تقديم
يشاع كثيرا استعمال مفهوم "المشكل الاجتماعي" في الحياة اليومية، غير أنه بقي غير واضح في مختلف تخصصات العلوم الإنسانية، بالرغم من وجود عدد كبير من الدراسات والبحوث في هذا الموضوع، إضافة إلى العديد من الجمعيات والمؤسسات التي تعنى بالمشاكل الاجتماعية ولاسيما الأمريكية منها، ونخص بالذكر: الجمعية الأمريكية لدراسة المشاكل الاجتماعية التي تُصدِر مجلة متخصصة تحت عنوان "المشاكل الاجتماعية".
إن الحديث عن هذه الظاهرة، يكتسي أهمية بالغة أفرزت مجموعة من التعاريف التي تباينت مع مرور الزمن. فتحليل مفهوم المشكلة الاجتماعية، عرف تحديات وعراقيل متعددة شكلت عائقا سوسيولوجيا. فقد عرف أواخر القرن 19 مشاكل واجهت الخدمات الاجتماعية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، و لعل أبرزها : الفقر البؤس بمختلف أشكاله و تجلياته إضافة إلى الإعاقات الجسمية والعقلية، جعلت من الضروري التحرك لمواجهة الوضع الراهن ورفع الرهانات والتحديات المطروحة. وهنا نجدR. Rezsohazy يرى أن كل مجتمع يواجه مشاكل اجتماعية متنوعة، تُشكل رهانات وتحديات، مما يستوجب على مختلف الفاعلين والفئات الاجتماعية التحرك لرفع هذه التحديات.
أمام هذا الوضع، يتساءل R. Barbier عن إمكانية توظيف العلوم الإنسانية لفهم الظاهرة المعقدة.
يُجيب R. Barbier، بالنفي، معللا ذلك، بأن هدف العلوم الإنسانية الأول هو تفسير الواقع الاجتماعي، ولفهم الظاهرة المعقدة ينبغي إدخال طرق ديداكتيكية جديدة تُمكن من الوصول إلى تفسير علمي دقيق للوقائع اليومية من قبل الممارسين في الحقل الاجتماعي، وهذا ما يؤكده كل من Martinو Chopart، بغياب دراسة علمية دقيقة في مجال العمل الاجتماعي على مفهوم المشكلة الاجتماعية، في المقابل يعتقد M. Tachon بأن العمل الاجتماعي يَنْحى إلى فرض نفسه أكثر فأكثر، كحقل متخصص في تدبير المشاكل الاجتماعية، على الرغم مما يعرفه في أزمات.
ليس من السهل تحديد مفهوم المشكلة الاجتماعية، إن ما يمكن اعتباره مشاكل اجتماعية كالبطالة والفقر والأمراض العقلية والأحياء الهامشية و الجنوح، لم يكن كذلك بالنسبة لمجتمعات أخرى، كما كان الحال عليه في إنجلترا في القرن 17. مما يدفعنا بقوة إلى مزيد من التساؤل عن مفهوم الظاهرة.
في هذه المقالة، سنحاول:
- أولا: تحديد مفهوم المشكلة الاجتماعية.
- ثانيا: أهم تيارات التحليل السوسيولوجي للمشاكل الاجتماعية من بداية القرن العشرين.
مفهوم المشكلة الاجتماعية:
نظرا لتعدد التعريفات المتعلقة بهذه الظاهرة، سنحاول التركيز على أكثرها تداولا وكلاسيكية، متعددة في ذلك الوثائق والمراجع الأمريكية والأوروبية والكيبيكية، متبعين المنهج التاريخي العرضي "historique d’expositon".
حسب R. lenoir، فإن مفهوم المشكلة الاجتماعية يُحيلنا تاريخيا إلى مفهومين رئيسيين، الأول يتعلق أساسا بالحقل الذي نقوم بدراسته والذي يمس المساعدة الاجتماعية والضمان الاجتماعي، يسهر عليه العاملون الاجتماعيون من مساعدين اجتماعيين ومربيين متخصصين، أما الثاني فيأخذ معنى مغايرا، قريب من مفهوم "الاشتراكية socialisme"، أو "السؤال الاجتماعي Question sociale"، الذي ظهر في القرن 19. غير أن مقالنا هذا يخص أساسا دراسة المفهوم الأول، نظريا لارتباطه الوثيق بالتحديات الراهنة.
سنعتمد على تحليل M. Mills لمحتويات عشرات الكتب التي تضم نصوصا مختارة لدراسات نشرت بين الفترة 1920 و 1960، تعالج المشاكل الاجتماعية بالولايات المتحدة الأمريكية.
