هل خرابنا روحي أم مادي؟
وهل خراب العالم فكرة في أذهاننا أم أنه واقع حقيقي؟
وهل تساءلت يوما عما يجعل الناس يشعرون أنهم أكثر قلقا وتعاسة على الرغم من ازدياد حياتهم يسرا؟
أية قيمة لحياتنا المعاصرة في العالم الثالث ما دمنا نفعل ما يفعل السجناء والعاطلون عن العمل نربي "الأمل"؟مارك مانسون شاب جميل ومفكر أنيق وفيلسوف أمريكي يطرح تساؤلات ذكية وعميقة تمس حياتنا المعاصرة، لذا أنصح الشباب العربي والقراء الكونيين في العالم قاطبة بقراءة ما يكتب من بنات أفكاره الساحرة، لا في كتابه الأول الذي لقي شهرة واسعة "فن اللامبالاة، لعيش حياة تخالف المألوف"، وأيضا كتابه قيد الدراسة والنقد والتحليل "خراب، كتاب عن الأمل" . فماذا سيخبرنا مارك عن الخراب والأمل؟
يبقى الأمل بوابة العربي الأخيرة لمعانقة حياة أرقى من الحياة المنحطة والقاسية التي عاشها ويعيشها الإنسان في العالم الثالث، كما بين عالم المستقبليات "المهدي المنجرة"، فالأمل قد يبزغ بعد ليل بهيم، فبعد الليل البهيم يأتي دائما الفجر في قانون الطبيعة، والخراب وغياب الأمل وروح الانتصار والتفاؤل هو ما يجهض جبين العربي قبل أن يولد، وكأن الكائن العربي يولد ميتا، فأغلبية الكائنات البشرية في العالم الثالث وبلغة الفيلسوف الأمريكي "جون راولز" في نظرية العدالة "فئة أقل حظا من الفئة الأكثر حظا"، من الناحية الاجتماعية والاقتصادية.
من ثمة يكون الأمل مثل نافدة صغيرة ينبعث منها الضوء لبيت عربي كله ظلام ويأس، وإن أول درس يتعلمه الإنسان في الغرب قبل درس الحساب واللغة والدين، هو درس الإنسانية، يولد الكائن الغربي إنسانا بعدما ناضلت من أجله أرواح وأريقت لأجله دماء في الثورة الفرنسية سنة 1789، لا لشيء إلا ليكون إنسانا يمتلك الحق والكرامة ويعيش العدالة الاجتماعية طوال حياته، وتذهب بقاياها من عطاء حتى يتزين قبر كل كائن غربي بالورود، لينبعث الأمل والخير للأجيال الحية بعدما مات فداء لهم إخوانهم في العرق واللغة والدين والإنسانية.
ما الخراب وما الأمل؟
حقيق لنا التساؤل كواجب نقدي، هل يكون الخراب الذي مورس على الإنسان درسا هاما لولادة الأمل؟ وكيف يمكننا الحديث عن الأمل إذا لم يكن هناك ألم وخراب؟
لم تولد حضارة الأمل الغربية دون أن تمر بسنوات من الخراب، ولكم أن تقرأو حرفا حرفا "بؤساء" فيكتور هيجو، الذي عرى عن مامر منه الغرب من خراب وتخلف قبل أن يصنع حضارته وسعادته بتعاسة العالم الثالث والإنسان في العالم العربي وإفريقيا، ومن ثمة يتخذ مارك مانسون صورا من شخصيات خلدها التاريخ مثل بيلينسكي ليحرك فينا الإيمان بالأمل كطاقة تفتقدها البشرية في عصرنا الراهن، زمن اندثر فيه الإنسان بمفهومه الفلسفي العميق كغاية في ذاته وليس وسيلة فارغة من كل محتوى ومضمون إنساني.
إننا وصلنا إلى عصر أشباه الإنسان، أجساد تتحرك وتهيم في هذا الوجود ((الخراب الآسن)) دون غاية أو هدف، إنه زمن التعري والإباحية، حيث في العالم الثالث يتشرد السواد الأعظم من الكائنات البشرية، الذين قسم الدهر طموحاتهم ودمرهم وعطشهم وأخد منهم ياسمين الأمل، ذلك أننا اليوم ضحايا:" في هذا الزمن العجيب، زمن التغريدات العاصفة التي يطلقها على تويتر أشخاص خاملون لا يكادون يتحركون من أماكنهم، زمن المواد الإباحية التي صارت مستخدمة لزيادة جذب متصفحي الانترنت"[1].
