الجزء الأول :
ما المراد بلاهوت التحرير؟ بالأساس هو خطّ ديني مسيحي يستلهم رؤاه من جملة من الكتابات ذات منحى لاهوتي نضالي، تم تأليفها منذ العام 1971 من قِبل مجموعة من رجال الدين المسيحيين، على غرار غوستافو غوتيراز من البيرو، وروبيم آلفز وهوغو آسمان وكارلوس ميستر والأخوين ليوناردو وكلودوفيس بوف من البرازيل، وجون سوبرينو وإغناسيو إيلاكوريا من السلفادور، وسغوندو غاليليا ورونالدو مونز من الشيلي، وبابلو ريتشارد من كوستاريكا، وجوزي ميغيل بونينو وخوان كارلوس سكانوني من الأرجنتين، وإنريك دوسيل من المكسيك، وخوان لويس سغوندو من الأوروغواي، لِنورد أسماء العناصر الأكثر شهرة من بين رموز هذا التوجه.
ذلك ليس مصادفة أن تظهر هذه الحركة في أمريكا اللاتينية، في جنوب القارة التي تفشّى فيها التباين الاجتماعي بشكل صارخ، وأين توالت، منذ تفجر الثورة الكوبية سنة 1959، نضالات اجتماعية تطلعت إلى إرساء العدالة، دعمتها حركات ثورية بشكل متلاحق.
ولئن برزت اختلافات جمّة بين آراء مجمل هؤلاء اللاهوتيين، فإننا نجد، في سائر أعمالهم، العديد من المحاور الرئيسية التي شكلت أرضية مشتركة ومنطلقا جذريا نابعا من المعتقد التقليدي، كما أرسته الكنائس المسيحية، سواء منها الكاثوليكية أو البروتستانتية:
1- تقريع أخلاقي واجتماعي للرأسمالية باعتبارها نظام حيف وجور، وبوصفها شكلا من أشكال الخطيئة البنيوية.
2- توظيف أدوات التحليل الماركسية بقصد تفهم دواعي الفقر، والإحاطة بتناقضات الرأسمالية وبمختلف أشكال الصراع الطبقي.
3- خيار موالاة الفقراء ومناصرة نضالاتهم في التحرر الاجتماعي الذاتي، والسعي الجاد من أجل إرساء العدالة الاجتماعية.
4- العمل على النهوض بالشرائح المسيحية المعدمة في أوساط الفقراء، كشكل جديد من جمهور الكنيسة، والبحث عن نمط بديل لحياة الفردانية التي أملاها النظام الرأسمالي.
5- قراءة مستجدّة للكتاب المقدس، تحوم أساسا حول جملة من الإصحاحات الواردة في سفر الخروج التوراتي، كنبراس للنضال من أجل التحرر لشعب يرزح تحت نير الاستعباد.
6- مجابهة الوثنية، لا الإلحاد، باعتبارها العدو الرئيس للدين – أي مناهضة أوثان الموت الجديدة المعبودة من قبل الفراعنة الجدد، ومن قبل القياصرة الجدد والهيرودسات الجدد (نسبة إلى هيرودس حاكم الجليل في عهد المسيح): مامون*، والثروة، والقوة، والأمن الوطني، والدولة، والقوة العسكرية، و"الحضارة المسيحية الغربية".
7- نقد الثنائية اللاهوتية التقليدية باعتبارها نتاجا للفلسفة الأفلاطونية الإغريقية، وبوصفها لا تمتّ بصلة للتراث الكتابي التوراتي، الذي يتميز فيه التاريخ البشري عن المسار الإلهي ولا ينفصلان.
أولا: المنشأ الاجتماعي للاهوت التحرير
كما سبق أن أعلن ذلك اللاهوتي البرازيلي ليوناردو بوف، ان لاهوت التحرير هو في الآن انعكاس لفعل سابق وتأمّل في دلالاته. أو بشكل أدق، هو تعبير عن حركة اجتماعية واسعة، ظهرت في البدء مطلع الستينيات من القرن الماضي -بشكل سبق الأعمال اللاهوتية الجديدة. حيث تضم هذه الحركة قطاعات معتبرة من جمهور الكنيسة، المتشكل من طوائف الرهبان، والتنظيمات الدينية، والأساقفة والحركات الدينية اللائكية، على غرار تجمعات العمل الكاثوليكي، والشبيبة الطلابية المسيحية، والشبيبة العمالية المسيحية؛ واللجان الكنسية الراعوية ذات الطابع الشعبي، مثل التكتلات الراعوية العمالية، والتكتلات الراعوية العاملة في مجال الزراعة، والتكتلات الراعوية الحضرية والشرائح الكنسية المعوزة. فبدون إيلاء اهتمام لمختلف الأنشطة العملية لهذه الحركات الاجتماعية –وهو ما يمكن أن نطلق عليه مسيحية التحرير- يتعذّر علينا فهْم ظواهر اجتماعية وتاريخية مهمة في أمريكا اللاتينية، برزتْ خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على غرار المدّ الثوري في أمريكا الوسطى، في كل من نيكارغوا والسلفادور، أو كذلك بروز حركة عمالية وفلاحية جديدة في البرازيل.
