الوضعية الإبستمولوجية لمهام المعرفة:
من الأسئلة الكبرى التي ارتبطت بعلم النفس سواء حينما كان خطابه يعتبر جزء من خطاب الفلسفة أو منذ قيامه كمجال معرفي وعلمي مستقل له خطابه النوعي والمميز، السؤال المتعلق بالتفسير Explication([1]). إن علم النفس مثل باقي العلوم له أكثر من غاية ومهمة يسعى إلى القيام بها وإلى تحقيقها([2]). وهذه الغايات والمهام التي يتضمنها المجهود العلمي تتمثل في الفهم والوصف والتفسير والضبط والتنبؤ([3]). إنه تعدد يشمله الهدف العام للعلم([4])، بحيث يفيد إغناء المعرفة والممارسة، كما يفيد بكيفية مباشرة أو غير مباشرة الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان. ومن الواضح أن إحدى المهام الأساسية لعلم النفس تتجلى في القدرة على التفسير العلمي للمظاهر المختلفة التي يتضمنها موضوعه([5])، وما يستتبع ذلك من مصداقية ومشروعية على المستوى المعرفي.
لقد أدى هذا الأمر إلى ربط نظري وإجرائي بين الموضوعي الذي يشكل حقل الاشتغال والمنهج الذي بدوره يشكل أسلوب ووسيلة الاشتغال. وبتعبير آخر، إن تحقيق ارتباط الموضوع بالمنهج يكون من غاياته توفير إمكانية التفسير وإحلال الفهم([6])، وذلك وفق الشروط والمنطق اللذين يقتضيهما الاشتغال العلمي بصفة عامة، وما تتصف به العلوم الطبيعية والتجريبية على وجه الخصوص([7]). وهو ما شكل الإطار النموذج والمرجع بالنسبة للاشتغال بعلم النفس.
وبطبيعة الحال، نظرا لخصوصية وحساسية القضايا التي يثيرها على التوالي الموضوع في تجلياته المختلفة والمنهج من حيث الرصد الكمي والكيفي، وكذلك المحددات المعيارية والأخلاقية في الاشتغال العلمي، طرحت مسالة الموضوعية والذاتية باعتبارها قضية استدعت مساءلات ومطارحات عدة بالنسبة للإطار الإبستمولوجي لعلم النفس، خاصة فيما يتعلق بالتفسير.
وهذه القضية تتم إثارتها بتبرير أن موضوع العلم هو الإنسان والمشتغل بهذا العلم هو أيضا الإنسان([8])، ومن هنا تبرز إشكالية استقلال الذات العارفة عن موضوع المعرفة([9])، وما تحيل عليه فيما يتعلق بالتفسير العلمي للإنسان من حيث العمومية، والتفسير الخاص بالفرد([10]). ولفحص هذه الإشكالية تطورت طرق البحث والتقصي من التأمل والاستبطان إلى طرق الاشتغال الحديثة من أمبريقية واستكشافية، هذه التي سمحت بتوفير إطار منهجي لعلم النفس يلتزم بشروط العلم الموضوعية([11]). لا مندوحة من القول أن الوضعية العلمية لعلم النفس في حقل المعارف بصفة عامة، والعلوم الإنسانية بصفة خاصة، صارت حقيقة ثابتة وواقعا قائما([12]). وعليه فإن علم النفس يبقى أنه علم وعلم إنساني بامتياز مع ما تتضمنه اللفظة من قوة([13]). وقد تحقق هذا الوضع بفعل عدة تفاعلات معرفية وثقافية وفكرية عرفها علم النفس تاريخيا عبر مراحل نشأته وتطوره، وخاصة بصورة مكثفة إلى حد ما خلال القرن 19([14]). ويمكن الإشارة إلى بعض هذه التفاعلات على سبيل الذكر لا الحصر:
ـ نضج شروط طرح الاستقلال بالموضوع والمنهج فيما يخص درس وتناول الظاهرة النفسية.
ـ مناخ فكري وثقافي ساهم في إفراز السؤال السيكولوجي بصيغة تتميز عن الخطاب الفلسفي وعن المنظور الطبي.
ـ حركية في وتيرة المعرفة العلمية بشكل عام وفرت عدة إمكانيات نظرية ومنهجية.
ـ سعى الفكر العلمي إلى الحسم مع الفكر الخرافي والممارسات المتفرعة عنه.
ـ المنحنيات الوضعية والعقلانية والأمبريقية في مقاربة واستقصاء القضايا العقلية والنفسية لدى الإنسان.
وهكذا فإن تاريخ علم النفس يزخر بوقائع وقضايا إشكالية رافقت محطات التأسيس العلمي تمتد من مساعي البحث عن المشروعية إلى المواقف الإبستمولوجية التي استتبعت ذلك([15]). كما أن تاريخ هذا العلم يتضمن ليس فقط تطورات حصلت على المستوى النظري والمنهجي والعملي، بل أيضا على مستوى مفهوم وتصور علم النفس ذاته([16]).
من الوقائع ذات الأهمية كذلك، ما يتمثل في نوع من المد والجزر الذي رافق مسألة قبول علم النفس ضمن نسق وقائمة العلوم. خذ على سبيل المثال موقف الوضعية مع أوغست كونت([17]) والذي له امتدادات إلى اليوم في بعض الطروحات المعرفية والمواقف العلمية.
من الأكيد أن واقع الشروط التي قام عليها علم النفس منذ بداياته وإلى أواسط القرن العشرين، جعل منه المجال المعرفي الأكثر عرضة للجدال فيه من جانب الإبستمولوجيا ومناهج العلوم([18]). بالإضافة إلى جملة من مواقف النقد والاعتراض والمقاومة التي نشطت من خلال مجالات فكرية وعلمية متنوعة. إذن فيما يخص تصنيفات العلوم، فقد كانت لها أهمية خاصة بالنسبة لعلم النفس. ذلك أن هذا الأخير بكونه سعى إلى أن يتأسس كعلم مستقل وإعادة ترتيب علاقاته بالفلسفة وبالعلوم الطبيعية والاجتماعية، فإنه عمل على إبراز كيفية اندماجه في النسق العام للعلوم([19]). وكان هذا الإجراء أحد أهم الخطوات بالنسبة لعلم النفس لكي يثبت ويؤكد هويته العلمية من ناحية، والإطار الذي يعكس مهامه داخل حقل المعرفة من ناحية ثانية. وتبقى على سبيل المثال أعمال جان بياجي خاصة فيما يتعلق بالإحاطة الإبستمولوجية([20])، والاتجاه السلوكي Behaviorisme من جهة فيما يتعلق بالإحاطة المنهجية الإجرائية، كونها رائدة وجد معبرة عن هذا المسعى([21]). وبالتالي فإن أغلب الطروحات الإبستمولوجية تعتبر علم النفس بمثابة جسر أو رابطة بين العلوم الفيزيائية والبيولوجية من جهة، ومن جهة أخرى العلوم الاجتماعية والتاريخية والرمزية.
