عبد الرحيم بوعبيد يعترف :علال الفاسي تغيّر بعد سنة 1959.
بهذا المعطى التاريخي ينتقل المؤرخ عبد الله العروي من الجزء المخصص للحوار مع بوعبيد ويمهد للجزء المتعلق بحواره مع زعيم قائد الحزب العريق، زعيم كان له الأمل في تتويج مساره عبر تحقيق الوحدة من جديد بين جناحي الحركة المنفصلين بسبب الانشقاق الذي حدث سنة1959، وحزب كان بمثابة "البيت المشترك" لكافة الوطنيين المغاربة.
يؤكد المفكر العروي في مطلع الكتاب على صعوبة بلوغ أجوبة وافية عمّا حمله معه من أسئلة طرحها على الزعماء التاريخيين، أجوبة بعيدة عن الأحكام القَبْلِيَّة وتحقق طموح الباحث المسلّح بالموضوعية "فلو كنتُ أجنبيا،ربما كان موقفهم مختلفا" يكتب العروي، ما دفعه، أمام تلك المحاولة التي لها ما يجعلها مفهومة ضمن سياق المرحلة،إلى تغيير المنهجية والعودة إلى حقل مادته الأصلية:تاريخ الأفكار.
في الحوار أسئلة ومعطيات مثيرة تتصل بشخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي قبل وبعد قيادته للمقاومة الريفية وأثناء نفيه واستقراره بالقاهرة،وأخرى حول أزمة1953-1956والموقف من الملكية في المغرب المستقل ،ومن الواجب أن نشير إلى أن مقتطفات من هذا الحوار قد نشرته مجلة "زمان"المتخصصة في قضايا التاريخ ضمن عددها المزدوج رقم 34/35-2016،وأوجبُ منه التماس العذر من صاحب النص الأصلي إن أفلتَ منّا نقل بعض المضمون بدلالاته وحمولته من لغته الأصلية،كما وردت في متن الكتاب،إلى لغة الضاد، فالقصد سليم والأمانة الفكرية والعلمية جسيمة. **********
سؤال.هناك أسئلة تتعلق بأصولكم،ووسطكم العائلي،وتربيتكم،وأُولى خطواتكم في النشاط السياسي.أعرف بأنكم،في العادة، قد أجبتم عنها.هل لديكم شيء تريدون إضافته أو تدقيقه ؟
جواب.كل شي قد قيل في كتاب"أتِيليو غُوديو". إنه يتضمن بعض الأخطاء،ولكنها سهلة التصويب.
س.أمرّ مباشرة إلى سؤال يطرحه كثير من الناس،من خارج الكِتاب الذي ألّفتُموه وأنتم آنذاك توجدون بالقاهرة،ونحن نعرف لأي هدف،لماذا لا توجد مذكرات أخرى للسياسيين المغاربة ؟
ج.حتى في الكتاب الذي تلمحون إليه،لم أقل كل شيء. لقد حاولت أن أكون موضوعيا،ربما أكثرُ شيئا ما،من أجل الحفاظ،وللحقيقة،على وحدة الحركة الوطنية.
س.تماما،كيف تعرِّفون الأمة؟هل تعتقدون أن أمة مغربية،ووعيا وطنيا مغربيا،كانا دوما موجودين ،أو،كما يعلن عن ذلك البعض ،أنهما نتاج التاريخ،يولدان خلال لحظة ويمكنهما، إذن، ذات يوم التّحلّل أو حتى الاختفاء؟
ج.لقد عبرتُ عن وجهة نظري حول هذا الموضوع في مقال نشرته مجلة "دراسات متوسطية".
قلتُ بأن الوطنية بالنسبة للمغاربة هي بكل بساطة الحب الغريزي الذي يحملونه تجاه موطنهم الأصلي،وهم مَجبُولون عليه وفي دماء أسلافهم. إنه نوع من التعلق السحري القابل للمقارنة مع ذاك الموجود لدى كثير من القبائل الإفريقية .كل مغربي مرتبط بقبيلته،ولكن كافة المغاربة مرتبطون وبنفس القوة بالأرض المغربية.هذا لا علاقة له مع أطروحة الماركسيين الذين يصلون بين ولادة الشعور الوطني وبين ظهور السوق الوطنية. إنه تأويل ماركسي لا يروق لنا .