يشير M. Mills إلى أن المقاربة التقليدية للمشاكل الاجتماعية هي في الأساس مقاربة نظرية تاريخية مع أفضلية للمنهج الوصفي – التجريبي، داعيا في كتابه "الخيال السوسيولوجي" إلى تحديد المنهج المُتبع في تحليل المشاكل الاجتماعية، كما يُميز بين "المحك المهني épreuves personnelles" التي تنشأ في شخصية الفرد و تؤثر على علاقتها مع الآخرين، وبين "قضايا المجتمع question sociale" التي تثير تساؤلات تتجاوز محيط الفرد ونطاق حياته الداخلية. وفي هذا الصدد يؤكد M. Mills على أن التحليلات الخاصة بهذين المستويين ينبغي أن تكمل بعضها البعض، وليس أن تتعارض فيما بينها.
يرى كل من Daveluy و Pineqult و Robert و Pascal، أن مفهوم المشكلة الاجتماعية، يعبر عن الفجوة أو الاختلاف بين الدولة المثالية والدولة الحالية أو الواقعية، هذا ما ذهب إليه Al و Cohen، اللذان اعتبرا المشاكل الاجتماعية، مشاكل قيم، يحدد المجتمع صحتها أو خطئها مما يعني أنه لابد من تحليل المشكلة الاجتماعية في علاقتها مع منظومة القيم التي ينتمي إليها الأفراد والجماعات، نفس الشيء يُبرزه A. Normandeau، معتبرا أن الظاهرة هي نتيجة للعلاقات الإنسانية، و المجتمع وحده القادر على تحويلها أو رفضها، وفقا لمنظومة القيم والقواعد المنصوص عليها. غير أن هذه القيم و القواعد قد تؤدي أحيانا إلى اضطرابات و خلل وظيفي في العلاقات الاجتماعية. هذا ما أكده بعد ذلك Miller و Kalhen و Pernou و Levoir، الذين أرجعوا سبب الاضطراب الوظيفي إلى فجوة بين معايير مجتمع ما و سلوك مجموعة من الأفراد، يعتقد R. Blum أن المشاكل الاجتماعية هي أزمة مجتمع، فآثارها تمس كل أفراد المجموعة أو المجتمع بصفة عامة، مما يستدعي اتخاذ تدابير إجرائية لمواجهتها. إلا أنه لا ينبغي النظر دائما إليها كظاهرة غير طبيعية، على العكس من ذلك، إنها نتيجة نطقية وحتمية تمس مُختلف الُبُنى المجتمعية، إنها سلوكات وقيم قابلة للتعديل والتجديد مع الحفاظ على ضرورة تحديد مسؤوليات الأفراد المنتجين للمشاكل الاجتماعية.
يُرجع M. Pelletier أسباب استفحال الظاهرة إلى العوامل السياسية والاقتصادية، أبرزها ضعف الدخل. أما R. Rezsohazy فيرى أن المشاكل الاجتماعية هي نتاج التحولات الاجتماعية، ويمكن فهمها من خلال ثلاث مفاهيم أساسية: القطيعة أو التمزق "la repture"، التحدي "le défi"، وعدم التطابق "l’indéquation"، في البداية تكون هناك قطيعة بين الدولة وتطلعات أفراد المجتمع، هذه الوضعية تؤدي إلى بروز التحدي، هذا الأخير يشكل تهديدا لأمن ومصالح وقيم المجتمع ككل، مما يخلق نوعا من عدم التوازن أو التطابق بين سياسة الدولة وما ينتظره الأفراد، يؤدي إلى إحداث مشاكل وتغييرات في نفس الوقت، هذه المشاكل يُميزها Rezsohozy في نوعين، إحداهما دائمة والأخرى مؤقتة، تختلف باختلاف الزمان والمكان والمجموعات، غير أن طبيعة المشاكل تتغير بتغير الزمان، إذ يرى Lenoir أن ما يُعتبر مشكلة اجتماعية، قد لا تكون كذلك في المستقبل. فالولايات المتحدة الأمريكية عانت كثيرا في الثلاثينات القرن الماضي من مشكلة الفقر غير أنه لم يعد قائما اليوم أو إذا لم نبالغ فقد تراجعت حِدته في السنوات بين 1940 و 1950. ناهيك عن انخفاض نسبة العنصرية في الستينات مقارنة مع اليوم، يُرجع Rezsohozy ظهور المشاكل الاجتماعية إلى عوامل توجد في مختلف القطاعات التي تدير دواليب المجتمع و تحدد مساراته. غير نظرة المجتمع لبعض من هذه المشاكل قد تتبدل مع مرور الوقت، فـ R. Landreville يرى أن مجموعة من الظواهر السلبية في حقبة ما، أصبحت ظواهر مرغوب فيها سياسة تحديد النسل، في المقابل، أضحت العديد من الظواهر التي كان يُنظر إليها كشيء إيجابي، تدخل نطاق التعاون والتكافل الأسري والعائلي، لبثت اليوم ظواهر غير صحية يعاقب عليها المجتمع كعمالة القاصرين. بجانب ذلك، أصبحت بعض المشاكل الاجتماعية في السابق، عناصر محايدة، كالملابس المحافظة، الطلاق. أخيرا نجد ظواهر أضحت مسموح بها، كالشذوذ الجنسي والإجهاض.
