تغيرت دلالة القانون بشكل عميق مع المنعطف الديمقراطي الذي عرفته الفلسفة السياسية بفضل روسو. فمن اعتباره أداة لتنظيم العلاقات بين الأشخاص والسلط، أصبح القانون الوسيلة التي بواسطتها يعبر المجتمع عن إدراكه لذاته، وإرادته المستقلة، ومن هنا، لم يعد المواطن متصورا كمواطن يخضع لسلطة شرعية حيث بإمكانه الإفادة من قوانين بالمعنى الليبرالي للكلمة. ذلك أنه يتحدد، استقبالا كشخص واع يشارك في سيرورة متواصلة بواسطتها يفكر المجتمع في ذاته، ويتخذ قراره، والحال أن الأنظمة الغربية –رغم ادعاءاتها- حققت، وبشكل ناقص جدا، الإمكانيات الديمقراطية الخاصة بالقانون الحديث كما سبق أن اكتشفها روسو. يبدو أن الشكل التمثيلي للسلطة السياسية، المنحدرة من تجارب ثورية، قد اقتصر فقط على عملية ترويض القوى الديمقراطية كما سبق أن أكد على ذلك النقد الاشتراكي لـ"الدولة" البورجوازية في القرن التاسع عشر.
تعزز هذا الاتجاه مع مجيء الدولة الراعية (Etat Providence)، ذلك أن وضع آليات للحماية (= الرعاية) الاجتماعية كان جد مكلف من أجل وصاية متزايدة، وتشجيع لإعادة توجيه الأفراد نحو الحياة الخاصة، والاستهلاك الذي أدى إلى عدم الاهتمام بالدائرة العمومية. لقد أصبحت السياسة منكرة على المجتمع المدني أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، هناك إشارات إلى أن هذه الوضعية بدأت تتغير. فالعداوة النامية إزاء إغواء السياسي للنخب التقنوقراطية ومحترفي السياسة، وتوسيع الممارسات الديمقراطية لتطال ميادين جديدة، والإحلال الصعب لديمقراطية محلية والدور المتكاثر لـ"حركات اجتماعية"، والتزامات المواطنين –كل هذا يشير إلى إرادة للإفلات من خيار خاطئ بين ديمقراطية "تمثيلية" تكشف –أمام أعيننا- عن حدودها، وبين ديمقراطية مباشرة أمست مستحيلة –كما سبق أن أشار إلى ذلك روسو- من خلال الشروط الاجتماعية للحداثة. هناك طريق ثالث ضمن الممكنات المحركة التي يتضمنها عصرنا، ويتعلق الأمر بـ ديمقراطية راديكالية يسودها مبدأ التنظيم الذاتي للمجتمع ذي الأنماط المتعددة.
في كتابه: القانون والديمقراطية (غاليمار، 1997، الطبعة الأصلية في 1992)، يريد هابرماس تنصيب نفسه منظرا للحظة الراهنة. ومعنى ذلك أن الفلسفة السياسية، بالنسبة إليه، تحتوي، أساسا، على نواة متقادمة، بل طوباوية. لذا، ينبغي عليها أن تتأكد، أيضا، من الطابع الواقعي لقصدها، مما يؤدي، كذلك، إلى القول بأنها تأويل للحاضر التاريخي على الدوام. والحالة هذه، إن منهجيته ترتكز على ملاحظة البروز المجزأ، الهش والمتناقض أحيانا، لفهم جديد للرابطة الاجتماعية القائمة على تعميق وتوسيع ممارسات التحديد الذاتي الجماعي، رابطة اجتماعية لن تقوم، إذن وبشكل أساسي، على تقاليد مشتركة، ولا مؤسسة على وصاية نفوذ سياسي خارجي، وإنما على التضامن والمسؤولية المشتركة الناتجين عن الإلزام الذي يجعلنا نتخذ القرار بشكل مشترك. الأكيد أن الأمر، هنا، لا يتعلق باتجاه. وفي هذا المعنى، ورغم أن قصد هابرماس لا يتوفر، إطلاقا، على مكافئ له في التراث الماركسي، فإنه لا يقطع الصلة مع هذا الأخير كلية: يريد كتاب القانون والديمقراطية تقديم أدوات النقد المطلع تاريخيا، والمؤسس معياريا حول وضعيات اجتماعية معاصرة، إنه يريد تقديم نقد بإمكانه أن يصب في مشاريع سياسية محررة وملموسة، يتمكن، بفضلها، هذا الاتجاه من الازدهار.