وهذا الوضع حصل بكيفية مستقلة عن المكانة التي يتم إسنادها إلى علم النفس والمعايير المختلفة المرتبطة به، اعتبارا للمناهج والمواضيع والمفاهيم الأساسية من حيث الاستعمالات لتصنيفه([22]). ثم إن الإلهام الرئيسي الذي اتخذ كأساس فيما يتعلق بإعداد النظريات في علم النفس، كان في النجاح الذي حققته العلوم الأخرى مثل الفيزيولوجيا والبيولوجيا من جهة، ومن جهة أخرى فكرة توحي بأنه يمكن صياغة نظرية عامة للسلوك الإنساني، وذلك فيما إذا تبنى علم النفس المسلمات والمناهج التي تعتمدها هذه العلوم. وعلى أية حال، فمن المعروف اليوم أن علم النفس اختار أن يبرهن على إمكانية وجوده كعلم([23])، وذلك بتواجده وحضوره الفعلي والمكثف سواء على المستوى المعرفي أو على مستوى سوق العلم والفكر، أو على المستوى المؤسسي والمجتمعي.
تجدر الإشارة أيضا إلى أن الإشكال التاريخي الذي برز مع استقلال علم النفس، تمثل في محاولة الجمع بين سيكولوجيا تفسيرية تتوقف مهامها على دراسة السيرورات النفسية والعقلية الأساسية والعمل على تفسيرها من خلال قوانين وأنظمة فيزيولوجية، ثم سيكولوجيا وصفية يتعين مجالها في دراسة الحياة الشعورية ومظاهرها الداخلية والخارجية لدى الإنسان([24]). ومحاولة الجمع هذه بقيت قائمة واتخذت صيغ متعددة، سواء على مستوى التصورات والطروحات النظرية، أو على المستوى المنهجي وأساليب التقصي الإجرائي. وهو المطمح الذي أريد منه أن يكون بمثابة معطى قائم في الاشتغال العلمي أو الممارسة العملية والتطبيقية. بمعنى السعي إلى تحقيق نوع من الوحدة أو التكامل أو التوفيق، وذلك بتبرير أن علم النفس إذا كان يختص بدراسة الإنسان في وحدته وشموليته([25])، فإن المسعى النموذجي يتمثل في مقاربة منفتحة على مختلف الإمكانات والخيارات المتوفرة سواء المنهجية منها أو الإجرائية. إن مطلب التوفيق والجمع هذا تمثل في محاولات قامت بين اتجاهين منهجيين بالأساس ظلا يتجاذبان حقل علم النفس([26])، ويتمحوران حول كيفية تناول الموضوع والتعاطي معه من ناحية، ومن ناحية أخرى في طبيعة الاعتبار الذي يعطي لهذا الموضوع من حيث طابعه الخاص أو العام([27]). وتحقيق هذا المطلب بشكل مباشر طرح صعوبات متنوعة، إلا أنه وبكيفية متبادلة على سبيل الاستعانة والاستفادة والاستئناس أحيانا، كانت هناك إجراءات ولازالت حاضرة في سياق الاشتغال ضمن مجالات متنوعة لعلم النفس([28]). وبالتالي فإن علم النفس يبقى كإطار عام للعلم أو المعرفة السيكولوجية، بحيث يشكل القاعدة والأساس. وذلك فيما يتضمن من تفرعات للموضوع وفي طرق الدراسة والفحص، وكذلك من خلال وجهة البحث أو وجهة التطبيق والممارسة، بالإضافة إلى بعض التنوع القائم في التوجهات النظرية والفكرية التي تتميز في خطابها ومنظورها وخصوصية مقاربتها. هذا ولقد تطور علم النفس منذ بداياته وحتى واقعه الراهن فيما يتعلق بالمعرفة العلمية وأشكال الممارسة والتطبيق التي أتاحها، وأيضا فيما يتعلق بقطاع العلاجات والإرشاد. وهذا التطور حصل انطلاقا من المهام الوظيفية التي تعين عليه القيام بها تبعا لتطور حاجيات الإنسان والمجتمع، وما نتج عن ذلك من إشكاليات تعين على العلوم الإنسانية بحثها والإجابة عليها([29]).
علم النفس وقضايا الموضوع:
إن علم النفس في صيغته العلمية الراهنة يتخذ له كموضوع دراسة سلوك الإنسان. بمعنى ما تعكسه مجموع النشاطات الخارجية والداخلية التي تتم ملاحظاتها بشكل مباشر أو غير مباشر، وكذلك ما يتعلق بالسيرورات العقلية والعاطفية والانفعالية القابلة لتفسير وإعطاء معنى لهذه السلوكات([30]). كما أن مجالات الاشتغال والإشكاليات المطروحة والشروط المنهجية، تحيل إلى كون الإطار العلمي فيما يتعلق بموضوع السلوك يتم تحديده ليس فقط من حيث ما هو ظاهر وقابل للملاحظة، بل أيضا من خلال الأهمية التي يمكن أن يتخذها الجانب البيولوجي أو الجانب الاجتماعي([31]).
إن الوضعية الإبستمولوجية والخصائص المعرفية التي يتسم بها علم النفس، جعلته اليوم يتموقع باعتباره علما إنسانيا على أنه أساسا علم الفرد([32])، أي ذلك المتعلق بالذات من حيث فضائها الداخلي والخارجي. بصيغة أخرى، إنه العلم الذي عليه أن يأخذ بالاعتبار على التوالي القواعد البيولوجية والاجتماعية التي ينبني عليها عمل ودينامية الشخصية.
يظهر من خلال الاشتغال العلمي كما هو مطروح اليوم سواء بالنسبة للأسئلة النظرية أو الإشكالات العلمية، أن نوع القضايا التي يهتم بها علم النفس تعنى بكافة نواحي النشاط والتغيرات التي تحدث على مستوى الفرد، والتي يمكن ملاحظتها بكيفية مباشرة كما هي ظاهرة ومدركة، أو بكيفية غير مباشرة وذلك بملاحظة نتائجها. إذن، فموضوع علم النفس هو السلوك Comportement([33]). خصوصا سلوك الإنسان. ومفهوم السلوك يستخدم للإشارة إلى كل ما يصدر عن الفرد من ردود فعل واستجابات في مواجهة تغيرات وعوامل تؤثر عليه من الخارج (البيئة) أو من الداخل (الذات)، باعتبارها تغيرات لها ارتباط عضوي أو تتصل بالوظائف الحيوية([34]). وبدورها هذه الاستجابات التي تصدر عن الفرد قد يحدث بعضها على مستوى ظاهري، وبعضها الآخر يحدث على شكل تغيرات داخلية لا يمكن أحيانا ملاحظتها وإنما يستدل على وجودها من خلال مظاهر أخرى في سلوك الفرد.
