إن الترجمة الصحافية وسيلة اتصال بين الحضارات، تساهم في تفاعلها وفي تعزيز تراكم العطاء الإنساني، لذا يجب الاهتمام بها وفهم جوانبها المختلفة. هذا ما سنحاول سبر أغواره من خلال هذا المقال الذي يطمح إلى ملامسة بعض مبادئ الترجمة في المجالات الصحفية، وذلك من خلال الحديث عن النقط التالية: تصرف الصحفي في الترجمة، تأثير نوعية المتلقي، تأثير إديولوجيا الصحيفة، تأثير الحصة الزمنية المتوفرة، تحريف المعنى والمسألة الأخلاقية في الترجمة الصحفية...
1- حدود تصرف الصحافي في ترجمة النص الأصل : متى يتحتم على المترجم أن يتصرف في الترجمة التي يقدمها؟ كيف يتم هذا التصرف وما هي معاييره وحدوده؟ ما هو الهدف من التصرف في الترجمة؟
إن التصرف في الترجمة ينبع من رغبة ملحة في خلق التواصل بعد التحرر من الارتباط الوثيق ببعض مكونات النص الأصل ومحاولة صياغة نص جديد يأخذ إلى حد بعيد بعين الاعتبار نوعية المتلقي وظروف التلقي الجديدة في اللغة الهدف. ويعدد باستان ثلاثة عناصر تدفع المترجم إلى التصرف في النص الأصل:
- عدم نجاح الترجمة الحرفية حين يتعلق الأمر باللعب بالمفردات أو بالمتلازمات اللفظية.
- اختلاف وضعيتي التلقي في اللغتين عندما يتعلق الأمر بتمرير حقيقة أو واقع غير موجود في اللغة الهدف مثلا.
- الرغبة الواعية في تغيير طبيعة ونوعية الخطاب الأصل، كتلخيص نص أو تبسيط نص مغرق في التخصص لإنتاج نص جديد يسهل فهمه من قبل القارئ العادي.
إلى هذا الحد يبقى التصرف منتميا لما نسميه ترجمة، لأنه لا يسعى إلى التصرف في المعنى بتغييره أو استبداله بمعنى جديد. وبما أن الترجمة الصحافية تسعى في غالب الأحيان إلى نقل أخبار وتقاسم معلومات مع القراء، فلا يجوز أن يقصي النص المترجم النص الأصل بتغييره أو النقص أو الزيادة في معناه. إن التصرف برفض الأصل أو تجاوزه قد يكون مسموحا به في الاقتباس المسرحي أو الترجمة الفلسفية النقدية مثلا، لكن لا يجب قبوله متى تعلق الأمر بالترجمة الصحافية. قد يلجأ الصحافي-المترجم في بعض الأحيان إلى ترجمة تلخيصية تقتضيها المساحة المخصصة لمقاله في جريدة، وهذا شيء مقبول متى تمت المحافظة على المعنى والأفكار الرئيسية دون تحريف أو تشويه.
لا يعني التصرف النقص في الترجمة عبر بتر الأفكار الرئيسية أو التخلص من الفقرات التي لم يوفق المترجم في ترجمتها. لا يعني التصرف الزيادة في الترجمة عبر إدخال أفكار جديدة أو مناقضة لم ترد في النص الأصل قصد استعمال إيديولوجي ينسب لكاتب النص الأصل أشياء لم يقلها. التصرف في الترجمة يأتي للتواصل مع الجمهور المتلقي عبر تغيير واع لوظيفة النص الأصل (تلخيصه أو تفسير أفكاره أو تبسيط مستواه اللغوي...) دون المساس بأفكاره التي تكون المعنى العام.
إن التصرف في النص الأصل بمعنى إعادة إبداع وإعادة خلق نص جديد في اللغة الهدف مسألة مطلوبة في الترجمة الصحافية، لكن التصرف المفرط يمكن أن يؤدي إلى انحرافات وانزلاقات خطيرة تمس جوهر المعنى المراد تبليغه وتشوه محتوى المقال المراد تقاسمه مع الجمهور في لغة ثانية غير اللغة التي كتب بها أصلا. يجب إذن أن يكون التصرف محسوبا، من دون إفراط ولا تفريط، وأن يكون بالأساس مبررا لأنه متى استعمل بتروي ساعد على حل مشاكل عدم تقابل اللغات والثقافات وتغير ظروف التلقي في اللغة الهدف، وساهم أيضا في ربط التواصل بين المترجم والقراء في اللغة المترجم إليها. نحن إذن لا نرفض التصرف في الترجمة الصحافية جملة وتفصيلا، بل إننا نرفض نوعا من التصرف يتجاوز مجال الترجمة ليخلق نصا جديدا يبتر المعنى أو يضيف إليه.