يمر هذا المشروع، في البداية، بنظرية حقوق الإنسان التي تصحح القراءة الليبرالية السائدة. ذلك أن هذه الحقوق ليست حقوقا ينبغي حمايتها، فقط، ضدا على الاعتباطي، والتصرف الحر في الذات، بل إنها تتضمن حق المشاركة الفعلية في القوة السياسية. إنها تتضمن حقا لا يمكن اختزاله في القدرة على انتخاب الممثلين، أو في مراقبة تحركات الحكومة. في مجتمع عادل، يوجد أصل مشترك للاستقلال الخاص، والاستقلال العام، ومعنى ذلك معنيي الحرية (أي الاستقلال إزاء الإكراه، والقدرة على أخذ القرار بشكل مستقل) ينبغي أن يجدا مكانهما في المؤسسات السياسية.
إن نظرية في القانون هي التي من شأنها أن تتكفل بتصور هذه الأخيرة. وبالفعل، لا تقيم الديمقراطية شفافية مباشرة بالنسبة لذاتها، وقبضة مطلقة لمجموعة حول ذاتها. لا يمكن لمجتمعاتنا أن تتخلى عن قانون أصبح مستقلا، وجد مميز، ويعمل حسب قواعد تقنية خاصة. وبضمان الأمن والتوقعية بفضل احترام المساطير، وقواعد النزاهة، يكون القانون شكل حركة المجتمع حول نفسه، كما أنه متعذر الاستبدال، وشرعي أخلاقيا في نفس الوقت. لا تمارس "سيادة الشعب"، إذن، إلا من خلال المرور عبر قنوات معقدة لقوانين، ومدونات قانونية، وقرارات لها منطقها الخاص، وحيث تجازف بالتورط أساسا. وعلى العكس من ذلك، لا يكون القانون شرعيا إلا إذا بقي على صلة بالمبدأ الديمقراطي الذي يتجلى في نقاش مفتوح يضمن تشكيل إرادة بين-ذاتية ومستقلة: لا يكون كذلك إلا إذا طبق روح القانون، وأطر إنجازاته الملموسة، وسهل توغله في المجتمع.
ومع ذلك، فمبدأ التحديد الذاتي غير قابل لإضفاء الطابع المؤسساتي عليه إلا جزئيا. وبالنسبة لهابرماس، فحتى الممارسات اللاشكلية للنقاش الجماعي هي التي يجب أن تبقى أساسية. وهكذا، نجدها تتخذ شكل ضغوطات مستمرة تمارس على الأجهزة القانونية للدولة، وذلك عبر النقاشات المتعددة التي تجري داخل مختلف دوائر المجتمع المدني. وبواسطتها يتخذ هذا الأخير نفسه موضوعا، ويترك الإرادة الجماعية تعبر عن نفسها تدريجيا. كما تقوم هذه النقاشات، أيضا، بوظيفة دمج أساسية: في مجتمعاتنا الموسومة بتباين متنام لطرق حياة، لا يمكن لوحدة الجمهورية أن تبقي على وحدة أفراد ملتفين حول رؤية عالم ثابتة، وذات معنى واحد، وإنما فقط لرؤية ثقافة ديمقراطية مشتركة تساعد كلا من التعددية والمشاركة، الاستقلالية الجماعية واحترام قواعد القرار.
بإعطائه قيمة للنقاش العام الذي يرغم الأفراد والمجموعات على التفكير في تجاربهم وتطلعاتهم، ومقارنتها مع تجارب الآخرين وتطلعاتهم من أجل الوصول إلى خلاصات ملائمة ونزيهة، يبدو أن هابرماس يركز على نموذج صارم يبقى نجاحه بعيد الاحتمال. ولكن، علينا أن نعترف أن مجتمعاتنا عندما تلتمس التوجه سياسيا، فإنها لا تمتلك –كنقط استدلال- إلا نتائج سيرورات التعلم الجماعية المعرضة للخطأ، والمشتبه فيها، والتي يعتبر "الفضاء العمومي" مقرا لها.