وفق هذا المعنى، فإن علم النفس باعتباره علما إنسانيا يتناول بالدراسة السلوك الذي يعبر عن نشاط متضمن لدينامية داخلية وخارجية تحكم مظاهره وتجلياته([35]). وواضح أن مفهوم السلوك قد شاع استعماله في الأدبيات السيكولوجية كاصطلاح عام للتعبير عن موضوع الدراسة العلمية. بحيث أن هذا الاستعمال يتخذ صبغة تقنية حين اعتماده كاصطلاح إجرائي لتعيين مجال التقصي السيكولوجي([36]). ويبقى أن اصطلاح "سلوك" يتسع ليشمل عمليات مجردة وملموسة في نفس الوقت، كما أنه يتشكل من الأبعاد العضوية والعقلية والنفسية. ومعنى هذا، أن مصطلح سلوك قد تجاوز مفهوم السلوك الظاهر والذي يتحدد في قابليته للملاحظة المباشرة والرصد الإمبريقي، كما كانت تذهب إلى ذلك بعض التصورات الميكانيكية أو السلوكية التقليدية([37]). ما يجدر ذكره أيضا في هذا الجانب، أنه يتم إدراج ضمن مفهوم السلوك مفهوم آخر حاضر الاستخدام بكثرة في علم النفس، وهو "التصرف Conduite"([38]). ذلك أنه من الناحية التقنية والإجرائية لم تعد هناك اليوم إثارة أو إصرار على التمييز بين السلوك والتصرف، حيث أن الاصطلاحين رغم خصوصيتهما اللغوية والتعبيرية، فإنهما يحيلان على الاستجابة الدالة التي يعطيها الإنسان لموقف يكون بدوره له معنى([39]). وبالتالي فإن الأهمية التي يكتسيها المفهوم تتجلى في المحمول أو المضمون الذي يفيد به. وفي هذا السياق فإن مفهوم السلوك بالمعنى الواسع يتضمن كل الحياة النفسية للإنسان، هذه التي تشكل موضوع الدراسة السيكولوجية([40]). إن المعرفة العلمية بالسلوك تتطلب الكشف عن العلاقات الضرورية والممكنة القائمة بين الظواهر المرتبطة والمحركة للسلوك من ناحية، وبين غيرها من العوامل والوقائع الطبيعية المحيطة بهذا السلوك من ناحية أخرى، وذلك من حيث الكشف عما بين الظواهر النفسية والبيئة من تفاعلات. ثم إن المشتغلين بعلم النفس يعتبرون هذا المجال بمثابة معرفة ذات طابع واحدي moniste([41])، بمعنى أنه غير وارد الإقرار بكون الإنسان هو مركب من جوهرين متمايزين: الجسد و"النفس"، ولكن حتى وإن كان هناك اعتبار لازدواجية في تصور الإنسان، فإنه يتبدى في التمييز بين السيرورات الفيزيولوجية أو البيولوجية من جهة، ومن جهة ثانية السيرورات النفسية أو العقلية. بصفة عامة، إن كل تمييز من هذا القبيل أو من نوع آخر يتم اعتماده في التعاطي مع الإنسان كموضوع سيكولوجي، فإنما يكون ذلك بفعل مقتضيات الدراسة والتقصي، أي ما تستدعيه المعرفة العلمية، أو يكون من منطلق الزاوية التي يسعى التفسير والطرح النظري إلى إبرازها.
مظاهر ومستويات التفسير:
إن السيكولوجيا العلمية تتخذ لها المعرفة كهدف (حيث يتعلق الأمر بعلم النفس الأساسي، مجال البحث العلمي بامتياز) أو كوسيلة (يتعلق الأمر بعلم النفس التطبيقي). وهذه المعرفة هي في حد ذاتها تتحدد من خلال ميزتها المتمثلة في إمكان قيامها والتحقق منها([42]). ومن الواضح أن هذا العلم أمكنه التقدم كلما سمحت المناهج بدراسة دينامية السلوك والتصرفات، وكذلك من خلال انتظام مجموع المفاهيم في إطار نظريات وأطروحات، وهو تقدم حاصل ومحقق بفعل انفصال هذه المعرفة العلمية عن شخص العالم أو المشتغل بها على الرغم من أنها تشكل عمله. وهو تقدم أيضا نتج عن تنظيم محكم لشروط الموضوعية Objectivité وترتيب علاقتها بعامل الذاتية Subjectivité([43])، على اعتبار أن سيرورة معرفة الآخرين ليست بمختلفة من حيث المبدأ عن معرفتها الذاتية. بمعنى أنه تأتي بالإمكان إقامة سيكولوجيا علمية تأخذ في اعتبارها ما هو فريد وذاتي لدى الإنسان، مع الوعي بوجود بعض الصعوبة في التوفر على معرفة علمية حول فرد معين، ليس من الناحية النظرية ولكن تبعا لحيثيات عملية. في هذا السياق عين علم النفس حدودا، منها ما هو أساسي وذو صبغة منهجية: بحيث أنه ليس معنيا إلا بالوقائع والتفسيرات التي يمكن التحقق منها. هذا بالإضافة إلى حصول وضعية تفيد أنه من تعاسة عالم النفس، أنه غير واثق إطلاقا من كونه يشتغل في العلم أو أنه يمارس العلم، وإذا اشتغل فيه ومارسه فإنه غير متيقن من أن هذا العلم هو علم النفس([44]).