لم تؤثّر مسيحية التحرير بخطّها اللاهوتي سوى في مجموعة ضئيلة من كنائس أمريكا اللاتينية: حيث بقي التوجه السائد -في الغالب الأعم- إمّا محافظا أو معتدلا. لكن تأثير تلك المسيحية ما كان هيّنا أو عرضا، لا سيما في البرازيل أين رفض المؤتمر الأسقفي (CNBB)، برغم الضغوطات القوية المتأتية من حاضرة الفاتيكان وبشكل متكرر، إدانة لاهوت التحرير. ومن بين الأساقفة والكرادلة الأكثر شهرة في هذا التنظيم، نجد هلدر كامارا من البرازيل، وباولو أرنز من البرازيل أيضا، والمونسنيور روميرو من السلفادور، والمونسنيور مندز أرسيو من المكسيك، والمونسنيور صامويل رويز من المكسيك أيضا.
ذلك أن مسار التأصيل اللاهوتي في الثقافة الكاثوليكية، في أمريكا اللاتينية، وهو ما سيقود إلى بروز لاهوت التحرير، لم ينطلق من قمة الكنيسة ليسير نحو القاعدة، ولا من القاعدة الشعبية باتجاه القمة، ولكن من الهامش باتجاه المركز. فالشرائح أو القطاعات الاجتماعية، في الحقل الديني الكنسي، التي ستغدو المحرك الفاعل في عملية التجدد، كلها ذات طابع هامشي أو متحدرة من الأطراف بالنسبة إلى المؤسسة: الجهاز الكنسي اللائكي* وأعوانه، والخبراء اللائكيون، والكهنة الأجانب، والتنظيمات الدينية. ففي بعض الحالات استولت الحركات على "المركز" وأثّرت على المؤتمرات الأسقفية (لا سيما في البرازيل)، وفي حالات أخرى بقيت معزولةً على "هامش" المؤسسة.
ليس في البرازيل وفي الشيلي فحسب، حيث شاهدنا على مدار الستينيات من القرن الماضي سياقا من التأصيل اللاهوتي في بعض الأوساط المسيحية (مسّ طائفة الإكليروس أو طائفة اللائكيين)؛ بل وتحت أشكال مغايرة، نشبت أحداث مماثلة في بلدان أخرى: الأكثر شهرة من بينها حالة كاميلو توريس، فبعد إنشائه حركة شعبية مناضلة، انخرط في صفوف جيش التحرير الوطني (ELN) سنة 1965، وهو جيش متشكّل من متمردين كولومبيين من أتباع فيديل كاسترو؛ لقي توريس حتفه في مواجهة مع الجيش سنة 1966، وقد كان لرحيله دور بارز في تأجيج الحماس السياسي في صفوف المسيحيين في أمريكا اللاتينية.
لقد جاء كلّ هذا الغليان، ضمن سياق من التجديد، في أعقاب نتائج مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965م)، وهو ما انتهى بزعزعة مجمل أركان كنيسة القارة. فأثناء انعقاد مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية في مدلين خلال العام 1968، تم تبني قرارات جديدة، وحدثَ للمرة الأولى، ليس فحسب التنديد بالبنى السائدة الداعمة للجور، والظلم الاجتماعي، وانتهاك حقوق الشعوب وممارسة "العنف الممنهج"؛ بل أيضا جرى الاعتراف (في بعض الحالات) بمشروعية العمل الثوري، علاوة على التضامن مع تطلعات الشعوب "للتحرر من كافة أشكال القهر".
