ليست الترجمة كما يبدو للبعض - مجرد عملية ميكانيكية آلية يتم فيها البحث عن مقابل اللفظ في اللغة المنقول إليها، بل هي أعقد من ذلك بكثير، فهي "ممارسة فنية و عملية تقع في ملتقى الدرس المقارن و الهيرمينوطيقي و اللساني و السيميوطيقي و الشعري و الأسلوبي و السيمانتيقي، و بما هي كذلك، عملية معقدة تبلغ حد الاستحالة لدى البعض، متجاوزة تخوم الممكن"(1). انطلاقا من هذا التعريف نستشف الطابع المعقد للترجمة التي ليست مجرد ممارسة اعتباطية بل هي سيرورة معقدة تقتضي مجموعة من الشروط، "إذ لا يمكن للترجمة أن تبلغ مستوى الجودة و النجاعة داخل كفايتها، في غياب قدرتي المعرفة و الفهم لما يترجم" (1) و بالإضافة إلى ضرورة التحكم المعرفي في ما يترجم، يفترض في المترجم أن يكون على اطلاع واسع على اللغة المترجم منها و على اللغة المترجم إليها، بل يجب أن يكون كاتبا مبدعا، فالكل يفكر، و لكن من يجد الكلمات ليعبر بها عن الأفكار هو الذي يسمى مفكرا، و قياسا عليه لا يكون المترجم كذلك إلا إذا استطاع أن يجد في لغة الترجمة الألفاظ و الكلمات المعبرة عن المعنى الحقيقي للنص الأصلي. و حتى تكون الترجمة عملا إبداعيا، لابد أن يكون المترجم من نفس طينة الكاتب أو الفيلسوف حتى يحتفظ النص بقيمته الأدبية و الفكرية و الفلسفية.
و بإيجاز، لابد للمترجم من أن يتمكن من لغة الترجمة و من لغة النص الأصلي حتى يفهمه فهما شاملا يفوق فهم القارئ العادي له، ناهيك عن ضرورة إلمام المترجم بالمجال الذي يترجم فيه سواء كان أدبا أو فلسفة أو غيرها، لأن ذلك يسعفه على "الإحساس العميق باللقطات الخفية (غير المرئية) في النص مما يمكنه من نقلها إلى النص المترجم.
و بعد أن تتوفر هذه الشروط، يطرح السؤال حول الطريقة التي يمكن انتهاجها أثناء الترجمة، فهل نعتمد الترجمة الحرفية؟ أم نغامر بألفاظ و عبارات النص الأصلي و نعيد صياغتها بطريقتنا الخاصة؟ و في كلتا الحالتين نتساءل: هل توفقنا فعلا في مهمتنا؟ و إلى أي حد كانت ترجمتنا أمينة؟
إن اختلاف النص العلمي عن النص الأدبي يفضي إلى تمايز بين الترجمة العلمية و الأدبية، ففي النص العلمي يكون الهاجس بعد التزام الدقة و الأمانة و الموضوعية و لو على حساب الأسلوب، فمثلا لا يمكن أن نتصرف في ترجمة طريقة تركيب دواء ما أو طريقة تشغيل جهاز كهربائي معين.
أما عندما نكون إزاء نص أدبي، فالمجال يبقى مفتوحا للتصرف فيه بحسب ما تقتضيه طبيعة و منطق لغة الترجمة، و عندما نجد أنفسنا أمام نصوص فلسفية فهل نعتمد الترجمة العلمية على اعتبار أن اللغة الفلسفية "صارمة و دقيقة"؟ أم نتوسل بالترجمة الأدبية خصوصا و أن هناك من يعتبر أن النص الفلسفي لا يخلو من مسحة أدبية؟ أم نزاوج بين الطريقتين؟.
إن هناك رأيين في ما يخص الترجمة، فالبعض يقول بقراءة النص الأصلي دفعة واحدة أو مقاطع منها ثم بناء نص الترجمة انطلاقا من المعاني المستقاة من تلك القراءة، كما نجد في ترجمات مصطفى لطفي المنفلوطي و أحمد حسن الزيات، غير أن "هذه الطريقة رديئة بالاجمال لأنها تفقد الأصل خصائصه المتميزة لتكسب المنقول إليه خصائص الناقل الفكرية" (1)، و يسمي الفرنسيون نموذج الترجمة هذا، بالترجمة – الخيانة: Traduction-trahison.
و هناك من يدعو إلى ترجمة حرفية دقيقة، لكل كلمة و لكل حرف، و هذه طريقة عقيمة سقيمة تجعل عمل المترجم آليا دون أن يدرك المغزى من عمله و دون أن يبلغ الروعة التي تتمخض عنها اللغة الأصلية (2).
و ما يمكن أن نخلص إليه هو استحالة إيجاد طريقة واحدة محددة القواعد للترجمة السليمة، بل تتحدد بحسب طبيعة النص ذاته، فيمكن اعتماد ترجمة حرفية إذا كان النص بسيطا واضحا و كانت لمفرداته مقابلات محددة و دقيقة في اللغة المنقول إليها، و عندما يلاحظ أن الترجمة تقتل روح النص لا بأس من التصرف فيه لكن دون إسقاط أو زيادة.