إن التطور الخاص لعلم النفس طبعه نمو وفير لأساليب التحليل وطرق التفسير([45])، ذلك أنه كمعرفة علمية يسعى بالتحديد إلى إعطاء تفسير منهجي ومنظم للسلوك والقدرات والاستعدادات لدى الإنسان. وبإعطاء تفسيرات من هذا المنطلق، فإن علماء النفس حاولوا تقليديا إظهار أن ما يقوم به الفرد أو ما يفعله يكون محددا بكيفية جد معقدة من خلال مظاهر خاصة لبيئته من جهة، ومن خلال حالات ووقائع وعمليات نفسية من جهة أخرى. ثم إن الباحث في علم النفس لا يباشر الواقع العيني ويواجهه إلا انطلاقا من وقائع محددة ودقيقة، بحيث يجعلها في علاقة الواحدة مع الأخرى. وغالبا أن هذا الباحث لا يباشر بالصدفة التحقق من وجود هذه العلاقة المتكررة أو تلك. وفعل ذلك يتم في إطار مسعى تفسيري، تبعا للأسئلة التي طرحت خلال المراحل السابقة لهذا المسعى([46]). بالإضافة إلى أن الوصف الذي يتم اعتماده كمادة اشتغال بالنسبة للباحث يتمثل في تسجيل علاقات بين ملاحظات محددة. ولكي تكون هذه الملاحظات قابلة للتحقق يجب أن تكون بشكل من الأشكال قابلة للتكرار، ومعنى هذا أنها يجب أن تتضمن بكيفية أو بأخرى درجة معينة من التعميم([47]). وبما أن الأمر يتعلق بالنسبة للباحث بعمل استكشافي فإنه يعمد إلى استخدام كل الوسائل التي تنسجم وشروط المنهج العلمي، وذلك بحثا عن تفسيرات يطبعها الاستمرار من جهة، والدقة والبيان في نسقها من جهة ثانية. إذن، فإن الباحث يحدد لنفسه غاية تتمثل في وصف وتفسير سلوك وتصرفات الإنسان بكيفية يمكن التحقق منها([48]). من أجل ذلك يكون له الطموح في استعمال أساليب ووسائل قابلة لإرضاء، وبقدر الإمكان، المعايير العامة للمنهج العلمي. وبذلك تكون إمكانية التحقق وكذلك الضبط تميز الأوصاف والتفسيرات لدى الباحث السيكولوجي. من المعروف أن مسألة التفسير لا تنحصر فقط في مهام العلم، بل إنها ارتبطت تاريخيا بالمعرفة البشرية، حيث رافقت الإنسان الحاجة والرغبة في فهم نفسه وفهم البيئة التي يعيش فيها، وذلك من أجل تحقيق تكيف مناسب([49]). ثم إن فهم الإنسان "لنفسيته" وشخصيته شكل الاهتمام الرئيسي لعلم النفس حتى قبل انتقال هذه المعرفة إلى مرحلة العلمية([50]).
هذا إلى جانب ما تعرض له الاعتقادات الشائعة فيما يخص التفسير السيكولوجي، من حيث اعتباره:
ـ تفسير يتحدد فقط في مكاشفة ورصد تلك الدينامية النفسية الداخلية لدى الفرد.
ـ تفسير يتخذ مظهر التحليل والتشخيص، ومن تم فإنه يبقى تفسيرا ذا طابع تأويلي.
ـ تفسير للحالات والإشكاليات المرضية، أي أنه يهدف إلى الإحاطة بالظواهر غير السوية لدى الإنسان، وفحص كل ما يتعلق بالاضطراب النفسي والعقلي، أو الشخصية في عدم سوائها.
إن شيوع مثل هذه الآراء والتصورات، يجد تبريره ومعناه في كونه يرتبط بالنظرة السائدة حول علم النفس، وما يكتنفها من التباسات ومغالطات أحيانا ابتداء من الاسم كعلم للنفس!!([51])، ثم كذلك التداخلات التي أريد لها أن تغذي الغموض من حيث جعل علم النفس محجوزا بين الخطاب الفلسفي والخطاب الطبي.
من المؤكد أن مسألة التفسير في علم النفس تثير استفهامات عدة إلى درجة أنها ترتبط بالأساس الذي يحدد علمية علم النفس. وبقدر ما ارتبطت بالصفة التي تطبع الخطاب العلمي بشكل عام، فإنها تتوقف على المنهج المعتمد من حيث صلاحيته ومصداقيته ومدى انخراطه في سياق العلوم، كما أنها تنبني على خصوصية ونوعية تنفرد بها إلى حد ما. وهذه الوضعية تعكس ما يحيط بمسألة التفسير من شروط وقواعد أكثر مما يثيره الموضوع، مع الوعي بأن مسألة التفسير يطبعها التعقيد واليسر في الوقت نفسه([52]). وفي تفسيرات السلوك، كانت عامية أو علمية، يكون الهدف متمثلا في إبراز العلاقات السببية التي تنتج عنها هذه الواقعة أو ذلك الفعل([53]). يبقى أن هناك نوعا من التقارب والاستفادة المتبادلة بين التفسير العلمي والتفسير العامي حول موضوع السلوك، وذلك فيما يتعلق بالاستدلال والاستنباط رغم أن المنطق الذي يحكمهما يختلف من حيث الأسس والسيرورة، كذلك رغم الاختلاف في الاستراتيجية التي يتبناها كل من التفسيرين. مع ذلك، فإن هناك اعتبارا مفاده أن المعرفة السيكولوجية العلمية تشكل امتدادات إلى حد ما للمعرفة العامية، أي تلك المعرفة التي يتقاسمها الحس المشترك([54]). بعبارة أخرى، إن هناك ارتباطا للمعرفة العلمية بالمعرفة العامية دون أن تحدث معها بالضرورة قطيعة إبستمولوجية، بتبرير أن المعرفة التي يشتغل بها الإنسان تتخذ لها كموضوع الإنسان، وذلك من خلال التجارب والخبرات الحياتية والتي تجد تعبيرها في سياق الحياة العامة، وكذلك بالنسبة للغاية المتوخاة من وراء التفسير والفهم للسلوك، أو المسعى العام المتمثل في فهم الإنسان لذاته.