أمام هذه التحولات، يؤكد Blumer على ضرورة البحث عن نسق مفاهيمي يكون قادرا على فهم و تفسير المشاكل الاجتماعية في صورها الجديدة. فالمقاربات التقليدية تظل عاجزة على فهم الظاهرة من طرف الباحثين والمتخصصين وكذا العاملين في الحقل الاجتماعي.
إن العاملون بالميدان الاجتماعي وحدهم القادرون على فهم التحولات الاجتماعية وما يرافقها من مشاكل جديدة تتغير بتغير الزمان والمكان، ثم إخضاعها لدراسات علمية دقيقة لتمييز الظاهرة وتحليلها ومحاولة تحديد لمفهوم المشكلة الاجتماعية.
من بين الدعوات العديدة لتحديد مفهوم الظاهرة الاجتماعية، نجد الدعوات المهنية "discours professionnels"، التي تصف حسب W. Ryan منطق التدخل الاجتماعي :
• أولا: تحديد المشكل الاجتماعي؛
• ثانيا: دراسة ضحايا المشكلة الاجتماعية، و تحديد الفرق بينهم و بين الآخرين، (ليسوا ضحايا الظاهرة)، فيما يخص ظروف محيطهم المأساوي المؤول عن وجود الظاهرة؛
• ثالثا: اعتبار الفرق "la différence" مكسبا للمشكلة الاجتماعية في حد ذاته؛
• رابعا: تكليف بيروقراطية الإدارة لتصحيح الفوارق.
من هنا، يُعرف المهنيون في الميدان الاجتماعي، المشكلة الاجتماعية كنقص أو عوز أو حاجة "déficience".
تنبني الإيديولوجية المهنية، على النظر إلى المشكلة أو المشاكل الاجتماعية، من زاوية المصلحة أو المنفعة المهنية و التعاونية النقابية، فتصبح المعادلة كالآتي : "نحن بحاجة ما... إلى المشاكل، نحن بحاجة... عن ماهيتها، ... مشكلتك" وبالتالي فهي ترى في حياتنا ومجتمعاتنا، سلسلة من المشاكل التقنية، إنها إيديولوجية تُحول المواطن إلى زبون.
في حين يرى M. Tachon و Lenoir أن تعريف المشكلة الاجتماعية يتطلب عادة ثلاث شروط:
• أولا: تحديد السياق؛
• ثانيا: مجموعة اجتماعية متكاملة؛
• ثالثا: المشاكل التي تبرر التدخل.
هذا وبالإضافة إلى أن العديد من الكتاب اتفقوا حول أن المشكلة الاجتماعية تتطور وفق سلسلة من المراحل كل مرحلة تعكس تغييرا في المجموعة التي تعرف المشكلة. إذ يُنظر إلى تسلسل الأحداث وليس إلى المواقف الثابتة.
أما بالنسبة لـ Lenoir شأنه شأن Bell قسموا نشوء وتطور المشكل الاجتماعي في ثلاث مراحل رئيسية.
1- التغيرات التي تؤثر على الحياة اليومية للأفراد نتيجة للاضطرابات الاجتماعية المختلفة التي تختلف عبر الفئات الاجتماعية؛
2- العمل لفرض واستحضارها الشرعية؛
3- عملية إضفاء الطابع المؤسسي.
ومنه فإن Lenoir يجزم بأنها ما هي إلا التحولات الموضوعية التي بدونها لن تنشأ المشكلة.
إذ يبدوا أن هناك توافق نسبي على العناصر الرئيسية للمشكلة الاجتماعية، وفي الواقع، فإن معظم التعاريف تتداخل بعضها البعض، ومعظمهم اتفق على وجود ثلاث شروط أساسية لوجود مشكلة اجتماعية، أو العثور على الحالة المشكلة.
