يـمثـل أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ نموذجا بل مدرسة في الكفاح والجد والعمل المتواصل ، فحياته الطويلة كرسها للعمل الجاد والنضال من أجل تحقيق هدف ، ففي حين نجد الكثير من الناس يبذلون جهـودا جبارة ، في غير هدف ، جهودا قد تعود عليهم بالضرر من حيث كانوا يطلبون المنفعة ، لهذا تمثـل تجـربة الجاحظ مثالا في دقة الهدف ، ثم بعده يأتي الجهد . والآن وبعد قرون من وفاة أبي عثمان ، فمهما بالغنا في تقدير الجهـد الذي قدمه خلال عمره الطويل فإن ما ناله أضعاف أضعاف ما قدمه من جهد ، بل إنه من الصعـب مقارنة ما قدمه الجاحظ بما ناله . فـإذا كان ما أعطاه وقدمه عرق جبين وسهر ليل فإن ما ناله من المجد العريض بعد موته فضلا عن الحظوة لدى الخلفاء والحكام يعوض كل جهد وتعب مهما بلغ قدرهما .
كان الجاحظ قد نذر حياته في سبيل الأدب ، نذرها بطولها وعرضها ، حيث لم يعرف عنه أنه تـزوج أو أنجب ولدا ، وحينما امتهن التجارة في أول عمره فإنه إنما كان يبيع من أجل العلم ، لا قصد الربح المادي السريع . لـم يثن أبا عثمان عن تحقيق هدفه أي شيء ، وما كان ذلك ممكنا خاصة وأنه آلى على نـفـسه ألا يضيع وقته وجهده وحياته في طرق جانبية تضـيع عليه الجهـد ولا توصله إلى شيء ، بقدر ما ستعيقه عن الوصول ، إن أقرب الطرق إلى الهدف ـ كما نعلم ـ الخط المستقيم ، لهذا لم يقبل صاحبنا أن يهين عمرا عزيزا في أشياء لا يجني منها سوى الحسرة والندامة . لقد حالفه الحظ حين وقف على الهدف واستطاع بعد ذلك أن يشق طريقه بكل ثبات وعزم ، إن الطريق التي سلكها أبو عثمان لم تكن إلا لتوصله إلى المجـد والعـظمة . والكثير الكثير قبل أبي حيان وبعده حددوا هدفا وكانت دقة تحديده باهرة لكنهم لم يمدوه بما يكفي من الجهـد والعرق ، إن مرحلة ما بعد الغرس تمثل مرحلة أولية وبداية وليست نهاية كما قد يتوهم البعض .
لدى البعض ينتفي العمل بعد الغرس فتموت الشتلة ويزول كل شيء .
هناك صنف آخر من الناس تجدهم يعطون من الجهد والطاقة ما يمكن أن يوصلهم إلى مبتغاهم لو كانوا حددوه ، أما وأن الأمر موكول إلى الصدفـة فلا وألف لا.
كنت كلما فتحت صفحة من صفحات أبي عثمان التي تفـوق الحصر ، إلا وهالني الأمر ، كيف تأتـّى لشخص قضى شطرا من عمره مصابا بالفالج أن يؤلف هذا العـدد الضخـم من الكتب والمؤلفات حيث شملت جل مناحي المعـرفة في عصره ؟! صحيح أن الجاحظ عاش عمرا طويلا ولم تشغله زوجة ولا ولـد ، لكن الكثير من أبناء جيلنا من الشباب يمتلكون من الوقت الفارغ ما لا يقدر ولا يحصى ، ولم يسبق لأحدهم أن عمل عملا أو تحمل مسؤولية ، فما الذي ينقص هؤلاء ؟
إن أكثرهم جدلا يقول لك : نحن الشباب نعاني من إهمال الآخرين لنا ، لا أحد يهتم بنا ، إننا لـم نجـد من يمد لنا يد المساعدة ، فماذا ينتظر منا ؟
وكنت أسأل نفسي : من الذي مد يد العون للجاحظ ولغير الجاحظ ، أقرأ مثلا عن أبي سليمان السجـستاني المنطقي وعن أبي علي القالي وعن غير هؤلاء من عظماء الحضارة العـربية الإسلامية . كان الواحد منهم يعيش وضعية أقـل ما يمكن أن يقـال عنها إنها أقـرب إلى الموت . فـقـد حكى لنا أبو حيان التوحيدي أن أستاذه السجستاني لم يكن يمتلك ما يدفـع به ثـمن أجـرة غرفـته ببغـداد وهـو أعـظم فـلاسفـة الحضارة الإسلامية في القرن الهجري الرابع بلا منازع ، فكيف لم يحتج هؤلاء بالمبررات والحجج والأعـذار؟! بل إنهم بدل ذلك اجـتهدوا وقـدموا كل ما كانوا يستطيعون دون أن يطلبوا من أحد عونا . وحتى حينما قدموا ما قدموا من العطاء لم يطلبوا مقابلا ولم يسألوا عوضا ، فما أشـد الـفـرق بين العظماء وبين التافهين من الناس ومن غير الناس ! أكيد أن شيئا ما ينقص هؤلاء وكان أولئك يمتلكونه ، وأكـيد أنه الإيمان ، الإيمان بكل شيء نبيل وسام ، الإيمان بـقـيمة الإنسان وبكرامة العمل المفيد للذات والمتعدي نفعه إلى الغير .
