في هذا المجال هناك مجموعة من الملاحظات لابد من الأخذ بها لتمهيد التربة في اتجاه تحقيق شروط هذا الجدل البنّاء وتحوله إلى تعايش مخصب ومثمر يستفيد منه الإسلام وتستفيد منه الحداثة.
أـ ينبغي الإدراك أن عدم التوافق وأن الصدام لا ينبعان من وجود منظومتين أو منطقين مختلفين، فعلى الصعيد العقدي والرمزي ليس هنا إلا منطق واحد لدى المجتمعات وفي كل زمان ومكان، هو منطق التداعي والربط التعسفي والاعتباطي واعادة توظيف العلامات والرموز والمفاهيم والصور واعطائها المعاني الجديدة. ويكفي من أجل ذلك القيام بإعادة تفسير المنظومتين كما فعل العرب والمسلمون أنفسهم حتى الآن وكما سوف يفعلون في المستقبل. إذ ليس هناك أي حل تاريخي آخر، وليس هناك أي امكانية كي تغير أمة أو جماعة كلياً منظومة قيمها وتتبنى منظومة أخرى. وحتى الاسلام لم يفعل ذلك، وانما عمل إلى حد كبير من خلال اعادة توظيف المعطيات الثقافية العربية وتوجيهها في اتجاهات جديدة ارتبطت هي نفسها بتغيير المجال الجغرافي والسياسي تغييراً كاملاً حتى أمكن لها النجاح والانتصار. والأزمة التي يعرفها العرب مع الإسلام اليوم ليست جديدة وإنما هي حلقة من الحلقات الطويلة على طريق اعادة التفكير وتجديد المفاهيم والقيم والمعاني، أي وضع الاسلام والمنظومة القيمية الاسلامية في العصر والتطبيق العصري. وإذا كان الصراع قد تفجر في هذه الحقبة التي نعيش فلأن تأخراً قد حصل في العمل الفكري الضروري من أجل تجديد الأفكار وتنظيم القيم الوافدة والسيطرة عليها، أي اخضاعها لمنطق الثقافة المحلية وآلياتها ووضعها في سياق رؤيتها العامة وغاياتها. والسبب الرئيسي في هذا التأخر هو إلغاء حرية التعبير والتفكير والنشاط السياسي.
ب_ إن الموقف الجماعي والاجتماعي، وبالعمق السياسي أيضاً، من الدين، لا يمكن أن يتحدد بالنظر إلى حادث عارض أو موقف جزئي أو حركة سياسية أو موقف فلسفي أو فرضية نظرية. ولابد من أن ندرك أننا لا نستطيع الخروج من المأزق إذا ما بقيت اشكاليتنا الرئيسية فيما يتعلق بالدين مرتبطة وقائمة على أفكار مبتسرة سريعة حول الدين أو الدولة أو التعصب أو عدم التعصب، وإذا ما استمرت مرتبطة بدوافع وقتية سياسية أو غير سياسية، تكتيكية، أو إذا ما بقيت قائمة على المخاوف وعلى الرياء والغش والخوف من الدولة أو من رجال الدين أو من الجمهور. فلا بد لنا، ونحن نواجه هذه المسألة الكبرى؛ من أن نتجاوز أفكارنا المجتزأة وحساسياتنا الشخصية ورؤيتنا المصلحية الضيقة التي كثيراً ما تخفي عنا حقيقة الوضع.