من المسلمات التي أصبحت بديهية في علم النفس، أن السلوك يقبل التفسير، بمعنى أن له أسبابا وشروطا يمكن تبيانها وتحديدها([55]). وما يميز التفسير العلمي هو اعتماده لقواعد وأصول يمليها المنهج العلمي. هذا إلى جانب خطوات منطقية من حيث المساءلة والاستدلال والفهم([56]). كما أنه من المتعارف عليه أن هناك وفقا للمنظور المنهجي في علم النفس علاقات التلازم في التغير التي يسعى الباحث إلى الكشف عنها، والبحث عن العلاقات السببية بين المتغيرات([57]). إذ أن السلوك يتأتى تفسيره مثلا تبعا لفئتين من المتغيرات في تفاعل دائم. الفئة الأولى تتعلق بالفرد الذي تتم ملاحظة أو استقراء سلوكه. والفئة الثانية تخص الوضعية أو الظرف الذي يتواجد فيه هذا الفرد حين ملاحظته. إن مسعى من هذا القبيل يقوم اعتباره من كونه يشكل القاعدة المثلى لفهم أفضل للسلوك([58]). ومن الواضح أنه تعود للبحث العلمي مهمة فك الآليات والسيرورات، وفرز العوالم والمتغيرات وفحص العلاقات بين الظواهر، مع العمل على وضع مبادئ نظرية تطمح إلى تبيان السلوك وجعله قابلا للفهم. والحال أن الفهم في هذا السياق يتم بعملية الربط([59])، وذلك من حيث إدراك العلاقات بين الظواهر المراد تفسيرها وبين الأحداث والوقائع التي تلازمها أو تسبقها. إن كلمة تفسير بشكل عام تستعمل لتعيين كل ما يمكن أن يوضح، أي جعله واضحا وبينا لإدراكنا ووعينا، وهو أيضا كل ما يمكن أن ينمي من انطباعنا في الفهم([60]). بحيث أن من بين ما يستهدفه التفسير السيكولوجي للظاهرة النفسية هو تحقيق الفهم، فهم الإنسان للإنسان([61]). ثم إن مطمح التفسير بالنسبة للسيكولوجيا العلمية، يتمثل في الوصول إلى بناء نماذج نظرية مجردة وقابلة للتحقق منها([62]). لأنه من أهم خصائص الدراسة العلمية في هذا المجال، هو ما يتمثل في القابلية للتحقق من القضايا والفروض والنظريات عن طريق التقصي الممنهج والمضبوط. وفق هذا المنحى، فإن مفاهيم مثل "سبب" و"نتيجة" و"واقعة" هذه التي تلتصق بعملية التفسير، تقتضي أن تمثل محمولات لما يدرسه الباحث في علم النفس، حتى تكون تفسيراته لها طابع ما تكتسيه النظريات العلمية([63]). هذا بالإضافة إلى اعتبار وتقدير مسألتين: الموضوعية في المعرفة من جهة، والأهمية الاجتماعية والفكرية لهذه المعرفة من جهة أخرى.
بطبيعة الحال يبقى أن الهدف الأساسي بالنسبة للتفسير العلمي يكمن في إبراز ثوابت وضوابط([64])، بحيث أنه لكي يكون تفسير ما علميا، لا بد من استفائه لمجموعة من الشروط تجعله يشكل نسقا منطقيا يخضع لكل شروط الاستنباط المنطقي([65]). وتجسيد هذا الهدف فيما يتعلق بالظاهرة النفسية أو السلوك عامة، نجد أنه صاحب انتقال وتميز الاشتغال السيكولوجي، وبكيفية خاصة في مجال البحث العلمي الأساسي. أي ضمن ما يفيد به الإطار المحدد لعلم النفس، والمتمثل في الدراسة العلمية للسلوك. بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى تواجد طرق تفسيرية متنوعة([66])، لها قواعدها وضوابطها الخصوصية النظرية أو المنهجية والتي تؤسس من خلالها للمنطق الذي تتصدى به للموضوع. ومن الخيارات التي ينتظم وفقها التفسير، وهي ذات حضور وجد نشطة في حقل علم النفس بشكل عام، أنها تتم تبعا لمستويات تختلف أهميتها باختلاف الإطار المرجعي([67]).
ـ اختزال من خلال تفسير فيزيولوجي للسلوك، اعتبارا لما يفيد الاشتغال الوظيفي والبنيوي المتمركز حول الجهاز العصبي.
ـ اختزال من خلال تفسير نمائي للسلوك، فيما يتعلق بالنشأة والارتقاء والتطور.
ـ اختزال من خلال تفسير اجتماعي للسلوك، من حيث علاقات التأثير والتفاعل الفردية والبيئية.
ـ اختزال من خلال تفسير دينامي للسلوك، من منطلق السيرورة العاطفية والجنسية، وهيمنة قطاع اللاشعور.
ـ اختزال من خلال تفسير معرفي للسلوك، في ما ينبني على العمليات العقلية والإدراكية حسب منطق معالجة المعلومات وتدبير الاستجابات.
من جهة أخرى، يمكن أن يتم تأويل سلوك معين وفق نظرية سيكولوجية، مثلا إن السلوك يمكن تأويله حسب النظرية النفسية الدينامية (فرويد) أو النظرية العاملية (إيزنك) أو النظرية الدافعية (ماسلو) أو نظرية التعلم الشرطي (سكينر) أو نظرية المجال (لوين)…الخ. كما أن مسعى التأويل يبقى أنه يخضع في الغالب إلى التوجه أو الانتماء المحتمل للباحث إلى أحد الاتجاهات أو "المدارس" القائمة في حقل علم النفس([68])، منها على سبيل الذكر الارتباطية أو البيوعصبية أو المعرفية أو التحليل النفسي…الخ. وبطبيعة الحال، فإن مسعى التفسير والتأويل لدى الباحث يقوم تماسكه أيضا فيما يحكمه من خيار منهجي وأسلوب الاشتغال. وهذا الخيار يتحدد من خلال نسقين عامين: النسق التجريبي والنسق العيادي.
الإطار النظري والمنهجي للمقاربة السيكولوجية:
إن الاشتغال بشكل عام في إطار علم النفس يتجلى في استعمال وسائل التحقق الموجودة من أساليب وتقنيات، وأيضا العمل على بناء وسائل جديدة قد تفترضها خصوصية الظاهرة موضوع الدراسة، كما قد تقتضيها شروط نوعية للبحث، وقد يستدعيها الحس الخلاق والابتكاري لدى الباحث حسب متطلبات ظروف ووضعية الدراسة.
بيد أن قوة التفسير العلمي تسند على الإمكانات التي يوفرها ليس فقط فيما يخص فهم الظاهرة ولكن أيضا في التنبؤ. بحيث أنه كلما قام إمكان في التفسير وتحقق، فإن ذلك يفيد النظرية من خلال تعزيزها وجعلها توفر الفهم وتسمح بالتنبؤ([69]).
إن البحث السيكولوجي الأساسي من جهته باعتماده وتبنيه للمنطق التجريبي كمنطق رئيسي وأصلي، يجدّ في تطبيق مسعى فرضي استنباطي([70]). حيث إن إحدى الطرق لتحديد معنى التفسير في المقاربات التجريبية تكمن في توضيح وتبيان مجموعة من الآليات الفرضية التي هي غير ملاحظة في حينها، والتي نفترض أنها مسؤولة عن الظواهر التي تلاحظ أو قابلة للملاحظة. وفي هذا السياق يتجه التفسير والتنبؤ ليكون لهما نفس البنية المنطقية([71])، إلى جانب طابع الارتباط العضوي الذي يجمعهما([72]). وذلك على اعتبار أن التفسير هو إظهار أن ظاهرة معروفة، من حيث أنها موضوع ملاحظة منظمة، يمكن أن تستنبط من القوانين العامة والشروط الخاصة التي نتجت فيها هذه الظاهرة. أما فيها يتعلق بالتنبؤ، فهو يكمن في الانطلاق من نفس القوانين العامة ونفس الشروط حتى يتم استنباط الظاهرة التي ستقع([73]). كما أن وظيفة القانون في هذا الصدد ومن موقع ما يحيل عليه العلم، لها وجهان: التفسير وإمكانية التوقع والتنبؤ([74]).
