قل اي عطر تستعمل .. لأقول لك من أنت " كان هذا تعبيرا ساذجا من إحدى الفتيات التي استغرقها الخطاب الإشهاري استغراقا واضحا وصار يشكل مقياسا موجها لخياراتها و سلوكياتها ، وهنا تكمن خطورة الخطاب الإشهاري أي عندما يتجاوز وظيفته الأولى التي من المفروض أن تكون وظيفة ترغيبية تعريفية ليصبح شكلا من أشكال التربية الذوقية و الجمالية بل و الأخلاقية كذلك، تربية تجد قناتها من خلال السمعي-البصري الذي أصبح ينفي المكتوب شيئا فشيئا و يأخذ مكانته بالتدريج ، لأننا في مطلع القرن الواحد و العشرين نعيش ثورة إيقونية تحكم واقعنا الثقافي ، ثورة ارتبطت بالتقدم التكنولوجي الكبير في مجال البصريات ، فتطور العدسات المصورة في مجالات الفنون (السينما – التصوير الفوتوغرافي....) و المجالات العلمية (في الفيزياء حيث يعد رهان العصر هو تطوير عدسة مصورة قادرة على مسايرة سرعة الإلكترون داخل الذرة حيث تحدد مساره و سرعته) سيطرح إمكانية تأسيس وعي إنساني للعالم لا يقوم على المنطوق و المكتوب فقط ، بل يتجاوزه إلى المصور ، خاصة أن هذا الأخير يكتسب طابعا اقتصاديا ذاتيا في قيامه بتعريف العالم و تقريبه للإنسان و تعزيز خبرته، و ليست القيم الجمالية و الذوقية التي تحدثنا عنها إلا نتاجا لخبرة إنسانية بالعالم ، لذلك تعد الصورة هي العمود الفقري في الخطاب الإشهاري الذي صار يتحول في أيامنا هذه شكلا من أشكال المعرفة و ليس التعريف فقط، بل و اخطر من ذلك أصبح آلية للتربية على القيم الاستهلاكية التي تنحو بحكم ظروف سياسية دولية منحى إيديولوجيا .
فالقيم الاستهلاكية التي ترسخها الصورة الإشهارية تعوض بشكل أو بآخر القيم الأخلاقية شئنا أم أبينا ، و لست أقصد الأخلاق الدينية بمفهومها الضيق، بل الأخلاق السلوكية بالأساس و الأخلاق العملية و الكونية ، إن الصورة الإشهارية تعمل وفق آليات و أهداف مدمرة للحس النقدي عند الإنسان، و إن كان "بودريار" تفنن في تحليل آليات اشتغال الصورة الإشهارية و كشف النقاب عن أهدافها المضمرة فهو مثله مثل آخرين " رولان بارث" ..لم ينطلقوا من نتائج معينة كما يمكن أن يفعل المربي"الأخلاقي" ، بل استفزهم في ذلك انتشار تسويق الوهم ، لأن الصورة الإشهارية في واقع الأمر لا تعرف المنتوج كما هو منوط بها ولا حتى تزينه و تستقيل ، بل إن دلالاتها تتعدى ذلك بكثير ،إنها وللأسف تقدم الكذب على طبق من الخيال والجمال .