2- تأثير نوعية المتلقي على النص المترجم: ملائمة المقال للمقام:
إن عملية الكتابة ( والترجمة أيضا في آخر أطوارها كتابة ) تخضع لاستراتيجيات خطابية يتحكم فيها، بالإضافة لما هو لغوي، عناصر لا لغوية: سياق النص، التناص، مدى علاقة الكاتب بالنص المنتج، الجمهور المستهدف...الخ. وبما أن كل جريدة تخرج إلى السوق تقتضي أن يكون لديها قراء، فإن فريق المحررين بها يضع في خانة أهدافه الحفاظ على وفاء هؤلاء القراء. وقد يتم السعي عندما يتعلق الأمر بصحافة الرأي إلى استقطابهم والتأثير على آرائهم وقناعاتهم. وكما كاتب النص الأصل، فإن المترجم هو الآخر يكون فكرة عن قارئيه قبل الشروع في نقل النص من لغته الأصل إلى لغة هدف. ومن ثمة، فإن الخطاب المترجم يتشكل ويتلون حسب الصورة التي يرسمها المترجم لجمهوره المفترض.
إن مترجم النصوص الصحافية الذي يلجأ إلى أسلوب يفهمه قراؤه، يتكلم مع هؤلاء بلغتهم. أما الذي يتصنع البحث عن كلمات وعبارات تضبب المعنى وتجعل الفهم صعب المنال، فإنه يتكلم معهم بلغته هو أو في بعض الأحيان بلغة قد لا يفهمها هو نفسه. إن تعويم الخطاب والابتعاد عن الوضوح في الترجمة الصحافية لا يمكن تفسيره سوى بكون المترجم لم يفهم النص الأصل أو لم يستطع التعبير عن ما فهمه حسب الطريقة التي يتم التعبير بها في حقل تخصصي محدد. يجب أن يتأكد الصحفي-المترجم بأن استعمال الكلمات والتعابير النادرة والمعقدة في الترجمة الصحافية يقلص عدد القراء. لا يجب أن يقف النص المترجم حجر عثرة أمام الفهم ويدفع بالمتلقي إلى طرح السؤال التالي: ماذا يريد هذا الصحافي-المترجم أن يقول من خلال هذا المقال؟
كما أن الأسلوب المستعمل للتأثير على المتلقي قد يحسم في قيمة النص المترجم، فقد يفضي إلى ترجمة جيدة يفهمها ويتفاعل معها القارئ أو العكس إلى ترجمة تسقط في الضبابية ولا تترك أي انطباع إيجابي لدى القارئ إن على مستوى الفهم أو على مستوى القيمة الفنية للنص المترجم. ولنقل، إن المترجم الجيد هو الذي يطرح الأسئلة التالية خلال قيامه بترجمة أي نص صحافي:
هل سيفهم أغلب القراء هذا المصطلح أو هذا التعبير؟
هل هذا المصطلح أو هذا التعبير سيؤثر سلبا على المعنى العام للنص أم أن سياق النص كفيل برفع اللبس؟
هل سيفهم المتلقي المصطلح المستحدث أم هناك حاجة لإرفاقه بجملة تفسيرية؟
ما هو المستوى اللغوي الذي سيفهمه المتلقي؟
هل هناك حاجة لتغيير أسلوب النص الأصل أم لا؟
أي تركيبة (مضمر–مفصح عنه) ستمكن القارئ من فهم الترجمة؟...الخ
وعلى كل حال، يمكننا أن نقول: إن نوعية المتلقي للترجمة يجب أن تدفع المترجم-الصحافي إلى التصرف لربط التواصل بشكل جيد. هذا التصرف لا يجب أن يغير المعنى العام للنص الأصل، وإن سعى بوعي إلى تغيير وظيفته (تلخيصه أو تفصيله أو إعادة ترتيب أجزائه أو تعديله بحذف التكرار والزيادات التي لا تدخل في بناء الفكرة الرئيسية للنص). وبالتالي فإن تقييم أي ترجمة يستند إلى الأهداف المرسومة مسبقا للنص المترجم والوظيفة التي يراد له أن يلعبها في اللغة الهدف. لكن، وكما سبق وقلنا، فكل تصرف يأخذ بعين الاعتبار القارئ لا يجب أن يحرف المعنى الأساسي الذي من أجله كتب النص الأصل.