ضمن هذا السياق جاء ميلاد لاهوت التحرير. بدأ موضوع التحرر يشغل لاهوتيي أمريكا اللاتينية الأكثر تقدما -غير مقتنعين "بلاهوت التنمية" الرائج في جنوب القارة- منذ أواخر ستينيات القرن الماضي. وعلى سبيل الذكر نورد حالة اللاهوتي البرازيلي هوغو آسمان، الذي سبق أن تلقى تعليمه في فرانكفورت. فقد لعب دورا بارزا، منذ سنة 1970، في حشد أولى العناصر لبلورة نقد مسيحي ذي طابع لاهوتي تحريري للتنمية الاقتصادية المستدامة. لكن بحلول العام 1971، ومع صدور مؤلف غوستافو غوتيراز – اليسوعي البيروفي، الذي أنهى تحصيله العلمي في جامعتي لوفان وليون الكاثوليكيتين- كان المولد الفعلي للاهوت التحرير. ففي مؤلفه المعنون بـ"لاهوت التحرير - السياقات"، سيطرح غوتيراز جملة من الأفكار الاحتجاجية، ستكون مدعاة لإثارة بلبلة في التصورات اللاهوتية داخل الكنيسة. في مستوى أول، ألحّ على ضرورة تهشيم الثنائية المتوارثة عن الفكر الإغريقي: فلا وجود لواقعين، أحدهما "زمني" والآخر "روحي"؛ أو تاريخين، أحدهما "مقدّس" والآخر "مدنّس". هناك تاريخ موحَّد فحسب، وفي حضن هذا التاريخ الإنساني والزمني ينبغي أن تتحقق العدالة الاجتماعية، والخلاص، ومملكة الرب. لا يتعلّق الأمر بترقّب الخلاص من أعلى: فالخروج التوراتي يبيّن لنا بشكل لا لبس فيه "أن بناء الإنسان عمل من صنعه، يتأتى تبعاً لنضاله السياسي التاريخي". كما أن مسار الخلاص يغدو مسارا جماعيا و"شاملا" بعد أن كان خيارا فرديا وخاصا، حيث لا يتمثل الرهان في أن ينجو المرء بنفسه، بل في خلاص وتحرر شعب بأسره يرزح رهن الاستعباد. فليس الفقراء، ضمن هذه السياق، مجرد موضوع للشفقة أو هدفا للإحسان، لكنهم على غرار سائر المستضعَفين من بني إسرائيل، صنّاع تحررهم. وفي ما يتعلّق بالكنيسة، ينبغي أن تكفّ عن لعبها دور الشريك في جهاز السيطرة: متبعة التراث العظيم لأنبياء التوراة والنموذج الشخصي للمسيح، وأن تواجه الجبابرة وتندد بالظلم الاجتماعي.
الجزء الثاني :
ثانيا: إعمار الكون وتحديات الوثنية الجديدة
خلال العقود الأخيرة، دشّن لاهوت التحرير ورشات عمل جديدة، بتناوله بالتحليل مظاهر اضطهاد المرأة، وأشكال العسف والميز المسلَّطة على تجمعات الزنوج، والسكان الأصليين؛ كما ضمّ إلى تلك المسائل تحديات التنوّع الثقافي والتعددية الدينية والحوار بين سائر المعتقدات، فضلا عن المسألة البيئية. مستهلا عمله، بوضع الليبرالية الجديدة محل نقد لاهوتي وسياسي، باعتبارها الشكل الجديد الرائج في أمريكا اللاتينية لنظام مضطرب داخليا ألا وهو الرأسمالية.
حيث لم يقتصر النقد، الذي وجهه لاهوتيو التحرير إلى نظام السيطرة السائد على المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية؛ بل شمل أيضا المجال اللاهوتي. فقد بدت الرأسمالية، ولا سيما في شكلها الليبرالي الجديد، من منظورهم، شكلا من أشكال الوثنية. سوف تتلخص هذه المقاربة، وللمرة الأولى، في مصنّف من إعداد "قسم الأبحاث المسكونية" (D.E.I.) التابع لِسان خوسيه بكوستاريكا، والمنشور تحت عنوان: "نضال الأرباب. أوثان القهر والبحث عن الإله المحرِّر"، الذي سيلاقي صدى واسعا. ظهر المؤلف سنة 1980، وجرت ترجمته إلى ثماني لغات. وجهة النظر المشتركة التي تقاسمها الكتّاب الخمسة –هوغو آسمان، وفرانز هينكيلامار، وجورج بيكسلي، وبابلو ريتشارد، وجون سوبرينو- تم عرضها في المقدّمة. يتعلق الأمر بقطيعة جذرية مع التراث المحافظ والرجعي للكنيسة، ذلك التراث الذي عرض "الإلحاد"، منذ قرون، -وهو ما كانت الماركسية الشكل الحديث من ضمنه- بمثابة العدو الأكبر للمسيحية:
"فليست المسألة المحورية المطروحة اليوم في أمريكا اللاتينية الإلحاد، أي المسألة الأنطولوجية التي تطرح وجود الله (...)؛ بل تتمثل المسألة في الوثنية، في عبادة الآلهة المزيفة لنظام الاستغلال. (...) حيث يتميز كل نظام من أنظمة الاستغلال بهذا الشكل تحديدا، أنه يخلق آلهة وأوثانا تضفي قدسية على الاضطهاد وتناصب الحياة العداء. (...) فعملية البحث عن الإله الحقيقي في هذه المعركة للآلهة، تقودنا إلى رؤية للأشياء تنزع نحو الصدام مع الوثنية، والرفض للآلهة المزيفة، والأوثان المميتة، وأسلحتها الدينية التي تروّج للموت. فالإيمان بالله المحرّر، ذلك الذي يكشف عن سرّه في نضالات الفقراء ضد القهر، هو ما يكتمل بشكل حاسم بنفيِ الآلهة الزائفة... فيغدو الإيمان من هذا الباب نقيضا للوثنية".