إن العثور على وضع المشكلة ربما يكون أكثر سهولة من تحديدها، لأن هناك حالات كثيرة (الجريمة، الفقر، إدمان الكحول...) التي تعتبر "غير طبيعية"، والتي يمكن رؤية آثارها وعواقبها. هذه هي مرحلة الوعي، ومع ذلك، يتم الحكم على الوضع في المجتمع كمشكلة اجتماعية في إطار الحالة التي تعتبر مشكلة اجتماعية، ويجب أن تصحح.
بالإضافة إلى ذلك، فالمشكلة الاجتماعية غالبا ما تكون نقطة التقاء لتصورات مختلفة جدا، وأحيانا متضاربة من الجماعات، ولكن من خلال تحليلهم لأسباب المشكلة وسبل حلها يحاولون تسريب أفكارهم بحيث يتم اعتماد حلول تتوافق ومصالحهم. لذلك نحن بحاجة لاستكشاف هذه الاختلافات في وجهات النظر التحليلية.
تقديم لبعض المدارس النظرية السوسيولوجية في تحليل المشاكل الاجتماعية
خلافا للمساهمات الفرنسية والأمريكية، برزت مدارس واتجاهات من أمريكا الشمالية خاصة كيبيك، بسبب مساهمتها المهمة في التدخل الاجتماعي. ومن الأوائل نذكر:
R. Merton 1960، القيادي البارز في النظرية الأمريكية، يعتبر من سلالة الاتجاه الوظيفي، إذ في هذه الدراسة تعاطى للمشاكل الاجتماعية من خلال التفكك الاجتماعي والسلوك المنحرف. وبالإضافة إلى نهج دراسة السلوك المنحرف من قبل النظرية الوظيفية أساسا، وفضلا عن نظرية الصراع الاجتماعي، غالبا ما يُنظر إليها باعتبارها مدرسة متميزة في الفكر في حد ذاته.
Horton و Leslie 1971، قاموا بتحديد المشكل الاجتماعي من خلال؛ الفوضى الاجتماعية، الانحراف الثقافي، وصراع القيم. وفي هذا الصدد حدد R. Blum 1970، خمس مفاهيم لتحليل المشكلات الاجتماعية في العمل الاجتماعي: التغير الثقافي، التفكك الاجتماعي، الصراع الثقافي، الانحراف، الأمراض الاجتماعية. وبجانبهم اقترح A. Etzioni 1976، التجميع بين أربع فئات : توافق الهيكلة الوظيفية على توافق الآراء والصراع الاجتماعي والاغتراب والتفاعل الاجتماعي والإثنية العرقية والدينية.
في حين ظهر اتجاه محافظ جديد، Ritzer 1986، يميز بين السلوك المنحرف، ومشاكل عدم المساواة والصراعات الاجتماعية، والمشاكل المتصلة بالتقدم البشري بغية دراسة المشاكل الاجتماعية. كما أنه يحيل هذه الحالات من خلال "نظريات المنطقية الكبرى (منطق كلي) macrological"، فإنه يستخدم نظريات التغير الاجتماعي والتوترات الاجتماعية و الثقافات الفرعية. أما عندما ينظر إلى المجتمع من خلال "(منطق جزئي) micrological" فإنه يشير إلى التفاعل الاجتماعي الرمزي بين الأفراد من خلال نظرية التبادل و التعلم الاجتماعي أو من خلال وضع العلامات والرموز، كما هو متداول عند علم المدرسة السلوكية في علم النفس الاجتماعي.
وفي نفس المنظور التاريخي نجد كل من Julian و Kornblum 1986، قد مزج بين الفكر السوسيولوجي الحالي بعلم الأمراض الاجتماعية والفوضى الاجتماعية ومنه تم إبراز ستة وجهات نظر محددة لدراسة المشاكل الاجتماعية اعتمادا على المنظور التاريخي:
1- احتمال تضارب القيم؛
2- السلوك المنحرف؛
3- التفاعل interactionism؛
4- الصراع؛
5- التنمية الاجتماعية؛
6- الوصم.
أما من الجانب الفرنسي، واعتمادا على المنظور التاريخي، نجد كل من C. Bachmann و J. Simonin 1981. استلهموا من أعمال N. Herpin 1973، بشأن المسائل النظرية الرئيسية التي تواجه العمل الاجتماعي، في أمريكا الشمالية وأوروبا منذ بداية القرن، للإشارة هناك نماذج نظرية عديدة في شأن بداية الانحراف، والعمل الاجتماعي، أهمها مدرسة شيكاغو Chicago، والنموذج الثقافي ونموذج الوظيفية.
