خطاب نعوم تشومسكي، الحائز على جائزة المساهمة في مواجهة الغباء، المقدمة من قبل مجلة "الفلسفة لآن".
أنا مسرور جداً بطبيعة الحال، أن أكون قد مُنحت هذا الشرف وبقبول هذه الجائزة، نيابة عن زميلي ادوارد هرمان، المؤلف المشارك في "حراس الحرية ". والذي قام بعمل استثنائي كبير حول هذا الموضوع البالغ الأهمية. بالمناسبة لسنا أول من حاول التحدث فيه.
بشكل غير متوقع واحدُ من هؤلاء كان جورج أوريل الذي كتب مقالا ليس معروفاً بشكل جبد، المقدمة الشهيرة
لكتابه " حظيرة الحيوانات". لم يكن المقال معروفاً لأنه لم ينشر، ووجد بعد عقود ضمن أوراقه غير المنشورة، ولكنه الآن متوفر. يشير في هذا المقال أن " حظيرة الحيوانات" هي بشكل واضح سخرية من العدو المستبد، لكنه يحث الناس في إنجلترا الحرة ألا يأخذوا كثيراً بمتطلبات التفوق الأخلاقي، لأنه كما يقال في إنجلترا، أن أفكاراً غير شعبية يمكن أن تزول دون استخدام القوة. وفيما يلي أمثلة لما يود قوله، فقط بإيجاز من التفسير، أعتقد أنها تسير في الصدد نفسه.
السبب الأول، هو أن الصحافة يملكها الرجال الأثرياء جداً المنشغلين بإحدى الأفكار التي يجب تصريفها. نقطته الثانية وهي مهمة، والتي لانقيم لها اعتباراً، ولكن علينا القيام بها: تعليم جيد. إذا ذهب أحد إلى أفضل المدارس سيجد أن هناك أشياء لايقولونها. هذا يؤكده أوريل، وهذه عقبة قوية تذهب أبعد من تأثير وسائل الإعلام.
يقدم الغباء، بطرق عديدة. وأود أن أقول بإيجاز أن الوسيلة التي يمكن أن تكون الأكثر ازعاجاً على الإطلاق، يمكن أن نسميها " الغباء المؤسسي". إنه نوع من الغباء الذي يتسم بالعقلانية تماماً ضمن الإطار الذي يشتغل فيه، حيث يتأرجح بين البشاعة والحمق الإفتراضي. بدلاً من محاولة تفسيرها، قد يكون من المفيد أن نذكر مثالين لإيضاح ما أرغب في قوله. منذ ثلاثين سنة، وفي بداية الثمانينات، _ السنوات الأولى لريغان _ كتبتُ مقالاً بعنوان " عقلانية الإنتحار الجماعي " يتعلق الأمر بالإستراتيجية النووية، وكنت مُنشغلاً كيف يضع الأشخاص الأذكياء تماما مسارات للانتحار الجماعي. كانوا منطقيين ضمن إطار التحليلات الاستراتيجية. في تلك اللحظة، لم أعرف إلى أي درجة كانت الوضعية خطيرة. منذ ذلك الحين، تعلمنا الكثير من الأشياء. كمثال يقدم العدد الأخير من نشرة علماء الذرة، دراسة عن الإنذارات الزائفة عن أنظمة الكشف الأوتوماتيكي للولايات المتحدة الأمريكية. والبعض الأخر لهجمات صاروخية وغيرها من التهديدات التي يمكن النظر إليها مثل هجوم نووي. تشمل الدراسة بين سنتي 1977- 1983، وقد سجلت طيلة هذه الفترة ما لايقل عن 50 كحد أدنى و 255كحد أقصى من هذه الإنذارات الزائفة. أجهضت هذه الإنذارات عبر تدخل بشري، مانعة للكوارث في غضون بضع دقائق.
ضمن الإطار المعقول، نفترض أن لاشيء قد تغير منذ ذاك الحين. لكن في الواقع فإن الوضعية هي أسوأ بكثير _ الشيء الذي فهمته حينما كتبتُ الكتاب _.
في عام 1983، تقريباً في الوقت الذي كنتُ أكتب فيه، كان هناك تهديد خطير للحرب. وكان من المقرر في جزء منه كما وصفه جورج كينان، الديبلوماسي البارز ب " الخصائص الناجحة للسير نحو الحرب "و لاشيء أكثر. بدأتْ ببرامج اضطلعت بها إدارة ريغان حينما وصل إلى السلطة. كانوا مهتمين بالتحقيق في الدفاعات الروسية، بالمقابل قاموا بمحاكاة هجومات جوية وبحرية ضد روسيا.
