تقويم الفكر الديني عند ابن خلدون ـــ د. حبيب مونسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس 1 - تمهيد :‏
ليس من السهل أبداً تعقب ابن خلدون في كتاباته قصد الإمساك على موضوعة من الموضوعات التي عالجها في إطار رؤية معرفية شاملة. ذلك أن ابن خلدون إنما ينهج في مقارباته التحليلية إلى ضرب من الرؤى الكلية التي تجمع الأشتات إلى بعضها بعض قصد تأليف حقيقة معاينة. ومن ثم فالرؤية الحضارية التي باشرها ابن خلدون لم تكن لتكتب فصلاً في التاريخ وآخر في السياسة، وثالثاً في الدين... وإنما الهم في رؤية ابن خلدون أن يأتي كل ذلك في نسق معرفي واحد، يبدأ بالتفكير المجرد لينتهي إلى التسجيل المحايث للتجارب التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية.‏
تلك هي الخاصية التي أردت التوقف عندها في معالجتي للكتابة الدينية عند ابن خلدون، باعتباره شاهداً على العصر. غير أنني ـ وقد أكون بعيداً عن المتعارف عليه في شأن الرجل ومنهجيته ـ أقدم فهماً خاصاً، يتفصد عن قراءة متأنية للمقدمة على وجه الخصوص. ومنه أكون طرفاً في الدلالة التي أرادها لمنهجه وكتاباته. وليس أمامي إلا النص أنقض غزله لأصل إلى الوجه الديني في الطرح الخلدوني للشهادة.‏
2 ـ هندسة المقدمة:‏
إن المتصفح لكتب التاريخ العربي التي صنفت قبل ابن خلدون، يلحظ ظاهرة لا تخطئها العين أبداً... فكل مصنف إنما يبدأ من البداية الأولى، ثم يتدرج من بدء الخليقة إلى أيام الناس زمن التحرير، وكأن الكتابة التاريخية إنما هي من قبيل استحصاد القائم في الذاكرة من أخبار وقصص وروايات، سواء تأسست أخبارها على مصادر يقينية ثبتة، أو كانت مجرد أساطير تتدفأ بها الذاكرة القومية في مجالس السمر والحكايات.‏
غير أن هذه الملاحظة لا يمكن لها أن تنتقص من قيمة المرويات ونصوصها، أو تشكك في مصادرها، لأنها استندت في كثير من رواياتها إلى أحاديث صحيحة... ولكن الشك يقع على الأخبار التي استقاها المؤرخون من مصادر شفاهية تقوم مادتها على الرواية وحسب. كما عمد المؤرخون كذلك إلى نظام السنوات، يروون لكل سنة حوادثها الكبرى التي أثرت في واقع الناس، وحولت وجهة الأحداث من طرف إلى آخر.‏
لم تسعف وفرة المادة التاريخية وتداخل رواياتها المؤرخ ليقف منها موقف المتفحص المتأمل، ولم يمهله طول الكتاب وضخامته ليقف منه موقف الناقد. وربما استلذ المؤرخ توارد الأخبار وتتاليها فاستنام لهدهدتها وغرابتها، وفوَّت على نفسه فرص الاستفاقة لها ومراجعتها..
