إن الحديث عن علاقة «التراتب الاجتماعي» بإشكالية «السلطة»، و«التغير الاجتماعي»، و«التنمية البشرية»، هو حديث عن تركيبة إشكالية معقدة، ذلك أنها تستدعي من كل الباحثين قبل تحليل تجلياتها من أجل معرفة مضامينها وأبعادها الوقوف عند شرح مفاهيمها.
ولذلك سنعمل في البداية على تقديم مضامين مقتضبة لكل مفهوم من هذه المفاهيم قبل ربطها بمفهوم «التراتب الاجتماعي»، بإعتباره متغيرا مستقلا في هذا الطرح التساؤلي المعقد والمتشابك، وذلك نظرا لإحتواء كل مفهوم من هذه المفاهيم على عُدَّة دلالية عميقة، لعلها تتضح من خلال الاهتمام المتزايد الذي عرفته كل من هذه المفاهيم كقضايا إشكالية، فما هو إذن التأصيل المفاهيمي لكل من «التراتب الاجتماعي»، و«السلطة»، و«التغير الاجتماعي»، و«التنمية البشرية»؟ وما علاقتها ب«التراتب الاجتماعي»؟
- التراتب الاجتماعي:
كثيرا ما يتحدث علماء الاجتماع عن «التراتب الاجتماعي» لوصف أوضاع اللامساواة القائمة بين الأفراد والجماعات في المجتمعات البشرية، إضافة إلى كونه مرتبط بالبنية الاجتماعية وتكوينها، كما يشير إلى تراتب وترتيب وتدرج الناس داخل المجتمع على أساس المكانة والحضوة والتملك والسلطة وغيرها من المحددات المرتبطة بطبيعة كل مجتمع.
والتراتب الاجتماعي من أهم المفاهيم التي حضيت اهتماما بالغا في الأدبيات السوسيولوجية وغيرها، إلى جانب الأهمية التي يتسم بها حاليا، إذ أصبح المفهوم الأكثر تداولا في التعبير عن طبيعة التمايزات التي تقوم بين الناس سواء في المجتمعات الغربية أو النامية ونظرا لكونه يتسم بالعمومية والشمولية في مقابل الطبقة، المفهوم الكلاسيكي بحكم ارتباطه بنظرية واتجاه معين وهو المادية التاريخية (الماركسية).
- السلطـة:
هي تلك القوة الشرعية التي تتمكن بها مجموعة أو شخص من السيطرة على مجموعات أو أشخاص آخرين. ويتمتع عنصر المشروعية بأهمية حيوية في مفهوم السلطة، إذ أنه الوسيلة الرئيسية التي تتميز بها السلطة عن المفهوم العام، ويمكن ممارسة السلطان/ القوة من خلال استخدام القسر أو العنف، ومقابل ذلك، تعتمد السلطة على قبول المرؤوسين بحق رؤسائهم في إعطاء الأوامر والتعليمات.
وبتعريف مبسط، إن الحديث عن السلطة هو حديث عن متغير فضفاض ومتشابك، حيث بخصوص تأصيله اصطدمت النظريات تخالفا وتجابها، وهو يشير إلى المشروعية التي تكون مخولة للدولة في حكم مواطنيها. كما أنها تعتبر ذلك الجهاز القمعي الذي تملكه الدولة ولها الحق والمشروعية في استعماله والانفراد به، وذلك بناء على التعاقد من أجل الحفاظ على توازن المجتمع وثباته وضمان أمنه وسلمه واستقراره.
وقد تكون السلطة ذات طبيعة تسلطية وقد تكون مبنية على الحق والعدالة فهي تؤثر على توجهات الأفراد والمجتمع.
- التغير الاجتماعي:
يقصد ب«التغير الاجتماعي»، كل تحول في البنى الأساسية للجماعة الاجتماعية أو المجتمع. ولقد كان «التغير الاجتماعي»، ولا يزال ظاهرة ملازمة على الدوام للحياة الاجتماعية، ولكنها أصبحت أكثر حدة في العصور الحديثة بخاصة. ويمكن رد أصول علم الاجتماع الحديث إلى محاولات فهم التغيرات الدرامية التي قوضت المجتمعات التقليدية، وشجعت على نشأة الأشكال الجديدة للنظام الاجتماعي.
