلى ذيبة المهل بالمحيط الهندي حيث لقي الترحاب بها، لمكانة المغاربة عندهم.
* جزائر ذيبة المهل: أقام فيها عاما ونصف عام، وتولى فيها القضاء بمذهب المالكية من طرف سلطانتها خديجة بنت جلال الدين. واختلط بأهلها وتعامل معهم، وتعرف على الكثير من أحوالهم، حيث تزوج هناك أربع مرات.
* الصين: غادر ابن بطوطة جزائر ذيبة المهل متوجها إلى الصين، عن طريق سيلان وجاوة وسومطرة، إلى أن دخل مدينة الزيتون، التي يعتبر مرساها "من أهم مراسي الدنيا وأعظمها". وتوغل في بلاد الصين فزار أهم مدنها في ذلك الوقت حتى وصل خان بالق. تحدث فيها عن كثرة الفنادق والمنازل لإيواء المسافرين، وعن براعة الصينيين في فن التصوير والخزف، وتعاملهم في البيع والشراء بأوراق نقدية من الكاغد، وتحدث كذلك عن سلطان الصين بالقان، وعن عقيدة أهلها المتمثلة في عبادة الأصنام.
خرج رحالتنا من الصين راجعا إلى الحجاز عن طريق سومطرة فالهند، ثم إيران فالعراق فالشام، ثم حج حجته السادسة وزار قبر الرسول عليه الصلاة والسلام للمرة الأخيرة؛ وذلك سنة 749هـ. وبعد أن سمع عن أبي عنان من بني مرين وما اشتهر به من عدل وإنصاف، ولّد لديه رغبة جامحة في الرجوع إلى وطنه وإنهاء رحلته الأولى التي دامت حوالي خمسة وعشرين عاما. من ثمّ سافر من المدينة المنورة إلى القدس ثم مصر عائدا إلى المغرب، فدخل فاس أواخر شعبان عام 750 لِيَمْثل بين يدي السلطان أبي عنان. وهنا؛ انتهت رحلته الأولى.
الرحلة الثانية:
بعد عودة ابن بطوطة إلى المغرب، لقي ترحابا كبيرا من طرف أبي عنان وذكر بعض فضائله في عدله وعلمه وشجاعته، وأعجب بالمدرسة التي بناها فقال: "لم أر في مدارس الشام ومصر والعراق وخراسان ما يشبهها"[11].
لم يكد ابن بطوطة يستقر بالمغرب بعد رحلته الأولى، حتى أعاد الاستعداد من جديد لخوض غمار الرحلة والاطِّلاع على غرائبها وعجائبها. والوجهة هذه المرة قريبة زمانا ومكانا، هي الأندلس. وسبب قيامه بهذه الرحلة مختلف عما ألفناه؛ يقول: "ثم عافاني الله فأردت أن يكون لي حظ من الجهاد والرباط، فركبت البحر من سبتة في شطي لأهل أصيلا فوصلت إلى بلاد الأندلس"[12].
* الأندلس: خرج رحالتنا من بلده طنجة بعد أن زار قبر والدته، فعبر إلى العدوة الأندلسية؛ حيث رسا المركب الذي أقله من جبل طارق. ثم انتقل إلى رُنْدة، وقاضيها هو ابن عمه الفقيه أبو القاسم محمد بن يحيى بن بطوطة، ثم مالقة فغرناطة، فتحدث عن ملكها وما لقيه بها من أعلام، منهم كاتب رحلته ابن جزي. يقول ابن جزي: "كنت معهم في ذلك البستان ومتَّعنا الشيخ أبو عبد الله بأخبار رحلته، وقيَّدتُ عنه أسماء الأعلام الذين لقيهم، واستفدنا منه الفوائد العجيبة"[13]. ثم عاد بعدها إلى المغرب عن طريق جبل الفتح رغم أنه لم يتجاوز الجنوب الأندلسي، ومن الجبل إلى سبتة ثم أصيلا حيث أقام شهورا، سافر بعدها إلى سلا ثم مراكش. ومما لفت انتباهه في مراكش مسجد الكتبيين وصومعته الهائلة العجيبة[14]، ثم المدرسة العجيبة التي "تميزت بحسن الوضع وإتقان الصنعة".
الرحلة الثالثة:
ومن مراكش سافر إلى حضرة فاس، مُوَدِّعا أبا عنان، في رحلة جديدة إلى البلاد المسماة في عصره السودان. فهل سبب هذه الرحلة كما صرح به في الرحلة لمَّا شاهد المدرسة المتوكلية "و لم أقف على مثلها فيما شاهدته في المعمور كله، قلت والله لا بد لي أن أتمم عملي وأبر قسمي بالوصول إلى أقاليم السودان حتى أشاهده، وأقسم أنه ليس في المعمور كله مثلها"؟ أم أن الأمر يتعلق بسفارة رسمية قام بها بتكليف من أبي عنان؟
المهم أنه رحل من فاس إلى سجلماسة، في اتجاه الصحراء الإفريقية. وبعد شهرين من مغادرة سجلماسة يصل بعد رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر إلى مدينة إيوالاتن، "أولى عمالات السودان"، و فيها يحس بشيء من الانقباض إذ يقول: "ندمت على قدومي بلادهم لسوء أدبهم واحتقارهم للأبيض"[15]. وبعد خمسين يوما من الإقامة بإيوالاتن، خرج منها صوب مالي عاصمة البلاد، ثم إلى تمبكتو، ومنها إلى تكدا. وفيها وصف ما شاهده على نهر النيجر الذي ظنه النيل، مثل التمساح وفرس النهر. ومما أثار انتباه ابن بطوطة أيضا في السودان انعدام الغيرة عند الرجال على نسائهم.
وكان من الممكن أن يواصل ابن بطوطة رحلته لمدن وبلدان إفريقيةٍ أخرى، لولا أن تلقى أمر أبي عنان بضرورة الوصول إلى حضرته العلية، ليضمه في مجلسه العلمي، فقبل أمره راجعا إلى سجلماسة عن طريق تُوات. وها هنا "انتهت الرحلة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"[16].
[1] ) كنون، عبد الله: ذكريات مشاهير المغرب: ابن بطوطة؛ ع 25، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ص1.
[2] ) ابن الخطيب، لسان الدين: نفاضة الجراب في غلالة الاغتراب؛ تح أحمد المختار العبادي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ص137.
[3] ) عبد الهادي التازي في مقدمة تحقيقه لرحلة ابن بطوطة .
[4] ) الشاهدي؛ الحسن: أدب الرحلة بالمغرب في العصر المريني، منشورات عكاظ، الرباط، يناير 2004، ص251.
[5] ) ابن بطوطة: "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، تح عبد الهادي التازي، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 1997، ج1، ص153.
[6] ) الشاهدي، مرجع سابق، ص258.
[7] ) نفسه، ص259.
[8] ) رحلة ابن بطوطة، ج1، ص179.
[9] ) نفسه، ص201.
[10] ) التازي؛ عبد الهادي: رحلة الرحلات.. مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مكة المكرمة، 2005، الجزء الأول، ص138.
[11] ) الرحلة، ج4، ص202 .
[12] ) نفسه؛ ص211 .
[13] ) الرحلة، مج4، ص 226 .
[14] ) الرحلة، مج4، ص 229 .
[15] ) الرحلة، مج4، ص244 .
[16] ) الرحلة، مج4، ص280 .