ومن ثم كانت كتب التاريخ ـ قبل ابن خلدون وبعده ـ خليطاً عجيباً من الأخبار والروايات، يفرض علينا سؤاله المنهجي:‏
ـ هل تعمد المؤرخون الأوائل هذه الطريقة في الجمع لتحصيل المادة فقط؟‏
ـ هل تركوا للأجيال التالية مهمة التفرغ للنقد والتمحيص؟‏
ـ هل شعروا بأن الذاكرة القومية لن تستطيع الاحتفاظ بهذا الكم الهائل من المرويات، فسارعوا إلى تدوينها فيما يشبه الموسوعات الإخبارية التي نسميها كتب تاريخ؟‏
إننا إذا آمنا بجدارة هذا الطرح، وأيقنا قيمته العلمية، توجب علينا أن نبادر بالدرس والتمحيص لكل مؤلف من هذه المؤلفات، فنستخرج منه السنن التي تحكم اجتماع الناس وتداول الممالك والحكومات. وخير دليل لنا في هذه العملية ما صنعه ابن خلدون في مقدمته.‏
لم يشأ ابن خلدون البدء مما جمع المؤرخون قبله، فيعتمد كتاباً من الكتب التي كانت عامرة بالمادة الخبرية، وإنما أدرك أن عليه أن يعيد الصياغة من جديد، وفق منظور لا يبتعد كثيراً عما هو كائن قبله، ولكن ليقع التغيير على طريقة عرض المادة ذاتها، وتجاوز التوالي السنوي، للخلوص إلى الظاهرة من مبتداها إلى منتهاها، كتتبع تاريخ دولة بعينها.‏
هذا التجديد الذي كان مطروقاً قبله، وجد في المقدمة فسحة التنظير التي تتجاوز الظاهرة للخلوص إلى القوانين المتحكمة فيها. بيد أن هذه القوانين لم تسجل في المقدمة على نحو اعتباطي، وإنما سُجلت وفق رؤية في غاية الدقة والوضوح، فقد: "خصص ما يقرب من نصفها الأول لبحوث العالم المادي للإنسان من حضارة واجتماع، والنصف الثاني لشؤونه المعنوية. وبذلك كان وفياً للفكر الإسلامي وعنايته المتوازنة بالإنسان: دسمه وروحه، دنياه وآخرته، عيشه وفكره، ضروراته الأولى ثم كمالياته التي لا تحد"(1).‏
لقد انطلقت الرؤية المعرفية التي كتبت المقدمة من إدراك نوعي للتصور الإسلامي للإنسان الذي يؤطره الدين في سيره نحو تحقيق الحضارة وتمكين العمران. ذلك الاصطلاح الأثير ند ابن خلدون، والذي جعل منه مقوِّماً فكرياً تنتهي إليه حركة الحياة في سيرها نحو الآخرة. وابن خلدون إذ يقر بهذه الحركة الكونية للإنسان، فإنه: "صريح في هذه النقطة، لأنه يعتبر الآخر هدفاً لحياة الإنسان المسلم، ويعتبر الدنيا مطية يصل بها إلى هذا الهدف. ولكن يعتبر أيضاً أن (من فقد المطية فقد الوصول)"(2).‏
إن تلازم المطية والهدف في رؤية واحدة يجعل الديني مندرجاً في الحياتي اندراجاً كلياً يصعب الفصل بينهما. بل إن عملية الفصل ذاتها متعذرة لعدم وجود فارق بين الدين والحياة في نظر ابن خلدون. فإذا تحدث عن الحياة ومعاشها وعمرانها وحوادثها، فإنه يتحدث عن الدين وشرائعه وأخلاقه. إنها النظرة الشمولية التي كتبت المقدمة بمنطق واحد، يسري على كل قانون استخلصه من الأحداث التي عاينها، والتجارب التي خبرها.‏
3 ـ مفهوم الإنسان:‏
يفرض علينا هذا الضرب من الفهم ضرورة إدراك مفهوم الإنسان عند ابن خلدون، لأننا سندرك سريعاً أننا لسنا أمام إنسان الفلسفة المتصور في الأذهان، البعيد عن التحقق الفعلي في الحياة. بل إننا مع ابن خلدون نعاين الإنسان الصانع لمصيره، الباني لحضارته، الفاعل في حياته قصد الوصول إلى آخرته. ودراسة هذا الكائن في نشأته وقبيلته وعصبيته.. في أشواقه وعبادته، فعل سيتسع حتماً إلى كافة مجالات الحياة، يلونها بلونه الخاص، ويوجهها وجهته الخاصة.‏