س.هكذا إذن تفهمون مقاومة القبائل للتغلغل الكولونيالي.هل تحملون نفس الحُكم حول حرب الريف التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي،أنتم الذين تعرفتم عليه في القاهرة ؟
ج.ليس هناك أي شك في أن عبد الكريم كان رجلا عظيما،لكنه كان متغيِّر الطبع موسوما بنوع من الازدواجية .
محمد بن علال،الذي حارب رفقة أبيه في الريف،قال لي بأن أسباب الحرب ليست هي تلك التي نقدمها عادة.لقد بدأ عبد الكريم وهو إلى جانب الإسبان،يحمل القبعة ويأكل الخنزير كما الأمر بالنسبة لأي جندي إسباني طالما أنه يشغل وظيفة قاضي في الجيش. خلال تلك المرحلة،كان المتمرد بوحمارة قد جاء إلى الريف،وكسب ثقة بعض الأفراد،بينما غالبية الساكنة تنبذه إخلاصا منها للسلطان رمز الوحدة واستقلال البلد.
أثناء ذلك الوقت،يُنظر لعبد الكريم بكونه تابعا إسبانيا وغير متوافق في العلاقة مع والده.
عند قدوم الحرب العالمية الأولى،كان الألمان في توافق مع السلطان السابق عبد الحفيظ،ويبحثون عن إثارة قلاقل بالمنطقة. لقد استغلوا من أجل خدمتهم كلاّ من العتابي وعبد المالك. الإسبان،الذين كانوا بالنسبة إليهم جد ملائمين،عملوا على تكليف عبد الكريم للقيام بدور الوسيط بين عبد المالك والألمان الذين وفروا السلاح والمعونات. عندما انتهت الحرب أَنكَر الإسبان صلتهم بالقضية،ووضعوا كل شيء على كاهل عبد الكريم،بل إنهم ذهبوا أكثر من ذلك حيث رموه في السجن ليظهروا للفرنسيين حسن نيتهم.رأى عبد الكريم بأنه قد أُسيئت مجازاته مقابل كل الخدمات التي قدمها للإسبان. فرّ من السجن مجازفا بكسر في إحدى ساقيه،وقرر الانتقام لتلك الخيانة.هنا أصل كل القضية الريفية.
س.إنه،إذن،ثأر زعيم قبيلة؟
ج.من أجل الموضوعية في تقدير الحالة بالريف وفعل عبد الكريم،ينبغي أولا التذكير بأنه وطيلة السنوات التي كان يتمتع فيها بسلطة مطلقة لم ير فائدة من تأسيس مدرسة واحدة.من اللازم أيضا أن نعرف بأن قبيلة ريفية ما ترفض الانضمام إلى حركته مادام أنه،تبعا للطقوس السائدة،لم يتخّل عن رِدّتِه .
مع هذا،فإن مؤهلاته كقائد حرب،وشجاعته،وقدرته على تدريب الآخرين،وحسه التنظيمي،كل ذلك رائع ويتجاوز كل ما يمكننا تصوره.
س.ما الذي كنتم ستُفضِّلونه،ريفٌ مستقل ولكنه منفصِلٌ أو ريف خاضع ولكنه مرتبط بباقي المغرب؟
ج.أخبرني عبد الكريم بنفسه بأنه لم يكن لديه أبدا قصدُ فَصل الريف عن باقي المغرب،وبأنه يعني،ببساطة،بكلمة جمهورية،إطارا من أجل عمل مشترك .
س.إجمالا، فيدرالية قبائل؟
ج.ذاك ما سبق له(عبد الكريم) أن أعلنه لصحفي فرنسي على متن الباخرة التي كانت تقِلّه نحو جزيرة "لاريينيون". تصريح عبد الكريم تمت ترجمته في تلك المرحلة ونُشِر على مجلة "المنار".