فهذا عصر الأشكال البشرية وتحول الإنسانية إلى البهيمية، عصر استشهاد الإنسانية واندثارها، والقيم الإنسانية التي زأر من أجلها الفلاسفة والشعراء والأنبياء والرسل، بات يتراكم عليها الغبار وصارت نسيا منسيا. إذ ماذا نطلب من أقلام مثقفي العالم الثالث الذين يمطروننا ببضع كلمات في مواقع التواصل الاجتماعي دون التعرض بمقالات وكتابات وابتكارات علمية لتجاوز بهيمية عصرنا الحالي، غاية البحث عن المعنى المفقود في هذا الوجود الذي يترنح نحو العبثية وتسكنه جنون السريالية المبهمة.
هذه هي حقيقتنا وذريعتنا وطوق نجاتنا من حجم مسؤولية عمارة الأرض وخدمة الإنسان، وهو ما عبر عنه مارك مانسون بقوله :"هذه هي حقيقة الحياة التي لا نستطيع مواجهتها...لسنا أكثر من غبار كوني لا أهمية له. لسنا أكثر من غبار يتحرك ويدور على شذرة زرقاء ضئيلة سابحة في الكون. لكننا نتخيل أن لنا أهمية. ونخترع لأنفسنا غاية...نحن لا شيء. إذا، استمتع بقهوتك اللعينة"[2]. إذا ما دامت هذه هي حقيقة وجودنا لماذا لا نخلف أثرا بعد مرورنا بعالم الموجودات الذي دنسته البشرية بممارساتها الشيطانية الخبيثة.
لا ريب أن خراب العالم المعاصر ليس مسألة متعلقة بالعالم الثالث قط، بل حتى العالم الأورو أمريكي اختلطت فيه المفاهيم والقيم وهدمت الثوابت، فعصر ما بعد الحداثة لا قيم ثابثة تسوده، ولا منطق راسخ يحكمه، والمستحيلات والثوابت لم تعد قدرا محتوما، اللهم في أمور غيبية راسخة مع بزوغ مهد الديانات السماوية، وهذا سر سماوي مدفون وسيبقى خالدا في غياهب الغيب وعالم والمثل، فالفيلسوف إدغار موران يتساءل بحرقة عن مآل ومصير عالمنا البئيس، بسؤاله الفلسفي: إلى أين يسير العالم؟ وبعد تأملات فكرية وفلسفية وتحليل للبنى والتوجهات المؤسسة لوجودنا البشري، يعود أدراجه ويجيب بحرقة وشجاعة المثقف والفيلسوف العضوي، بكتاب آخر ويجيب "يسير العالم إلى الهاوية". وهو ما قد يتقاطع مع فكرة مؤلف "خراب، كتاب عن الأمل" مارك مانسون في طرحه العميق هذا.
سؤال مصير البشرية المستقبلي وسير العالم نحو الهاوية، هاوية القيم والفكر والأخلاق والإنسانية عند إدغار موران، كتصور فلسفي فكري لوجود البشرية في عالمنا المعاصر، ليس تصورا نهائيا حاسما مادام يسكنه التأمل الفلسفي، فهو قد يكون منطقيا واقعيا بالقياس إلى خراب عالمنا المجنون التافه، الذي تغيب فيه القناعات الإنسانية العظيمة والأرواح الطاهرة...فهو خراب مزمجر ووجع وضجر يصيب النفوس الطهرانية الملأى بالخير والمفعمة بالفضيلة والنبل.
فليس خراب العالم وهاويته قدرا نهائيا محتوما، والمتأمل لذكاء مؤلف "خراب، كتاب عن الأمل" سيرى بداية المؤلف ب"خراب" ثم كلمة "الأمل" كتتمة للعنوان، ذاك أن كل بدايات تاريخ البشرية خراب آسن ثم يولد أمل جميل يوقظ الأحياء قبل مماتهم. والفيلسوف إدغار موران نفسه بعد إعلانه سير العالم نحو الهاوية، يعود ليكتب عن أمل ما في كتابه "في الجماليات" لما يهرب المفكر والفيلسوف من دنس العالم نحو البحث عن الأمل، وفلسفة حب الجمال والتغني بمحاسنه هي أمل في حد ذاته.
