دائما ولدى كل الشعوب والمجتمعات، تشكل الهوية والمنظومة المعرفية الذاتية، بعناصرها العقدية والثقافية، عنصر أساس لتوازن الكيان المجتمعي.. بحيث ان وجود أي خلل في هذه المسألة يعني على المستوى العملي بداية الأفول والتقهقر الحضاري.
فالعالم العربي والإسلامي في العصر الحديث، بدأ بالتفكك والضعف والدخول في نفق السيطرة الأجنبية كنتيجة طبيعية لما حدث للأمة، على مستوى الهوية والمنظومة المعرفية. وبالتالي فإن خيارات النهوض على الصعيدين الثقافي والحضاري وتجاوز المآزق الراهنة، التي تعاني منها الأمة، لا تتم إلا على قاعدة إنسجام هذه الخيارات مع هوية الأمة ومعادلتها الذاتية، أو منبثقة من مضمون الهوية والذات الحضارية.. ودائما حسن العلاقة مع الهوية بمكوناتها الأصلية، كفيل بأن يعيد للأمة حيويتها الحضارية، ويقوي من إمكانات قيامها بدورها التاريخي تجاه العالم.. لأن الهوية ليست كياناً ثابتاً جامداً، بل هي متحركة ومتطورة، بحيث نجد هذه الهوية كمفاهيم وقيم وأطر تتمدد في الوسط الاجتماعي، وتُلقي بقيمها وأنماطها وأنساقها على مجمل وتفاصيل الحركة الاجتماعية، وهذه الحركة الاجتماعية المعتمدة في علائقها وحراكها وتدافعها على هذه الهوية الحضارية، تقوم بدورها بعملية معكوسة حيث تغذي الذات الحضارية، وتزيد من شموليتها، وتعمق أبعادها؛ وتصبغ كل شيء بلونها.
لماذا التأكيد على مسألة الهوية؟
تنبع أهمية التأكيد على مسألة الهوية بعناصرها الثقافية والحضارية والتنموية من النقاط التالية:
1_ وعي التطور
التطور العلمي والتكنولوجي الهائل، الذي أسقط الحدود، وأوصل مناطق العالم ببعضها البعض، حتى أضحت (قرية كبيرة)، حسب تعبير (ماك لوهان)، كل هذه التطورات قد تجرف الإنسان إلى مهاوي سحيقة، أو في أحسن التقادير، تحوله إلى لاهث وراء الجديد في التكنولوجيا وصناعة المعلومات. وهذا ما يفسر لنا عملية الخلط الموجود في الفضاء العربي والإسلامي، بين المفاهيم الأساسية للنهوض والتقدم، وبين تاريخية المفاهيم والقيم النهضوية.
إن غياب تاريخية المفاهيم الأساسية للنهوض والتقدم، جعلنا نقوم بعملية ابتسار لقيم التقدم ومفاهيم النهضة والتطور، وانتزاعها انتزاعاً من سياقها المعرفي الغربي بشكل مجرد، متغافلين عن حركة تطورها الطبيعية وسياقها الاجتماعي والحضاري.
ولهذا نشأت في الوطن العربي نزعة واضحة في هذا المجال هي العلموية، وأصبحت تشكل جزءاً من العقلية العربية، وبخاصة عند النخبة المتعلمة والمتخصصة.
في النزعة العلموية يؤخذ أحدث العلم بدون تاريخيته. وتتحول بذلك المادة العلمية وكأنها جهاز مستورد أو قطعة تكنولوجية جديدة تتداولها الألسن وقاعات الدرس والامتحانات. وتلتقي النزعة العلموية هنا وتتكامل مع النزعة التكنولوجية. والتي تحاول تطوير المجتمع من خلال تكديس أحدث المعدات والأجهزة التكنولوجية دون التأكيد على الجانب الاجتماعي أو الاقتصادي السياسي لعمليات الإنتاج والتطور التكنولوجي.
لهذا فإن القاعدة الأساسية للتعامل مع هذه التطورات، هي تأسيس حالة من التوازن المجتمعي، حتى يتمكن المجتمع من ملاحقة التطورات دون إضاعة الذات. ولا شك أن تأسيس عملية التوازن المجتمعي لا تتم إلا على قاعدة الهوية وتفعيل عناصرها في الوجود الاجتماعي الشامل..
2_ وعي الذات
ابتداء نقول إن إهمال الذات وتجاوز أطرها المعرفية، لا يؤدي إلى فهم الآخر فهماً دقيقاً، بل يؤدي إلى الانبهار به والتلقي الأعمى لكل ما ينتجه ويصدره.. وإن أصحاب هذا المنحى لا يدركون العلاقة الوثيقة التي تربط بين فهم الذات وفهم الآخر، وأن الطريق السوي لإدراك الآخر حضارياً وفهم حركة تطوره وسيرورته التاريخية لا تتأتى إلا بمصالحة الذات وسبر أغوارها واكتشاف معدنها الأصلي.
ووعي الذات ليس مسألة هلامية أو فضفاضة وإنما يعني:
المزيد من التعرف والكشف على الثروات المعرفية والثقافية التي تختزنها الذات الحضارية في تراثها وتاريخها. حضور الذات في عملية المثاقفة مع الثقافات الإنسانية، حتى لا تكون عملية المثاقفة طريقاً إلى هدم الأسس المعرفية التي تتكىء عليها الذات. وحضور الذات في عملية المثاقفة، يؤدي إلى خلق الإندفاعة القوية والضرورية لفهم الثقافات المغايرة، والعمل على هضم الصالح منها.
والهوية الذاتية بطبيعة الحال لا تدفعنا أو لا تعني بالنسبة لنا أن نغلق أبوابنا على ما هو ليس في أيدينا، وتتحكم به قوى أخرى خارجة عنا.. وإنما تعني أننا في البدء لابد أن نحقق هويتنا الحضارية والثقافية، ونجعلها حاضرة في حركتنا الاجتماعية والثقافية، وننطلق من هذا الحضور الثقافي والحضاري للتفاعل مع الثقافات الأخرى.. وبهذا لا تكون ثقافة المجتمع المعاصر أو تصرفاته المختلفة خارج هذا المنظور والفهم للهوية وأبعادها. بل هي منطلقة منه لا لكي تجمده في قوالب ماضوية، وإنما لكي يكون المجتمع ملتحما التحاما عضويا مع منظومته القيمية والحضارية.
فالهوية الذاتية والإطار المرجعي القائم على النتاج الإنساني المنضبط بضوابط الوحي والملتزم بقوانينه ومحدداته، واستحضار كل هذه الأمور على مستوى إعادة إنتاجها وفق ما تتطلبه الظروف واللحظة التاريخية.. في تقديرنا كلها مسائل أساسية لتكوين الوعي القادر على دفع المجتمع إلى مدارج التقدم والتطور.