مدرسة شيكاغو والنموذج الإيكولوجي:
فضلا عن Herpin 1973 و Rubington و Weinberg 1989، تقع في وقت مبكر لسنة 1920 وبداية 1930، إذ اقترضت من البيئة الحيوانية، وفقا لـ Bachmann و Simonin 1981، إذ قاموا بالتفكير في العالم للمناطق النائية (الأحياء)، ووضع وسائل الاتصال والتبادل بين المجتمعات وإرساء قواعد التعايش حول مبدأ التكيف والتبادل. يقابل هذا "التوازن الطبيعي" لمملكة الحيوان. ومع ذلك فإن عوامل معينة وخاصة في المدن الكبرى تتميز باختلاف هذا التوازن عندما تنشأ ظواهر الفوضى، على سبيل المثال، ارتفاع الهجرة وتنقل السكان وارتفاع معدلات البطالة، ومشاكل السكن و الجريمة و الانحراف...
وحسب Rubington و Weinberg 1989، هذه المدينة هي مصدر الفشل والاستثناءات، فإنها تقترح التنظيم الذاتي على أساس المجتمع المحلي. ومنه كانت مدينة شيكاغو نظرا لتاريخها مختبرا طبيعيا للدراسة. هذا وبالإضافة إلى F. Mourant 1976، الذي يشير إلى أن العديد من الكتاب طبقوا هذه النظرية لدراسة الجريمة، وطوروا مفهوم "المنطقة الجريمة zone de délinquance" التي تنتج عن بعض دوائر الفوضى الاجتماعية التي تؤدي إلى جنوح الأحداث.
الثقافات Le culturalisme
Herpin (1973:28) كان في الفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، إذ أَوجد مشروع تطوير الفكر الثقافي في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد استند على وحدة نظرية العمل التي استند عليها على النهج «التقرير المتميز الذي يتحدث بالتحليل النفسي الفرويدي».(1973:28) . بحيث أن المشكلة الأساسية التي تطرحها الثقافة culturalists هي السمات الرئيسية، والمفهوم هو أن التنشئة الاجتماعية، يعني ذلك استيعاب نماذج ثقافية محددة لمجتمع ما على يد أفراده. من هذا المنظور الشيء الذي يهم الباحث هو الاختلاف الثقافي بين المجتمعات، الاختلافات في السمات الأساسية للأفراد عند انتمائهم لخلفيات ثقافية متنوعة، ذلك بفضل آليات التنشئة الاجتماعية بموجبها تنتج كل ما هو )أصلي( طبيعي خام، تقريبا يتطابق مع الأصلي، فتصبح متباينة نتيجة لها، وبالتالي سيصبح انتماؤهم لثقافة مختلفة. هذا المنظور يستعمل على نطاق واسع لشرح مختلف المشاكل الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، ناقش العديد من الكتاب أن الثقافة الفرعية للجانحين هو عصارة الحل الوسط بين الخلفية الثقافة الفرعية البروليتارية والثقافة الفرعية للفئة الأصلية، المهيمنة في النظام المدرسي. هذا النوع من التفسير أصبح ذات شعبية كبيرة: من الفقر إلى الشذوذ الجنسي. وقد تم شرح كل شيء تقريبا من حيث ثقافة فرعية.
وارتباطا بهذا المنظور، هناك تلك التي تركز على صراع القيم. بعد تجميع النظريات الأميركية والأوروبية من الصراع الاجتماعي Rubington و Weinberg 1989، وهذا النهج يتطلب أن تتميز المجتمعات الحديثة بالتنوع والاختلاف في القيم ، مما يؤدي إلى التناقضات التي هي مصدر القضايا الاجتماعية، وعلى الرغم من أن إنتاجات هذا العمل كانت في وقت مبكر من سنة 1920 وحتى بدايات 1940، مع أعمال Fuller وMyers 1941، الذي يحدد صراع القيم وحتى منظور الصراع الاجتماعي. أما Blum 1970، فيوافق على أن قيمة الصراعات هي السبب في المشاكل الاجتماعية لأنها تنتج التعاريف المتضاربة للظروف الاجتماعية التي تعتبر غير مرغوب فيها لأنها مربكة (الشذوذ) التي تشجع انحراف الشخصية. كما أن الصراع الثقافي يتخذ بعدا آخر حول هذا التفكير، ومن الأمثلة الجيدة النظرية العامة لصراع الحضارات، ونظرية التخلف الثقافي، "culturallag" W. Ogburn 1923، التي وُضعت لتفسير المشاكل الاجتماعية في البلدان النامية على أساس الابتكار "عامل التكنولوجيا". كما يتخذ Blum 1970، هذه النظرية كفرضية لتفسير المشاكل الاجتماعية، ويستخدم مفهوم تغيير وتقويض القيم الذي يسبب القلق العميق للفرد. مثال آخر على استخدام صراع القيم هو النموذج الذي اقترحه Cohen 1964، لتحليل المشكلات الاجتماعية من منظور الخدمة الاجتماعية. هذا النموذج هو التوجه نحو تحليل للقيم المشتركة ويسلط الضوء على الفجوة بين الحالات الواقعية والمعايير المعترف بها على وجه التحديد.