هذا ويمكن الإضافة إلى أن التغير الاجتماعي يمس جميع مناحي الحياة، وقد كان من أهم المواضيع والقضايا التي أخذت اهتمام الفكر الإنساني مند القدم بداية مع الفلاسفة والحكماء وعلماء الاجتماع بحثا في طبيعته من أجل تحقيق التوازن والاستقرار وصولا إلى مطمح التناغم في المدينة/ الدولة.
ولقد انطلق الفلاسفة وعلماء الاجتماع أساسا من البحث عن «التغير الاجتماعي»، من سؤال افتراضي مفاده: هل يخضع التغير الاجتماعي لنموذج جاهز، مميز ووحيد؟ وهذا السؤال ما اختلفت النظريات في تفسيره بحسب تصوراتها وخلفياتها المنهجية، إذ أن كل نظرية حاولت مقاربة ظاهرة التغير من زاوية توجهاتها الأيديولوجية.
ويرى بودون آرون أنه يمكن استجلاء أهم النظريات التي حاولت مقاربة ظاهرة التغير في موقفين نظريين أساسيين، حيث يرى أن هناك: موقف يدافع عن التوازن والاستقرار، شأن ما ذهبت إليه النظرية الوظيفية والتطورية أساسا، وموقف ثاني يدافع عن الاختلال والفوضى واللا توازن، وهو مع النظريات الصراعية والنظريات التفاعلية وإن كان بشكل قليل.
هذا ويرى بودون أيضا، أن كلا مواقف النظريات تسعى إلى التوازن، حيث يعتبر أن حتى النظريات الصراعية التي تقوم على الاختلال واللا توازن تبحث عن التوازن، لكن انطلاقا من تصوراتها وخلفياتها القائمة على أن التوازن في النظام يتحقق في أقصى مراحل الفوضى كما هو الشأن بالنسبة لموقف بولتزمان.
- التنمية البشرية:
أصبح يمثل هذا المتغير مطمح كل البلدان العربية حكومات وشعوبا وذلك لتجاوز تخلفها من أجل الاستفادة من العلم والتكنولوجيا لتحقيق ارتفاع مستوى العيش وتحسين نوعية الحياة.
ويقصد بالتنمية، تلك العملية المجتمعية الواعية المتوجهة نحو إيجاد تحولات في البناء الاقتصادي والاجتماعي بهدف يكسب لها خلق تنمية الطاقة الانتاجية المدعمة ذاتيا، كما تهدف إلى تحقيق زيادة منتظمة في مستوى الدخل الحقيقي للفرد على المدى المنظور، بالإضافة إلى خلق تنمية علاقات اجتماعية سياسية، كما تستهدف في ذات الوقت توفير الحاجيات الأساسية للفرد وضمان حقه في المشاركة وتعميق متطلبات أمنه والاستقرار في المدى الطويل.
هذا وتعتبر التنمية أيضا، تلك العملية التي تسعى إلى إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في المجتمع، المعني بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده، ومعنى ذلك، زيادة قدرة المجتمع على الاستجابات للحاجيات الأساسية والحاجيات المتجددة لأعضائه بالصورة التي تكفل زيادة درجة إشباع تلك الحاجيات عن طريق الترشيد والتوجيه المستمرين لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة وحسن توزيع عائد ذلك الاستغلال.
وكل ورد هو فقط محاولات بسيطة على درب فهم هذه المفاهيم، فنعتذر إذا ما كنا تعسفيين في حقها، وذلك بالنظرا إلى كونها عميقة الدلالات والتحليل. فما هي إذن علاقتها بمتغيرنا الأساسي في هذا الطرح التساؤولي التالي: التراتــب الاجتماعي وعلاقته بإشكاليـة السلطـة، والتغيـر الاجتماعي، والتنمية البشرية؟
للوهلة الأولى، يكاد يكون طرحا تساؤوليا يتميز بالغموض والالتباس إلا أن العلاقة بينه وبين هذه المفاهيم ممكنة وموجودة يمكن تحديدها وتوضيح تجلياتها.
إذ أن «التراتب الاجتماعي»، هو ذاك التفاوت والتمايز والتدرج بين أفراد وفئات المجتمع القائم على أساس محددات اجتماعية واقتصادية وسياسية يُخوّْل لأولئك المتميزين في المجتمع أي الموجودين في القمة الهرمية والذين يسمون بـ «الطبقة العليا»، السيطرة الشاملة على الحكومة والدولة، وذلك ما يعتبر مؤشرا هاما يبين الارتباط القوي بين الطبقة والسلطة.
