من الممكن تقسيم المصلحة تقسيمات متعددة من حيث اعتبار الشرع لها ، ومن حيث درجة قوتها ، ومن حيث ثباتها أو تحولها...
1 - اعتبار الشرع
فمن حيث اعتبار الشرع ، فهي إما مصالح معتبرة أو ملغاة ، فالمعتبرة هي ما صرحت باعتماده النصوص الشرعية كأصول الحلال والحرام المفضية إلى مصالح العدل والإحسان ، وصحة العقول والأبدان ، وسلامة الأسر ، واليسر والسماحة ، والقوة والأمانة ، والعدل والبذل ...والملغاة هي ما قد يظهر من مصالح مادية أو معنوية جزئية ملتبسة بمضار أكبر منها وأعم ، مثل المصالح المترتبة عن الاتجار في الخمر أو التعامل بالميسر ، فالنص يسقط اعتبارها : (ويسألونك عن الخمر والميسر ، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما ) أو مصالح التعامل بالربا فهي مقرونة بالتشنيع الشديد ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) أو مصالح تقتضيها مجاوزة حدود رد العدوان المفروض بغرض الانتقام و " التأديب وإشفاء الغليل " ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ) ، فتلك مصالح ثابتة حظرها الشرع واستنكرها الطبع ، لا لذاتها بل بما لابسها من مضار أفسدتها وأخرجتها عن طبيعتها .
والواقع أنه لا يكاد يخلو قول أو فعل من مصلحة ومفسدة ، ومدار الأمر هو في فهم درجة ومجال تأثير كل منهما ، فما غلبت فيه المصلحة كما أو نوعا أو مآلا ، كان مطلوبا أو مقبولا ، وما غلبت فيه المضرة كان محرما أو مرفوضا ، على أن تقدير درجات المصالح والمفاسد في الأحكام والتشريعات ، وفي التدبير والسياسات ..لا يتحقق إلا بإعمال عقل وتوجيه فكر ، مع توظيف مناهج علوم قد تطورت ، ومعارف عبر الأزمان قد تجددت ، وفي هذا تختلف الأفهام ، وتتعدد الاستنتاجات ، وتتضارب الترجيحات ، وقد تنشأ – تبعا لذلك المذاهب – أو قد تتفرق الفرق ، فتعين التميز الدقيـق بين ما كان من أمر الدين وما كان من آراء المجتهدين .
إذن فالمصالح – في ميزان الشرع - إما مطلوبة معتبرة ، أو مرفوضة مستنكرة ، وهناك من يقول بوجود صنف ثالث يسميه : " مصالح مسكوت عنها " ويرى أنها تلك التي لم يتم التنصيص عليها باعتبار ولا بإلغاء ، وهي معتمدة عندهم بشروط يشترطونها ، والرأي عندي أن هذا الصنف لا وجود له على الحقيقة ، فليس من مصلحة إلا والنص دال عليها في عمومياته ، محيل إليها في كلياته ، إما بألفاظ مجملة كالرحمة والطيبات والحسنات ومكارم الأخلاق ...إلخ وإما بأحكام كلية مستفادة من مجموع النصوص كمقاصد التفكير والتوحيد والتخليق والتحرير والتنوير ... ، وناتج ذلك أن تكون المصلحة هي ذاتها الحجة بناء على ما سبق من كونها مقصد التشريع أجمعه ، ولهذا كانت "المصلحة المرسلة "[1] من الأصول المعتمدة عند المالكية وبه تميزوا عن غيرهم ممهدين الطريق لنشوء علم المقاصد ، ومن مقتضيات " المصالح المرسلة " عند الفقهاء - غير ما ذكرنا من اجتهادات الصحابة - : القول بقتل الجماعة بالواحد طلبا لمصلحة حفظ النفس ، وجمع القرآن في مصحف واحد طلبا لمصلحة حفظ الدين ، وتضمين الصناع ما أفسدوه طلبا لمصلحة حفظ المال ، وتدوين الدواوين واتخاذ السجون ...طلبا لحفظ النظام العام ..وغير ذلك مما لم يرد في تفاصيله نص ولا إجماع ، بل رجوع إلى عموم المصلحة المنصوص على ضرورة الرجوع إليها .[2]
2 - درجة الــقوة :
أما من حيث تقسيم المصلحة بحسب درجة قوتها ، فقد صنفت إلى ضرورية و حاجية و تحسينية :
- فالضروريات هي التي لا تستقيم الحياة بدونها ، وهي التي إذا تخلف بعضها اختلت الموازين وعمت الفوضى وظهر الفساد ، وقد كاد العلماء لقرون مديدة يحصرونها في كليات خمس هي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، حتى إذا جاء العصر الحديث زاد بعضهم العدل والحرية وغيرهما ، ، ولا زالت تطورات الحياة تفرض مزيدا من الاستقراء للوقوف على تصنيفات أخرى يمكن أن توظف لمزيد فهم للنصوص وتطوير وسائل تنزيلها بهدف الرفع جودة الحياة .