حسب هذه الاعتبارات التي يتضمنها المسعى التجريبي، يمكن أن نوجز لما يفيد أن ظاهرة ما تجد تفسيرها من خلال ما إذا تم استنباطها من التركيب بين مجموعتين من العوامل([75]):
1 – القوانين العامة التي تحكم الظاهرة التي نسعى لتفسيرها
2 – الشروط الخاصة التي أنتجت هذه الظاهرة.
زد على ذلك أن المبادئ الأساسية التي تشكل قاعدة المنهج التجريبي، من حيث اعتماده كطريقة للمقاربة والبحث في حقل علم النفس([76])، تفيد ما يلي:
ـ حلقة فرضية استنباطية
ـ التمييز بين المقاربة والوصفية والارتباطية، والشبه تجريبية والتجريبية
ـ قابلية الموضوع للتفكيك عبر جدلية التأثير أو السببية
ـ الجوانب العامة لصدق التجربة (الصدق الداخلي والخارجي والنظري)
ـ الإشكالات الرئيسية في تكوين مجموعات البحث التجريبي أو عينة التجريب.
ـ القضايا الأساسية للضبط التجريبي
ـ منطق قياس واختبار الفرضيات
ـ انسجام أدوات وتقنيات التجريب مع شروط الأجرأة Opérationnalisation
ـ أهلية الباحث المجرب وتحكمه العملي في ظروف التجريب
ـ صياغة الظاهرة النفسية موضوع الدراسة في قالب متغيرات Variables
ارتباطا بهذه الجوانب المنهجية ومن الناحية العملية الإجرائية، يسعى الباحث إلى أن يكون هدفه هو الموضوعية وأن يحترم شروطها بأقصى ما يمكن([77])، بمعنى أن يلتزم بالمطابقة بين معطى التجربة من حيث إقامته في نموذج وما يمثله. على أساس أن المعطى التجريبي هو موضوع معالجة اختبارية وإحصائية([78])، خاصة من حيث التكميم، بمعنى جعل هذا المعطى في صيغة كمية، وذلك من غير أن يكون للمجرب ارتباط ذاتي بهذا المعطى.
بينما في المقابل يبقى الباحث في إطار المقاربة العيادية أو الإكلينيكية عمله متوقفا على فرصة لاحقة للبرهنة على صحة تصوراته. وكما هو قائم في حقل علم النفس، فإن الاختلاف المنهجي بين الفعل التجريبي والفعل الإكلينيكي يتحدد ليس فقط من خلال طريقة المقاربة، ولكن أيضا وأساسا من خلال أسلوب تفسير وتأويل الوقائع النفسية([79]). إن المعرفة السيكولوجية المبنية على التجريب والإحصاء اتخذت اتجاها نحو التحليل الذي يهم الظواهر، بينما الاشتغال العيادي يتجه إلى التناول الشمولي للفرد([80]). ويتبدى هذا الفرد في صفة المخاطب، بمعنى أنه يظهر ويتمثل من حيث أنه فرد لا يمكن أن يختزل إلى أي أحد آخر غيره، بل اعتباره في ذاته وفرديته. بينما المشتغل بالتجريب يعتبر هذا الفرد كعنصر ضمن فئة أو أنه وحدة تجد معناها ضمن مجموعة.
إن ما يميز المنهج العيادي هو أنه لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار علاقة خاصة، علاقة تجمع الباحث السيكولوجي (أو الأخصائي النفساني Psychologue) بشخص أو بجماعة من الأشخاص، وحيث تعطى أهمية أساسية لحياة وسيرة الفرد. إنها علاقة فريدة بكونها تخضع للتحليل، وتستدعي نوعا من الانخراط والارتباط من طرف الباحث أو الممارس([81]).
ومن هذا المنطلق بالنسبة للإطار العيادي يتأتى التفسير على مستوى الاشتغال النظري ومرجعية الممارسة والتطبيق، وهو الذي يتخذ مجالا له أساسيات النشاط النفسي ودينامية الشخصية. بطبيعة الحال، فإن لكلا المنهجين، التجريبي والعيادي، قواعده وشروطه التي يتوقف عليها تبنيه واعتماده من ناحية استراتيجية المقاربة، وكذلك فيما يميز أسلوب وأدوات الاشتغال من الناحية الإجرائية. تبقى الإشارة إلى أن البحث العيادي في دراسة السلوك، يتسع ليشمل أيضا السلوك غير السوي([82])، بمعنى أن المنهج العيادي يسمح بالإحاطة النوعية بالظواهر المرضية التي ترتبط بالوظائف النفسية والعقلية لدى الإنسان.
المقاربة العيادية بطبيعتها والخاصية التي تفردها لموضوع الدراسة السيكولوجية، تقودنا إلى استحضار التحليل النفسي Psychanalyse، وذلك لما يجمع بينهما من تماثلات فكرية وعملية([83])، وكذلك بعض أشكال التداخل والتبادل، إلى درجة أنهما عند مستوى بعض القضايا يشتركان في نفس الجنس المعرفي([84]). مع ذلك فإن التحليل النفسي تتخذ أطروحته مصداقية ومشروعية من خلال المشروع (الخطاب والتفسير) الذي يؤسس له([85]). ذلك أن التحليل النفسي كما يتم تحديده، يحيل على طريقة في الاستقصاء تتلخص أساسا في تبيان المعنى اللاشعوري لسلوك شخص معين. وتقوم هذه الطريقة بكيفية رئيسية على التأويل. هذا إلى جانب كون التحليل النفسي طريقة في العلاج النفسي([86]).
إن التحليل النفسي تركز الاشتغال فيه على التأويل Interprétation، بمعنى أن التأويل صار الأسلوب الأساسي للعمل منذ بداية تحديد الاستراتيجية التحليل-نفسية. بحيث أن التأويل هو في صلب منظور وتقنية التحليل النفسي كما تم التأسيس له منذ فرويد([87]). وبالإمكان تعيين التحليل النفسي بالتأويل، أي بكشف المعنى الكامن للمادة العيادية. أما في العلاج فالتأويل هو إعلام للشخص المفحوص، بحيث يرمي إلى جعله يقف على هذا المعنى الكامن والغير ظاهر، وذلك تبعا للقواعد التي تمليها سيرورة العلاج([88]).
