تعد الترجمة في الأصل نقلا للمعاني من لغة أصل إلى لغة هدف، ويرجع الحديث عنها مع أسطورة بابل التي تعد بداية اختلاف الألسن في النسق الإنساني، ومنه فالترجمة أساسا هي قنطرة العبور إلى الآخر المختلف لسانا والتواصل معه، فهي إذن من الناحية المثولوجية نتيجة مستندة إلى عقاب إلهي للبشرية التي حاولت ابتداء الاتصال بالإله والاطلاع على أسراره. والحاصل إذن، من هذا المنظور عينه، أنها تمثيل للعقاب وهروب منه في الوقت نفسه، وتجاوز له عبر خلق قناة للتواصل بوساطة الترجمة، ونقل المعاني المستعرضة بالنظر إلى الألسن المبلبلة.
تتعدد أوجه الترجمة في علاقتها بالتنمية من خلال هذا الأساس الميثولوجي نفسه، إذ أساسها الحاجة إلى التواصل والتقدم، ولولا هذين السببين لبقيت الألسن مبلبلة، فلهذا كانت أنماط التواصل متعددة بتعدد ركائز الحياة الإنسانية من النواحي الدينية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والعلمية وغيرها.
إن الترجمة من الناحية الدينية هي تعرف على الآخر لاتقاء شره أولا، والسيطرة عليه ثانيا من الناحية الاعتقادية، حيث ارتبطت بالفتوحات الإسلامية، وبالاستشراق، وبالتبشير بالنصرانية، وبالتهويد، وغير ذلك من الاعتقادات غير الرسالية، فكانت من المنظور الإسلامي أساسا في التواصل مع الشعوب التي تصلها الدعوة المحمدية، فمن عرف لغة قوم أمن شرهم، وهي من المنظور الاستشراقي الأداة الحاملة للفكر فبمعرفتها يمكن الاطلاع على الفكر الشرقي إنتاجا وترويجا، وتيسير السيطرة عليه أخيرا، ولهذا كان الاستشراق، أي الاطلاع على حضارة الشرق تمهيدا للحروب الصليبية والاستعمار والتبشير بالنصرانية. إن الترجمة إذن تجسيد للتواصل الديني(الإسلام)، وللدوغمائية البرغماتية(اليهودية والنصرانية) التي تفرض، في كثير من الأحيان، المعتقد بعيدا عن التواصل الديني الفعال وحفظ الهوية والخصوصية.
أما الترجمة من الناحية الاجتماعية فهي سوق لتبادل القيم بين الشعوب والقبائل، نستطيع من خلالها التعرف إلى الأوعاء القيمية الجمعية لدول ومجتمعات متعددة، ونغير من خلالها سلوكياتنا ونظراتنا للعالم والأشياء، ومنها يمكن أن نعدل مجموعة من التمثلات التي دأبنا على الاعتقاد بها ضمن تنشئتنا الاجتماعية، فلولا الترجمة لبقي الفرد عند حدود المعطيات التي تمليها عليه تنشئته الاجتماعية وما تقدم شبرا إلى الأمام معرفة وسلوكا وقيما، فالترجمة ليست نقلا حرفيا للمدونة اللغوية، بل هي ديوان حضاري لا ندري كيف تتسلل إليه الإيديولوجيا، وتتحرر من أصلها الغفل لتغدو عنصرا مهما من حياتنا وتداولنا اليومي، حتى تصير يوما عن يوم تطبيعا واعتيادا، ولعل ذلك ما نكتشفه في مجتمعنا المغربي من اختلاف القيم وتعددها بناء على ما تقدمه الترجمة من آليات لقهر النماذج التي كنا نؤمن بها سالفا، والتي يزكيها الإعلام الرسمي عن طريق دبلجة الأفلام التركية والمكسيكية والبرازيلية وغيرها التي انتشرت كالفطر في قنواتنا الفقيرة في كل شيء إلا في الرداءة.
بينما الترجمة من الناحية الاقتصادية هي التنمية في أبهي تجليها، فهي الحاضن لها في الإنتاج وفي التبادل الاقتصادي، وقدرة الدولة على الترجمة تعكس قدرتها على التفوق الاقتصادي، فاليابان مثالا تترجم في العام الواحد أضعاف ما تترجمه الدول العربية جمعاء. وشتان بين من ينفق في الترجمة وبين من ينفق في "الطرزمة"، فأغلب الدول العربية ليست لها مؤسسات حاضنة لهذا الفعل القومي الترجمي إذا استثنينا بعض الاجتهادات كمعهد تنسيق التعريب بالرباط والبادرة الكويتية، بل إن الترجمة القليلة فيها هي محصلة اجتهادات فردية من قبل مثقفين آلوا على أنفسهم تحمل عبئها الثقيل ماديا ومعنويا، وبالرغم من ذلك لا تجد هذه الترجمات القليلة بغثها وسمينها مجالا رحبا للقراءة والإقراء، تزين رفوف المكتبات الجامعية أو تصبح في غالب الأحيان أثاثا منزليا بهيا. إن غياب سياسة ترجمية عربية وأفقا للتقدم هو ما يجعلنا في ردهات الدول ويكرس التبعية والاستهلاكية والنكوص، فالدول العربية للأسف لها من الأطر والكفاءات ما تنوء به العصبة، ولها من الموارد المالية الكثير، لكن مع انعدام الرغبة في التطور والتحلي بالمسؤولية، والخضوع للآخر واتباعه حذو النعل بالنعل، هو أساس التخلف في كل شيء.