الوظيفية le fonctionnalisme
ظلت الوظيفية النموذج السائد في علم الاجتماع الأمريكي لفترة طويلة، وللتبسيط يمكن القول أن الوظيفية تعتبر المجتمع كائنا حيا منظما ومترابط الأجزاء، وبالتالي يجب على الجسم أداء كامل وظيفته، بحيث أن أي خلل في هذا التوازن، سيؤثر بالسلب على باقي الأعضاء وبالتالي سينتج نوعا من الفشل وتمزق التضامن، مما يستدعي التدخل الاجتماعي بغية تعزيز أدوار جديدة للتعلم يتم بها استعادة الانسجام والتعاون Bachmann وSimonin 1981، ومن جانبهم أشار Herpin 1973، إلى أن ما يميز التحليل الوظيفي هو الأهمية التي تعزى إلى النظام المعياري الذي هو عنصر أساسي في النظام الاجتماعي، داخل نظام اجتماعي محدد، وبالتالي فإن المشكلة لقبول القواعد والقيم المؤسسية تكمن في الإرادة الحرة للفاعلين، لذا يجب علينا أن نميز بين الفاعلين الذين يقبلون نفس القوانين والقواعد الاجتماعية وأولئك الذين ينكرونها و يتجاهلونها.
لتوضيح هذا المنظور، يمكن لنا استخدام المثال الكلاسيكي: لـ Merton و Nisbet 1961، بعنوان "المشكلات الاجتماعية المعاصرة contemporary social problems"، والذي أعيد طبعه عدة مرات. فهؤلاء المؤلفين ميزوا بين ثلاث عمليات رئيسية ساهمت في ظهور المشاكل الاجتماعية في المجتمعات الصناعية: الصراعات المؤسسية، والحراك الاجتماعي، والشذوذ.
فبالنسبة لهؤلاء الكتاب، لا يوجد هنالك قاسم مشترك للمقارنة بين الحجم المطلق للمشاكل الاجتماعية أو تلك التي تشير إلى أكثرها أهمية من حيث الحجم أو درجة الاختلاف في الظروف الاجتماعية فيما يتعلق بالمعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع. أما بالنسبة للأهمية النسبية للمشاكل الاجتماعية، فهو التركيز على القيم التي تحدد المجتمع. لذلك يمكن القول أن التغيير الذي تمثله الحلول المقترحة تتفق مع مصالح وقيم فئات معينة على حساب مصالح وقيم بعض المجموعات الأخرى.
كما يقدم التوجيه الوظيفي تمييزا واضحا بين المشاكل الاجتماعية والمشاكل الاجتماعية الكامنة، الأولى هي تلك المعترف بها عموما بوصفها مشاكل. أما الأخرى فهي الشروط التي لم يتم تحديدها على نطاق واسع من المشاكل، رغم أنه في الواقع هم على خلاف مع مصالح وقيم العامة.
فالمشاكل الاجتماعية سواء الذاتية والموضوعية، Merton و Nisbet 1961، غالبا ما تكون غير صحيحة أو غير دقيقة، إذ هناك سببين رئيسيين: أولا، نحن بصدد تصور للمشاكل الاجتماعية، وكذلك بعض اختراقات الفوضى الاجتماعية، مثل الفقر.