3- تأثير إيديولوجيا الصحيفة على الترجمة:
لكل صحيفة شكلها وصيغتها التي تصاغ بها، إضافة إلى توجهها. ونعني بالصيغة جانبها الشكلي الذي يميزها عن باقي الصحف المعروضة في الأكشاك، أما توجه الصحيفة فإنه يقابل اختيارات سياسة التحرير التي تخضع لعدة محددات: إيديولوجية أو فكرية أو سياسية أواقتصادية..الخ. وإن وصفت وسائل الإعلام عادة بأنها السلطة الرابعة في المجتمع لأنها وجدت أصلا لمواجهة مناورات الخطابات السياسية والإيديولوجية، إلا أنها، خصوصا في مجتمعاتنا العربية، قد تخضع هي الأخرى لسلطة إيديولوجية تتحكم في اختياراتها ومحتوى خطاباتها. وبذلك فإن الصحافة تتحكم في المتلقي بعد أن تخضع هي الأخرى لسيطرة نخبة اجتماعية، سياسية، اقتصادية أو دينية محددة تكون لجنة تحريرها أو من يكون وراءها.
ومتى انتقلنا من الصحافي-الكاتب إلى الصحافي-المترجم قبلنا بالحديث عن ما يتركه فكر المترجم وإيديولوجيته من أثر على اختياره للنصوص التي يود ترجمتها. هذا الاختيار الذي يؤثر بدوره على أداء المترجم ومقاصده ومدى التطابق بين ما يتوخاه لترجمته من أثار ومفاعيل، وما يتحقق فعلا على صعيد العلاقة مع الآخر، أي مع القارئ. وإن كانت الترجمة في العالم العربي لا تزال تنزع إلى الأعمال الأدبية أو التقنية التي لا تتعارض مع بطش السلطة (السلطة السياسية أو الثقافية-الإعلامية)، فهذا لا يعطي الحق للصحافي-المترجم في ترجمة ما يروق للمسؤولين والتستر أو تفادي ترجمة ما يقلقهم نزولا عند رغبة رئيس التحرير الخاضع هو الأخر لسلطة فوقية، بل على المترجم متى انتهى من اختيار المقال المراد ترجمته أن ينقل معناه إلى اللغة الأخرى كاملا دون نقص أو زيادة أو تحريف أو تشويه. ولنقل إن للنص الأصل سلطة على المترجم لا يجب التنصل منها للخضوع لسلطة إيديولوجية أو سياسية أو ثقافية خارجة عن هذا النص. وغني عن البيان أن عصر العلم رهن الديمقراطية. وكلما اتسع نطاق الحرية في الكتابة وفي الترجمة، اتسع نطاق النشاط الفكري بمدلوله ومضمونه الاجتماعيين. ولهذا فإن البعد السياسي والإيديولوجي مكمل للبعد المعرفي- الثقافي، ودون هذه الشروط تفقد الترجمة الصحافية، متخصصة كانت أم أدبية أم عامة، الدافع إليها.
4- إكراهات الحصة الزمنية في الترجمة الصحافية المتخصصة:
إن من بين أهم المشاكل المرتبطة بالترجمة الصحافية اليوم هي التمكن من إنتاج نص مترجم يحترم محددات الأمانة والوفاء للأصل و"القبول" في اللغة الهدف، وذلك في فترة زمنية قصيرة. نعم، إن المترجم المتمكن من هذا النشاط هو الذي يطور كفاءة السرعة في إنجاز الترجمة مع الحفاظ على نفس معنى النص الأصل. ومهما كانت الحصة الزمنية المتوفرة، وجب على الصحافي-المترجم أن يقدم منتوجا مقبولا من حيث الكيف يفي بجميع محددات الترجمة الأمينة. وقد نرجع الزلات اللغوية والهفوات التعبيرية في بعض الأحيان إلى ضيق الوقت. لكن، إن قبلنا من المترجم المبتدئ بالركاكة في التعبير، فلا يمكن أن نقبل ترجمات تذهب إلى عكس معنى النص الأصل. وتبعا لتجربتنا في مجال الترجمة الصحافية، فقد واجهنا دائما مشكل ضيق الوقت لإنجاز الترجمة. والآن، بعد أن نضجت تجربتنا في هذا المجال، فإننا لن نقبل برد أخطاء الترجمة لضيق الحصة الزمنية. وبالتالي يجب على المترجم المقتدر الذي يحترم مهنته ويحترم القراء، وأن يقوم بكل ما في وسعه لإنجاز ترجمة تتميز بالوفاء للنص الأصل و"بالقبول" في اللغة الهدف.
وعموما فإن مسألة ضيق أو اتساع الوقت خلال إنجاز الترجمة الصحافية ترتبط بعدة عوامل:
- متعة المترجم في التطرق لموضوع دون الآخر: فمتى تجاوب المترجم مع الموضوع، جاءت ترجمته سريعة وناجحة.