إن العبادي، لا ينفصل البتة عن الحياتي، بل حتى الحركات التي لا شأن لها بالعبادي، تتلبس ثوبه قصد التمويه وابتغاء الغلبة والتأثير. وقد ساق ابن خلدون أمثلة كثيرة في المقدمة للتدليل على هذا الوجه من الحقيقة الإنسانية. لأن التاريخ الذي يروي قصة هذا الكائن يتمظهر في وجهين: وجه ظاهره الأحداث والأخبار، ووجه باطنه يكشف عن العلل والأسباب التي تحرك الظاهر وتدفع به إلى العيان.‏
وحين يتحدث ابن خلدون عن وظيفة الدين في الترقي بالإنسان إلى مصاف عليا، لا يجعل مهمة الدين محصورة في: "هداية الإنسان إلى العمل من أجل الحصول على نعيم الآخرة، فهذا النعيم ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد جزاء جراء لما تفعله في هذه الدنيا. إن مهمة الدين الحقيقية هي هداية الإنسان إلى استكمال إنسانيته العقلية بالسيطرة على حيوانيته الغريزية"(3). ومن ثم يكون كشف الأسباب هاد إلى تجلية ذلك النقص في الإنسان وفضحه أمام نفسه. بل إن كثيراً من الدارسين أساء فهم تركيز ابن خلدون على بداوة الإنسان العربي، وعلى عدم تجانسه مع الحاضرة لعدم فهمه للرؤية الشمولية التي تؤطر فهم ابن خلدون للاجتماع في كليته.‏
إن ابن خلدون ينطلق من السلوك الفردي الخاص إلى السلوك الجماعي، وحين يتحدث عن الفرد مطلقاً، فإنما يقدم لنا الصورة التي تكون عليها الجماعة التي ينتمي إليها. وحديثه عن الغرائز الفردية يبسِّط لنا هذا الوعي، حين يرى أن الدين لم: "يذم الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان، فإنه إن زالت منه قوة الغضب فقدَ الانتصار إلى الحق وبطل الجهاد... وكذا ذم الشهوات أيضاً، ليس المراد إبطالها بالكلية، فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه، وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية. وكذا العصبية التي ذمها الشاعر وقال: لن تنفعكم أولادكم، أي حيث تكون العصبية على الباطل كما في الجاهلية، فأما إذا كانت في الحق فأمر مطلوب، وإلا بطلت الشرائع نفسها"(4).‏
إن الإنسان الذي أرادته الفلسفة فكرة وتصوراً مثالياً، يتعالى عن غرائزه ويثور ضدها ساعياً إلى محوها، معتبراً إياها من الرذائل التي تحط من قيمته وتزري بشأنه. أو الأخرى التي لم تجد فيه سوى الحيوان الذي يجتهد بياض نهاره وسواد ليله في إشباع الغرائز إلى حدود التخمة والتلف... إنسان شقي من ناحيتي الإشباع والحرمان. غير أن إنسان ابن خلدون إنسان لا يسعى تدينه أبداً إلى الزج به في سجن الحرمان ولا التطويح به في متاهات الإشباع الفاسد، وإنما الاعتراف بالغريزة والتأكيد على قيمتها إن هي سُدّدت إلى الوجه التي جُبلت عليها فيما حدده الشرع وأباحه.‏
والفهم الذي يقدمه ابن خلدون لهذه المسألة الدقيقة فهم جديد لا نصادفه عند الفقهاء والعلماء من أبناء عصره، وكأننا مع ابن خلدون نقف في نهاية جولة من جولات الحضارة الإسلامية، تستلزم تجديد الرؤية للمسائل التي علق بها كثير من التهويل أو الاستخفاف، شأن الغرائز عند المتصوفة والزهاد والنساك.. أو ما اتُّخِذ ظاهرياً شارة على الزهد والورع.‏
غير أننا لا نخلص إلى الحقيقة بشكل منهجي إلا إذا وقفنا على معنى "الشاهد" الذي يراقب العصر مطلاً على البدايات الأولى للمسيرة الإسلامية. ومن مشاهداته يمكن لنا تبيّن حقيقة رؤيته للإنسان والدين والعمران.‏
4 ـ العصر ومظاهر الانحطاط:‏
