لعل متقدمي الأصوليين لم يفردوا قاعدة "لا اجتهاد مع نص" مبحثا أو بابا خاصا، وإنما اعتبروها داخلة في أبواب الاجتهاد ومتفرعة في بعض قواعده العامة، ولذلك يصعب على الباحث أن يصنف القاعدة هل تدخل في الحقل المعرفي الأصولي، أم في الحقل المعرفي الفقهي، مادام أن كلا من الأصوليين والفقهاء لم يهتموا بها حق الاهتمام، ولذلك لم يتم التكشيف عن مضمرات هذه القاعدة المهمة رغم ذكرها في المصنفات الأصولية خصوصا في باب التعارض والترجيح.
وعلى العموم فإن أكثر من تكلم عن هذه القاعدة قال بعدم تجاوز النص والاجتهاد مع وجوده، بل إن الاجتهاد يتطلب عدم وجود نص في المسألة، لكن السؤال المطروح هنا هو مالذي يقصده الأصوليون بإطلاقهم لفظة النص؟
وهل كل نص يسمى في عرف الأصوليين نصا يمنع معه الاجتهاد؟ ثم ماهو الاجتهاد المقصود عند الأصوليين؟ وماهي مضمرات القاعدة؟
وهنا سوف أسوق بعض تعريفات الأصوليين للنص ليتبين لنا مقصودهم من إطلاق هذا اللفظ:
يعرف صاحب المنخول النص بأنه " اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال، وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه ولا يرد عليه الفحوى المفهوم على القطع"[1]
ويعرفه أيضا في موضع آخر بأنه " هو الذي لا يحتمل التأويل"[2]
ونجد القرافي يفصل في التعريف شيئا ما فيقول:" النص فيه ثلاث اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء العدد، وقيل مادل على معنى قطعا وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق، وقيل: مادل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء"[3]
ومن المتأخرين عرفه الأستاذ علي حسب الله بقوله: " هو اللفظ باعتبار دلالته على المعنى المقصود بالسوق أصالة، دلالة تحتمل التفسير والتأويل مع قبوله للنسخ في عهد الرسالة"[4]
نلاحظ من خلال هذه التعاريف أنهم يطلقون لفظ النص ويريدون به معنيين:
أحدهما: أنه ما لا يحتمل إلا معنى واحد، كألفاظ العدد، وهو قول الجمهور من المتكلمين.
ثانيا: ماكان يحتمل احد معنيين، وهذا يكون الخطاب فيه ذو دلالة مقصودة أصالة، والأخرى تبعا كقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وهو مذهب الفقهاء (الأحناف)
فإذا كنا نعني بالنص ما ذكر في التعاريف السابقة، فإنه - لاشك – مجال للاجتهاد لاحتماله ألفاظا ذات دلالات متعددة، ولايمكن فهمه إلا من طريق العقل. حتى إن بعض الأصوليين ذهب إلى أن العدد ليس دائما يدل على قطعية النص، " وقد يعتقد معتقد في العدد أنه نص في القصر عليه، وهو في الحقيقة ليس بنص في ذلك، بل هو نص في الانتهاء إليه"[5]، فالنص بهذا المعنى يقبل الاعتراض من جهة الدلالة، كمخالفة الأحناف للنص في غسل الإناء، فإنه تقرر عندهم أن الغسل ثلاثا يجزء، وهذا في ظاهره مخالف للحديث الآمر بالغسل سبعا، فيكون الظاهر من الحديث أن الغسل لا يجزء بأقل من سبع مرات، لكن الذي فهمه الأحناف أن التقييد بالسبع إنما هو لتحصيل إزالة النجاسة، وقد تزول بأقل من السبع، فيكون حصر الحديث للعدد في السبع كأقصى ما يمكن الوصل إليه من عدد الغسلات التي تحصل بها إزالة النجاسة.
" وهذا كقوله ﷺ (( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم)) ، فإن ذلك لا يدل نصا على منع الزيادة على الخمس بل ولا بمنطوقه، وإنما يدل بمفهومه، وللعدد مفهوم."[6]
والذي يفهم من كلام التلمساني، أن حصر الفواسق في الخمس غير مقطوع به، بل يمكن تجاوزه إلى أكثر من ذلك من طريق القياس، وهذا شبيه أيضا بحديث الأصناف الربوية، فإن الحديث قد حصر الربا في تلك الأصناف الستة المذكورة، وهذا لا يعني أن مادون هذه الأصناف ليس فيه ربا. ولذلك تم القياس عليها، وأدخل فيها كل ما شاركها في العلة كما هو معلوم ومقرر في المدونات الفقهية، وهذا يزيل عن النص القطعية مما يضعف القول بمبدأ "لا اجتهاد مع نص".