- صعوبة الموضوع أو سهولته
- معرفة المترجم المسبقة بالموضوع
- الدربة والممارسة في مجال الترجمة
- الطريقة المتبعة في الترجمة...الخ.
5- تحريف المعنى في بعض الترجمات الصحافية:
كتب الكثيرون عن الحالة المؤسفة التي وصلت إليها الترجمة العربية عموما، لكننا لم نكن نتوقع أن نجد أنفسنا أمام كومة من الأخطاء في كل من المقالات الصحافية المترجمة التي أخضعناها للتحليل والنقد. ونشير أننا لا نعلن أستاذية على أحد، فنحن أيضا ارتكبنا أخطاء في بدايات عملنا بالترجمة الصحافية، وإن كانت هذه الأخطاء لا تمس المعنى الذي نعتبره جوهر العملية الترجماتية. لكن يجب في هذا السياق التنبيه إلى مسألة ضرورة إخضاع الترجمة الصحافية لمعايير علمية تتوخى الأمانة والوفاء للنص الأصل عوض طغيان الهدف التجاري المحض. وعلى الرغم من ظهور صحافيين-مترجمين عرب يحترمون مهنتهم الشاقة فعلا، فإن الغالبية الساحقة لازالت تكرس حالة الفوضى واللامسئولية التي يعرفها مجال الترجمة الصحافية. إن الأمثلة التي يمكن أن نسوقها للتدليل على هذه المشكلة المستفحلة كثيرة ومتعددة يتجاوز ذكرها مساحة هذا المقال لكثرة الأخطاء التي تتضمنها الترجمات الصحافية إلى اللغة العربية. وأول ما يستوقفنا في هذه الترجمات تضمنها لأخطاء فادحة تدفعنا إلى التساؤل عن الهدف من وراء نشر ترجمة لجريدة هامة في حجم "لوموند ديبلوماتيك" تحرف المعنى وتشوه المراد تبليغه (النقد موجه للفترة التي كانت إحدى الصحف المغربية تقوم بترجمة صحيفة ''لوموند ديبلوماتيك''). وتشمل هذه الانحرافات الفادحة:
- أخطاء في ترجمة المصطلح والعبارات الاصطلاحية
- أخطاء في ترجمة الصيغ المشهورة
- أخطاء مرتبطة بعدم احترام الاستعمال الشائع
- أخطاء مرتبطة بتداخل البنى وتراكيب اللغتين
- أخطاء مرتبطة بالأسلوب
- الزيادة في الترجمة
- النقص في الترجمة
- أخطاء مرتبطة بسوء فهم النص الأصل
- الافتقاد لمعرفة موسوعية تصاحب الإنجاز النصي
- إقحام ذاتية المترجم...الخ.
6- المسألة الأخلاقية في الترجمة الصحافية:
إن الترجمات التي يقوم بها الصحافيون-المترجمون يقرأها جمهور واسع، ومن تم تأتي المسؤولية الكبرى التي يتحملونها. وقبل القيام بأي نشاط ترجماتي-صحافي، يجب على المترجم أن يطرح السؤال التالي: ما هو الهدف من وراء الترجمة الصحافية؟
الجواب طبعا سيكون بالأساس هو الإخبار والإعلام والتواصل مع فئات عريضة أو محددة من القراء. لكن أن تخبر يقتضي أن توجه معرفة لمن يجهلها، معرفة تنقلها تعابير لغوية تتضمن معاني خاصة قد يستعصي فهمها على المتلقي. لذا، فعندما لا يحدد المترجم-الصحافي الفئة المستهدفة بدقة (لمن يترجم؟) وعندما لا يفرق بين المصطلحات الشائعة الاستعمال والمصطلحات المتخصصة، تخيم على خطابه فوضى يستعصي معها الوصول إلى المعنى الحقيقي. وقد ينزلق خطاب الصحافي-المترجم ليصبح في خدمة المغلوط، خصوصا إذا كان يلجأ إلى تعابير جاهزة وغير مضبوطة المعنى. حينها تصبح الصحافة أداة للتشويه تخضع لجهل الصحافي بمسؤوليته وتتوافق مع نظرته الذاتية الضيقة مبتعدة عن المعنى الحقيقي للظواهر والأحداث. وبالتالي يجب القول بأن كل خلل في الفهم وفي استقبال الفكر لمعنى النص الأصل ينتج عنه خلل في التعبير، وكذا في التركيب واحترام ضوابط اللغة الهدف. تلك الترجمات التي "يضطرب لفظها ويفسد أسلوبها ويسمج أداؤها "على حد تعبير عميد الأدب طه حسين.