في هذا الإطار يجدر التذكير بأن فرويد كان دائما يعلن ويؤكد بأن التحليل النفسي هو بمثابة سيكولوجيا تأخذ في اعتبارها اللاشعور وليس فقط الشعور([89]). وفي نفس السياق غالبا ما ينعت هذا المجال المعرفي بسيكولوجيا اللاشعور([90]). وهو أيضا مجال له إطار اشتغاله الخاص، كما أن له مداه وحدوده المرتبطة بالمستويات النظرية والتطبيقية التي ينتظم وفقها. وبقدر ما أن فرويد لم يكن له ادعاء بأن نظريته يمكنها تفسير أغلب الأفعال الإنسانية، بقدرما كان يعتبر أنها كانت قادرة على تفسير ظواهر لم يكن قد أعطي بعد أي تفسير لها، أو أنها فقط تفسيرات ذات طبيعة فيزيولوجية أو عضوية محضة([91]).
بصفة عامة، إن نشأة التحليل النفسي والسيكولوجيا العلمية ذات المنحى التجريبي تعود تقريبا إلى نفس الفترة، إلا أنهما سيتبعان طريقا مغايرا في تناولهما لسلوك الإنسان، من حيث الخصائص والمميزات التي سيقوم عليها منطقهما، وهو الذي ينجم عن نظريتيهما للإنسان وما تتضمناه من اختلاف جذري([92]). ثم إن منطق الاشتغال بهذا المعنى هو الذي يحكم الإطار المنهجي والإجرائي لدى الباحث والممارس، وذلك فيما يتعلق بالتعاطي مع الظاهرة النفسية. على اعتبار أن منطق المقاربة التجريبية هو منطق العين أساسا، من حيث ما ينطوي عليه من تركيبة من الملاحظات والقياس والمقارنة والتصنيف([93]). والتحليل النفسي (كما هو الشأن بالنسبة للاشتغال العيادي في علم النفس) يبقى أنه منطق الأذن، هذا الذي يتركز في مسعى الإنصات، حيث يسمح باشتغال العواطف والتمثلات وبعض المعطيات الذاتية لدى المحلل أو الممارس([94]).
هكذا يتبدى الاختلاف في الاستراتيجية التي يعتمدها منطق مقاربة الظاهرة النفسية، من خلال مبدإ مفاده أن العين لا بد لها من مسافة تفصلها عن الموضوع وتفترض الانفصال، بينما الأذن باعتبارها أداة تستلزم القرب والاتصال([95]).
بطبيعة الحال، فإن مسألة التفسير معالمها ومقتضياتها بالنسبة لنوعية الخطاب المنتمي لحقل علم النفس، من خلال المنطق الذي ترتبط به، وأيضا اعتبارا للشروط الإبستمولوجية والعملية التي يتم وفقها تقصي السلوك بصفة عامة أو الظاهرة النفسية بصفة خاصة.
لقد تعددت وتنوعت مجالات البحث أو الاشتغال في حقل علم النفس، وذلك بفعل تباين مراكز الاهتمام فيما يخص الأبعاد والعوامل المحددة للسلوك([96]). وهو الأمر الذي عكس تبني أحد المنطقين في الممارسة العلمية الأساسية أو التطبيقية. هذه الوضعية استدعت دعما متبادلا بين المقاربة التجريبية والمقاربة العيادية في اتجاه الدراسة العلمية للسلوك، وذلك كمطمح لتوفير فهم يترجم السلوك في كليته من حيث خصائصه الفردية ومظاهره العامة. ومن تم تتمثل المقاربة العيادية في ميلها إلى الاتصاف بوظيفة التنقيب والتطبيق، على أن المقاربة التجريبية تشكل مرحلة نهائية من التقصي العلمي([97]).
إن تضافر العمل والجهد على هذه الواجهة أملاه الهدف الرامي إلى إرساء قواعد وضوابط لتفسير منظم في سياق النسق العام للمعرفة السيكولوجية. وبالتالي إثبات أن علم النفس يسعى إلى تحقيق وتنظيم تفسير علمي لسلوك الإنسان.
C:\M.A.JABRI\Revue\Parus 21-40 - علم النفس
[1] – Richelle M.(Dir.) L’explication en psychologie, Paris, PUF, 1982.
[2] – Toulmin S., L’explication scientifique, Paris, A.Colin, 1973, p18.
[3] – Matalon, B., Décrire, expliquer, prévoir, Paris, A.Colin, 1988, p102.
[4] – Toulmin, S.Ibidem.
[5] – Sabourin, M., Méthode d’acquisition des connaissances). In Robert, M. Fondements et étapes de la recherche scientifique en psychologie. Montrél, Chelenière et stanké, 1982, p37.
[6]– Renchlin M., Introduction à la recherche en psychologie, Paris, Nathan, 1992, p21.
[7]– Piaget J., (L’explication en psychologie et le parallélisme psycho-physiologique). In Fraisse et Piaget. Traité de psychologie expérimentale, T1, Paris, PUF, 1963, p129.
[8]– مصطفى زيور(تصدير) فرج عبد القادر طه، علم النفس وقضايا العصر، بيروت، دار النهضة العربية، 1986، ص7.
[9] – محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، بيروت، دار الطليعة، 1983، ص89.
[10] – Simiard F., (De l’explication). In Boudon et Lazarsfeld, L’analyse empirique de la cansalité, T2, Paris, Mouton-Lahaye, 1969, p29.
[11] – Sabourin M., op.cit., p32.
[12] – Ashis N., (Vers une politique alternative de la psychologie). Revue internationale des sciences sociales. Vol.35, n°2, 1983, p360.
[13] – Paulus J., Les fondements théoriques et méthodologiques de la psychologie. Bruxelles, Dessart, 1965, p114.
[14] – فلوجل ج.ل.، علم النفس في مائة عام، ترجمة لطفي فطيم، بيروت، دار الطليعة 1978، ص12
[15] – Vidal F., (La place de la psychologie dans l’ordre des sciences). Revue de synthèse, n°3-4, 1994, p327.
[16] – Mengal P., (Pour une histoire de la psychologie). Revue de synthèse, n°3-4, 1988, p 497.
[17] – محمد وقيدي، نفس المرجع، ص24-25.
[18]– Vidal F., op.cit., p349.
[19] – Idem, p328.
[20] – Piaget J., Epistémologie des sciences de l’homme. Paris, Gallimard, 1970.