يسجل عبد القادر جغلول في بحثه في "الإشكاليات التاريخية في علم الاجتماع السياسي عند ابن خلدون" مسألة غاية في الدلالة على طبيعة العصر الذي وجد فيه ابن خلدون، وعلى التحولات التي تعصف بذلك العصر شرقاً وغرباً، قائلاً: "وعند هذه النقطة (من العصر) يكون ابن خلدون ملاحظاً وممثلاً مميزاً. وعلى هذه الجبهات الثلاث حيث كان مصير الإمبراطورية يدور بصورة ملموسة، كان ابن خلدون في المقدمة:‏
ـ سنة 1363 في مدينة قشتالة أمام ملك مسيحي: بيار لو كريل.‏
ـ في المغرب العربي.‏
ـ سنة 1401 في دمشق، أمام تيمورلنك"(5).‏
إنها جبهات ثلاث تباعد بينها المسافات، فمن شرق الإمبراطورية الإسلامية إلى غربها، تمثيلاً لموقف الهزيمة والتفاوض على الانسحاب وتأمين الذات في غائلة القتل والنهب. وكأن الأمة الإسلامية تتداعى عليها الأكلة من كل جانب وهي سادرة في عصبياتها المقيتة من أجل دويلات لا يتعدى مداها الزمني القرن وبضع من السنين (120سنة). وكأن الداء يدب فيها منذ مبتدى عهدها ليهدمها في الجيل الثالث من أمرائها. وهي عين الحقيقة التي يلحظها الإنسان العادي حين يستعرض على نفسه تاريخ الدويلات، ويشاهد بأم عينه الصراعات والنعرات التي تنخر عود الدولة التي تظلله.‏
إن الوضعية التي انتهت إليها الأمة الإسلامية في عهد ابن خلدون، تتأتى حسب الباحث من جهات مختلفة، وتضافرت عليها أسباب وعلل وأدواء، نسجت الواقع الذي انطلقت منه ملاحظات ابن خلدون فسجلت التدهور في أبشع صوره، واستدعت في المقابل من ذلك ضرورة القيام بشيء لتدارك التراجع والانحطاط. ففي هذا العصر: "شاعت ظاهرة المرابطين، ومقامات الأولياء في الجزائر. وبدل من تطور العلوم، حل مكانها تعليم العلوم السرية: علم الفلك، علم السيمياء.."(6) فالخرافة والدجل يطغيان على المجالس لصرف الناس عن العلوم الشرعية والعقلية إلى ما تُستباح به أموال العامة والخاصة. وصار للظاهر لبوساً وهيئة تمكين في الواقع الساذج الذي يركن إلى الكرامات والخوارق. وابن خلدون ـ مثلما يقول عبد الله شريط ـ(7) ابن ثقافة أمته الدينية والفلسفية، عرض كل ذلك عرضاً أميناً من خلال تقديم الظواهر المختلفة وصفاً وتعليقاً، مرتفعاً عن التحديد والتعيين إلى ضرب من التعميم يصدق معه القانون أخيراً.‏
تلك هي الميزة التي يسجلها عبد القادر جغلول بعد حديثه عن المستوى السياسي، حين يقول: "هذه الإمبراطورية المجزأة تدريجياً، انتقلت من الحالة الهجومية إلى الحالة الدفاعية، وكانت الدول المختلفة التي تكونها منهوكة بتناقضات داخلية. تراجعت الإمبراطورية الإسلامية على ثلاث جبهات:‏
ـ في أسبانيا، كان الغزو "reconquista" يدفع بالممالك الإسلامية بلا شفقة نحو البحر.‏
ـ في شمال إفريقيا لم تستطع هذه الدول أن تفرض بصورة مستمرة سيادتها على القبائل البدوية.‏
ـ في الشرق كان المغول بقيادة تيمورلنك يهددون سورية"(8).‏
ثم يلتفت الباحث إلى عامل آخر يتهدد الإمبراطورية الإسلامية، فيسحب من تحتها بساط الرخاء والسعة الاقتصادية، فيقول: "ومقابل هذا الجمود، كانت الرأسمالية التجارية في كامل نهوضها في أوروبا الغربية... وكان تجار جنوة والبرتغال قد تخلوا عن البحر الأبيض المتوسط وحاولوا أن يصلوا بطريقة مباشرة إلى مناطق إنتاج الذهب عن طريق المحيط الأطلسي"...(9).‏