فالصور و الرموز و الأساطير الإشهارية تلعب دورا تهويليا في نقل المنتوج إلى المتلقي الذي يصبح مشلول الذهن بلا أسلحة أمام الوهم المركب ، دافعه في ذلك ما يفرضه عليه الإشهار وما يقدمه من إشباع رمزي للرغبة الكامنة ، خاصة و أن هذه الرغبة تصبح وعدا رمزيا من قبل إحدى الشخصيات المرموقة في المجتمع (النجوم السينمائيون ، الرياضيون ، عارضات الأزياء...) ولا نغفل هنا الدور الذي يلعبه الجسد في التأثير على المرسل إليه " الجمهور المتلقي" خاصة ما يتعلق بالمرأة و جمالها الذي أصبح منشبا يوظف للفت الأنظار بشكل اكثر ، لذلك كان نقد الصورة الإشهارية في المجتمعات المتقدمة فكريا و علميا " المجتمع الأوروبي خاصة" إحدى إواليات السيميائيات و الصورولوجيا ، و رأينا الإنسان الأوروبي ينتفض في الشوارع و ضمن تنظيمات مدنية ضد اللوائح الإشهارية التي غزت الشوارع ، وأصبحنا نسمع- ولأول مرة في التاريخ- عن العنف الرمزي ضد المواطن الذي تجندت جمعيات حماية المستهلكين للتصدي له ،لكن السؤال الذي يعقب هذه الحالة من الرفض و التكريس يدور حول القيمة الفعلية للصورة الإشهارية ، ماهي هذه القيمة ؟ وماهي سلبيات تكريس هذا النمط من التسويق – على اعتبار أن الإيجابيات جد محدودة- ؟
الصورة ولاشك شكل من أشكال الوجود الفعلي (الصورة الطبيعية) ،إنها نتاج لإدراك حواسي للعالم في مقابل إدراك عقلي باطن له ، فإدراك الأشياء(الموجودات) وفقا لعلم النفس يتم علة مستويين:
- مستوى وجود هذه العالم و هذه الأشياء
- ثم مستوى تمثلنا لهذين العنصرين من خلال القبض على ثلاثة مكونات " الزمان و المكان و الأشكال" .
وفي المكون الثالث "الأشكال" تتموقع الصورة الصناعية -ليس الطبيعية لأننا انتقلنا من الوجود كما هو إلى حالة تمثل الوجود كما نراه- باعتبارها آلية للقبض على الأشكال و حصرها في زمن معين ، ومن هنا تبرز قيمة الصورة الإشهارية لأنها تقوم بتحيين المنتوج كل لحظة في أوقات متقطعة يتم اختيارها بعناية ، أي أن الصورة تحضر الموجود إلى مرآة العين لتثير فعل التذكر وتنشط الذاكرة و توجهها نحو شكل معين بذاته وعن قصد لننفعل عن وعي أو لاوعي و الغالب عن لاوعي ، و هنا تكمن نفعية الصورة الإشهارية لأنها تعوضنا عن التفكير في الشيء و معاينته بتمعن ّ، ولأنها تختزل علينا طريقا شاقا من التعقل و الاشتغال الذهني ، إن الصورة و لا شك تلعب دورا هاما في تبسيط و تحويل العالم إلى لحظة ، أي تساعدنا في القبض على جزء معين ما و تحجزه في منأى عن مسار الزمن المتدفق، لكن هذه الخصائص التي قد تبدو إيجابية لأول وهلة تتطلب قليلا من التفكر و التريث، فكون الصورة تعوضنا عن التفكير المسهب و توجهنا نحو الفهم باللمحة مسألة تحتاج إلى تحليل، فإن كان العقل المؤسس يحتاج المران و الممارسة العقلية التأملية ليحتفظ بنشاطه وفاعلية مقولاته فإن الصورة ولا مجمجة تبطل هذا المران المطلوب أو على الأقل إنها تقلصه إلى حيز ضيق يصبح فيه الدور الأول للحاسة " البصر و السمع" و الدور الأخير للباحة البصرية مركز تحليل الصورة و تعديلها في الدماغ ، لتختزل العملية " تلقي الصورة" في شق تقني يغيب فيه ما هو عقلي ، لأن الإنسان لا يصل إلى الكامن المضمر من وراء الظاهر إلا بالمجهود العقلي ،والمجهود العقلي نادرا ما يحصل في حالة تلقي الصورة ، ولا يحصل إلا تحت ظروف استفزازية ، أي حين تنطرح إشكالات ذات طابع مركب على الدماغ ، إشكالات تتطلب إعمالا للمقولات العقلية بغية تجاوز المشاكل التي تعترض صيرورة النظام الإدراكي ، وهذا ما يفسر كون الصورة الإشهارية متقبلة بسرعة لا نظير لها عند عوام الناس ، لأنها لا تثير أي وضع مركب ولا أي إشكال أمام تلك الصيرورة ، إنها تقدم نفسها كاملة مكمولة مع صيغ لغوية قصيرة (اللوغو) تكون مقتضبة وذات طابع إخباري تثبيتي للمعلومة " المنتوج كذا يعطيك إحساس بالثقة في النفس " مثلا ، ولا غرو إذا أن المتلقي لا يعير اهتماما لما يقبع وراء الصورة من إيديولوجيات و أفكار و رسائل غير معلنة لأنه في الأغلب الأعم ينبهر بالصورة ، بالألوان و الأشكال ، و ينصب تفكيره على وضعه الذاتي في علاقته مع المنتوج ، في قدرته الشرائية و ثمن هذا المنتوج أو في إحدى الجزئيات ذات الطابع الذاتي عموما و التي تشغله عن تحليل مضمون الصورة الإشهارية و تأثيرها الثقافي قبل الاقتصادي عليه .