أمل وحلم بشري برؤية "الممكن" بدل "الكائن"، بحيث يقول عنه المترجم يوسف تيبس في مقدمة الكتاب: "أما في هذا الكتاب ((في الجماليات)) فيعرض فيه "إ. موران" ما جمعه من ملاحظات عن الجمال والفن والشعور الجمالي بصفته عالم اجتماع وفيلسوفا مهتما بالجماليات، والتي قدمها على شكل محاضرات (موجودة في اليوتيوب)، فيخبرنا أنه منذ طفولته كيتيم كان يهرب من قسوة العالم بفضل الأعمال الرفيعة لجميع الفنون، كرواية الجريمة والعقاب، أو السمفونية التاسعة لبيتهوفن، أو أشعار بودلير، لأن الأعمال الفنية العظيمة ليست مجرد تسلية، إنها تكشف لنا حقائقنا ومصيرنا وآمالنا، وتزودنا بفهم للوضع الإنساني بجميع حالاته المتضادة، من خلال الأفلام التراجيدية (المآسي) أو الكوميدية (المسرات).[3]
بيلينسكي البطل الأسطوري لا يفقد الأمل.
تعتبر تجربة بيلينيسكي أسطورية خرافية قد لا يصدقها العقل البشري مند الوهلة الأولى، فهي تنتمي على حد تعبير مارك مانسون إلى: "شيء يشبه ما نسميه عادةً في القصص الخيالية والكتب المصورة: بطل يسير منتصب القامة فيدخل بين فكي الجحيم الناريين حتى يواجه واحدا من تجليات الشر الكبرى. فرص النجاح مستحيلة. والأساس المنطقي يدعو إلى الضحك. لكن بطلنا الأسطوري لا يعرف التردد أبداً، ولا يرف له جفن. يقف مرفوع الهامة، ويذبح التنين، ويسحق الغزاة الشياطين، وينقد الكوكب...وقد ينقذ معه أيضاً أميرة أو أميرتين! ولوهلة من الزمن، يكون الأمل موجوداً"[4] .
يعد بيلنسكي نموذجا للأمل في تجلياته المستحيلة، لقد كان واحدا من أبطال الحرب في بولونيا قبل أن يقرر التسلل إلى معسكر أوشفيتز، حيث: "في أول شبابه، تلقى الضابط بيلنسكي أوسمة في الحرب البولونية السوفياتية التي جرت سنة 1918، لقد سدد ركلات عنيفة للشيوعيين حتى قبل أن يعرف أكثر الناس شيئا عن مدى سوئهم. وبعد الحرب.أقام بيلينسكي في الريف البولوني وتزوج معلمة مدرسة، وأنجب طفلين. كان رجلا يستمتع بركوب الخيل وبالقبعات وبتدخين السيجار. كانت حياته حسنة، وبسيطة"[5].
رغد الحياة البولونية وهدوءها وطمأنينتها لم تستمر، ومن درس فلسفة وكنه التاريخ، لن يتجاوز في مجلداته الحرب والصراع الألماني البولوني، وخاصة في عهد الإمبراطور الزعيم النازي "أدولف هثلر" المنظر لفكرة تكاد تبدو مستحيلة لكنها كادت أن تتحقق لولا خيانة الأحباء والأعداء لهثلر من جهة، وجشع وطمع وكبر الطموح الأفلاطوني لهثلر، ولعل هذه النظرية هي "حلم السيطرة على العالم" بحيث: "أتى هثلر. وقبل أن تتمكن بولونيا من التأهب للمواجهة.
كان النازيون قد اجتاحوا أكثر من نصفها. ففدت بولونيا أرضها كلها خلال شهر وبضعة أيام. لكن تلك لم تكن معركة منصفة على الإطلاق: أتى الغزو النازي من الغرب، وأتى الغزو السوفياتي من الشرق. كان ذلك أشبه بأن يجد المرء نفسه مسحوقا بين صخرتين. لكن الصخرة الأولى كانت قاتلا مهووساً أصابه جنون العظمة فأراد أن يغزو العالم كلّه، وكانت الصخرة الثانية حالةً من الإبادة الجماعية المفتقرة إلى أي معنى. لا أزال غير واثق من أي الصخرتين كان هذا ومن أيهما كانت تلك".