- والحاجيات هي الأمور التي إذا تحققت ارتفع الحرج وتيسر بها المعاش من دون أن يترتب على فواتها ضياع المصالح الضرورية ، مثل الحاجة إلى توثيق الخطبة والزواج بعد الإشهاد عليهما ، والحاجة إلى الوليمة عند الزفاف ، والحاجة إلى الاستقلال بالمسكن بعد الزفاف ، والحاجة إلى حصول الذرية ...
- والتحسينيات : وهي أعلى درجات اليسر والأمان وجمال الصورة ، فإذا أمكن تحقيقها كان ذلك هو المطلوب ، وإلا فلا ينبغي التضحية بشيء من الضروريات أو الحاجيات من أجلها ، ومما يدرج في هذا الصنف ما كان مطلوبا من الزينة في المسكن والملبس والمركب ، وما كان من التوسعة في تخطيط المدن وتوسيع أزقتها وحدائقها وتجميل واجهاتها ...
- فهي إذن مستويات ثلاث بعضها أهم وأولى بالاعتبار من بعض ، ولا يمكن التضحية بالضروريات لحاجيات أو لتحسينيات ، بل يضحى بكل شيء من أجلها ، ولعل هذا الصنف يرتبط بما قبله من حيث عدم اعتبار الشارع لمصالح يحصل عليها الافراد من جهة بيع خمر أو ترويج ميسر أو التماس ربا أو إشفاء غليل ....، فالمصالح هنا لا تتعدى حاجيات أفراد وجب التضحية بها من أجل الحفاظ على الصحة العامة والمصلحة العامة.
3 - الثبات والتحول :
وأما تقسيم المصلحة من حيث الثبات أو التحول ، فذلك راجع لكون تصاريف الحياة وحركة المجتمعات ومسار الأفراد...كل ذلك في تغير لا يكاد يثبت على شيء ، وكلما تغير شيء من أعراف الناس أو معاملاتهم أو مهنهم أو أقضيتهم أو ظروفهم في الصحة والسقم ،أو اليسر و العسر ، أو الخوف والأمن ، أو الحرب والسلم ،.... تغير موضع المصلحة ، فلزم من ذلك تغيير وجهة طلبها ، وبهذا فهناك مصالح ثابتة لا تبرح مواضعها ، وهناك مصالح متحولة متجولة من مكان إلى آخر بحسب تغير أعراف الناس وعاداتهم وطرق تفاعلهم مع حركة الحياة .
أما المصالح الثابتة فهي الباقية أماكنها أبد الدهر ، فالدين مبني على العلم ، والتدين على الإخلاص ، والأسر على المودة ، والمهن على الأمانة ، والتعاقد على التراضي ، ،والقضاء على العدل ، والحكم على الشورى ، والجهاد على رد العدوان ......كل ذلك على وجه الثبات والتأبيد ، ولا يمكن أن يأتي يوم يستغني فيه تدين عن إخلاص ، أو مهنة عن أمانة ، أو تعاقد عن تراض ، أو أسرة عن مودة ، أو قضاء عن عدل ، أو حكم عن شورى ، أو جهاد عن رد عدوان .