إن الترجمة وظيفة تلتصق بالعمل اليومي للصحافي-المترجم. لكن في الغالب لا يطلب من هذا الصحافي-المترجم سوى معرفته للغتين، المنقول عنها والمنقول إليها، كأن الترجمة تختزل إلى مسألة لغوية. إن هنالك عددا من الصحافيين-المترجمين تنقصهم الخبرة في ميدان الترجمة وعدد آخر يفتقدون لطريقة مثلى تنقل المعنى صحيحا من لغة إلى لغة، وآخرون تنقصهم سعة الاطلاع. كلهم يعتبرون خاطئين أن الترجمة هي مسألة تعويض ألفاظ في اللغة الأصل بألفاظ في اللغة الهدف ليس إلا. إنهم يجهلون الطرائق المتبعة في ميدان الترجمة الأمينة ويستخفون بأهدافها الحقيقية، مستأثرين استعمال جمل "صادمة" وخطابات مفخمة عوض التعبير الصادق عن نفس المعنى الذي تضمنه المقال الأصل في محاولة كاذبة للتأثير على المتلقي. إنهم يشوهون معنى النص الأصل ويخونون الرسالة النبيلة للترجمة الأمينة. وبالتالي، إذا كان المترجم أمام نص دعائي يناقض كليا توجهاته، فحري به أن يرفض مسبقا ترجمته عوض أن يحرفه ليوافق أفكاره. إن المترجم ليس مؤلفا، بل إنه مقيد بمعنى نص أصل يجب أن ينقله بأمانة، ومقيد أيضا بمسئوليته اتجاه القارئ الذي لا يجب أن يكذب عليه. يجب أن تفسح التأويلات الذاتية المجال للتأويلات الموضوعية حتى تتم الترجمة على الوجه الأكمل.
الدكتور عبداللطيف هسوف
إن التصرف في النص الأصل بمعنى إعادة إبداع وإعادة خلق نص جديد في اللغة الهدف مسألة مطلوبة في الترجمة الصحافية، لكن التصرف المفرط يمكن أن يؤدي إلى انحرافات وانزلاقات خطيرة تمس جوهر المعنى المراد تبليغه وتشوه محتوى المقال المراد تقاسمه مع الجمهور في لغة ثانية غير اللغة التي كتب بها أصلا. يجب إذن أن يكون التصرف محسوبا، من دون إفراط ولا تفريط، وأن يكون بالأساس مبررا لأنه متى استعمل بتروي ساعد على حل مشاكل عدم تقابل اللغات والثقافات وتغير ظروف التلقي في اللغة الهدف، وساهم أيضا في ربط التواصل بين المترجم والقراء في اللغة المترجم إليها. نحن إذن لا نرفض التصرف في الترجمة الصحافية جملة وتفصيلا، بل إننا نرفض نوعا من التصرف يتجاوز مجال الترجمة ليخلق نصا جديدا يبتر المعنى أو يضيف إليه.
2- تأثير نوعية المتلقي على النص المترجم: ملائمة المقال للمقام:
إن عملية الكتابة ( والترجمة أيضا في آخر أطوارها كتابة ) تخضع لاستراتيجيات خطابية يتحكم فيها، بالإضافة لما هو لغوي، عناصر لا لغوية: سياق النص، التناص، مدى علاقة الكاتب بالنص المنتج، الجمهور المستهدف...الخ. وبما أن كل جريدة تخرج إلى السوق تقتضي أن يكون لديها قراء، فإن فريق المحررين بها يضع في خانة أهدافه الحفاظ على وفاء هؤلاء القراء. وقد يتم السعي عندما يتعلق الأمر بصحافة الرأي إلى استقطابهم والتأثير على آرائهم وقناعاتهم. وكما كاتب النص الأصل، فإن المترجم هو الآخر يكون فكرة عن قارئيه قبل الشروع في نقل النص من لغته الأصل إلى لغة هدف. ومن ثمة، فإن الخطاب المترجم يتشكل ويتلون حسب الصورة التي يرسمها المترجم لجمهوره المفترض.
