أبو حيان التوحيدي شخصية فذة قلما نجد لها مثيلا في تاريخ الحضارة الإسلامية ، شخصية يمكن بسهوله وصفها بأنها شخصية عظيمة بكل معاني الكلمة ، ولعل عمق شخصية هذا الأديب هي السبب الذي حذا بكثير من المؤرخين والباحثين قديما وحديثا إلى مقارنته بأدباء ومفكري عصره بل وبسابقـيه ، ولعل هذه المقارنات إن دلت على شيء فإنما تدل على صعوبة تصنيفه ضمن نطاق ضيـق ، وكلنا نعلم صعوبة تصنيف أمثال هؤلاء العباقرة ضمن التصنيفات الضيقة ، فكل من يتعامل مع التوحيدي ولو من خلال مؤلف واحد يدرك بعمق صعوبة تنميطه وتصنيفه إذ إن ما يثير الاهتمام كثيرا في هذا المفكر هو ذلك الإشعاع النادر الذي ينبع منه ، وما يستفزنا هو ذلك الجانب المشع في شخصيته وفكره ، والمقصود بالإشعاع ليس فـقـط ذلك الجانب الموسوعي في ثـقافـته وفكره ، إذ الأمر أكبر من ذلك بكثير ، إضافة إلى أن صفة الموسوعية صفة يشترك فيها كثير من مؤلفي التراث ، إن المقصود بالإشعاع هو ذلك الجانب الذي يجعل من التوحيدي صورة وافـية دقـيقة الملامح لعـصر كامل بكل ما يحمله من تناقـضات وما يحـبل به من غنى ، إنه ، إن صح التعـبير ، صورة صادقة عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري . إن حادثة إحراق التوحيدي لمؤلفاته على سبيل المثال تمثل حدثا تاريخيا أثار انتباه الكثير من المؤرخين ؛ القدماء منهم والمحدثين على حد سواء ، بحيث إن التوحيدي استطاع من خلال هذا الحدث أن يعبر عن أعمق درجات الوعي بحقيقة الوجود الإنساني ، تعبيرا عن رفض عميق وجدري لأن تتحول حياة الإنسان بكل ما تحمله من معنى إلى مجرد جسد يحمل حلية زائفة ، جسد لا روح فيه ، إن التوحيدي يعـلن صراحة وبشكـل لا هوادة فيه عن رفضه لطغيان القيم المادية على حياة الإنسان ، إنه إعلان لرفضه أن تـنقلب القيم والموازين ، فحينما تـنقـلب هذه الموازين ويصير توزيع الخيرات أمرا موكـولا إلى مقاييس الشطارة والظرف والخفة بل والمكر والخداع ، يصرخ أبو حيان بكل قوة ليعلن انسحابه من اللعبة ، لأنه في مثل هذه الظروف يعجز الكرام من الناس عن نيل المكانة اللائقة بقيمتهم وقدرهم ، وتتاح الفرص للأنذال والساقطين ممن يملكون الاستعداد للتضحـية بكرامتهم وكـبريائهم ـ هذا إذا كانوا أصلا يملكون منها شيئا ـ من أجل لقمة عيش أو حظوة عند أمير أو وزير، التوحيدي يرفض وبكل إصرار أن تصير المقاييس البهلوانية " الظرف والخفة والشطارة…" مقاييس للتفاضل بين الناس ، ويعلن أن ما ينبغي أن يتخذ حكما بين البشر يجب أن يكون شيئا آخر غير ذلك : الخلق والعلم والدين والعقل …سمّها ما شئت لكنها قيم الإنسان الحقيقية التي جاءت الأديان السماوية والأرضية لترسيخها وجعلها قاعدة في حياة البشر ، لهذا فلا غرابة أن يعلن التوحيدي وهو المثقف الحر ، عن رفضه بكل قـوة متخذا كـتبه ـ وهي أغلى ما يملك ـ ليعبر عن رفضه ، كتبه التي تمثل آخر ما فضل من معاناة عمر طويل بعد أن فقد الصاحب والولد ، لقد قرر أن يضحي بهذا الولد البار معلنا بشكل مؤلم عن تفاهة الحياة من غير قيم نبيلة يرجع إليها ويحتكم إليها .
ولعل طريقة التوحيدي في تصفية هذا الابن البار تدل على إحساس عميق بالجرح والألم ، إنها تعبير عن مبلغ الشرخ الذي تعرض له عقل أبي حيان وفكره، إن الهزة كانت عنيفة لدرجة أنه لم يجد سوى أن يقتل نفسه رمزيا ليعبر عن عدم رضاه عما يحدث ، إن أكثر ما آلم أبا حيان حسبما صرح به هو أنه استصغر أهل زمانه واستخسر فيهم أن يترك لهم عصارة فكره ، وهم الذين أساءوا إليه بكل ما استطاعوا دون شفقة أو رحمة ، فهل من المعقول بعد هذا أن يجود عليهم بهذه الكنوز التي استقطرها من عرقه بل ومن دمه ؟ إن موقفه موقف وجودي بكل ما تحمله كلمة وجودي من معنى ، لا يهم بعد هذا أن نتساءل هل كان التوحيدي يعلم بأن كتبه قد خرجت من تحت يده وأنه يضمن أنها لن تنقرض من الوجود ، هذا السؤال غير ذي جدوى ما دام فعل الإحراق بحد ذاته ليس سوى تعبير عن الرفض ، الرفض الشديد والقاطع لتفاهة المجتمع وهو يخطو في طريق الماديات . إن ما أحاط بحادثة إحراق التوحيدي لكتبه آلم كثيرا من النفوس ، فـماذا نـقـول نحن في عصر العـولمة ؟ وماذا سيقـول أبو حيان بل ماذا سيكـون موقـفه لو شاهد عصرنا؟!
د .إبراهيم ياسين .
د .إبراهيم ياسين .