وفي مواجهة مراوغات الصورة- الإشهارية منها خصوصا- طرح مجموعة من المفكرين و المحللين السيميولوجيين أنماطا معيينة لتحليل الصورة للكشف عن المخفي فيها من بينهم و أبرزهم رولان بارث .
فهم رولان بارث الخطاب الإشهاري باعتماد ثنائية التحليل اللساني (الدال و المدلول) ، فكل الرسائل تتضمن هذين العنصرين بالأساس ، ويكمن عمل المتلقي المنتبه في الكشف عن هذه الثنائية لاستخراج أهداف الإشهار و طبيعته ، وعوده ، مدى معقوليته ، مدى إمكانية التميز أو الشعور الذي يعدنا به ، فبمجرد عزل هذه الوعود عن السياق الكلي للإشهار نستطيع مقارنتها بالمنتوج ذاته معزولا هو الآخر عن مصاحباته النصية و المرئية و السمعية ، أي المنتوج في قيمته الحقيقية الفعلية ، وبالتالي نتمكن من إعادة إنتاج الخطاب أو الصورة بشكل يكون أكثر موضوعية مما كان عليه قبلا و كمثال على ذلك " إشهار يقدم رجلا يتناول مشروبا معينا ، يغمض عينيه ويبتسم ثم يقفز من الحيوية بعد ذلك" : يجب أن ننتبه أولا إلى الدوال المتحققة في الصورة " إغماض العينين – الابتسام-القفز " ثم نربطها بدلالاتها المضمرة في الإشهار " إغماض العينين دلالة على الانتشاء أي أن المشروب يعد بتحقق النشوة " / " الابتسام يعد بحالة من الرضا"/ " القفز يعد بالحيوية ،ولربما أتى في معرض الإشهار أن المنتوج يحتوي مواد مساعدة على الحركية والدينامية (فيتامينات)" . وبعد استخراج الدوال والمدلولات نستطيع الحكم على المنتوج و مدى مصداقيته أو مدى خداعه وفقا لتجربتنا الذاتية ، فيمكن مثلا أن نتحقق من مكونات المشروب و إذا ما كان يحتوي فعلا على فيتامينات تساعد على الحيوية والنشاط أم لا ، نتحقق من قيمته الغذائية .....إلخ ، و نستطيع في نهاية المطاف تحديد جودة المنتوج أو رداءته وفقا للشكل الذي قدم به وعلى أساس تلك الوعود " لأن الإشهار في عمومه وعود" ، وعلى هذا الأساس أيضا نستطيع تقييم خسارتنا أو ربحنا جراء تناولنا للمشروب كمستهلكين ، مع العلم أن الخسارة قد تتجاوز المستوى المادي إلى مستويات أخرى : رمزية وأخلاقية ، فالمستهلك معرض للغش من قبل المنتجين والمسوقين من خلال ما سوقوه من أوهام أو بتعبير بارث "من خلال استحضارهم الأسطورة في في قلب ممارسات الحياة اليومية"، فمن آليات الخطاب الإشهاري تبرز الأسطرة كآلية للتقنيع والإقناع يعطيها بارث أبعادا تتجاوز المستوى الفردي الذي تحدثنا عنه وفيه لتصبح ملاذا تحتمي فيه الإيديولوجيات البرجوازية في إطار خدمتها لمصالحها الاقتصادية ، فالبرجوازية التجارية تتقنع وراء أشكال متعددة ومتطورة من الخداع ، ومن بين هذه الأشكال الطارئة والمعاصرة نجد الصورة الإشهارية ، فحسب بارث تتقنع البرجوازية بأشكال لم يعرفها عصر ماركس لكي تتمكن من ممارسة عادتها السيئة أي تزويق الحقيقة التاريخية والاجتماعية .وختاما " حضي راسك لا يفوزوا بيك القومان يا فلان ".
محمد البوعيادي