إن الداخل والخارج لا يبشران بخير، ولا يبعثان على أمل، بل يشيعان في نفس شاهد العصر كثيراً من الريبة والحزن. غير أن الإقرار بالواقع على الهيئة التي وصف البحث، قد يكون لها في نفس أبيه عالمة، مارست السياسة والوساطة الأجنبية، ردود أفعال تتجه إيجاباً نحو البناء وتدارك الخلل، أو على الأقل تسطير الإشارات إلى الأجيال الآتية حتى تستفيد منها في ملكها وسياستها وعمرانها. ومن ثم كان انقطاع ابن خلدون للتأليف.‏
تعبيراً عن هذا الموقف يقول عبد القادر جغبول واصفاً وضعية ابن خلدون: "... لم يجد هذا الوارث الأخير للفكر العقلي ميداناً قائماً يمكن أن يستثمر من خلاله. فالعلوم الوضعية لم تتقدم، والفلسفة تحولت إلى خطابة. هذا الحصار الناتج عن الانحطاط ستكون نتيجته محاولة تأسيس علم جديد. وبالفعل كان ابن خلدون قد أعطى مهمة للفكر العقلي، وهي نقد انحطاط المجتمعات المغربية"(10).‏
5 ـ الدين حياة:‏
حري بنا أولاً أن نذكِّر بأن ابن خلدون لا يفصل بين الحياتي والديني، وكل حديث عن الحياة إنما هو مستمد أولاً وأخيراً من الشرع، وكل حديث عن الشرع إنما يصب حتماً في الحياة. هذه النظرة المترابطة في فكر ابن خلدون هي التي جعلت التمييز بين الكتابة الدينية والكتابة الاجتماعية مثلاً تمييزاً باطلاً، لن يصل إلى شيء أبداً. ومنه كانت قراءة المقدمة مهمة دينية في أساسها، حتى وإن انصرف الذهن فيها إلى ما استحصدته الحضارة الإسلامية في مسيرتها من أخطار، وما علق بها من ثقافات الغير، وما اندس فيها من عادات وأعراف وبدع.‏
بيد أن لمتتبع لفكر الرجل يدرك ـ عبر النصوص ـ أنه يقسم الفكر إلى ثلاثة أقسام، أو هو ينهج فيه بثلاثة شروط:‏
1 ـ أن نجعل من الفكر وسيلتنا التي نهتدي بها إلى تحصيل المعاش والحياة المادية. وهو مجال التطبيق العلمي والاختراع والتكييف.‏
2 ـ أن يكون الفكر منطلقنا في تنظيم التعاون مع أبناء الجنس وذلك بتنظيم الحياة الاجتماعية. وهو مجال سياسة الملك وتسيير شؤون العامة.‏
3 ـ أن يكون الفكر هو سبيلنا للنظر في معبودنا وما جاءت به الرسل من عنده. وهو مجال تنظيم الحياة الروحية والنفسية(11).‏
إن الحياة عند ابن خلدون ـ إذن ـ تقوم على أعمدة ثلاثة: العبادة وتحصيل المعاش، وتنظيم التعاون. فإذا كانت الإشارة في العبادة خالصة لعلاقة الإنسان مع ربه، فإنها في التحصيل والتعاون لا تبتعد كثيراً عن الفعل العبادي في تجاوزه للذات إلى المحيط. ومنه يكون إعمار الحياة تديُّناً في فهم ابن خلدون. لأننا حين نتابع فكرته نقف على وعي خاص قلّما وجدناه عند من سبقه في الكتابة الدينية: تفسيراً وفقهاً... وكلاماً... لأننا نجده يميز بين وجهين للإسلام: وجه أسسته التقوى، ووجه أسسه الخوف من الأحكام. وللوجه الأول يحتج بما وقع للصحابة رضوان الله عليهم من أخذ: "بأحكام الدين والشريعة. لأن الشارع لما أخذ عنه المسلمون دينهم كان وازعهم فيه أنفسهم... يأخذون بأحكام الدين وآدابه الملقاة إليهم، بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان... ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالإحكام الوازعة، رجع الناس إلى خلق الانقياد للأحكام السلطانية. والأحكام الشرعية غير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي. أما الأحكام السلطانية فإن الوازع فيها أجنبي ولابدّ أن تؤثر في ضعف نفوسهم"(12).‏