أمام هذه الهجمات العاتية، خاض بيلينسكي معركتين ضد كل من الألمان والسوفيات، لكنها آلت إلى الهزيمة، فقرر أن يشكل مع زملائه الضباط البولونيين حركة مقاومة سرّية في وارسو، بحيث كانوا يسمون أنفسهم ب((الجيش البولوني السرّي)).
شيد بيلينسكي ومعه ((الجيش البولوني السري)) صروح الآمال العنيدة، والتي قد تبدو لا منطقية أو سريالية عبثية تهورية، بعدما علموا سنة 1940 أخبارا جهنمية تقول بكون الحقد النازي الألماني وصل إلى حد تشييد سجن ضخم بالناحية الجنوبية من البلاد، كان اسم هذا السجن"أوشفيتز". لعل ترامي هذا الخبر المشئوم إلى رفاق بيلينسكي زاد في حيرتهم وزرع شكوكا قادتهم حتما إلى اعتقاد أن "أوشفيتز" الذي كان سجنا بحجم بلدة صغيرة، المسِؤول الأول والأخير عن حوادث إختفاء آلاف من ضباط الجيش والوطنيين البولونيين البارزين في غرب البلاد وشرقها، كما ساورهم شك أكبر وظنوا أن آلافا من الجنود البولونيين السابقين قد تعرضوا للحبس فيه.
كان تراكم الشكوك والأخبار والتأويلات حول سجن "أوشفيتز"سببا أدى إلى : "تطوع بيلينسكي بأن يتسلل إلى داخل أوشفيتز. كانت تلك مهمة إنقادية : سوف يدعهم يعتقلونه أول الأمر، وبعد أن يصير هناك، سينظم الجنود البولونيين الآخرين، ويقود تمردا في السجن بحيث ينجح الجميع في الخروج منه"[6]. إن ولادة الأمل وإنقاد الشعب البولوني من الحصار النازي الذي لم يرحم كل بولونيي أو بولونية وكانت مطامحه أن يأتي على الأخضر واليابس، بحيث: "كانت تلك مهمة انتحارية تكاد تشبه مطالبة قائده بأن يسمح له بشرب دلو من مادة سامة"[7].
لم يكن أمام قناعة بيلينسكي الآمل إلى تحرير البولونيين وصناعة البطولة والمجد الأسطوري، وأمام الشكوك التي تسربت إلى"الجيش البولوني السري" سوى موافقة قادة بيلينسكي آخر الأمر، بحيث في إحدى الليالي ترك بيلينسكي نفسه تحت إمرة القوات الخاصة النازية عند أحد الحواجز في وارسو، لأنه خرق حظر التجول، ومما شاع عنه أنه أول رجل دخل معسكر اعتقال نازيا بملء إرادته، ويا لها من خطط جهنمية قادت هذا الرجل الحامل لقضية وحلم وطموح كبير، يكاد يكون ضربا من الجنون، الذي لا تقرأ عنه إلى في عالم الأساطير والآلهة القديمة.
يحمل ويتولد بيلينسكي دهاء التاريخ وغباء وعبقرية العلماء، لأنه كان حالما بصناعة شبكة إستخباراتية، رغم أن الواقع الحقيقي لسجن "أوشفيتز" لا يمكن أن يتخيله عقل بشري، ف: العمل اليدوي المفروض على السجناء شديد الإرهاق، يطلقون النار على السجناء إذا تململ السجين في وقفته، كانوا يجعلون الرجال يعملون حتى الموت في أعمال لا فائدة منها، مات الكثير منهم نتيجة الإرهاق الشديد أو الالتهابات الرئوية.