ولابد لنا كذلك، إذا أردنا أن نقدم حلاً حقيقياً واجتماعياً لمسألة حاسمة وكبرى من هذا الطراز، من أن نطرح المشكلة في كليتها وكامل أبعادها، وأن نسعى إلى الخروج منها بموقف موحد ومنطقي ومنسجم، يساعدنا على تكوين الاجماع الوطني الذي نحتاج إليه من أجل استيعاب الحضارة وتحقيق النقلة النوعية في السياسة والثقافة والاقتصاد معاً. وفي هذه الحالة ليس هناك مهرب من طرح الأسئلة التالية ومحاولة الإجابة عنها كي يكون الموقف من الدين موقفاً مسؤولاً وفي نظري منتجاً:
_ هل ما زال هناك مكان وضرورة للدين في المجتمعات المعاصرة، وهل ما زال للإسلام في المجتمع العربي المعاصر مثل هذا الدور، وما هي طبيعته وما هو محتواه؟
_ هل يستدعي لعب الدين لدوره في المجتمع المعاصر التجديد والاصلاح الديني، وهل ينبغي أن يكون هذا الاصلاح من نمط الاصلاح البروتستانتي الذي عرفته المسيحية في القرن الخامس عشر، أو هل ما زال مثل هذا النمط معقولاً وكافياً؟
_ هل يقبل الاسلام التجديد أم أنه، مثلما يعتقد البعض المتأثر ببعض الآراء الغربية، من الأديان التي لا تقبل التجديد لأنها، كما كان يقال، لا تميز بين الدين والدنيا وبين الزمني والروحي؟
_ هل هو قادر على أن يكون مع الدنيا الجديدة؟ وإلاّ ماذا ينبغي علينا أن نفعله كي يصبح كذلك؟
_ ما هي المكانة أو الموقع الذي يقدمه أو ينبغي أن يحتفظ به المجتمع للدين في النظام الاجتماعي الراهن أو المقبل، وفي نظام المدنية والحضارة بشكل عام؟
_ من الذي يستطيع، أو ينبغي أن يقوم، بالتجديد الديني أو يساهم فيه، وما هو منهج هذا التجديد واستراتيجيته؟
_ ما هي طبيعة المؤسسة الدينية، أي التنظيم الخاص الذي يمكّن الدين من القيام بمهماته ويسمح له بتحقيق الأهداف المسندة إليه والآمال المعقودة عليه؟
_ ما هي امكانات ووسائل تحقيق ذلك، وما هي الاستراتيجية التي ينبغي على المجتمع أن يتبعها في سبيل انجاز هذا التجديد أو الإصلاح الديني إذا كان هناك اصلاح أو تغيير في الدور والوظيفة والمكانة، وكيف، وعلى ماذا سوف يستند هذا التجديد؟
_ ما هو موقع الدولة، وموقع المجتمع، وموقع المثقفين وموقع رجال الدين الحاليين في هذا التجديد وفي السير به إلى الأمام؟
ج _ إن الإجابة عن هذه الأسئلة الكبرى وتحقيق المصالحة يقتضيان تجديد منهج النظر العام إلى المجتمع والدين والحضارة والتاريخ معاً. فلم يعد يكفي في نظرنا أن نطالب، كما كنا نردد دائماً عندما كان الدين هو الوعاء الأساسي للفكر العربي، بتجديد رؤيتنا إلى الإسلام، وإنما أصبح من الضروري أيضاً، وربما من أجل تجديد هذه الرؤية ذاتها، تجديد رؤيتنا للمفاهيم التي كنا نعتبرها، بسذاجة، مفاهيم جاهزة وناجزة ومشغولة، ولا تحتاج منا إلى اعادة مناقشة أو تحديد بل تجديد، نعني مفاهيم العلم والعقل والعلمانية والقومية والحداثة والحضارة والتطور وغيرها من المفاهيم التي تكاد تحكم تفكيرنا جميعاً أكثر من الدين في هذه الحقبة.
إن النظر الصحيح إلى الإسلام نفسه لم يعد ممكناً، بما في ذلك لدى الاسلاميين أنفسهم، على عكس ما يعتقدون، من دون مراجعة هذه المفاهيم واعادة تركيبها من أفق الأهداف والقيم التي نريد أن تحكم مجتمعنا المقبل. وليس من الصعب أن نعاين كيف أن الاسلاميين في صراعهم ضد خصومهم يستخدمون المفاهيم نفسها ويعطونها المعاني نفسها، وكيف أن التحديثيين في مواجهتهم للفكر الاسلامي يستخدمون أيضاً مفاهيمه. وفي الواقع لا يستخدم كل منهم إلا رؤية الواحد لنفسه في السياق السجالي الراهن، وهي رؤية شديدة الإنحياز والتعصب. فالعلمانية مثلاً تتحول من نطاق التمييز بين المعرفة والسلطة الدينيتين والمعرفة والسلطة العقليتين، لتتحول سواء عند العلمانيين أنفسهم أو عند خصومهم إلى ما يقارب نزعة العداء للدين وازالته من المجتمع. إن ما يحصل هنا ليس في الحقيقة إلا اعادة تركيب معنى المفهوم المعروف من أفق وفي سياق خدمة السجال والحرب الدينية القائمة والعلمانية التي جاءت كأداة لتجاوز النزاع بين الدين والسياسة وحل الخلاف بينهما تتحول هي نفسها في هذا السياق إلى باعث على النزاع ووسيلة لتعميق الخلط بين الدين أو العقيدة عموماً والسياسة.