وتبقى الترجمة من الناحية العلمية هي التقدم والنهضة العلمية، ولهذا تتسابق الدول التي تريد لنفسها أن تتطور بترجمة كل ما ينشر في المحافل الدولية من منتجات تعود لها بالنفع، من خلال استثمارها في مشاريع تنموية، ولهذا طورت مراكز تعلم اللغات الناقلة للعلوم كالإنجليزية بالدرجة الأولى التي أصبح لا مندوحة عنها في أي تنمية أو تقدم علمي، فأغلب الكتابات الحديثة العالمية تكتب بها، وأصبحت اللغات الحية الأخرى بمثابة اللغات الهدف التي يعمل أصحابها دائما من أجل تبيئة المفاهيم العلمية التي تتقاطر يوميا في التداول العلمي العالمي باللغة الإنجليزية في كثير من الدول، فغدت الكلمة سلعة تباع وتشترى، مما جعل الترجمة تكسب أهمية أكثر من ذي قبل أمام السرعة التي أصبح يسير عليها العالم مع هذا التقدم العلمي في المعلوميات وفي الصناعات المتطورة، فلا مجال فيه للالتفات للوراء،بل لابد من مجاراة الركب بالسرعة المطلوبة.
أمام هذه التعددية في قيم الترجمة وتجلياتها، فإنها ليست شيئا يسيرا كما يعتقد البعض، بل لابد فيها من الامتثال للأسس الترجمية، إذ لابد للمترجم من يكون ملما بقواعد الترجمة التي أساسها المعرفة التامة بأصول اللغة المصدر صوتا و صرفا وتركيبا ودلالة وتداولا، عارفا بثقافة المجتمع لأن اللغة ليست مدونة من الكلمات تربطها علاقات ما مع أشياء في العالم الخارجي، بل هي وعاء من القيم والمثل. ومنه، فلا يمكن للمترجم أن يبقى عند حدود المعرفة اللغوية، بل المعرفة الثقافية بمعناها الأنتروبولوجي، إذ هي الكفيلة بترجمة وافية، كما يجب على المترجم أن يكون على علم تام بثقافة اللغة الهدف بكامل تمفصلاتها.ويضاف إلى ذلك الإلمام التام بالحقل المعرفي الذي يترجم فيه، فلا يمكن لمترجم أن يكون مترجما فاعلا في كل الحقول المعرفية لأنه أصغر من يلم بها جميعا، ولذلك يتخير الحقل المعرفي الذي يرى نفسه قادرا على الترجمة فيه.
وهذه الأسس اللازمة للترجمة لا تعني أن النص في اللغة الهدف سيكون نسخة مطابقة للنص في اللغة المصدر، بل يطلب منها فقط التقليل من خيانة الأصل، فالترجمة خيانة معهودة لا راد لها، وقد تغدو خيانة مضاعفة إذا أخذت من لغة مصدر هي في الأصل لغة هدف للنص الأصل. وتقترن الترجمة بمصطلحات متعددة مثل الاقتراض، ونعني به اقتراض لغة هدف من لغة أصل كلمة معينة تسمى دخيلا في الغالب لحاجة تداولية لها وتبيئتها في محيطها التداولي، والكلمة المقترضة تتعامل معها اللغة العربية مثلا من وجهتين: إما عن طريق التعريب وذلك بحفاظ الكلمة الأصل عن أصلها الصوتي، ولكن بنيتها الصرفية تعدل وفقا للنسق الصرفي العربي، وإما عن طريق الترجمة وذلك بنقل الكلمة الأصل إلى اللغة العربية وفق مقابل عربي مختلفا عن الأصل صوتا وصرفا. ونميز في الترجمة بين الترجمة الحرفية، التي تبقى على الأصول وتحافظ عليها من حيث لا تخدم المعنى الذي هو الأصل، وبين ترجمة المعنى، كما أن التواصل السريع نمى ترجمات بديلة كالترجمة الفورية، والنقحرة التي أصبحت تملأ الرسائل الافتراضية والرسائل القصيرة التي يتبادلها الناس عبر العالم حتى غدت لغة عالمية.
خلاصة القول، إن قوة الترجمة في بلاد معينة لا ترجع إلى قوة لغتها، بل إلى رغبة أهلها وقوتهم، وليس صحيحا في هذا الشأن الزعم القائل إن اللغة العربية عاجزة عن ترجمة العلوم والتقنيات، بل العجز في أهلها الذين ضاقت بهم السبل من الناحية العلمية، حتى أصبحت الفجوة العلمية اليوم تزداد يوما عن يوم في غياب سياسات رشيدة ورغبة أكيدة ناجزة من قبل أهل الحل والعقد في البلاد العربية.
ولقد أضحت الترجمة، أخيرا، في عصر تعدد الوسائط أساس التغيير في كل شيء: تغيير التمثلات وتغيير المبادئ، وتغيير النظر إلى العالم، حيث أمسينا بفعل الثورة المعلوماتية أمام سيل عارم يوميا من المعلومات التي تزكيها الترجمة الآلية، مما غير من أساليب التواصل الحديث، ولم تعد الترجمة بيد نخبة معينة، بل غدت ملكا شبه مشاع لمرتادي العالم الافتراضي.