يفرض الباحث و الفيلسوف التونسي المعاصر أبو يعرب المرزوقي, صاحب أول دكتوراه في الفلسفة تقدم بالعربية في الجامعة التونسية سنة1991 ,نفسه على المشهد الفلسفي و السياسي في تونس .فهو صاحب إنتاج فكري غزير ذو قيمة معرفية عالية,إضافة إلى كونه شغوف بالمجادلات و المناظرات ذات الأهمية في المجالين الفكري و السياسي.وهو الآن أحد أعضاء المجلس الوطني التأسيسي لسنة 2011 الذي وقع انتخابه على إثر ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي المجيدة حيث قدم ترشحة ضمن قائمة تونس العاصمة عن حزب حركة النهضة الإسلامي.
إن اهتمامنا بفكر المرزوقي يعود إلى الأسباب التي ذكرنا ولكن كذلك لأن البعض يعتبره رجعيا و ربما سلفيا أولا حداثيا على الصعيدين الفكري و السياسي,مستندين في ذلك إلى أنه ينتقد بحدة يندر أن نجدها لدى غيره أولئك الذين ينتسبون إلى الحداثة و العلمانية الفرنسيتين مدعين أنهما قيمتين كونيتين ,إضافة إلى كونه يعتبر أن النهضة العربية المأمولة لا يمكن أن تتم إلا بالعودة إلى ابن خلدون مؤسس علم العمران و ابن تيمية الذي يسود الاعتقاد لدى أغلب الدارسين أنه سلفي , في حين أن أبا يعرب يعتبره أحد أقطاب التنوير في الفكر الإسلامي.
الحداثة و التنوير:
التنوير المنشود في تصور المرزوقي يعني خلاف ما ذهب إليه أولئك الذين يسمون أنفسهم حداثيين وعلمانيين على النمط الفرنسي و الأوروبي عموما داعين إلى القطع مع الماضي الذي يعتبرونه سبب تخلفنا, إذ يرى أنه يجب العودة إلى ابن خلدون و ابن تيمية لمواصلة النهج الذي سارا فيه ذلك أنهما دفعا باتجاه تحرير المسلم من الوصاية الدينية و السياسية أو ما يسميه الاستبداد الشرعي( ابن تيمية) و الاستبداد السياسي ( ابن خلدون). و لهذا تراه ينتقد البورقيبية و ما سماه اليسار الانتهازي المتهم بالمشاركة في مشروع "تجفيف الينابيع " في ظل نظام 7 نوفمبر المقبور مع محمد الشرفي الوزير صاحب كتاب صدر له بالفرنسية بعنوان "الإسلام و الحرية:سوء التفاهم التاريخي".فهو ينتقد نظام التعليم البورقيبي لأنه سعى إلى تكريس الفرنكفونية قاطعا مع التعليم الزيتوني كما ينتقد نظام التعليم النوفمبري الذي جعل من الحداثة الأوروبية نموذجا يحتذى من أجل التصدي لما سمي التطرف الإسلامي .و في الحالتين فالتربية و التعليم المدرسيين خلال الفترة التي تلت الاستقلال لم تعملا على توفير شروط الاستقلال الرمزي بعبارة المرزوقي .لهذا يهدف إصلاح التعليم في تصور أبي يعرب إلى القطع مع الاستبداد بوجهيه الشرعي و السياسي للتحرر من التبعية الرمزية إضافة إلى التحرر من التبعية الفعلية في الاقتصاد و السياسة. و هو أمر لا يتحقق بالقطع مع الينابيع بل باستنهاض قوى الأمة أي الجماعة الروحية بما يعنيه ذلك من طلب المعرفة و إنتاجها في المجال الرمزي و تحقيق المواطنة في المجال السياسي. و هكذا فالتنوير لا يكون في نظر المرزوقي مرتبطا بتبني نموذج الحداثة الأوروبية أو غيرها بل بإنشاء نموذج خاص نابع من الثقافة الأم و ليس بالتنكر لها.وفعلا فجل النخب التي تعتبر نفسها حداثية و تقدمية تعتقد أن الحداثة أوروبية أو لا تكون معتبرة أن قيم الحداثة الأوروبية قيما كونية و هي بصفتها كذلك تتعارض مع الثقافة العربية الإسلامية الموروثة عن الماضي, في حين أن أبحاث الفيلسوف المرزوقي قادته إلى أن محاولة التحرر من الاستبداد بوجهيه الشرعي و السياسي موجودة بعد في مشروعي ابن خلدون و ابن تيمية وهو عين التنوير أو الحداثة التي يجب على العرب و المسلمين تحقيقها حتى يملكون زمام إرادتهم و يتخلصوا من التبعية لأصحاب السلطان الديني و السلطان السياسي . هكذا, , يمكن القول إن الحداثة و التنوير المنشودين لا يتعارضان مع الثقافة العربية الإسلامية و لا مع الإسلام كما قد يذهب في ظن النخب "الفرنكوفونية الحداثية" .