إن مترجم النصوص الصحافية الذي يلجأ إلى أسلوب يفهمه قراؤه، يتكلم مع هؤلاء بلغتهم. أما الذي يتصنع البحث عن كلمات وعبارات تضبب المعنى وتجعل الفهم صعب المنال، فإنه يتكلم معهم بلغته هو أو في بعض الأحيان بلغة قد لا يفهمها هو نفسه. إن تعويم الخطاب والابتعاد عن الوضوح في الترجمة الصحافية لا يمكن تفسيره سوى بكون المترجم لم يفهم النص الأصل أو لم يستطع التعبير عن ما فهمه حسب الطريقة التي يتم التعبير بها في حقل تخصصي محدد. يجب أن يتأكد الصحفي-المترجم بأن استعمال الكلمات والتعابير النادرة والمعقدة في الترجمة الصحافية يقلص عدد القراء. لا يجب أن يقف النص المترجم حجر عثرة أمام الفهم ويدفع بالمتلقي إلى طرح السؤال التالي: ماذا يريد هذا الصحافي-المترجم أن يقول من خلال هذا المقال؟
كما أن الأسلوب المستعمل للتأثير على المتلقي قد يحسم في قيمة النص المترجم، فقد يفضي إلى ترجمة جيدة يفهمها ويتفاعل معها القارئ أو العكس إلى ترجمة تسقط في الضبابية ولا تترك أي انطباع إيجابي لدى القارئ إن على مستوى الفهم أو على مستوى القيمة الفنية للنص المترجم. ولنقل، إن المترجم الجيد هو الذي يطرح الأسئلة التالية خلال قيامه بترجمة أي نص صحافي:
هل سيفهم أغلب القراء هذا المصطلح أو هذا التعبير؟
هل هذا المصطلح أو هذا التعبير سيؤثر سلبا على المعنى العام للنص أم أن سياق النص كفيل برفع اللبس؟
هل سيفهم المتلقي المصطلح المستحدث أم هناك حاجة لإرفاقه بجملة تفسيرية؟
ما هو المستوى اللغوي الذي سيفهمه المتلقي؟
هل هناك حاجة لتغيير أسلوب النص الأصل أم لا؟
أي تركيبة (مضمر–مفصح عنه) ستمكن القارئ من فهم الترجمة؟...الخ
وعلى كل حال، يمكننا أن نقول: إن نوعية المتلقي للترجمة يجب أن تدفع المترجم-الصحافي إلى التصرف لربط التواصل بشكل جيد. هذا التصرف لا يجب أن يغير المعنى العام للنص الأصل، وإن سعى بوعي إلى تغيير وظيفته (تلخيصه أو تفصيله أو إعادة ترتيب أجزائه أو تعديله بحذف التكرار والزيادات التي لا تدخل في بناء الفكرة الرئيسية للنص). وبالتالي فإن تقييم أي ترجمة يستند إلى الأهداف المرسومة مسبقا للنص المترجم والوظيفة التي يراد له أن يلعبها في اللغة الهدف. لكن، وكما سبق وقلنا، فكل تصرف يأخذ بعين الاعتبار القارئ لا يجب أن يحرف المعنى الأساسي الذي من أجله كتب النص الأصل.
3- تأثير إيديولوجيا الصحيفة على الترجمة:
لكل صحيفة شكلها وصيغتها التي تصاغ بها، إضافة إلى توجهها. ونعني بالصيغة جانبها الشكلي الذي يميزها عن باقي الصحف المعروضة في الأكشاك، أما توجه الصحيفة فإنه يقابل اختيارات سياسة التحرير التي تخضع لعدة محددات: إيديولوجية أو فكرية أو سياسية أواقتصادية..الخ. وإن وصفت وسائل الإعلام عادة بأنها السلطة الرابعة في المجتمع لأنها وجدت أصلا لمواجهة مناورات الخطابات السياسية والإيديولوجية، إلا أنها، خصوصا في مجتمعاتنا العربية، قد تخضع هي الأخرى لسلطة إيديولوجية تتحكم في اختياراتها ومحتوى خطاباتها. وبذلك فإن الصحافة تتحكم في المتلقي بعد أن تخضع هي الأخرى لسيطرة نخبة اجتماعية، سياسية، اقتصادية أو دينية محددة تكون لجنة تحريرها أو من يكون وراءها.