سوف تكون هذه الإشكالية موضوع تحليل معمَّق ومستحدَث في الكتاب المشترك والمميز لكل من هوغو آسمان وفرانز هينكيلامار المعنون بـ"وثنية السوق. أبحاث في الاقتصاد واللاهوت" (1989). هذا الطرح الهام هو الأول من نوعه، في تاريخ لاهوت التحرير، المنحاز ضمنيا إلى معركة مناهضة النظام الرأسمالي، المصنَّف في عداد الوثنيات. ذلك أن العقيدة الاجتماعية للكنائس لم تمارس، في مجمل الأوقات، سوى نقد أخلاقي للاقتصاد "الليبرالي"، أي الرأسمالي؛ في وقت يملي أيضا، بحسب تأكيد هوغو آسمان، توفّر نقد لاهوتي صرف، يفضح الرأسمالية باعتبارها دينا زائفا. ولكن في ما تتمثل الروح الوثنية في السوق؟ وفق هوغو آسمان، تبرز في اللاهوت المتلحف بالمعيار الاقتصادي ذاته، وفي الممارسة التقوية الوثنية اليومية أين يتجلى "الدين الاقتصادي" الرأسمالي. كما تبرز في المفاهيم ذات الطابع الديني، التي نصادفها في أدبيات "مسيحية السوق" -مثلا في خطاب رونالد ريغن، وفي كتابات التيارات الدينية للمحافظين الجدد، أو كذلك في مؤلفات "لاهوتيي المؤسسات" -مثل مايكل نوفاك- التي لها وظيفة تكميلية. فلاهوت السوق، منذ مالتيس وحتى آخر وثيقة صادرة عن البنك الدولي، هو لاهوت أضحوي متعسّف: يقتضي من الفقراء أن يضحّوا بحيواتهم على مذبح الأوثان الرأسمالية.
كان لأعمال "قسم الأبحاث المسكونية" التابع لِسان خوسيه بكوستاريكا، تأثير فاعل على المسيحيين الذين يشغلهم الهمّ الاجتماعي، حيث ألهمت جيلا جديدا من لاهوتيي التحرير. مثلا، يعرض رجل اللاهوت الشاب، جونغ مو سونغ، وهو برازيلي من أصل كوري، في كتابه: "وثنية رأس المال وهلاك الفقراء" (1989)، رؤيةً نقدية جذرية من منظور أخلاقي ديني للنظام الرأسمالي العالمي، حيث تجبر مؤسسات -مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- ، بموجب الدَّيْن الخارجي المشطّ، ملايين الفقراء في العالم الثالث للتضحية بحيواتهم على مذبح "السوق العالمية"، الذي بات بمثابة الإله الجديد. وبما لا يتسرب إليه شك، كما يؤكد سونغ في كتابه التالي: "اللاهوت والاقتصاد" (1994)، لا يتعلق الأمر كما هو الشأن في الوثنيات القديمة، بمذبح مرئي، بل بنظام يقتضي تضحيات بشرية باسم الإكراهات "العينية"، و"العلمية"، المدنسة، وعلى ما يبدو غير الدينية.
على مدى السنوات الأخيرة تضافرت الأعمال النقدية لليبرالية الجديدة، في الأوساط الدينية للاهوت التحرير، مع انتقادات المسألة البيئية. كان رجل الدين ليوناردو بوف الرائد في هذا المجال. وكما نعلم، فقد أُنهك الرجل بالموانع التي تَسلّطت عليه من روما، أكان عبر الطرد أو بموجب ما لحقه من حرمان، مما أجبره على مغادرة التنظيم الفرنشيسكاني وهجران الكنيسة، لكن ذلك لم يحل دون متابعة نشاطه كلاهوتي كاثوليكي.