لكن: "على الرغم من هذا، لم تأت نهاية عام 1940 إلا وكان بيلينسكي (ذلك البطل الخارق العجيب الآتي من كتب القصص المصورة) قد تمكن من إقامة شبكة تجسس داخل المعسكر". ((أوه، يا بيلينسكي...أنت، أيها العملاق، أيها البطل، يا من يطير فوق هاوية الجحيم !...كيف تمكنت من خلق شبكة استخباراتية ترسل المعلومات إلى الخارج عبر رسائل مخبأة في سلال ملابس الغسيل؟ كيف تمكنت من صنع جهاز لا سلكي مستخدما عناصر من أجهزة مختلفة من بطاريات مسروقة مثلما يفعل بطل مسلسل بوليسي، ثم أرسلت من خلاله إلى الجيش البولوني السري في وارسو خططا لمهاجمة معسكر السجن؟...ما الذي فعله هذا العالم حتى يستحق شخصا مثلك؟[8]
قاد طموح بيلنسكي إلى تشييد وحدة مقاومة كاملة داخل معسكر أوشفيتز، كما كان لديه تسلسل قيادي، وضباط، ورتب عسكرية، وشبكة إمداد، وخطوط اتصال مع العالم الخارجي. وذلك على مر سنتين، دون أن يكتشف أمره عناصر القوات الخاصة النازية. بحيث سعى إلى إحداث تمرد شامل داخل المعسكر. لتحرير السجناء والآلاف من مقاتلي حرب العصابات البولونيين المدربين جيدا.
رغم ما قام به بيلينسكي من تضحيات جسام ووصول التقارير إلى العالم الخارجي لم يصدقوا أمره وظنوا أنه يبالغ وأثر على عقليته السجن والخوف من المكوث فيه أبد الآبدين، بحيث أدرك بيلينسكي: "أن خططه الرامية إلى إثارة تمرد في السجن يفضي إلى تحرر السجناء لن تجد طريقها إلى التنفيد: لن يأتي الجيش البولوني السري ! ولن يأتي البريطانيون ولا الأمريكيون ! الاحتمال الأكثر ترجيحا هو أن يأتي السوفيات...وسوف يكون ذلك أسوء. قرر بيلينسكي أن خطورة البقاء في معسكر أوشفيتز قد صارت كبيرة جدا. لقد حان وقت الفرار من أوشفيتز !"[9]
شعور بيلينسكي بمخاطر البقاء في أوشفيتز جعله يتظاهر بالمرض، كما تمكن من دخول مستشفى المعسكر. وتمكن من خداع الأطباء عبر إعطائهم معلومات كاذبة عن مجموعة العمل التي من المفترض أن يعود إليها، وصباحا قام بالفرار بحيث صار الأمر مقتصرا على قطع سلك الهاتف، ثم:"ثم التسلل خارجا عبر الباب الخلفي واستبدال ملابس مدنية بملابس السجن من غير أن يتنبه حرس القوات الخاصة، ثم الجري تحت إطلاق الرصاص صوب النهر الواقع على مسافة ميل واحد. وبعد ذلك، يكون عليه أن يسترشد بالنجوم لكي يعثر على طريق العودة إلى المدينة".[10]
لا شك أن قصصا مثيرة مثل قصة بيلينسكي تزرع فينا حبة الأمل التي هي ذرة صغيرة في وجود مظلم ظلاما دامسا في العالم الثالث، حيث لا أمل أصلا، حتى يتقلص معامل الفقر المدقع والتفاوتات الطبقية الصارخة بين من يمتلك وسائل الإنتاج (الطبقة البورجوازية) ومن يستعمل لأجل الإنتاج كوسيلة (الطبقة البروليتارية الكادحة). على عكس العالم الأورو أمريكي الذي يؤمن بالإنسان كمشروع للمستقبل مفتوح على جميع الاحتمالات والتأويلات والفرضيات[11]. ومن ثم: "إن قصة بيلينسكي، وما يشبهها من قصص، تثير الإلهام في نفوسنا. إتها تمنحنا الأمل. وهي تجعلنا نقول: ((كانت الأمور أشد سوءا بكثير، لكن ذلك الرجل تمكن من تجاوزها كلها. فماذا عني أنا؟ ما الذي كنت أفعله في الآونة الأخيرة؟))...وعندما نبتعد قليلا عن حياتنا المباشرة وننظر نظرة أكثر اتساعا، ندرك أن أبطالا مثل بيلينسكي ينقذون العالم في حين ننصرف عن مشكلاتنا الكبرى ونتذمر من أن مكيف الهواء لا يعمل جيدا."[12]
كان رهان بيلينسكي في الأخير ليس البطولة والشجاعة أو أن يكون بطلا من أبطال القصص المصورة أو شخصية يخلدها التاريخ على مر العصور، بل فلسفة عميقة تعلمنا معنى الإيمان بوجود الأمل وعدم القول بالمستحيلات مادام الإنسان حيا يرزق وشيد حضارة شامخة، ذلك: "أن البطولة ليست مقتصرة على الجرأة والشجاعة أوالمناورة الذكية. فهذه أشياء شائعة وكثيرا ما تستخدم بطرق غير بطولية. لا...يكون الفعل بطوليا عندما يتمتع بالقدرة على اجتراح الأمل حيث لا أمل أبدا. إنه إشعال عود ثقاب لإنارة الظلام. إنه جعلنا نرى إمكانية وجود عالم أفضل...ليس العالم الأفضل الذي نريد أن يوجد، بل عالم أفضل لم نكن نعرف أن من الممكن أن يوجد. إنها الانطلاق من حالة يبدو فيها كل شيء خرابا تاما، والتمكن من جعلها حالة جيدة"[13].