لقد كان التمييز بين التقوى باعتبارها وازعاً ذاتياً لا يحتاج إلى رقيب خارجي، والخوف في شكل الانصياع الظاهري والانقياد المنافق، من أهم الاكتشافات التي بنى عليها ابن خلدون رؤيته إلى واقع الناس. فلم يجد في الممالك إلا مدارياً ومخاتلاً ومتربصاً ومنافقاً... يتخفى تحت عبارات الولاء الفارغة التي تتغلغل عميقاً في المعاملات فتفسدها أيما إفساد. فإذا أضفنا إلى ذلك حديثه عن العصبية فقد وجدنا السموم التي تسري في شرايين الأمة المنهكة.‏
لقد كانت التقوى المفعل الحقيقي للأخلاق الإسلامية، والباعثة على التحول في المجتمع الإسلامي الناشئ، تنقله من وضعية إلى أخرى، يقول عنها "ويل ديورانت": ما من قانون أخلاقي يمكن أن يقع في النفوس وأن يطاع طاعة تكفل للمجتمع النظام والقوة إلا إذا آمن الناس أنه منزل من عند الله"(13) الحاضر بين عبادة كل حين، المطلعِ على السرائر العالم بأفعال عباده. وكأن وازع التقوى عامل حضاري له من القوة ما يجعله قادراً على: "تحويل الوحوش إلى آدميين، والهمج إلى مواطنين صالحين، والصدور الفارغة إلى قلوب عامرة بالأمل والشجاعة"(14).‏
وفي المقابل يقوم الخوف من الأحكام السلطانية على زرع الخنوع والانقياد المنافق والخضوع الباهت إلى السلطان في حضرته، أو حضرة جهازه القمعي، فإذا غاب هذا وذاك سعت النفوس المريضة في الأرض خراباً إشباعاً لنزواتها المكبوتة، وإرضاء لمضمراتها المختلفة. وكأن الأحكام التي تُسن والتي لا يؤمن بعدالتها العامة من الناس، إنما هي معاول هدم في كيان الدولة، سريعاً ما تنتهي بها إلى الزوال.‏
6 ـ التصوف: الفعل والعقلنة:‏
حين يتحدث ابن خلدون عن التصوف، فإنه يسلك سبيل الواصف الذي يحدد الظاهرة وأحوالها، ويخبر عنها بما تتصف به من مقامات وأحوال. وهو صنيع الشاهد الذي ينفصل عن الظواهر التي يصف فلا يتدخل إلا بعد استكمال الصورة التي يريد أن يرسمها لموضوعه. لذلك وجدنا ابن خلدون يتحدث عن التصوف وعلومه وإدراكاته وروحانياته، غير أننا نلمح في نهاية الصورة موقفاً خاصاً شبيهاً بالذي حددناه مع الدين في ثنائية التقوى والخوف. فهو من التصوف يحدثنا عن ثنائية أخرى، يسميها الاتّصاف والانحراف. وبينهما يكمن تاريخ التصوف الذي بدأ سلوكاً يتّصف به آحاد من الناس إمعاناً في الزهد وإيغالاً في التنسك. فكان التصوّف صفة لازمة لأحوال هؤلاء منذ العهد الأول للإسلام.‏
بيد أن بوادر الانحراف دبّت للتصوف حين التبس بالتفلسف والكلام، واندرج تحت التعدد المذهبي واختلاف الرؤى والأهواء. حينها استقى التصوف كثيراً من مفاهيمه من الفرق والفلاسفة، حين: "قالوا بقول الشيعة في النقباء، حتى أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم، وقفوه على علي رضي الله عنه، في حين أن عليّاً لم يختص من الصحابة بنحلة ولا طريقة ولا لبوس ولا حال. بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة... ولما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها اقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق في الانقياد إلى الشرع وأفردوه بذلك، ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين وافردوا بذلك تشبيهاً بالإمام في الظاهر وأن يكون على وزنه في الباطن وسموه قطباً لمدار المعرفة عليه"(15) وكأن التصوف الأخير إنما "خَبَطَ" خبط عشواء في وحل المفاهيم التي تتداولها الفرق في المجالس والكتابات، شأن الحاطب ليلاً. غير أن المتفحص لنص ابن خلدون يلمح جلياً أن المنظرين للتصوف ومقامات رجاله لا يفعلون ذلك اتفاقاً، وإنما يقومون بتركيب يستجمعون فيه ما انتهت إليه الفرق، وينتحلون له أسماء ومقامات خاصة.‏