س. لماذا أعاده الفرنسيون من منفاه ؟
ج.كانوا يرغبون في استخدامه من أجل ممارسة الضغط على السلطان محمد الخامس. وقد كان بالفعل هدفي من السفر إلى القاهرة هو إفشال هذا المخطط .تلغرافٌ مرسَل من ميناء عدن وموجّه لمواطن يمني يخبره بأن شخصيات محلّية صعدت على متن سفينة رسَت بالميناء من أجل تحية المجاهد عبد الكريم . هذا المواطن اليمني حمل البرقيّة إلى مكتب المغرب العربي،وفورا عملنا على ربط الاتصال بالشيخ أمين الحُسَيني الذي كانت له منافذ ولوج إلى القصر.أجاب الملك فاروق بأن عبد الكريم سيحصل فورا على حق اللجوء السياسي إن طلب ذلك . ذهبتُ في نفس الوقت لأرى حسن البنا لأعلمه بأنه في حالة لم تحقق هذه الخطوة المراد،فقد تقرّر اختطاف عبد الكريم. تمّ فعلا التفكير في الاختطاف على قوارب عند النزول بمرسى بور-سعيد ،والدكتور بن عبود هو من كان سيتكلف بتنظيمه . صعدنا، في بور-سعيد، على متن الباخرة،وتكلمنا طويلا مع عبد الكريم،وضعناه في سياق الأحداث،وقلنا له بشكل أساسي:أنتَ بطل،وتقريبا أسطورة في أعين المغاربة وكافة المسلمين،لا ينبغي لك التراجع والسماح للفرنسيين باستخدام حُظوتِك من أجل تقسيم الشعب المغربي لأنه الهدف الوحيد الذي يَصبُونَ له .كان يستمع لنا،غير أنه،وبشكل جلي،جدّ متردِّد .لقد حمل معه التابوت الذي يشمل بقايا رفات والدته التي توفيت أثناء منفاه ،وكذا كل أغراضه(ممتلكاته).ربما كان متخوفا من فقدان كل ذلك .بمشاهدتنا لتردده،توجّهنا بالكلام لأخيه ونجحنا في إقناعه بالنزول من الباخرة .ذهبنا مرفوقين بوالي منطقة بور-سعيد لنقول لقائد السفينة بأن عبد الكريم يرغب في قضاء يوم من أجل زيارة المدينة ونواحيها.تمّ توجيه تلغراف إلى الملك فاروق يطلب منه قبول منح اللجوء السياسي لعبد الكريم ،والذي وقّع أيضا رسالة ،مُحَضّرة سلفا، موجّهة إلى محمد الخامس،وفيها يعلن(أي عبد الكريم) بأنه لا يضمر أية فكرة سيئة تجاهه .في الغد وصل الجواب الإيجابي لملك مصر. أمكن لعبد الكريم،إذن،مغادرة السفينة وفق الشكليات والسير نحو القاهرة .
كان للعملية صدى في كافة أنحاء العالم .أخبرنا عبد الله ابراهيم،الذي كان حينها مقيما بباريس،بالذهول الذي أصاب الرأي العام الفرنسي .
س.ما الذي حدث بعد ذلك؟
ج.كافة الزعماء المغاربيين الذين كانوا حينها حاضرين بالقاهرة،حتى بورقيبة وكذا الشادلي مكّي،كانوا مستعدين للعمل تحت إشرافه.للأسف كان يتصرف بشكل سيء جدا ومع الجميع .لقد دعا إلى ضرورة الحلّ الفوري لكل الحركات السياسية ثم فرض أتباعا له، أمثال ناصر الكتاني، لم يكونوا جميعهم في منأى عن النقد،وفي ظرف وجيز،رفض حتى استقبالنا .لمّا وصل صلاح بن يوسف القاهرة طلب على الفور اللقاء بعبد الكريم،قلتُ له بأن طلبه لن يُقبَل.لم يرد تصديقي،غير أنه هو ما حدث بالفعل. واصلتُ مع ذلك الذهاب وطرق بابه كل أسبوع وأنا على تمام المعرفة بأنها لن تُفتَح أمامي .
س.لدينا حالة عبد الكريم،ولدينا تلك المتعلقة بمحمد الخامس،هل يعني هذا بأننا دوما في حاجة لشخص منقذ ؟
ج.المغرب في حاجة ليكون على رأسه شخص يحبه السكان ويحترمونه،وإلا،عند غياب سياسة توحيد ناجحة فثمة خطر التشتت كما هو الحال اليوم في العراق.ولكن هذا لا يستوجب نظاما معينا وشخصا معينا. نرتكب عادة أخطاء فادحة في هذا الشأن.