تزخر تجربة بيلينسكي المسكونة بجنوح الخيال بحثا عن بصيص أمل في خراب "أوشفيتز" الذي يفوق العوالم التراجيدية إلى الغرائبية والعجائبية، خاصة إذا طبقنا عليها المنطق العقلاني المفرط في المعقولية والواقعية من جهة، ومن جهة أخرى بالقياس إلى إنسان عصرنا الراهن الفاقد للمعنى والقيم والإرادة النيتشوية، ذلك أنه :"في البطولة محتوى فلسفيا. إن فيها ((لماذا؟)) كبيرة يضعها الأبطال على الطاولة –هدف يكاد يكون مستحيلا، أو إيمان ثابت لا يتزعزع مهما حدث. هذا ما يجعل ثقافتنا اليوم شديدة التلهف إلى بطل: لا لأن الأشياء بالغة السوء بالضرورة، بل لأننا فقدنا تلك الـ((لماذا؟)) الواضحة التي كانت تدفع بالأجيال السابقة قدما"[14].
خلاصة القول إن الأمل تختلف مقاييسه بين العالم الأورو-أمريكي والعالم الثالث، وهو ليس على وازن واحد بين الدول العالمية، فالعالم الثالث مازال يداور في دائرة الارتكاس والمراوحة، وما من سبيل للتقدم والرقي سوى بتشجيع البحث العلمي وترسيخ قيم المعرفة نحو مجتمع المعرفة والابتكار والإبداع. وإن الخراب الذي تعيشه الشعوب العالمية جمعاء، قد يكون خرابا روحيا ناجم عن فراغ روحي معرفي ثقافي، ولا مرية أن درس معاناة الإنسان لخصه الشاعر الفلسطيني محمود درويش، حينما قال:
هنا ، عند مُنْحَدَرات التلال ، أمام الغروب
وفُوَّهَة الوقت ،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ .[15]
[1]- مارك مانسون، خراب، كتاب عن الأمل، ترجمة الحارث النبهان، الطبعة الأولى:2019، ص:17.
2- نفس المرجع، ص: 20.
[3] -E. Morin. Sur L’esthétique. Paris. Robert Laffont. 2016.
4- نفس المرجع، ص:11.
5- نفس المرجع، ص:12.
6- نفس المرجع، ص:13.
7- نفس المرجع، ص:13.
8- نفس المرجع، ص:-15-14.
9- نفس المرجع، ص:16.
10- نفس المرجع، ص:17
11- مقال: فن اللامبالاة، التضحية والألم رهان إنساني، مارك مانسون، الذي نشر في مجلة أنفاس من أجل الثقافة والإنسان، أسامة حمدوش، 21 أيلول.
12- خراب، كتاب عن الأمل، مارك مانسون، ترجمة الحارث النبهان، الطبعة الأولى:2019، ص:17.
13- نفس المرجع، ص:17-18.
14- نفس المرجع، ص:18.
15 محمود درويش، حالة حصار، الطبعة الثانية، ص:9.-