غير أنه مع مطلع العام 1990، ستشهد مسائل البيئة اهتماما متطورا لديه، وسيطرح ذلك ضمن روح صوفية ذات منزع فرانشيسكاني، وضمن سياق نقدي جذري للنظام الرأسمالي. سوف يكون ذلك موضوع مؤلفه: "كرامة الأرض. البيئة بين صرخة الأرض وصراخ الفقراء"[1]، وموضوع العديد من الأبحاث الفلسفية، والأخلاقية، واللاهوتية. وِفق ليوناردو بوف، لقاء لاهوت التحرير مع قضايا البيئة هو نتاج معاينة، تتمثل في أن "نظام الهيمنة الذي يعتمد تكديس الثروة والتنظيم الاجتماعي هو المنطق نفسه الذي يقود إلى استغلال الطبقة العاملة، وإلى نهب الدول أيضا، وبالتالي إلى تدهور الطبيعة". وبهذا يأمل لاهوت التحرير في بلوغ قطيعة مع منطق سير هذا النظام، وهي قطيعة جذرية ترمي "إلى تحرير الفقراء، المضطهَدين والمنبوذين، ضحايا شره تكديس الثروة الموزعة بطريقة غير عادلة؛ وإلى تحرير الأرض، المتضررة الكبرى جراء النهب المنظَّم لثرواتها، وهو ما يهدّد التوازن المادي والكيميائي والبيولوجي للكون بأسره". تنطبق ثنائية الاضطهاد/التحرير على الطبقات الواقعة رهن السيطرة والاستغلال، وعلى الأرض والكائنات الحية في آن واحد.
في مؤلفه "أخلاق الحياة" الصادر سنة (2000)، يرصد ليوناردو بوف توازيا بين كافة أشكال الظلم، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهي جميعا متأتية جراء العنف المسلَّط على العمال وعلى الطبقات المحرومة، وجراء الإجحاف الحاصل في الوسط البيئي، والذي هو عنف ضد الطبيعة، ضد الهواء، ضد الماء، بما يهدّد بإتلاف سائر الكائنات الحية. المصدر المشترك لذلك الحيف وهو البراديغم الرأسمالي الغربي، الذي يجد تعبيره الحالي في الليبرالية الجديدة وفي "دِين رأس المال"، دِين إضفاء الطابع الوثني على البضاعة، مع معابدها (البنوك)، وإكليروسها (الممولون)، وعقائدها ولاهوتها (المتكون من رجالات الاقتصاد). البديل هو عالم بيئي اجتماعي، والذي كان شيكو ماندس –مؤسس تحالف شعوب غابة الأمازون، الذي اغتيل من قبل كبار الملاكين سنة 1987- أحد رواده. فقد أدرك أن العنف الاجتماعي المسلَّط على الأهليين والمزارعين، والعنف البيئي الموجَّه نحو الغابة، يخضع كلاهما إلى الدوافع نفسها، ذلك العائد إلى التطور الرأسمالي المفرط. فالمعيار الجديد للحضارة ينبغي أن يتأسس على أخلاق الحياة وعلى التضامن الكوني.
نجد مقترحات مماثلة في أعمال جونغ مو سونغ أيضا، تذهب إلى أن "النظام الاقتصادي الرأسمالي الحالي ليس فقط ظالما، بل اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا لا يُطاق". فإتلاف أنواع بأسرها وهلاك ملايين من البشر في الدول الفقيرة، هو بالنسبة للإيديولوجيات المهيمنة، "ضريبة إلزامية للتطور الاقتصادي الذي يسمح بتحقيق شره الاستهلاك اللامحدود". وبالتالي، فمهمّة اللاهوت هي في نقد وثنية السوق وفي فضح أسطورة التقدم، التي تفضي في الآن إلى التضحية بالحياة البشرية وإلى تبرير ما يحصل من ضرر بالوسط الطبيعي.
الجزء الثالث :
ثالثا: مسيحية التحرير والالتحام بهموم الناس
ليس لاهوت التحرير مجرد مجموعة من النصوص فحسب، بل هو أيضا ممارسة نضالية من أجل العدالة الاجتماعية، في أوساط الطبقات المحرومة، من داخل الشعوب المضطهَدة.