[21] – Fodor J.A., L’explication en psychologie, Paris, Seghers 1972, p14.
[22] – Vidal F., op.cit, p349.
[23] – Ashis N., op.cit, p362
[24] – Renchlin M., (Psychologie ou psychologies?). Bulletin de psychologie, n°309, 1973-74, p9.
[25] – Idem, p13.
[26]– Renchlin M., (Croisées de chemins), in Fraisse (Dir) Psychologie de demain, Paris, PUF 1982, p25-26.
[27] – Idem, p30.
[28]– Renchlin M., Introduction à la recherche, op.cit., p171.
[29]– مصطفى حجازي، (علم النفس في العالم العربي: من الواقع الراهن إلى المشروعية الوظيفية). في كتاب: علم النفس وقضايا المجتمع المعاصر، منشورات كلية الآداب، الرباط 1993، ص35.
[30] – Sabourin M., op.cit. p31.
[31] – Weil-Barais A., (La psychologie aujourd’hui, l’introuvable unité. Revue Sciences Humaines Hors série n°19, 1997-98, p19.
[32] – Ibidem.
[33] – Sabourin M., idem, 31.
[34]– عبد الستار ابراهيم، الإنسان وعلم النفس، عالم المعرفة، عدد 86، الكويت 1985، ص16.
[35]– Nuttin J., La structure de la personnalité, Paris PUF, 1980, p7.
[36] – Fodor J.A., op.cit, p32.
[37] – Vexliard A., (La psychologie n’est pas la science du comportement). Bulletin de psychologie n°431, 1997, p533.
[38] – Lagache D., L’unité de la psychologie, Paris, PUF, 1988, p57.
[39] – Nuttin J., op.cit, p7.
[40] – Vexliard A., op.cit, p537.
[41] – Fraisse P., (Pour l’unité dans la diversité), in Fraisse (Dir) Psychologie de demain, Paris, PUF, 1982, p12.
[42] – Renchlin M., (Psychologie ou psychologies), op.cit, p6.
[43]– Matalon B., (La psychologie et l’explication des faits sociaux), Revue l’année sociologique n°31, 1981, p149-50.
[44] – Gréco P., Epistémologie de la psychologie, cité in Rossi et al. La méthode expérimentale en psychologie, Paris, Dumod, 1989, p1.
[45] – Renchlin M., op.cit, p7.
[46] – Matalon B., Décrire, Expliquer.. op.cit, p102.
[47] – Idem, p28.
[48]– Renchlin M., Psychologie…, op.cit, p11.
[49] – سالم يفوت، تقديم التفسير والتأويل في العلم، منشورات كلية الآداب الرباط، 1997، ص9.
[50] – Mengal P., op.cit, p486.
[51] – Mengal P., (Naissances de la psychologie : La nature et l’esprit). Revue de synthèse n°3-4, 1994, p355.
[52] – Piaget J., In l’explication dans les sciences. Ouvrage collectif. Paris, Flammarion 1973, p18.
[53]– Fodor J.A., op.cit, p62.
[54] – Matalon B., La psychologie et l’explication…, op.cit, p147.
[55]– عبد الستار ابراهيم، مرجع سابق، ص39-40.
[56]– بناصر البعزاتي، التفسير والواقعية، في التفسير والتأويل في العلم، منشورات كلية الآداب بالرباط 1997، ص89.
[57]– Simiard F., De l’explication, op.cit, p30.
[58] – Fodor J.A., op.cit, p25.
[59] – بناصر البعزاتي، نفس المرجع، ص91.
[60]– Matalon B., Décrire, expliquer…, op.cit, p127.
[61]– طه فرج عبد القادر، مرجع سابق، ص18.
[62] – Renchlin M., Psychologie…, op.cit, p7.
[63] – Fodor J.A., op.cit., p39.
[64] – Nguyen-Xuan A., (modèle de fonctionnement en psychologie : pourquoi faire?) In Ghiglione (Dir). Comprendre l’homme, construire des modèles, Paris CNRS, 1985, p96.
[65]– سالم يفوت، مرجع سابق، ص9.
[66]– Piaget J., In traité de psychologie expérimentale…, op.cit, p129.
[67]– Richelle M., et al (Dir). Introduction à la psychologie scientifique. Bruxelles. Mandaga, 1976, p17.
[68] – Idem, p18.
[69] – Toulmin S., op.cit, p25-27.
[70]– Nguye-Xuan A., op.cit, p104.
[71] – Matalon B., Décrire, …, op.cit., p137.
[72] – بناصر البعزاتي، مرجع سابق، ص118.
[73]– Piaget J., In traité de psychologie… op.cit., p124-25.
[74] – Toulmin S., op.cit., p25.
[75] – Matalon B., Décrire, …, op.cit., p127.
[76] – Rimé B., et al. (L’enseignement de la méthode expérimentale en psychologie). Bulletin de psychologie, n°364, 1983-84, p393-94.
[77]– Renchlin M., Introduction à la recherche… op.cit., p148.
[78] – Idem, p91.
[79] – Lagache D., op.cit., p13.
[80]– Renchlin M., Psychologie… op.cit., p13.
[81]–Fraisse P., (Il y’a trois psychologies), Bulletin de psychologie n°364, 1983-84, p269-70.
[82] – Volkmar C., (Les praticiens et la recherche en psychologie clinique). Bulletin de psychologie n°394, 1989-90, p122.
[83]– Ibidem, p123.
[84] – Clément R., (Le psychologue praticien du psychique). Bulletin de psychologie n°394, 1989-90, p195.
[85] – La planche J., (La psychanalyse : Mythes et théorie). Revue philosophique de la France et de l’étranger n°2, 1997, p207.
[86] – Chiland C., (Demain la psychanalyse… ) In Fraisse (Dir) Psychologie de demain, op.cit, p210.
[87]– Pontalis, et la planche J., Vocabulaire de la psychanalyse. Paris PUF 1988, p207.
[88] – Ibidem, p206.
[89] – Chiland J., op.cit, p212.
[90]– Laplanche J., op.cit, p209.
[91] – Freud S., Introduction à la psychanalyse, Paris, Payot, 1974, p11.
[92] – Nuttin J., op.cit., p9.
[93] – Renchlin M., Introduction à la recherche…op.cit., p17-73.
[94] – Raffy A., (Sur les professions d’écoute). Bulletin de psychologie n°394, 1989--90, p135
[95] – عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، الدار البيضاء، توبقال 1994، ص7.
[96] – Renchlin M., Introduction à la recherche…, op.cit, p222.
[97]– Lagache D., op.cit, p71.