د_ من هنا ضرورة ما ينبغي تسميته، بحق تجاوز وثنية المفهوم. إن جميع المفاهيم ليست إلا اصطلاحات نظرية تصاغ لخدمة العمل النظري وبلورة الأفكار وتنظيمها. وتتغير مضامين هذه المفاهيم بحسب السياق التاريخي والنظري والاجتماعي التي تستخدم فيه، وتتغير معانيها ومضامينها أيضاً مع الزمن وتغير التجربة البشرية، إن المفاهيم نفسها تتطور وتموت عندما لا تعود تؤدي وظيفة ايجابية في تنظيم النشاط العقلي والمعرفي أو عندما يتجاوزها الزمن والتجربة الانسانية. فليس من المؤكد أن جميع الناس وفي كل الأوقات يعطون لمفهوم العلمانية مثلاً المعاني والمحتويات نفسها. بل ليس من الضروري، حتى لو تم ذلك، أن يصلح هذا المفهوم لضبط وتنظيم التجربة السياسية والروحية في جميع الأزمان والأماكن، أو أن يتحول إلى قاعدة كونية للتعامل بين سلطات اجتماعية هي نفسها متبدلة ومعرضة للتطور، كما نشهد ذلك اليوم فيما تقوم به الكنيسة في امريكا اللاتينية أو في البلدان الاشتراكية. إن ما هو أساسي هو ايجاد الشروط الملائمة والمقبولة من الجميع أو الأغلبية الاجتماعية للتوصل إلى تنظيم مستقر للعلاقة بين مختلف السلطات، بما فيها اليوم في مجتمعاتنا السلطة العسكرية التي تلعب دوراً لم تعرفه المجتمعات الليبرالية السابقة، ولم تتخذ بشأنه التدابير المطلوبة، ولم يظهر إذاً أو ينعكس في النظرية. وينبغي رؤية ذلك كله من وجهة نظر وفي ضوء المشاكل الخاصة المطروحة والامكانات المتوافرة والقوى القائمة. والقصد، ليس النموذج هو المطلوب تحقيقه وإنما الوظيفة، وما ينجح في تنظيم تجربة اجتماعية في حقبة أو مجتمع ما، لا ينجح بالضرورة في غيرهما، ولا يفيد التقليد ولا الاقتداء شيئاً في التاريخ. إن العبقرية التاريخية للمجتمعات البشرية كامنة بالضبط في قدراتها اللا متناهية، وقدرات نظمها الثقافية والسياسية، على انتاج حلول جديدة وغير مطروقة.
ه_ الملاحظة الخامسة هي أن المجتمعات، على الرغم من أنها تعيش دائماً في تاريخ عالمي واحد، فإنها لا تتبع أو تخضع للتاريخية نفسها، إن لها وقعها ووتيرة حركتها الخاصة التي قد تقترب من الوتيرة العامة أو تبتعد عنها. ولكنها كالأفراد لا تسير بالضرورة بالسرعة ذاتها. وعلى المسؤولين عنها أن يحترموا هذه التاريخية إذا ما أرادوا أن يتقلدوا مواقع قيادية فيها ويتحملوا مسؤوليات توجيه حركتها، فإذا لم يدركوا ذلك ربما اضطروا، دون نية سيئة بالضرورة، إلى الجور عليها وزجها في صراعات كان من الممكن لها أن تتجنب الوقوع فيها، إن الدين الذي لم يعد يلعب دوراً كبيراً في البلاد والمجتمعات الصناعية مثلاً ما زال يشكل المقوّم الرئيسي لعلاقة التضامن والتواصل والتفاهم بالنسبة إلى العديد من مجتمعات العالم الثالث، ونعني بما في ذلك الأديان الإحيائية ذاتها على الرغم مما فقدت من قوة وفاعلية، أما بالنسبة إلى الأديان الكبرى فمن المؤكد أنها ما زالت، بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الشعوب النامية، أكبر آلة تهذيب جماعي وتمدين وبناء للحم الوطنية والاجتماعية. وفي الكثير من الحالات، وعلى الرغم من الخلافات التي يمكن للدين أن يخلقها أو يدفع إليها، وهي كما قلنا خلافات اجتماعية تنعكس على الدين، فإن زوال الدين يعني زوال الأم الثقافية المرضعة نفسها وترك المجتمع، ولا أقول بالضرورة النخبة المتغربة، دون أي مرجعية ثقافية، أي دون أي أداة للتواصل والتعارف والتماهي وتبادل العواطف والتقديرات المادية والروحية.