كانت أياماً شديدة التوتر، لقد تم تركيب صواريخ بيرشينغ الأمريكية في أوربا الغربية، في زمن تصل مدة التحليق بين خمس وعشر دقائق حتى موسكو. كما أعلن ريغان عن برنامجه لحرب النجوم من كلا الجانبين كسلاح للهجوم الأولي. في سنة 1983، شملت عملية " أبل أرشر" تطبيقاً " أفضى إلى قوات حلف الشمال الأطلسي بإنجاز عملية الإطلاق والحق في محاكاة الأسلحة النووية ". في حين وصلت المخابرات السوفياتية [الكاجيبي] إلى معرفة المواد الأخيرة للأرشيف، وخلصت إلى أن القوات الأمريكية قد وضعت في حالة تأهب، وأضحى باستطاعتها البدء بالعد التنازلي للحرب.
لايزال العالم لم يصل إلى حافة الهاوية النووية، ولكن في سنة 1983، ومن غير قصد وصل على نحو مقلق وقريب - بالتأكيد كان أكثر قرباً من أي لحظة أخرى، انطلاقا من أزمة الصواريخ في كوبا سنة 1962. اعتقدت القيادة الروسية أن الولايات المتحدة الأمريكية بصدد إعداد الضربة الأولى وباستطاعتها أن تشن هجوما استباقيا. في الواقع أنا أقتبس من تحليل حديث للاستخبارات الأمريكية على مستوى عالٍ، يخلص إلى أن خطر الحرب كان حقيقياً. يشير التحليل إلى أن الخلفية التاريخية كانت ذكرى دائمة للروس في عميلة اللحية - الحمراء، الإسم الرمزي لهجوم هتلر على الإتحاد السوفياتي عام 1941، والتي كانت أسوأ كارثة في التاريخ الروسي، وكانت قريبة من تدمير البلاد. وتقول التحاليل الأمريكية بنفس وضعية المقارنة التي قدمها الروس.
إنها سيئة بما فيه الكفاية، ولكن الأسوأ من ذلك، قبل نحو عام علمنا أنه في منتصف هذه الأحداث التي تهدد العالم، و كشف نظام التحذير الروسي - المشابه للغرب، و الأكثر كفاءة من ذلك بكثير - عن الهجوم الصاروخي الأمريكي المحتمل. وأرسل تنبيهاً إلى مستوى أعلى. استجاب برتوكول الجيش السوفياتي له، لكن الأمر تطلب أن ينفذ من خلال الضابط المناوب المدعو ستانيسلاف بيتروف، الذي قرر عصيان الأوامر وعدم ابلاغ رؤسائه عن التحذير. حصل على توبيخ رسمي، ولكن بفضل التقصير في خدمته، نحن نعيش حالياً.
نعلم الكم الهائل من الإنذارات الزائفة من الجانب الأمريكي. وكانت الأنظمة السوفياته أسوأ بذلك بكثير. ويجري الآن تحديث الأنظمة النووية .
تمتلك نشرة علماء الذرة ساعة شهيرة ومؤخراً قدمتها بدقيقتين. يشرحون أن الساعة " تسجل ثلاث دقائق قبل منتصف الليل لأن القادة الدوليين لايكملون واجباتهم ذات الأهمية القصوى، بضمان وحفظ الصحة وحيوية الحضارة الإنسانية. ".
بشكل فردي، هؤلاء القادة ليسوا بالتأكيد أغبياء: ومع ذلك، قدرتهم المؤسسية غباؤها قاتل في تطبيقاتها. إنها تزن الأدلة منذ الوهلة الأولى - حتى الأن فقط- للهجوم النووي، إنها معجزة أننا نجونا.
التدمير النووي واحد من اثنين من أكبر الأخطار التي تهدد البقاء، وكان هذا واقعياً. ثانيا، بطبيعة الحال هو كارثة بيئية.
توجد مجموعة معروفة للخدمات المهنية في " برايس ووتر هلوس كوبرز " التي انتهت من نشر دراستها السنوية لأولويات المدراء التنفيذيين. على رأس القائمة كان التعديل المفرط. يقول أن التغيير المناخي لم يصل إلى أعلى مستوياته التسعة عشر. من جديد، بدون شك، المدراء التنفيذيون ليسوا أغبياء. ويفترض أنهم يديرون أعمالهم بذكاء. ولكن الغباء المؤسسي فهو هائل وبشكل أدبي يضع الجنس البشري في خطر.
غباء الفرد ميؤوس منه لكن الغباء المؤسسي هو أكثر بكثير في مقاومة التغيير. في هذه المرحلة من المجتمع الإنساني، يضع بشكل حقيقي بقاءنا في خطر. لهذا أعتقد أن الغباء المؤسسي يجب أن يكون من انشغالاتنا الأساسية.
شُكراً.