س. اعرضوا فكرتكم (بتفصيل)
ج.طبقت سلطات الحماية سياسة خلّفت آثارا(ندوب)،لأنها كانت تستند على واقعة محددة. يمكن لجمهورية من دون إعداد طويل،ودون قواعد مؤسساتية صلبة،أن تفضي سريعا لتشتت البلاد.الريف مثلا لم يتم تعريبه(التعريب)،جغرافيا هو منعزل عن باقي البلاد،وقريب من إسبانيا التي لها الاستعداد لدمجه ضمن اقتصادها.قلتُ ذات مرة لمحمد الخامس:"يمكنكم إنجاز عمل رائد لم يسبق لأحد من أسلافكم إتمام تنفيذه،التعريب الحقيقي للمغرب،وهذا سهلٌ،يكفي اتّباع سياسة تربوية سليمة".
س.هل نضالكم من أجل استعادة محمد الخامس لعرشه كان بغاية تطبيق ذلك البرنامج؟
ج.حينما تعرض محمد الخامس للنفي،تمّ استدعائي إلى مقر الجامعة العربية،وكذا الأمر بالنسبة للمكي الناصري ومحمد الوزاني. أخذت الكلمة وقدمتُ الوضعية مُسلِّطا الضوء على مقاومة الشعب المغربي ضد ضربة القوة(الاستعمارية).أعقب الآخران بأن كل ذلك دعاية خالصة،وأن كل ما يطلبانه من الجامعة هو إقناع السلطات الفرنسية بالترخيص والسماح لهم بالعودة لمزاولة عملهم الصحفي.عند المغادرة،قلت لهم:"تجرؤون على هذا الأسلوب في حين أننا أمام ثورة حقيقية".كان جوابهما بصوت واحد:"نحن لا ننتظر المهدي" /(Nous n’attendons pas nous le Messie)
بعد ذلك ذهبت للقاء بعبد الحق حسونة و محمد فوزي. تكلمتُ مدة ثلاث ساعات،ذكّرتُ فيها مأساة الأندلس التي ضاعت لأن إخوتنا تركوا المغرب يحارب بمفرده ضد القوى المسيحية المتحالفة وأنهيتُ القول متسائلا :هل ستسمحون بأن تتكرر نفس المأساة؟في نهاية المطاف قررت الجامعة العربية وضع المسألة المغربية رسميا أمام الأمم المتحدة.
س.هل للوطنية مستقبل؟
ج.إنها المستقبل،وسينتهي المغاربة بالعودة إلى الطريق المستقيم .
س.ما حكمكم على الجيل الجديد ؟
ج.الذين ينتمون لليسار هم أمميون وماديون،ثم هناك هذا المناخ غير الصحي،والذي يغذيه النظام الحالي. لم يكن لدى الفرنسيين،ومنذ1930، سوى هاجس وحيد،أن يضعوا أتباعهم(بيادقهم) داخل القصر وفي الجيش.يسلك الحسن الثاني نفس الاتجاه.لأجل ذلك علينا دائما أن نكون حاضرين من أجل التأثير(الضغط) على هذه القرارات.علينا أيضا إطلاق حملة شعبية كبيرة لفرض تعريب الإدارة .
على الهامش :
-في مفاوضاتنا مع الملك،هذه المرة،كنا على درجة قصوى من الوضوح والجدية الكاملة.قلنا له بأننا لا نطالب بإصلاح دستوري،ولكن ببساطة أن يعطي وعدا بالسماح لمن أوكلت لهم مهام الحكومة لتطبيق برنامجهم وسيجد بعد التجربة أن سلطته لم يتم المساس بها،وتفويض السلطة،حينما يكون،سيبقى مؤقتا،بل ولن يتم التنصيص عليه في الدستور.
(....)
-------
نص الحوار يشمل إشارات إضافية أخرى،...
والبحث عن مرجعيات التحديد وما يحاكيها من التباس،ومحاولة الجواب عنها –حسب عبد الله العروي- هو ما قد يساعدنا على فهم معنى الوطنية المغربية.
النص الأصلي للحوار ورد في كتاب :
Abdallah Laroui , Le Nationalisme marocain, éd.la Croisée des Chemins et Centre culturel du livre, Casablanca,2016.