كما يتضح ذلك أكثر من خلال - مضمون- الدراسات العلمية التي كشفت الارتباط بين الطبقة والقوة السياسية والاجتماعية، حيث وصل أحد الباحثين ويليام دومهوف من خلال مجمل دراساته إلى أن أفراد الطبقة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي استقراطية الأعمال، يحصلون على النصيب الأعظم والأوفر من الثروات والجانب الأكبر من المؤسسات الحاكمة، وتشكل جماعات اتخاذ القرارات الرئيسية في الدولة.
وقد برهن الباحث نفسه، ويليام دومهوف في إحدى دراسته على أن الطبقة الحاكمة تسيطر على الاقتصاد، وعلى الحكومة الفيدرالية، والحكومة المحلية، والمؤسسات والجماعات، والمؤسسة العسكرية.
وإن أشياء كهذه، توضح الصلة والعلاقة بين«التراتب الاجتماعي» و«السلطة»، وذلك من خلال كونها موزعة بين الأفراد والجماعات على حسب المكانة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كمحددات طبقية عالية وعدم تملكها بل فقد تطوق بها الطبقة السفلى.
ما يوضح أن التراتب الاجتماعي، يصنف طبقة معينة تمتلك الحضوة السياسية والمكانة الاجتماعية والثروات الاقتصادية، ويجعلها في أعلى الترتيب ويضفي عليها امتلاك السلطة التي تستخدمها من أجل مصلحتها في تطويع الطبقة السفلى وامتلاك خيراتها عنفا وقسرا عليها (الطبقة السفلى).
ولعل أشياء كهذه، قد تؤدي إلى خلق توثرات وصراعات واختلالات اجتماعية، تتمثل في رغبة أصحاب الطبقة الدنيا في التحرر من العنف الممارس عليها من جهة، والرغبة في التطلع إلى مراتب عليا من السلم الاجتماعي من جهة أخرى. وبالتالي، فقد يصبح التراتب الاجتماعي عاملا من عوامل الصراع الاجتماعي والطبقي وبالتالي يفضي إلى التغير الاجتماعي.
ويمكن القول، أن العلاقة بين «التراتب الاجتماعي» و«التغير الاجتماعي»، تبرز بخاصة من خلال - مضمون- النظرية الماركسية، حيث حاولت تحليل الطبقات الاجتماعية كظاهرة تاريخية، وكشفت من خلالها على أن كل طبقة من هاتين الطبقتين تحمل في داخلها إمكان تحولها إلى جماعة سياسية تعي مصالحها وتناضل من أجلها، فإن الطبقة الحاكمة المسيطرة قد كونت بالفعل النظم الاجتماعية (الدولة، الأجهزة السياسية، والقانونية، والبوليسية، والعسكرية، والاعلامية، والدينية، وغيرها..) التي تستطيع بواسطتها أن تدعم مصالحها الاقتصادية وتحافظ عليها.
وترى النظرية الماركسية أن وعي أفراد الطبقة المقهورة أنفسهم بوصفهم جماعات ذات مصلحة مشتركة نابعة من موقف اقتصادي واحد سيؤدي بهم إلى تنظيم أنفسهم بالضرورة، وهو ما يعرف في التحاليل الماركسية بمفهوم الوعي الطبقي..
ومن ثم تتحول الطبقة المقهورة أو المسحوقة من طبقة موجودة موضوعيا (طبقة في ذاتها)، إلى طبقة ذات وجود واع (طبقة لذاتها). كما يعتبر الصراع الطبقي في التحاليل الماركسية بهذا المعنى، هو محرك التاريخ، وهو الذي أدى إلى إحداث التحولات والتغيرات النوعية التي طرأت على كافة الأنساق التاريخية الطبقية، تحول العبودية إلى الاقطاع، والاقطاع إلى الرأسمالية.
كما أن الثورة ضد علاقات الانتاج الرأسمالية سوف تقود إلى مجتمع لا طبقي حيث يسيطر العمال على وسائل الانتاج، ويقيمون ديكتاتورية من سيطرة البرجوازية، وحينما تصبح ملكية وسائل الانتاج من سيطرة البرجوازية، وحينما تصبح ملكية وسائل الانتاج في أيدي الناس بشكل كامل لن يعود هناك «مُسْتَغَلّْينَ» و«مُسْتَغِلّْين» ولن تعود هناك طبقات لأن الوضع الطبقي يعتمد على الوضع في علاقات الانتاج وفي المجتمع الجديد سوف يمتلك الجميع وسائل الانتاج ملكية جماعية، وستصبح القوة المنتجة، في هذا الحال قادرة على التطور دون صراعات أو تناقضات وسوف يصبح التطور الحر للجميع.