هذا إذا اعتبرنا أن النص محصور في هذه المعاني لا يتجاوزها. ومن جهة أخرى فإن مفهوم الاجتهاد هو الآخر متلبس بمجموعة من الالتباسات التي تجعله غامضا بعض الشيء، هذا يدفعنا للوقوف أيضا مع هذا المصطلح الأصولي وماهيته.
لقد عرف مفهوم الاجتهاد تطورا كبيرا مذ بدايته إلى اليوم، حيث أن الاجتهاد عند الشافعي لايعدو أن يدل على القياس فقط، ولا يتجاوزه، وهو القائل: " وإذا لم يكن فيه بعينه [أي النص]طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد، والاجتهاد القياس"[7]، ويقول أيضا: " وعلم اجتهاد بقياس، علم طلب إصابة الحق"[8]
وهذا معناه أن الاجتهاد عند الشافعي منحصر في القياس دون غيره، وحتى إذا تعدى القياس عند غيره، فإنه لا يتعداه إلا للقياس الخفي ( الاستحسان)، أو المصلحة المرسلة...، " ولم يكن دالا على بذل الجهد لاستنباط الأحكام من النص وفي ذاته"[9]، وهذا المعنى لا نكاد نجده إلا بعد تطور هذا المفهوم عند الأصوليين، كما هو عند المالكية، إذ نجد الغرناطي يعرف الاجتهاد بأنه "استفراغ الوسع في النظر في الأحكام الشرعية."[10]
ورغم ذلك فإن هذا المصطلح بقي يحفه شيء من الغموض، إذ أن استفراغ الوسع في النظر في الأحكام، يحتمل أن تكون هذه الأحكام منصوصة في الأدلة النقلية (الكتاب والسنة) ، أو متوصل إليها من طريق العقل( القياس...إلخ)، فإن كانوا يقصدون باستفراغ الوسع في طلب الحكم، كل الأحكام حتى تلك التي جاءت منصوصة، فهذا توسع في الاجتهاد يضرب بقاعدة " لا اجتهاد مع نص" على ما تقدم من الكلام حول الخلاف في معنى النص.
وإن كانوا يقصدون الاجتهاد من طريق العقل إما قياسا، أو استحسانا...إلخ، فهذا أيضا يمكن مناقشته، لأن فهم النصوص لا يتم إلا من طريق العقل، وبالتالي من طريق الاجتهاد. وهو معنى قولهم " بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط"[11]
والاستنباط معلوم أنه يكون بالنظر في ماتحمله النصوص من دلالات، كقوله تعالى:﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٣٨ ﴾[المائدة الآية 38]
فإن الآية، وإن كانت دليلا قطعيا على وجوب قطع يد السارق، فإنها رغم ذلك يتخللها نوع من الظن والاحتمال، فإنه قد يسأل الفقيه عن معنى القطع، وموضعه، وعن معنى السرقة في حد ذاته، وأنت خبير بأن الفقهاء اختلفوا في معنى السرقة الموجبة للقطع وشروطها بين مطلق في اللفظ ومقيد تحرزا واحتياطا. كل ذلك يدعونا إلى إعادة النظر في هذه القاعدة وما تضمره من معاني هي أبعد مما نعتقد.
فإما أن نقول بأن الاجتهاد؛ المقصود منه فهم النص نفسه، وهذا في حد ذاته خلاف للقاعدة، إذ سنكون قد وقعنا في الاجتهاد مع وجود النص، بل في النص. وإما ان نقول بأن الاجتهاد هو البحث عن الحكم خارج النص، وهذا لا يعدو أن يكون إما مع وجود النص أو عدمه، فإن كان مع وجوده، فإما أن يكون الحكم موافقا لعموم النص، أو مخالفا له، فإن كان مخالفا، فهذا مردود على صاحبه، لأنه سيكون بذلك قد خالف أصلا معتبرا من أصول التشريع النقلية، بل والمتواترة.
ولا ننسى أيضا أن النص عند الأصوليين يحتمل النسخ، ولذلك فإنهم حين يتكلمون عن حكم العمل بالنص، فإنهم يحكمون بوجوب العمل به حتى يقوم دليل على تفسيره أو تأويله، أو نسخه.[12]
فيكون مجال العمل بالاجتهاد أوسع مع عدم وجود النص، وإلا فإن الاجتهاد يكون أيضا مع وجود النص،" فإذا كان النص ظني الثبوت كان موضع بحث المجتهد فيه سنده، ومدى صلاحيته لإثبات الحكم، وإذا كان ظني الدلالة كان البحث في تفسيره أو تأويله، وفي قوة دلالته...إلخ"[13]
والأبعد من ذلك كله أن الاجتهاد لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه للبحث في مقاصد الخطاب الشرعي والنظر في أبعاده والمراد منه ...إلخ، ما يجعل القول بقاعدة "لا اجتهاد مع نص" هذه المرة يضعف وبشكل كبير، أو يضيق مجال تطبيقها في الشريعة، خصوصا وأن هناك من يستدل باجتهادات النبي ﷺ مع إمكانية وجود النص.