مثالٌ لافتٌ للانتباه متمثل في دور إحدى الكنائس المقرّبة من لاهوت التحرير في تشياباس في المكسيك، في الوعي بالمشاكل الاجتماعية للسكان الأصليين. وكما نعرِف، نشب خلال شهر يناير من العام 1994 تمرد مسلّح لألوف من الهنود الحمر، بقيادة منظمة لا تزال غير معروفة إلى حدّ الآن، أُطلق عليها اسم جيش زاباتيستا للتحرير الوطني (EZLN). تم وصف المتمردين من قبل وسائل الإعلام والحكومة المكسيكية بالتحريريين، على اعتبار أنهم استلهموا رؤاهم من لاهوت التحرير، (أو مخترَقون من قبل اليسوعيين)، في الوقت الذي جرى فيه نعت المونسنيور صامويل رويز، أسقف سان كريستوبال دي لا كاساس في تشياباس، بأنه "متمرد باسم الرب". كلا الاتهامين مجاف للصواب. فما هو الدور الحقيقي للكنيسة التقدمية في تشياباس في نشأة حركة زاباتيستا؟
المونسنيور صامويل رويز، الذي سبق أن تابع تعليمه في الغريغورية في روما، الجامعة البابوية الشهيرة، كان قد حلّ بتشياباس ليتولى مهام أبرشية سان كريستوبال دي لاس كاساس في مطلع الستينيات من القرن الماضي. بعد مشاركته في مؤتمر مادلين سنة 1968، شغل طيلة سنوات مهمة المكلّف بقسم الإرساليات لكونفدراليات أساقفة أمريكا اللاتينية (CELAM). وتحت تأثير لاهوت التحرير، نشر خلال العام 1975 كتابا بعنوان "اللاهوت الكتابي للتحرير"، خلع فيه على السيد المسيح لقب النبي الثائر. أُتيحت لي فرصة اللقاء بالمونسنيور رويز في مطلع الألفية الثانية وطرحتُ عليه السؤال التالي: "هل كنتم من أتباع لاهوت التحرير؟"، كان جوابه: "أجل، بالطبع. لكن المهم بالنسبة لي ليس اللاهوت بل التحرير...".
وبمساعدة اليسوعيين، والدومينيكان، وبعض التنظيمات الدينية النسوية، خاض المونسنيور صامويل رويز، على مدى سنوات، عملا تربويا مثابرا وضع نصب عينيه الشرائح الشعبية. عبر توظيف شبكة واسعة من المربين الدينيين من السكان الأصليين، بلغت أعدادها 7.800 نفرا و 2.600 جماعة محلية تم إنشاؤها. ساهمت بقوة في توعية الأهالي، من خلال مساعدتهم في التعرف على حقوقهم والعمل من أجل الدفاع عنها. خلال العام 1974 نظم المونسنيور رويز، بمناسبة ذكرى مرور خمسة قرون على ميلاد برتولومي دي لاس كاساس، فعاليات المؤتمر الأول للسكان الأصليين في تشياباس، شارك فيه ألفان من ممثلي الهنود الحمر. شكّل المؤتمر نقطة انطلاق لمسار طويل من التنظم الذاتي لتجمعات المايا: لم تكن هناك منظمة شعبية في تشياباس، حتى تسعينيات القرن الماضي، لا تقر بانتسابها لتلك الحركة المتولدة عن ذلك المؤتمر.
أثارت تلك الأنشطة انتقادات حادة للمونسنيور رويز من قبل الجمعيات المحلية لكبار الملاكين والمربين، والحكومة المكسيكية، والسفير البابوي. وأثناء زيارة البابا إلى المكسيك، سنة 1993، شُنّت حملة قوية لطرد "مثيري الشغب" وأَعلن الفاتيكان نيته في حلّ هذه المسألة. بُعيد ذلك بقليل (يناير من العام 1994) اندلعت انتفاضة حركة زاباتيستا والحكومة المكسيكية، لكن الحكومة فشلت في إخماد تلك الانتفاضة، ما أجبرها على إرسال دعوة إلى المونسنيور رويز للتوسط في المفاوضات مع جيش زاباتيستا للتحرير الوطني.