يذهب عبد الله شريط إلى أن الذي ينكره ابن خلدون في التصوف: "هو "عقلنة" هذه التجربة التي لا تقبل بطبيعتها أن تتعقلن، لأنها من جنس الوقائع التي لا تدرك بالعقل وبالحس، ولا تقبل أن يقام عليها برهان أو حتى أن يعبر عنها باللغة العادية، وهي عقلنة زاد من خطورتها جهل أصحابها، وانحطاط مستواهم الفكري وقلة بضاعتهم الفلسفية"(16). بيد أنها "عقلنة" غير علمية ما دامت انتقائية تتحيّن الأهواء لتنسج لنفسها من رؤى الفرق أطراً فكرياً خاصة. إنه الوضع الذي مكّن من الانسلاخ من الدين كلياً، واعتناق مذاهب غاية في الكفر والإلحاد.‏
7 ـ الدين دولة:‏
لم يترك ابن خلدون مسألة الدين القائم على التقوى من غير تأكيد قوي، لأن الدولة في وجهها الآخر شكل من الدين، أو هي تمظهر لسلامة التدين. وكأن القياس الفيصل في سلامة التدين هو قيام الدولة القوية العادلة. لذلك يقول: "إذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يحثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تمّ اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك. واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً وتتابع فيهم الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم"(17) فدوام الملك وقوة شوكته مرهونان أساساً بطاعة الله عز وجل وامتثال شريعته. وكأن المسألة الأخلاقية القائمة على أوامر الله عز وجل ونواهيه هي أساس الملك، وكل محاولة لتأسيسه خارج هذه المعادلة موكلة إلى الفشل والزوال، وإن ظهرت لحين من الدهر في أثواب القوة والمنعة، إلا أن أسباب الهدم تفعل فعلها الدسيس في أوصالها.‏
ذلك هو التعليل الذي يشفع به ابن خلدون هذا النص قائلاً: "ولكن انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم فتوحشوا كما كانوا وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا السياسة... وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدولة المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون مآله وغايته إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران"(18).‏
إننا نستطيع أن نستخلص من هذا قانوناً خطير الشأن، مفاده أن نبذ الدين ينتهي إلى النتائج التالية:‏
1 ـ نسيان السياسة وفقدان الملك.‏
2 ـ الرجوع إلى القفر والتوحش.‏
3 ـ تخريب العمران.‏

الهوامش:‏
1 ـ عبد الله شريط. الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون. صك 459. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع؟ ط:2. الجزائر. 1981.‏
2 ـ م.س.ص: 460.‏
3 ـ م.س.ص: 178.‏
4 ـ ابن خلدون. المقدمة: ص: 203. دار القلم. ط5. 1984. بيروت.‏
5 ـ عبد القادر جغلول. الإشكاليات التاريخية في علم الاجتماع السياسي عند ابن خلدون. ص: 23.24. دار الحداثة. ط:3. 1982. بيروت.‏
6 ـ م.س.ص: 22.‏
7 ـ أنظر عبد الله شريط. م. م. س. ص: 83.‏
8 ـ عبد القادر جغلول. م.م.س.س: 22.‏
9 ـ م.س.ص: 23.‏
10 ـ م.س.ص: 24.‏
11 ـ أنظر. عبد الله شريط. م.م.س.ص: 461.‏
12 ـ ابن خلدون. المقدمة: 127.‏
13 ـ ويل ديورانت. قصة الحضارة. ج:13. ص:53. نقلاً عن عبد الله شريط. م.س.ص:465.‏
14 ـ م.س.ص: ج:13. ص: 53.‏
15 ـ ابن خلدون. المقدمة: ص473.‏
16 ـ عبد الله شريط. م.م.س.ص:506.‏
17 ـ ابن خلدون. المقدمة: ص: 152.‏
18 ـ م.س.ص: 152.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