ولا يغيب عنا أيضا أن القاعدة هذه ، تخفي وراءها شيئا آخر قد يتعارض وموقف بعض الفقهاء، وهو تناهي النصوص، " فالقاعدة بإطلاق مفهومها المخالف تثبت محدودية النصوص الشرعية، وهي دعوى تناقض موقف بعض الفقهاء، وأخص هنا بالذكر موقف الفقيه الظاهري الذي دافع بإلحاح على كمال الشريعة، متخذا بذلك موقفا شكليا من الاجتهاد"[14]
خلاصة:
ما يمكن أن نخرج به من هذه الدراسة السريعة لهذه القاعدة، أن النقاش حولها قد أسفر عن رأيين:
الرأي الأول: يرى بأن الاجتهاد يجري مع النص بشكل أفقي، أي على التوازي، ولا يمكن أن نقرأ النص ونفهمه إلا من طريق الاجتهاد، وهؤلاء وسعوا من دائرة الاجتهاد.
الرأي الثاني: يرى بأن الاجتهاد يجري مع النص عموديا، أي على التوالي،فإنه لا يمكن أن ننتقل إلى الاجتهاد إلا عند انعدام النص،وهؤلاء ضيقوا دائرة الاجتهاد ليبقى حبيس القياس وما جرى مجراه كالاستحسان ..إلخ
وعلى العموم، فإن القول بعدم الاجتهاد مع وجود النص يبقى قولا محل نظر واحتمال، ذلك لما يحتمله معنى النص من دلالات، وكذا لما يحمله معنى الاجتهاد من دلالات هو الآخر، ولايمكن الحسم والقطع بصحة القاعدة إلا إذا حُسم الخلاف في معاني النص والاجتهاد.
بيبليوغرافيا البحث
- أبو حامد الغزالي
المنخول من تعليقات الأصول/المكتبة العصرية/ ط.الأولى 2008/ بيروت-لبنان
المستصفى من علم الأصول/اعتنى به طه الشيخ/ المكتبة التوفيقية/ القاهرة- مصر
- أبو القاسم ابن جزي الغرناطي
تقريب الوصول إلى علم الأصول/ ت.الدكتور عبد الله محمد الجبوري/دار النفائس/ ط.الثالثة 2019/عمان
- الشريف التلمساني
مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول/دار الرشاد الحديثية/ط.2015/الدار البيضاء- المغرب
- المصطفى الوضيفي
المضمر في قاعدة لا اجتهاد مع نص/ مجلة دعوة الحق – العدد الأخير 1997
- شهاب الدين القرافي
شرح تنقيح الفصول /اعتنى به الدكتور ناجي السويد/ المكتبة العصرية/ط.الأولى 2011/ بيروت
- علي حسب الله
أصول التشريع الإسلامي/ دار المعارف/ ط.الخامسة1976- مصر
- محمد بن ادريس الشافعي المطلبي
الرسالة/ اعتنى به الدكتور ناجي السويد/ المكتبة العصرية /ط.2015/ بيروت
- محمد بن علي الشوكاني
إرشاد الفحول إلى علم الأصول/ ت.أبي مصعب محمد سعيد البدري/ مؤسسة الكتب الثقافية- دار الفكر/ط.السابعة 1997- بيروت – لبنان
- يحيى محمد
الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر/ أفريقيا الشرق/ط.الثالثة 2010/الدار البيضاء- المغرب
المنخول من تعليقات الأصول/ أبو حامد الغزالي / ص -111[1]
المستصفى من علم الأصول /ص -366[2]
شرح تنقيح الفصول/ شهاب الدين القرافي/ ص 39[3]
أصول التشريع الإسلامي/ علي حسب الله/ ص -267[4]
مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول/ الشريف التلمساني / ص -49[5]
الرسالة/ محمد ابن إدريس الشافعي المطلبي/ ص- 192[7]
الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر/ يحيى محمد / ص- 9[9]
تقريب الوصول إلى علم الأصول/ ابن جزي الغرناطي/ ص-141[10]
إرشاد الفحول/ محمد بن علي الشوكاني/ ص-417[11]
ينظر أصول التشريع الإسلامي/ علي حسب الله/ ص267[12]
المضمر في قاعدة لا اجتهاد مع نص/ د.المصطفى الوضيفي/ مجلة دعوة الحق-عدد 1997[14]