ومتى انتقلنا من الصحافي-الكاتب إلى الصحافي-المترجم قبلنا بالحديث عن ما يتركه فكر المترجم وإيديولوجيته من أثر على اختياره للنصوص التي يود ترجمتها. هذا الاختيار الذي يؤثر بدوره على أداء المترجم ومقاصده ومدى التطابق بين ما يتوخاه لترجمته من أثار ومفاعيل، وما يتحقق فعلا على صعيد العلاقة مع الآخر، أي مع القارئ. وإن كانت الترجمة في العالم العربي لا تزال تنزع إلى الأعمال الأدبية أو التقنية التي لا تتعارض مع بطش السلطة (السلطة السياسية أو الثقافية-الإعلامية)، فهذا لا يعطي الحق للصحافي-المترجم في ترجمة ما يروق للمسؤولين والتستر أو تفادي ترجمة ما يقلقهم نزولا عند رغبة رئيس التحرير الخاضع هو الأخر لسلطة فوقية، بل على المترجم متى انتهى من اختيار المقال المراد ترجمته أن ينقل معناه إلى اللغة الأخرى كاملا دون نقص أو زيادة أو تحريف أو تشويه. ولنقل إن للنص الأصل سلطة على المترجم لا يجب التنصل منها للخضوع لسلطة إيديولوجية أو سياسية أو ثقافية خارجة عن هذا النص. وغني عن البيان أن عصر العلم رهن الديمقراطية. وكلما اتسع نطاق الحرية في الكتابة وفي الترجمة، اتسع نطاق النشاط الفكري بمدلوله ومضمونه الاجتماعيين. ولهذا فإن البعد السياسي والإيديولوجي مكمل للبعد المعرفي- الثقافي، ودون هذه الشروط تفقد الترجمة الصحافية، متخصصة كانت أم أدبية أم عامة، الدافع إليها.
4- إكراهات الحصة الزمنية في الترجمة الصحافية المتخصصة:
إن من بين أهم المشاكل المرتبطة بالترجمة الصحافية اليوم هي التمكن من إنتاج نص مترجم يحترم محددات الأمانة والوفاء للأصل و"القبول" في اللغة الهدف، وذلك في فترة زمنية قصيرة. نعم، إن المترجم المتمكن من هذا النشاط هو الذي يطور كفاءة السرعة في إنجاز الترجمة مع الحفاظ على نفس معنى النص الأصل. ومهما كانت الحصة الزمنية المتوفرة، وجب على الصحافي-المترجم أن يقدم منتوجا مقبولا من حيث الكيف يفي بجميع محددات الترجمة الأمينة. وقد نرجع الزلات اللغوية والهفوات التعبيرية في بعض الأحيان إلى ضيق الوقت. لكن، إن قبلنا من المترجم المبتدئ بالركاكة في التعبير، فلا يمكن أن نقبل ترجمات تذهب إلى عكس معنى النص الأصل. وتبعا لتجربتنا في مجال الترجمة الصحافية، فقد واجهنا دائما مشكل ضيق الوقت لإنجاز الترجمة. والآن، بعد أن نضجت تجربتنا في هذا المجال، فإننا لن نقبل برد أخطاء الترجمة لضيق الحصة الزمنية. وبالتالي يجب على المترجم المقتدر الذي يحترم مهنته ويحترم القراء، وأن يقوم بكل ما في وسعه لإنجاز ترجمة تتميز بالوفاء للنص الأصل و"بالقبول" في اللغة الهدف.
وعموما فإن مسألة ضيق أو اتساع الوقت خلال إنجاز الترجمة الصحافية ترتبط بعدة عوامل:
- متعة المترجم في التطرق لموضوع دون الآخر: فمتى تجاوب المترجم مع الموضوع، جاءت ترجمته سريعة وناجحة.
- صعوبة الموضوع أو سهولته
- معرفة المترجم المسبقة بالموضوع
- الدربة والممارسة في مجال الترجمة
- الطريقة المتبعة في الترجمة...الخ.
5- تحريف المعنى في بعض الترجمات الصحافية:
كتب الكثيرون عن الحالة المؤسفة التي وصلت إليها الترجمة العربية عموما، لكننا لم نكن نتوقع أن نجد أنفسنا أمام كومة من الأخطاء في كل من المقالات الصحافية المترجمة التي أخضعناها للتحليل والنقد. ونشير أننا لا نعلن أستاذية على أحد، فنحن أيضا ارتكبنا أخطاء في بدايات عملنا بالترجمة الصحافية، وإن كانت هذه الأخطاء لا تمس المعنى الذي نعتبره جوهر العملية الترجماتية. لكن يجب في هذا السياق التنبيه إلى مسألة ضرورة إخضاع الترجمة الصحافية لمعايير علمية تتوخى الأمانة والوفاء للنص الأصل عوض طغيان الهدف التجاري المحض. وعلى الرغم من ظهور صحافيين-مترجمين عرب يحترمون مهنتهم الشاقة فعلا، فإن الغالبية الساحقة لازالت تكرس حالة الفوضى واللامسئولية التي يعرفها مجال الترجمة الصحافية. إن الأمثلة التي يمكن أن نسوقها للتدليل على هذه المشكلة المستفحلة كثيرة ومتعددة يتجاوز ذكرها مساحة هذا المقال لكثرة الأخطاء التي تتضمنها الترجمات الصحافية إلى اللغة العربية. وأول ما يستوقفنا في هذه الترجمات تضمنها لأخطاء فادحة تدفعنا إلى التساؤل عن الهدف من وراء نشر ترجمة لجريدة هامة في حجم "لوموند ديبلوماتيك" تحرف المعنى وتشوه المراد تبليغه (النقد موجه للفترة التي كانت إحدى الصحف المغربية تقوم بترجمة صحيفة ''لوموند ديبلوماتيك''). وتشمل هذه الانحرافات الفادحة:
- أخطاء في ترجمة المصطلح والعبارات الاصطلاحية
- أخطاء في ترجمة الصيغ المشهورة
- أخطاء مرتبطة بعدم احترام الاستعمال الشائع
- أخطاء مرتبطة بتداخل البنى وتراكيب اللغتين
- أخطاء مرتبطة بالأسلوب
- الزيادة في الترجمة
- النقص في الترجمة
- أخطاء مرتبطة بسوء فهم النص الأصل
- الافتقاد لمعرفة موسوعية تصاحب الإنجاز النصي
- إقحام ذاتية المترجم...الخ.