وأخيرا، يمكن القول بأن المشاكل الاجتماعية هي نتاج مشكل وظيفي ناتج إما عن التفكك الاجتماعي، أو مشاكل الانحراف الاجتماعي. فالتفكك الاجتماعي هو الذي يكبح عمل البنية الاجتماعية. إذ يمكن للبنية الاجتماعية والثقافية التي تسمح ببناء سلوك ثابت، تنظم أيضا إنشاء بعض الاتجاهات نحو السلوك المنحرف والفوضى الاجتماعية، في هذا المعنى، فإن مختلف المشاكل الاجتماعية، إن جاز التعبير، هي مجرد تكاليف اجتماعية les coûts sociaux للحفاظ على تنظيم معين من الحياة الاجتماعية، وغالبا ما يترتب على ذلك مشاكل اجتماعية هي في الغالب تكون عواقبها غير متوقعة، وبالتالي فإن الجانبين سواء الفوضى والتنظيم، من الناحية النظرية غير قابلة للتجزئة.
يحدد Blum 1970، عددا من أعراض التفكك الاجتماعي: التمسك بالشكليات le formalisme، تراجع المقدس le déclin du sacré، النزعة الفردية l’individualisme...، ولكن بالنسبة لـ Merton، فإن انفجار النظام الاجتماعي هو نتيجة وليس لمشكلة التواصل بين أعضائها، وعدم التوافق بين القيم ومصالح المجموعات المختلفة، ونقص في عملية التنشئة الاجتماعية، لذلك، فلمعالجة مشكلة اجتماعية، فمن الضروري إعادة بناء التنظيم من جديد لإحلال التوازن الاجتماعي في المجتمع.
أما من حيث الانحراف، يعتقد كل من Horton و Hermanson 1975، أنه يمكن أن يتخذ أشكالا عديدة، إذ هناك عدم القدرة على إتباع المعايير المتفق عليها عموما، مثل مرض الإدمان على الكحول أو المخدرات، أو دافع نفسي داخلي لارتكاب الفعل المنحرف. في هذه الحالات، هناك أسباب للانحراف تكمن في العامل البيولوجي والنفسي والفسيولوجي أو السلوك الناتج عن عدم سيطرة الشخص. وفي حالات أخرى، هناك رفض للمعايير الاجتماعية المقبولة والمتعارف عليها التي تحدد الشخص المنحرف.
يفسر Chez Merton 1965، الانحراف انطلاقا من مفهوم الشذوذ عند دوركايم Durkheim عن طريق التمييز بين الثقافة والمجتمع، إذ لاحظ أولا وجود نظام من القيم التي تحكم سلوك الأفراد في المجموعة نفسها، وثانيا كيفية إضفاء الطابع المقبول اجتماعيا على تلك المعايير.
وفي هذا السياق، فالجريمة هي شكل من أشكال التكيف "الطبيعي" Mourant 1984.
البنائية le constructivisme
تماشيا مع التيار التفاعلي يعتبر البنائيون أن:
المشكل الاجتماعي هو نتيجة سيرورة الأفراد أو الجماعات نحو تغيير بعض الشروط الاجتماعية حسب (سبيكتور وكيتسوس، 1977).
تواجد المشكل الاجتماعي مرتبط بتواجد المجموعات التي تُعرِّفُ الشرط كإشكالية.
هناك نوعان من الجماعات:
- الجماعات التي تعنيها بصفة مباشرة هذه الإشكالية والتي لها مصلحة في تحويلها.
- الجماعات الغير المعنية بهذه الإشكالية، ولكن تجد نفسها في مواجهة القيم.
إذن هذه الجماعات تستطيع أن تنساق إما نتيجة لمصالحها أو عن طريق قيمها.
يحضر الفاعلون إطارا جديدا لتحليل هذه المشاكل الاجتماعية، يضم ثلاثة عناصر أساسية:
نظرية المصالح: الجماعات والأفراد يسعون إلى الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، الخ.
نظرية السخط الأخلاقي: تشجب الجماعات بعض الشروط، لأنّها تواجه إحساسها بالقيم، بغض النظر عن مصالحها.
نظرية التاريخ الطبيعي: المشاكل الاجتماعية لا تنشأ من حالة ثابتة أو حدث عفوي، ولكن تنشأ عن طريق سلسلة من الأنشطة المتطورة والمؤثرة في بعضها البعض (شنيدر، 1985).
هذه المقاربة تطرح بالضرورة سؤال التراضي أو التوافق الاجتماعي، مما استدعى (سبيكتور وكيتسوس، 1977) إلى اقتراح تعريف آخر للمشكل الاجتماعي.
بالنسبة لهما: يتألف المشكل الاجتماعي من خطوات الأفراد والجماعات الذين يُعبّرون عن مطالبهم التي تتمحور حول مجموعة من الشروط التي يفترض تواجدها.