فكيف يمكن لمن يقـدّر عمره ويعلم علم اليقين أن حياة المرء لا تقدر بثـمن ، أن يضيعها في سفاسف الأمور؟! وكـيف لمن يدرك أنه بالجد والعمل تتحقق الأهداف وتذل الصعاب ـ كـيف يمكن له ـ أن يتخذ الكسل حرفة أو حتى هواية ؟! إن ما ينقص هؤلاء هو الإيمان بقيمة أنفسهم وبكرامتهم ، لقـد هانت على الكثير منا أنفسهم فأحبوا أن يبيعوها بثمن بخس أو ربما بغير ثمن ، فاستظهروا ـ عن ظهر قلب ـ عبارات من قبيل : نحن ضحايا ، نحن مهملون … الظروف صعبة … يحاولون دون جدوى أن يقنعوا بها أنفسهم حتى لا يطالبهم أحد بالعمل ، يصنعون ذلك وهم أعلم الناس بأن مبرراتهم أوهن من بيت العـنكبوت ، وأتفـه من أن يصدقـها طفل صغير ، فمتى نستفيق من غفوتنا ؟!
إن أكثرهم جدلا يقول لك : نحن الشباب نعاني من إهمال الآخرين لنا ، لا أحد يهتم بنا ، إننا لـم نجـد من يمد لنا يد المساعدة ، فماذا ينتظر منا ؟
وكنت أسأل نفسي : من الذي مد يد العون للجاحظ ولغير الجاحظ ، أقرأ مثلا عن أبي سليمان السجـستاني المنطقي وعن أبي علي القالي وعن غير هؤلاء من عظماء الحضارة العـربية الإسلامية . كان الواحد منهم يعيش وضعية أقـل ما يمكن أن يقـال عنها إنها أقـرب إلى الموت . فـقـد حكى لنا أبو حيان التوحيدي أن أستاذه السجستاني لم يكن يمتلك ما يدفـع به ثـمن أجـرة غرفـته ببغـداد وهـو أعـظم فـلاسفـة الحضارة الإسلامية في القرن الهجري الرابع بلا منازع ، فكيف لم يحتج هؤلاء بالمبررات والحجج والأعـذار؟! بل إنهم بدل ذلك اجـتهدوا وقـدموا كل ما كانوا يستطيعون دون أن يطلبوا من أحد عونا . وحتى حينما قدموا ما قدموا من العطاء لم يطلبوا مقابلا ولم يسألوا عوضا ، فما أشـد الـفـرق بين العظماء وبين التافهين من الناس ومن غير الناس ! أكيد أن شيئا ما ينقص هؤلاء وكان أولئك يمتلكونه ، وأكـيد أنه الإيمان ، الإيمان بكل شيء نبيل وسام ، الإيمان بـقـيمة الإنسان وبكرامة العمل المفيد للذات والمتعدي نفعه إلى الغير .
فكيف يمكن لمن يقـدّر عمره ويعلم علم اليقين أن حياة المرء لا تقدر بثـمن ، أن يضيعها في سفاسف الأمور؟! وكـيف لمن يدرك أنه بالجد والعمل تتحقق الأهداف وتذل الصعاب ـ كـيف يمكن له ـ أن يتخذ الكسل حرفة أو حتى هواية ؟! إن ما ينقص هؤلاء هو الإيمان بقيمة أنفسهم وبكرامتهم ، لقـد هانت على الكثير منا أنفسهم فأحبوا أن يبيعوها بثمن بخس أو ربما بغير ثمن ، فاستظهروا ـ عن ظهر قلب ـ عبارات من قبيل : نحن ضحايا ، نحن مهملون … الظروف صعبة … يحاولون دون جدوى أن يقنعوا بها أنفسهم حتى لا يطالبهم أحد بالعمل ، يصنعون ذلك وهم أعلم الناس بأن مبرراتهم أوهن من بيت العـنكبوت ، وأتفـه من أن يصدقـها طفل صغير ، فمتى نستفيق من غفوتنا ؟!