أما بخصوص علاقة «التراتب الاجتماعي» بمفهوم «التنمية»، فيمكن قراءتها من زاويتين: علاقة تضاد وتنافر، وعلاقة ترابط وتلازم.
فبالنسبة إلى القراءة الأولى، التي تمثل لها علاقة «التراتب الاجتماعي» ب«التنمية» علاقة تضاد وتنافر، ترى أنه لا يمكن الحديث عن تنمية ما لم يتم إحداث تغييرات جذرية على مستوى البنى الاجتماعية للمجتمع. ومعنى ذلك، أن التنمية، لا يمكن أن تتقدم في ظل مجتمع تسوده تراتبات وتمايزات طبقية بين من يملك ومن لا يملك، وذلك باعتبار أن «التراتب الاجتماعي» يمثل عائقا وتحديا أمام التنمية، لأنه كما سبق وأن ذكرها في التأصيل المفاهيمي قبلا، إن التنمية هي عملية واعية تسعى إلى إحداث تغييرات جذرية في مجتمع معني بهدف إكساب المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن هدف التنمية هو الإنسان، والإنسان بوجه عام وليس إذا صح التعبير «الإنسان الخاص»، الذي يملك، و«الإنسان العام»، الذي لا يملك ويتموقع في «القاع الاجتماعي» بهذا المعنى.
وأما بالنسبة إلى القراءة الثانية، التي مفادها أن العلاقة هي علاقة ترابط وتلازم بين مفهومي «التراتب الاجتماعي» و«التنمية»، فإنها تنظر إليها بنظرة تتميز بالمنطقية، ذلك حيث ترى أن علاقة «التراتب الاجتماعي» ب«التنمية»، يستند إلى تصور التنمية أو التحديث على أساس الترابط بين «مجتمعات تقليدية»، و«مجتمعات حديثة»، أو «مجتمعات متخلفة»، و«مجتمعات متقدمة»، أو «مجتمعات صناعية»، و«مجتمعات زراعية»، وهذه في الواقع تصنيفات العلم السياسي البسيطة التي تقف عند مستوى الوصف ولا تتجاوز التحليل والتفسير المتعمقين.
والسؤال الممكن والمشروع للطرح في هذا الصدد، هو كالتالي: أيهما الأقرب إلى المنطق، هل علاقة التراتب الاجتماعي باعتباره عائقا وتحديا أمام رغبة التنمية؟ أم أن علاقة التراتب الاجتماعي بالتنمية إيجابية، وذلك كما جاء في التصور الثاني، الذي يستند إلى أنها لا تبتعد عن كونه فقط تجسيد للتمايزات المرصودة بين مجتمعات متقدمة، وأخرى متخلفة، وما إلى غير ذلك من الثنائيات...؟
هذا السؤال حقيقة يجب التفكير له، بل يجب إعطائه اهتماما بالغا وذلك من أجل الرد على الخطابات الاعلامية التي أصبحت تتطرق إلى التنمية بملحاحية وكأنها وليدة اليوم. فهل من أجل تصنيف التراتب؟ أم من أجل إحداث التغيير حقيقة للوصول إلى تقدم وتحسين ظروف أحسن لكل أفراد المجتمع؟؟؟.
وفي المحصلة، يمكن القول أن هناك فعلا علاقة واضحة وممكنة بين مفهوم «التراتب الاجتماعي»، ومفاهيم: «السلطة»، و«التغير الاجتماعي»، و«التنمية البشرية».
ويمكن قراءة ذلك، بأن التراتب الاجتماعي هو ذاك التمايز والتفاوت والتدرج القائم على محددات اقتصادية واجتماعية وسياسية والتي بفعلها (أي المحددات) تخول لأصحابها أي الطبقة العليا امتلاك السلطة التي يتم استخدامها بأشكال العنف وغيرها على الطبقة السفلى للاستحواد على خيراتها وخيرات غيرها، وهو الشيء الذي ينتج عنه تغير اجتماعي يفضي إلى الصراع والنضال ضدا على الطبقة الحاكمة والمسيطرة، وذلك ما يعرف بالوعي الطبقي في التحليل الماركسي الذي يهدف إلى تغيرات في البنى الاجتماعية للمجتمع، وهو الأمر الذي عند تحقيقه يؤدي إلى تنمية وإلى تطور دون نشوب صراعات أو تناقضات.
**باحث في علم الاجتماع