إن ما يعيبه المرزوقي على التجارب السابقة في السياسات التعليمية للحداثيين منذ العهد البورقيبي كونها اتخذت من النموذج الفرنسي سندا و نهجا سارت عليه و هو لم يحرر المتعلم من التبعية بل أوجد نخبا حداثية مستلبة تفضل الفرنسية على العربية و الثقافة الأوروبية على الثقافة العربية بل يصل الأمر ببعضهم إلى حد الدفاع بحماسة فياضة على تفوق الثقافية الآرية على الثقافة السامية كما نظر إلى ذلك المستشرق أرنست رينان.
يبدو المرزوقي و هو يشخص أزمة النخب الحداثية كأنه يدافع عن توجه سلفي رجعي. وقد هو أمر سعت النخب التي ينتقدها بشدة ـ مستعملا أحيانا عبارات مهينة ساخرا من تكالبهم على السلطة و انتهازيتهم ـ إلى نشره غير أن القراءة الجدية لإنتاجه الفكري الغزير يبين أن الفيلسوف بصدد البحث عن نموذج للتنوير نابع من الثقافة الأم لا يعادي حرية الإنسان التي هي شرط التكليف القرآني في نظره.
في إمكانية النقد
ما يمكن ملاحظته أن المرزوقي وهو يعمل على تشخيص أزمة النخب الحداثية لا يتجاوز الصعيدين الفكري و الإيديولوجي بصرف النظر عن مدى وجاهة قراءته للتجربة الفكرية العربية التي يعرفها معرفة المختصين الجديين. ذلك أن تمثلات ما يسمون أنفسهم حداثيين في تقديرنا تعبر بوعي أو دون وعي منهم عن ارتباط مصالح طبقة اجتماعية طفيلية بمصالح الرأسمالية العالمية حيث أنها تلعب دور الوسيط أو السمسار بين الاستثمار الأجنبي الساعي إلى تحقيق أقصى ربح ممكن و الطبقة الكادحة التي لا تملك غير قوة عملها. و الأمر يبدو أنه لن يتغير في المستقبل المنظور حيث لا نعثر في برامج النخب المقبلة على الحكم بنهضتها و مؤتمرها و تكتلها و معارضيهم و لو على مجرد إشارة للتحرر من التبعية الاقتصادية لدوائر الرأسمال العالمي ,إذ تبحث عن حلول عاجلة للتنمية بالتشجيع على الاستثمار الأجنبي و توفير مناخ الأمن و الأعمال الملائم له .إن شروط الاستقلال الحقيقي لن تتحقق بتوفير ما يسميه فيلسوفنا شروط الاستقلال الرمزية فقط مهملا العمل على توفير شروط الاستقلال الفعلي.وبناء عليه يبدو أننا لن نشهد من أنواع الحداثات و الأنوار إلا تلك التي تبرر سيادة رأ سالمال العالمي على مقدراتنا البشرية و الطبيعية.إن قيمة الأمم في التاريخ تقاس بمدى قدرتها على إيجاد حلول للمشاكل التي تطرح عليها فأين نحن من كل ذلك.
خالد كلبوسي أستاذ و باحث في الفلسفة من تونس.