وأما المصالح المتحولة : فهي تلك التي تغير مواضعها بحسب الزمان والمكان والسياق ، والقول فيها يحتاج إلى تفصيل دقيق ...فالصيام يحقق مصلحة المكلف في الأحوال العادية ، وبمرضه تغير المصلحة مكانها من موضع الصيام إلى موضع الإفطار ، فتعين طلبها في موضعها الجديد ، والحج يتضمن مصلحة الحاج ، فإذا أعسر ارتفعت واتجهت صوب مهنة يزاولها أو أسرة يعيلها أو مرض يعالجه ...وهكذا تمضي سائر العبادات في مرونة منصوص عليها ، فإذا انتقلنا من حيز العبادات إلى مجال المعاملات الرحب كان التغير أسرع وأعمق وأشمل[3] ، وأصبحت المصلحة دائمة الانتقال من موضع إلى آخر ، ومن حكم إلى غيره ، فتعين طلبها حيث هي من دون اعتبار لمحل وجودها السابق الذي كانت تشغله ، وهذا ما لمحه علاء الدين الكاساني ( 587 هـ ) وجعله يقول (والحكم متى ثبت معقولا بمعنى خاص ، ينتهي بذهاب ذلك المعنى )[4] وهو ما أكده شهاب الدين القرافي(684 هـ) بعد نحو قرن فقال : ( إن استمرار الأحكام التي تدركها العوائد مع تغيير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة ) [5] ، وقد يكون المحل الأول الذي شغلته المصلحة حكما جزئيا منصوصا عليه بنص قطعي الثبوت والدلالة ، لا ضير ، فإن المصلحة قد تفرغه وتشغل غيره بفعل تدخل الإنسان وتغير الأزمان ، وقد تعود إليه بعد زمن يطول أو يقصر ، فلزمت العودة إلى المحل الأول ، لا لكونه الأول ، بل لعودة المصلحة إليه بعد غياب . وكثيرا ما جهل عامة الناس هذا التمييز (أي بين المصالح الثابتة والمصالح المتحولة ) وغاب عنهم الفرق بين الأحكام الكلية والأحكام الجزئية ، فنظروا إلى الأحكام بمعزل عن مقاصدها ومن دون انتباه إلى مدى القرب أو البعد من المصلحة ، وظنوا أنهم مطالبون بالأحكام لذاتها لا للمصلحة المرجوة من خلالها ، ولا للعلل التي تكتنف تشريعها ، فاحتاج العلماء عهدا بعد عهد إلى تعليم الجاهل وتذكير الناسي إلى كون ( كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله ، أو لحدوث ضرورة أو فساد ، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه للزم منه المشقة والضرر بالناس و لخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف ورفع الضرر) [6]
لكن هذه المصلحة ، هل هي خاصة بالمسلمين أفرادا ومجتمعات أم تعم جميع من يساكنهم من غيرهم ؟ ، وهل تقف عند حدود الديار الإسلامية أم تجاوزها إلى غيرها ؟ وهل يمكن استعمال ألفاظ من خارج التداول الاسلامي في وصفها أم ينبغي الحفاظ على ما تكلم به العرب في ذلك ؟ تلك اسئلة يتطلب الجواب عنها الكثير من الجهد والنظر لقد خاطب القرآن المسلمين بالتكاليف الشرعية الخاصة بهم ، فأمرهم ونهاهم وحفزهم وأرشدهم ....لكنه خاطب غيرهم أيضا ، فما العمل :؟
[1]وهي التي لا دليل عليها من نص تفصيلي محدد
[2] وبسبب الإرشاد إلى الكليات العامة جاء الوصف القرآني : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ........
[3]مجال العبادات مجال واضح المرونة بطبعه ، بين التيسير ، فالعاجز يصلي جالسا أو متمددا ، والمريض يفطر ثم يقضي أو يفدي ، ولا تكليف على مخطئ ولا ناس ولا مكره ، وكل ذلك مما أفاضت النصوص الجزئية التفصيلية في ذكره وأسهب الفقهاء في تحليله والبناء عليه ، ومجال المعاملات ليس اقل مرونة ولا تيسيرا من الأول ، لكن المرونة فيه والتيسير لا يتضحان غالبا إلا من خلال استقراء النصوص وجمعها ، واستخراج أحكامها الكلية ومقاصدها الكبرى ، وما ذلك إلا لسرعة تغير الواقع الذي هو محل المعاملات .
[4] بدائع الصنائع 1/ 75
[5]القرافي في الأحكام 1/ 131
[6]ابن عابدين الحنفي 1836 م