المونسنيور رويز رجل مسالم لم يدع يوما إلى التمرد. ومن الجلي أنه لم يكن هو، ولا أصدقاؤه أيضا، من اليسوعيين أو الدومينيكان، ممن نظموا الانتفاضة. بل تولى مناضلون ماركسيون، ما كانت خلفيتهم مسيحية بل ثقافة المايا، إنشاء جيش زاباتيستا للتحرير الوطني. لكن ليس من الصواب أيضا الادعاء أن عمل التربية، والتسيير الذاتي، والتوعية، الذي تولاه الأعوان الراعويون، والمربون من الهنود الأصليين، في أبرشية سان كريستوبال دي لاس كاساس هو ما هيأ الأجواء المناسبة لظهور حركة زاباتيستا، التي يتحدر كثير من مناضليها من الجماعات المسيحية المعدمة. ينطبق الأمر نفسه على انتفاضة أخرى للسكان الأهليين، عرفت حضورا أقل على المستوى الإعلامي لكنها مهمة، حدثت في الإكوادور خلال شهر يونيو من العام 1994. فعلى مرّ السنوات، عمل التيار التقدّمي في الكنيسة، ممثلا في المونسنيور ليونيداس بروآنو، أسقف ريوبامبا (تشيمبورازو) –المعروف باسم أسقف الهنود الحمر- بالتضامن مع جماعات الكتشوا. وبمعاضدة 1.300 عون من رجال الدين، شكّل شبكة نشيطة من الرابطات الأهلية، والمدارس، والفرق الطبية، والمراكز الثقافية، مع دعم تكوين حركة هنود تشيمبورازو (MICH)، خلال العام 1982، وفي مرحلة لاحقة الفيدرالية الوطنية لهنود الإكوادور (CONAIE). رفض المونسنيور بروآنو وأتباعه النموذج الرأسمالي للتنمية، جراء ما يُلحِقه من ضرر بالثقافة وبمجتمعات الأهليين؛ وقد ساهمت تلك الأنشطة في بث الوعي بين جماعات الكتشوا، وفي تشجيعهم على المطالبة بحقوقهم، ناهيك عن بث الحماس في أوساطهم من أجل الدفاع عن أراضيهم.
خلال شهر يونيو من العام 1994 سنّت الحكومة الإكوادورية قانونا فلاحيا ليبراليا، منحت بمقتضاه ضمانات مشطّة لأصحاب الملكية الخاصة، وألغت أي توزيع محتمَل للأراضي في المستقبل؛ كما انساقت الحكومة باتجاه التفريط في الأراضي العمومية فضلا عن خصخصة المياه. تحركت الحركتان الأهليتان - MICH و CONAIE- جنب تعاضديات ونقابات المزارعين الصغار، ضد هذا القانون، ولقيت مساندة من قبل المونسنيور فيكتور كورال (خليفة المونسنيور بروآنو) وكذلك من قبل "كنيسة الفقراء".
على مدى أسبوعين، عاشت المناطق الريفية في الإكوادور أجواء من الانتفاضة: قطع الطرق، واجتياح القرى، وتواصل الاحتجاجات. حاول الجيش عبثا اجتثاث الحركة بإيقاف قادتها، وغلق محطة راديو الكنيسة التي تدعم الأهليين، وإرسال وحدات لفتح الطرقات. لكن أمام حركة الاحتجاج الواسعة أُجبِرت الحكومة على التراجع وأدرجت تحويرات جوهرية على القانون الفلاحي.
من الخطأ الادعاء أن ثورة الهنود الحمر كان يقودها رجال دين، أو هي من تدبير الكنيسة التقدمية، لكنه من الصواب القول إن مسيحية لاهوت التحرير –ممثلة في المونسنيور بروآنو، وخلفه، ورجالات من الكنيسة- كانت عاملا فعالا في تبلور وعي جديد وفي ظهور رغبة في التنظم الذاتي بين جماعات الكتشوا.
أثناء فترة اعتلاء البابا يوحنا بولس الثاني سدة البابوية ثم خلفه البابا بنيدكتوس السادس عشر (راتسينغر)، شهد لاهوت التحرير حملات قمع ومنع وإبعاد. عانى كذلك من المنافسة، في أوساط الشرائح الفقيرة، من كنائس بنتكوستالية جديدة (خمسينية)، أحيانا محافظة، استلهمت "لاهوت الرخاء" المناصر للرأسمالية. أجل تراجع تأثيره في بعض البلدان، مع ذلك في بلدان أخرى مثل البرازيل، لا يزال يحافظ على وجود مهمّ. ففي أحضان هذه الحركة الاجتماعية الدينية الواسعة التي نستطيع أن نطلق عليها "مسيحية التحرير"، التي تستوعب في أحضانها الشرائح الدنيا، ورجال الدين الشعبيين، والحركات اللائكية (JUC, JOC) أو كذلك شبكات على غرار "الإيمان والسياسة"، بقيادة اللاهوتي الدومينيكاني فراي بيتو، الذي يحشد آلاف الأتباع في شتى أرجاء البلاد. أو كذلك كونفدرالية أساقفة البرازيل النافذة (CNBB)، المعنية بالدفاع عن مجال الأخلاق الجنسية (موانع الحمل، الطلاق، الإجهاض) ضمن خط محافظ، والتي تتّخذ أحيانا مواقف جد متقدمة بشأن المسائل الاجتماعية، كما الشأن في ما يتعلق بالإصلاح الزراعي، وضبط الأجر الأدنى، ورفض اتفاقيات التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية أو تسديد الدين الخارجي؛ حول كل هذه المسائل، فهي تتموضع بشكل جلي على يسار الحكومة التي يقودها حزب العمّال...
