" أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالحَا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "
القرآن الكريم ، سورة سبأ،الآية 11.
تعاني علوم القرآن من ضعف في الأساس الهرمينوطيقي الذي تقف عليه جعلها تنتصر تاريخيا للتفسير على حساب التأويل وللنص على حساب الواقع وتضيق دوائر الحكم في ثنائية المنع والاباحة وتتناسى المندوب والمكروه وتحصر انتاج المعنى في آلية قياسية تعمل على رد الفروع الجزئية الى الأصول الكلية. على هذا النحو يمثل الاستنجاد بالمنهجية السردية جرعة تجديدية تمنح لها الكفاءة التأويلية الناقصة وتساعدها على التخلص من العراقيل التفسيرية والأخطاء الابستيمولوجية التي وقعت فيها.
لو طبقنا الآن المقاربة الفلسفية السردية على الإسلام بشكل عام وعلى القرآن بشكل خاص وجعلنا من التقاطع بين الحدث والسرد نبراسا هاديا لفهم الدائرة الروحية للمعتقد الديني فإننا نطرح الاشكال الهرمينوطيقي المستعصي التالي: هل القرآن هو مجرد سرد لوقائع كونية وأحداث تاريخية أم هو أحسن القصص والبيان الاعجازي ؟
والحق أن لقاء الحدث بالسرد على أرضية اللسان العربي وضمن مسطح المحايثة الذي تحركت فوقه فلسفة القرآن أفقيا رسم خطوط التقاطع بين الواقع والقصص دفعا لمعنى اليافع وصغير السن وقليل التجربة التي تفيض بها العبارة العربية ومطالبة بالتخلي عن أساطير الأولين واعتماد الحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن. علاوة على أن الوحي حدث ليس من جهة قوة الدليل وثبات الحجة ومتانة البرهان وصدق الرسالة والكلام اليقين وفصل الخطاب والإحكام في التنزيل بل من جهة ضرب الأمثال الى الناس وأحسن القصص ومطابقته مع الواقع1[1]. على هذا المنظور إن الحدث هو الواقع في القرآن وليس المثال ولقد ورد في اثنين وعشرين مرة وأفاد ثمانية معان تتراوح بين الحسي والمعنوي وبين الفعل والانفعال وبين المطابقة والتصديق وبين الاعتقاد والإقرار وبين التمنى والمتحقق وهي كالآتي : -" ان الدين لواقع " ، "مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم"، " وظنوا أنه واقع بهم"، " انما توعدون لواقع"، "ان عذاب ربك لواقع"، "سأل سائل بعذاب واقع".
- المعنى الأول ورد في الصيغة الفعلية ويشير الى وقوع الحدث ، "فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون".
- المعنى الثاني يفيد امتداد الزمان ويتوزع الى مقام الدنيا ومآل الآخرة ويشير الى الذي وقع في الماضي وماهو بصدد الوقوع في الحاضر والى ما قد يقع في المستقبل، " اذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة".
- المعنى الثالث هو الجزاء بالكسب ثوابا أو عقابا ، " ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم".
- المعنى الرابع هو وقوع الوعد والوفاء بالوعيد صدقا بلا تكذيب ، " انما توعدون لواقع".
- المعنى الخامس يدل على مواقع في الطبيعة والكون ووقوع أفعال البشر في العالم، "فلا أقسم بمواقع النجوم وانه قسم لو تعلمون عظيم".
- المعنى السادس يشير الى الاحترام والتقديس والطاعة والتوافق مع نظام الكون، " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين".
لكن كيف يمثل القرآن هدى للناس ورحمة للعالمين اذا كان تنزيلا من عند الله في كتاب مبين يعلمه المتقين؟ أليس القرآن كريم و حكيم وجيد وعظيم ومعجز وحق وفيه شفاء ومنافع للناس ومحفوظ ؟
لقد جاء في الذكر الحكيم:" ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل"، " على أن يأتوا بمثل هذا القرآن". والمقصود هو الاعتقاد من أجل والفهم من أجل الاعتقاد وإلمام القرآن بالحقيقة الكونية وسلامته من التحريف وحيلة التاريخ ومكره وعدم فقدانه لحوافه الدلالية ومحافظته على طاقته الاعجازية.