هكذا، فعملية المطالبة هي شكل من أشكال التفاعل بين نوعين أو أكثر من العوامل الاجتماعية، التي بداخلها تطلب فئة من الفئة الأخرى القيام بشيء ما حيال وضعية اجتماعية غير مرضية، من أجل تحسينها أو تغييرها.
على هذا النحو فالمطالبة هي جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية والاجتماعية، وما يترتب عنها يساهم في سلسلة التعريف بالمشاكل الاجتماعية.
نتيجة لذلك، يدرس الفاعلون المشاكل الاجتماعية انطلاقا من الأفراد الذين يخططون لجعلها تبرز كمشاكل، مع التركيز على مصالح الأفراد أو الجماعات المساهمة في التعريف بهذه المشاكل.
ـ مع بداية الثمانينات، تطرق مجموعة من الكتاب إلى موضوع "بناء" المشاكل الاجتماعية:
ـ "باشمان وسيمونين، 1981" اعتبرا أنه لابد من الاعتراف أن مفهوم المشكلة الاجتماعية مفهوم نسبي ومبني.
ـ "مارتن وشوبار، 1988" أكدا أن المشاكل الاجتماعية لا توجد على نحو ما، بل هي خاضعة لعملية البناء.
اعتبرا أن العمل العلمي يجب أن يرتكز على فهم، كيف أن مجتمع ما في فترة ما يعتقد بلزوم تنظيم التدخلات السياسية، الجماعية، التنظيمية لحل بعض مناطق التوتر التي تصبح لا مفر منها، والقيام أيضا بعملية فك البناء، وكمثال على ذلك: إبعاد الفقر عن البطالة وعن الحياة الاجتماعية.
ـ "هويسمان ولوندغوقيل، 1983" اعتمدا نفس هذا التحليل، وأشارا أنه في حقل علم الجريمة، نعتبر غالبا الوضعية المشكل جنحة أو جريمة، وبذلك فإننا نقترف خطأ أساسيا. "السلوك والجريمة يُنظر إليهما كنقطة انطلاق، وتُأخذ هذه الأحداث كمجرد معطيات".
ـ "تاشون، 1985" اعتبر أن مختلف الخدمات المؤَمنة من طرف المؤسسات تُقدم على أنها أجوبة أصلية عن المشكل الاجتماعي المحدد.
ـ "كيلماغ، 1986 ولُونْوَاغْ، 1979" أظهرا في أبحاثهم عن الشيخوخة، الآليات السوسيو تاريخية لظهور المشاكل الاجتماعية.
ـ في "كيبيك" استُلهمت العديد من الدراسات من المنظور البنيوي، وكمثال على ذلك سعت (فهمي، 1987) إلى إعادة بناء الأحداث التي ساهمت في ظهور (دعارة الأطفال) كمشكلة اجتماعية في "كيبيك"، في حين أن هذه الظاهرة ليست جديدة بالنسبة لنا كما في أماكن أخرى.
واعتبرت هذه الكاتبة أن وسائل الإعلام تلعب دورا مهما في تعريف وبناء المشاكل الاجتماعية، وخلُصت إلى أن تعريف المشكل ينبني على الحكم الأخلاقي (الحماية والعقاب)، الذي يراعي نسبيا الواقع الاجتماعي والاقتصادي للشباب الذين يعيشون هذا الشرط.
ـ في نفس السياق حلّلت (ما نسو، 1988) التعريف والتكفل المؤسساتي بمشكل الاعتداء الجنسي في "كيبيك"، واعتبرته شكلا للبناء المؤسساتي والمهني، كما هو الحال بالنسبة لجميع المشاكل التي تُؤسس انطلاقا من خطاب خارجي للأشخاص الخاضعين لمراقبة الدولة.
خلاصة
ـ لقد ميز النقاش المُتمَحور حول العلاقات بين الأبعاد الموضوعية والذاتية للمشاكل الاجتماعية لمختلف التيارات.
ـ أظهرنا أنه في المصلحة الاجتماعية، كما هو الحال في علم الاجتماع، توجد هناك رموز مختلفة للإدراك والتعريف ومعالجة المشاكل الاجتماعية.
بشكل عام، غالبا ما نلجأ إلى الأدلة، وإلى تعريف الحالة الاجتماعية باعتبارها مشكلة اجتماعية، خاضعة لمعايير ومبادئ منتقلة من طرف كاتب أو من مجموعة كتاب. حتى ولو كانت النماذج التفسيرية هي الآن الأكثر عددا، فالنقاش حول التفسير الذاتي للحقيقة الموضوعية لا يزال قائما.