''حين ألقوا عليه القبض في جبال المعاضيد بالجزائر، كان مثخناً بالجراح. فقاموا بسلخ جلده وهو حي. ثم حشوا الجلد تِبْناً ووضعوه في قفص مع قِرْدَيْن. وجابوا به المدن التي خرجت معه على سلطة الفاطميين ومنها القيروان والكاف ومدينة باجة وغيرها من مدن البلاد التونسية''. هذا ما يُجمع عليه المؤرخون التونسيون الذين دونوا وقائع ثورة أبي يزيد صاحب الحمار على الدولة الفاطمية. وهم يلحّون على أن الفاطميين أخذوا الناس بالقهر والغلبة والظلم و''من تكلم أو تحرك قُتل، ومُثل به''. ويذهب القاضي عياض في كتابه ''ترتيب المدارك وتقريب المسالك'' إلى أن صاحب الحمار من قبائل زناتة البربرية يعرف بالأعرج صاحب الحمار، كان يلبس جبة صوف قصيرة الكمين، ويركب حماراً، وقومه له على طاعة عظيمة. ''كان أبو يزيد هذا مؤدب صبيان. لكنه تمكن، بما حققه من عظام الأمور، من محو هالة السواد التي كللت بها صورة معلمي الصبيان في الثقافة العربية. منذ الجاحظ تم الجزم بأن معاشرة الصبيان تورث صاحبها الغفلة والسذاجة وانعدام الروية والحيلة. ووصل الأمر بالجاحظ في ''البيان والتبيين'' إلى حد الجزم بأن معلمي الكتاتيب صاروا مضرب مثل في الحمق حتى قالت العامة ''أحمق من معلّم كتّاب''. ونسب الجاحظ إلى ابن شبرمة رأيا أكثر تشنيعا على المعلمين فقال: ''كان ابن شبرمة لا يقبل شهادة المعلمين''. وإلى الرأي نفسه ذهب ابن الجوزي في ''أخبار الحمقى والمغفلين'' فعلل ما سماه حمق المعلمين قائلا: ''ولا نظن السبب في ذلك إلا معاشرة الصبيان''. وهو يذكر أن المأمون سئل، حين كان صبيا، عن حمق المعلمين فقال: ''ما ظنك بمن يجلو عقولنا بأدبه ويصدأ عقله بجهلنا، ويشحذ أذهاننا بفوائده ويكل ذهنه بغيّنا، فلا يزال يعارض بعلمه جهلنا، وبيقظته غفلتنا، حتى نستغرق محمود خصاله، ويستغرق مذموم خصالنا، فإذا برعنا في الاستفادة برع هو في البلادة''.
لا يمكن لشخص ترك في الدنيا دويا مثل أبي يزيد صاحب الحمار أن يدخل دائرة الحمق والغفلة. لقد كان أبويزيد مؤدب صبيان لكنه أحاط صورة معلم الصبيان في تونس والمغرب العربي بأمجاد لا يمكن أن تنسى. فلقد نجح في هز أركان الدولة الفاطمية. ويجمع المؤرخون على أنه نجح في تأليب كل المدن التونسية ومدن الشرق الجزائري على الفاطميين وجيّش قبائل البربر وجاء حتى وصل باب المهدية عاصمة الفاطميين في تونس ممتطيا حماره ودق رمحه على بابها الجنوبي. وحاصرها طيلة أربع سنوات غنم فيها غنائم لا تحصى؛ فتغير حاله، وبدل الحمار ركب جوادا مطهما، وخلع جبة الصوف، وصار يرفل في الثياب الفاخرة؛ فانفضت من حوله بعض قبائل البربر.
ونجح الفاطميون في إخماد ثورته والتمثيل به لكنه تحول في نظر التونسيين والمغاربة إلى رمز ملتبسٍ. فهو الثورة. وهو التجسيد الفعلي لخيبة الثورات.