غاية المراد أن القرآن ليس مجرد كتاب يقرأ تنفيذا لللأمر القطعي الالهي للكائن الآدمي:إقرأ مثلما تقرأ الكتب المقدسة في الأناشيد الدينية ولا يمثل كتاب في السرد التاريخي للأحداث الماضية الخاصة بالأمم الغابرة بالمعنى الحصري للكلمة بل هو أحسن القصص ولقد ورد لفظ القصص في ستة وعشرين مرة[2]2.
تبعا لذلك ينتقل القرآن بالذوق من المعرفة الى الوجود ومن العلم الى العرفان ومن السرد الى القصص ومن الفهم والتأويل الى الالتزام والتطبيق ومن الحياة الروحية الى الوجود العملي وبهذا الشكل يمكن استخلاص ثمانية معان وجودية ومعرفية وايتيقية وجمالية وتعقلية للقص هي كالآتي:
- الاخبار عن التجارب الماضية من أجل تربية الوعي التاريخي، " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل"
- ذكر أنباء وقعت في الماضي وتوقع أنباء أخرى في المستقبل، " تلك القرى نقص عليك من أنبائها"،
- الاتيان بالحجج والبينات والقرائن والبراهين على الصدق ، " ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي"
- أخذ العبر واستخلاص الدروس والتعلم من التجارب، " فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف"، " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".
- اكتساب الثقة والأهلية في العلم وقول الصدق، " وكلا نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فؤادك".
- تحصيل الجمال والاعتدال والانسجام والتوسط دون مبالغة او تضخيم، " نحن نقص عليك أحس القصص"، " قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا".
- التأويل والحدس والافتراض والتشكيل والتعبير، " قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك".
- تشرع الاختلاف والقبول بالتعددية في الرأي ويسمح بالانفتاح على الغيرية، "ان هذا القرآن يقص على بني اسرائيل أكثر الذين هم فيه يختلفون"
- متابعة الواقع ورصد الأحداث والتقاطها واستيعابها وتحقيق اليقظة والبصيرة والوعي بالمتغيرات التي تطرأ على العالم ، "وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون"، " فلنقصص عليهم بعلم وما كنا غائبين".
- مشاهدة الحق ومعرفة لحقيقة والحضور في الذات ومطابقة الواقع وتحصيل العلم بالكائن ، " نحن نقص عليك نبأهم بالحق" ، " ان هذا لهو القصص الحق وما من اله الا الله" ، "فلنقصن عليهم بعلم وماكنا غائبين"
- ممارسة التفكر وتحصيل الدراية بمجاري الأمور والتعقل عند الاختيار، " فاقصص القصص لعلهم يتفكرون".
ننتهي الى النتائج النظرية التالية :
- القرآن الكريم يحمل نبأ عظيم بمن عاش قبلنا وما سيأتي بعدنا ويمثل حدثا هاما في تاريخ البشرية يختم جميع الحقب الماضية ويؤسس لأفق انتظار مليء بالوعود والأمل.
- الطبيعة القصصية للنص القرآني وما تختزنه من طاقة اعجازية ولغة رمزية واستعارات حية.
- القراءة التأويلية للقرآني تقوم على التقاطع بين الحدث والسرد والتمازج بين الواقع والقصص.
- أهمية الأبعاد الايتيقية الحاصلة من التقاطع بين الحدث والسرد في التدبير الصالح لحياة البشر.
لقد استفاد علماء القرآن من العارفين والشعراء والفقهاء وعلماء اللغة والحكماء من التحدي الالهي ومن الاعجازي القرآني البياني وحولوا التحدي الى طريق للابداع تنفيذا للآية الكريمة: "ائت بقرآن غير هذا أو بدله".لكن في نهاية المطاف متى يتوقف الناس عن اسقاط هموم الدنيا على آمال الآخرة والتكذيب بما جاء في الفرقان؟ " أعلينا جمعه وقرآنه"؟، وبالتحديد" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"؟
المصادر:
المصحف الشريف
د حسن حنفي، الوحي والواقع ، تحليل المضمون، مركز الناقد الثقافي ، دمشق ، طبعة أولى 2010،
[1] د حسن حنفي، الوحي والواقع ، تحليل المضمون، مركز الناقد الثقافي، دمشق ، طبعة أولى 2010، ص23-24.
[2] د حسن حنفي، الوحي والواقع، تحليل المضمون، مرجع مذكور، صص209-211.