ومن ناحية أخرى، يُعَدّ المسيحيون الذين لهم التزامات اجتماعية أكثر التشكيلات نشاطا والأبرز حضورا في الحركة المناهضة للعولمة الليبرالية في البرازيل، البلد الذي استضاف في مطلع العام 2000، الاجتماعات الأولى للمنتدى الاجتماعي العالمي، ولكن ليس في البرازيل فحسب. أحد الوجوه الناشطة في المنتدى الاجتماعي العالمي شيكو ويتاكر، هو عضو في لجنة العدالة والسلام في المؤتمر الوطني لأساقفة البرازيل (CNBB) وهو من المنتمين إلى هذه الحركة، كذلك القس البلجيكي فرانسوا هوتار –صديق وأستاذ كاميلو توريس- هو أحد الوجوه الفكرية المؤثرة في المنتدى أيضا.
كما يعدّ رجلا الدين البارزان في لاهوت التحرير، ليوناردو بوف وفراي بيتو، وكلاهما من البرازيل، من بين الرواد والملهِمين للحركة المناهضة للعولمة الليبرالية؛ حيث يشارك الرجلان بشكل نشيط، عبر الكتابة والخطب، في تنشيط "حركة الحركات" وفي لقاءات المنتدى الاجتماعي العالمي. فعلاوة على تأثيرهما القوي في البرازيل، حيث كثير من مناضلي الحركات الاجتماعية -النقابات، مزارعون بدون أراض (MST)، الحركات النسوية- هم متحدرون من جماعات كنسية شعبية (CEBs) تقر بانتمائها إلى لاهوت التحرير، فإن كتاباتهما تجد رواجا لدى مسيحيين في بلدان أخرى في أمريكا اللاتينية وفي العالم.
تيارات المناضلين المسيحيين التي تشارك في الحركة المناهضة للعولمة شديدة التنوع -منظمات غير حكومية، مناضلون في نقابات أو في أحزاب يسارية، تنظيمات مقرّبة من الكنيسة- ولا تتقاسم الخيارات السياسية ذاتها. مع ذلك فإنّ مجملها تشترك في الخطوط الكبرى للاهوت التحرير –كما تبلور مع رجال الدين ليوناردو بوف وفراي بيتو وهوغو آسمان، بل أيضا كما يُمارس من قبل أساقفة مثل توماس بلدوينو وهيلدر كامار، وبيدرو كزالداليغا وغيرهم ذائعي الشهرة أو معروفين بدرجة أقل- وتساهم في النقد الأخلاقي والاجتماعي والبيئي للرأسمالية بقصد العمل لأجل تحرير الفقراء.
انتخاب البابا فرانسيس (برغوليو) من أمريكا اللاتينية ربما سيمهّد الطريق لخلق ظروف ملائمة، في حضن الكنيسة الكاثوليكية، لتطوّر لاهوت التحرير. فالدعوة الموجهة لغوستافو غوتيراز للالتقاء مع البابا فرانسيس في الفاتيكان يمكن أن تكون بادرة لطيّ صفحة الماضي وتدشين مرحلة جديدة[2].
* في الآرامية بمعنى مال الظلم، ووردت في الترجمة العربية للإنجيل "لا تقدروا أن تخدموا الله والمال (مامون)" متى6: 24، لوقا16: 13 (المترجم).
* خطّ مدني في خدمة الكنيسة، يمثل همزة الوصل بين المؤسسة الدينية والمجتمع المدني، الغرض منه التحكّم بمفاصل المجتمع (المترجم).
[1]. Leonardo Boff, Dignitas Terrae. Ecologie: cri de la Terre, cri des pauvres, S. Paulo, Atica 1995.
[2] . تم اللقاء بدعوة من البابا في الحادي عشر من سبتمبر من العام 2015 (المترجم).
ميكائيل لوفي عالم اجتماع برازيلي فرنسي
عزالدين عناية أكاديمي تونسي مقيم بروما