و بالإضافة إلى تكييف طريقة الترجمة مع مقتضيات النص الأصلي و لغة الترجمة، نلفي عاملا مساعدا و ضروريا و هو فهم روح النص من أجل ترجمة مبدعة.
يعتبر والتر بنيامين W.Benyamin أن الهدف الميتافيزيقي للترجمة هو البحث عن "اللغة الخالصة" التي تتضمنها كل لغة فيما وراء تعدد اللغات الامبريقية" () أي أن هناك بحثا" و بطريقة أفلاطونية عن "ما وراء" حقيقي للغات الطبيعية (4)، فالترجمة موحدة للغات مختلفة، باعتبارها أداة للانفتاح و التواصل بين لغات و ثقافات عدة.
و إلى جانب الهدف الميتافيزيقي للترجمة، نجد لها هدفا أخلاقيا يتمثل في توسيع أفق اللغة و رفض راحتها الحميمية؛ و الداعي إلى ترجمة كتاب من لغة إلى أخرى ليس هو وجود قراء غير متقنين للغة الأجنبية فحسب، بل هو إغناء اللغة الأم ذاتها، لأن عالمية أي لغة لا تقاس بعدد ناطقيها فقط و إنما بعدد الكتب المؤلفة أو المنقولة إليها، مما يفتح إمكانية تلاقح الثقافات و الاستفادة من تجارب و خبرات الآخرين و إغناء اللغة المترجم إليها، إلى درجة أن هناك من اعتبر أن "دور الترجمة كبير في بناء الحضارة القومية" (5).
و عندما يطرح المترجم إدوار الخراط السؤال: "لماذا أترجم؟" فإنه يجيب قائلا: "أترجم (...) لأنني أتمنى أن أقتحم، و لو مقدار خطوة، في مساحة حقيقية لا حدود لها و لا وصول إليها، و لأنني أتمنى أن ترتفع معرفتي و معرفتكم بالذات وبالآخر، و بالعالم، ... و لأنني لا أطيق أن أتحمل في صمت جمال العالم وأهواله."(6)
مما سلف ذكره، يمكن القول بأن الترجمة ممارسة قصدية، لاكتشاف الآخر والعالم بل و حتى اكتشاف الذات من خلال الآخر، كما أنها مناسبة للانفتاح على ثقافات "غربية" و إقامة حوار معها، هذا الحوار الذي من شأنه أن يغني ثقافتنا ولغتنا.
و كما أشرنا إلى ذلك سلفا، فكفاية الترجمة ممارسة معقدة تفترض شروطا في كل من يخوض في غمارها، و على هذا الأساس يمكن أن نتفهم تلك الاكراهات التي تعوق عمل المترجم "المحترف" فبالأحرى عندما يتعلق الأمر بمترجم "هاوٍ" « Amateur »
ففي المثل الإيطالي الشهير: "الترجمة خيانة، Traduttore-traduttore" (7) تشهير بالترجمة و اتهام المترجم بالخيانة، رغم سعي هذا الأخير إلى إرضاء العمل الأصلي و لغته الأصلية من جهة، و إلى إرضاء الجمهور و لغة الترجمة من جهة أخرى؛ رغم ما في ذلك من صعوبة في التوفيق بين المطلبين، و لهذا "ما يمكن أن نسميه بمأساة المترجم" (). إذن فمهما حاول المترجم أن ينمحي s’effacer من أجل نقل النص بأمانة فغالبا ما ينعت بالخيانة، و ذلك لأن المترجم مهما حاول " أن يجعل النص المترجم شبيها بالزجاج الشفاف، فلابد لذلك النص من أن يتحول في بعض اللحظات إلى ما يشبه المرآة، فتنعكس فيه سمات المترجم الذاتية".
إن الأمانة مطلب ضروري في كل ترجمة، لكن يجب الاعتراف في نفس الآن باستحالة الوصول إلى ترجمة كاملة و نهائية، من ثمة يمكن ترجمة النص إلى نفس اللغة مرات عديدة، و لو كان النص المترجم تكرارا للنص الأصلي لأضحت الترجمة غير ذات معنى، بل لأصبحت مستحيلة. و هكذا فالترجمة النهائية للنص مستحيلة عمليا، إلا أنه يتعين الأخذ بمبدأ أساسي مفاده أن "الترجمة الرفيعة المستوى و إن كانت لا تنطبق على النص الأصلي خير من ترجمة حرفية رديئة".
رشيد أمعاز - محسن المحمدي
الهوامش :
(1) عبد النبي ذاكر: قضايا ترجمة القرآن، سلسلة شراع، دار النشر المغربية، طنجة، العدد 45، 15 دجنبر 1998، ص:9.
(2) عز الدين الخطابي: في الترجمة و الفلسفة السياسية و الأخلاقية، منشورات عالم التربية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2004، ص 7.
(3) سهيل إدريس نهضة و التزام ... و بعض نزوة! مجلة الآداب – دجنبر 1999 – ص 85.
(4) المرجع نفسه. ص 85.
(5) عز الدين الخطابي: في الترجمة و الفلسفة السياسية و الأخلاقية، منشورات عالم التربية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2004، ص 24.
(6) المرجع نفسه، ص 24.
(7) فؤاد المرعي: الترجمة عن لغة وسيطة: قبلة من وراء زجاج شفاف. مجلة الآداب – دجنبر 1999. ص 79.