6- المسألة الأخلاقية في الترجمة الصحافية:
إن الترجمات التي يقوم بها الصحافيون-المترجمون يقرأها جمهور واسع، ومن تم تأتي المسؤولية الكبرى التي يتحملونها. وقبل القيام بأي نشاط ترجماتي-صحافي، يجب على المترجم أن يطرح السؤال التالي: ما هو الهدف من وراء الترجمة الصحافية؟
الجواب طبعا سيكون بالأساس هو الإخبار والإعلام والتواصل مع فئات عريضة أو محددة من القراء. لكن أن تخبر يقتضي أن توجه معرفة لمن يجهلها، معرفة تنقلها تعابير لغوية تتضمن معاني خاصة قد يستعصي فهمها على المتلقي. لذا، فعندما لا يحدد المترجم-الصحافي الفئة المستهدفة بدقة (لمن يترجم؟) وعندما لا يفرق بين المصطلحات الشائعة الاستعمال والمصطلحات المتخصصة، تخيم على خطابه فوضى يستعصي معها الوصول إلى المعنى الحقيقي. وقد ينزلق خطاب الصحافي-المترجم ليصبح في خدمة المغلوط، خصوصا إذا كان يلجأ إلى تعابير جاهزة وغير مضبوطة المعنى. حينها تصبح الصحافة أداة للتشويه تخضع لجهل الصحافي بمسؤوليته وتتوافق مع نظرته الذاتية الضيقة مبتعدة عن المعنى الحقيقي للظواهر والأحداث. وبالتالي يجب القول بأن كل خلل في الفهم وفي استقبال الفكر لمعنى النص الأصل ينتج عنه خلل في التعبير، وكذا في التركيب واحترام ضوابط اللغة الهدف. تلك الترجمات التي "يضطرب لفظها ويفسد أسلوبها ويسمج أداؤها "على حد تعبير عميد الأدب طه حسين.
إن الترجمة وظيفة تلتصق بالعمل اليومي للصحافي-المترجم. لكن في الغالب لا يطلب من هذا الصحافي-المترجم سوى معرفته للغتين، المنقول عنها والمنقول إليها، كأن الترجمة تختزل إلى مسألة لغوية. إن هنالك عددا من الصحافيين-المترجمين تنقصهم الخبرة في ميدان الترجمة وعدد آخر يفتقدون لطريقة مثلى تنقل المعنى صحيحا من لغة إلى لغة، وآخرون تنقصهم سعة الاطلاع. كلهم يعتبرون خاطئين أن الترجمة هي مسألة تعويض ألفاظ في اللغة الأصل بألفاظ في اللغة الهدف ليس إلا. إنهم يجهلون الطرائق المتبعة في ميدان الترجمة الأمينة ويستخفون بأهدافها الحقيقية، مستأثرين استعمال جمل "صادمة" وخطابات مفخمة عوض التعبير الصادق عن نفس المعنى الذي تضمنه المقال الأصل في محاولة كاذبة للتأثير على المتلقي. إنهم يشوهون معنى النص الأصل ويخونون الرسالة النبيلة للترجمة الأمينة. وبالتالي، إذا كان المترجم أمام نص دعائي يناقض كليا توجهاته، فحري به أن يرفض مسبقا ترجمته عوض أن يحرفه ليوافق أفكاره. إن المترجم ليس مؤلفا، بل إنه مقيد بمعنى نص أصل يجب أن ينقله بأمانة، ومقيد أيضا بمسئوليته اتجاه القارئ الذي لا يجب أن يكذب عليه. يجب أن تفسح التأويلات الذاتية المجال للتأويلات الموضوعية حتى تتم الترجمة على الوجه الأكمل.
الدكتور عبداللطيف هسوف