و_ الملاحظة السادسة هي أن نظام المجتمع، على عكس ما تقوله الفلسفة الوضعية المبسطة أكثر في بلادنا، ليس من النظم التي تخضع لقوانين فيزيائية. إن نظرية التطور التاريخ الأحادي الخط: من اللاهوتية إلى العلموية مبسط جداً، ولا يعكس أبداً تعدد أبعاد الحقيقة الاجتماعية والانسانية، وتنوع حاجات الهيئة الاجتماعية الخيالية والرمزية والمادية والروحية والفنية والعلمية معاً. إن خفض قيم الإنسانية إلى قيم العلم وحده، قد حاولته النظم الشمولية، فوصلت إلى نظام من البربرية الحديثة والمنظمة القائم على قتل الروح والفرد والإنسان معاً. ولم يؤد الغاء الدين والقيم الميتافيزيقية في الدول الاشتراكية إلى تحرر الانسان كما كان يعتقد البعض، ولا إلى تزايد قدراته العقلية والعلمية، بعد أن تحرر من سيطرة القوى الغيبية أو الخرافية كما كان يقال، وزال عنه الخوف أو الرهبة من القوة الإلهية، وإنما قاد على العكس إلى قتل الروح والخيال والحضارة، وحول النظام السياسي إلى معسكر اعتقال كبير للجسم والروح معاً. إن حرية الإنسان لا تنفصل عن كرامته وحرية خياله وانطلاق قواه الروحية والنفسية والعقلية التي يبني عليها رمزياً ومادياً تداعياته وعلاقات تضامنه واحسانه وتعاطفه وكرمه الأعمق.
زـ من المؤكد أن الصراع والجدال الراهن ينطوي على رهانات كبرى تتعلق في الوقت نفسه بتغيير نظرتنا إلى الإسلام، أي بإعادة موضعته في المجتمع العربي، كما تتعلق بتغيير معانيه ومضامينه وإعادة تفسيره وترتيب القيم والمبادىء التي تشكل حقيقته الكبرى، لكن هذا كله لن يمكن تحقيقه إلا إذا اعترف منذ البداية للإسلام بدوره ومكانته وفائدته، وأمكن له أن يطمئن إلى وجوده وإلى نفسه في أرض العرب، إن من غير المعقول توقع تجدد منظومة عقلية أو عقائدية لا يستفاد منها أو لا يعرف الناس ما الذي سيفعلونه بها. إن التجدد والتجديد مرتبط بالتوظيف الاجتماعي للدين. وليس التجديد إلا تحديد الأهداف الجديدة وخلق الامكانات الجديدة أو بالأحرى تفجير هذه الامكانات في المنظومة العقائدية على حساب _أو إضافة إلى _ امكانات أخرى موجودة أو قائمة.
ولابد من التذكير هنا أيضاً أن التجديد لا يقوم به الإسلام نفسه لأن الاسلام جملة من العقائد الثابتة، ولا تقوم به العلمانية نفسها، لأنها بالمثل قيمة ومثل جامد، ولكن الذي يقوم بهذا وذاك، أو ينبغي أن يقوم بهما، هو الإنسان والعقل المفكر. فليس تجديدهما قائماً وناجزاً فيهما، ولا هو مرتبط فقط بالمنادين بهما حتى لو كان هؤلاء من العلماء وأصحاب المعرفة. إن الجميع مسؤول عن تطوير ما يعتبره ضروري للمجتمع ككل وليس لهذه الفئة أو تلك.
ح_ وفيما يتعلق بتجديد الاسلام، لابد من القول إنه كجملة من المبادىء والنصوص والايحاءات التي يتكون منها كل دين، كما تتكون منها كل عقيدة، لا يعاني بحد ذاته، وفي ذاته، أي مشكلة، فهو ما زال قائماً في نصوصه ومبادئه وقيمه ورسالته كما كان منذ نزوله، لم يطرأ عليه ولا يمكن أن يطرأ عليه أي تبديل، ولا يمكن هو نفسه أن يطرح على نفسه أي سؤال أو اشكال، لا الآن ولا في المستقبل. إن الذي يعاني مشكلة أو يعيش مشكلة هو المجتمع الاسلامي، أي نحن بوصفنا نموذجاً أو صورة لهذا المجتمع، أو على الأقل امتداداً تاريخياً وجغرافياً وثقافياً له. إن ما نسميه مشكلة الاسلام لا يكمن إذاً في الاسلام ولا يقوم فيه وانما هو مشكلة تعاملنا نحن مع الإسلام، بل إن المشكلة يمكن تحديدها بشكل أكبر والقول إنها ليست تماما في تعاملنا مع الإسلام وإنما بالدرجة الأساسية تعاملنا كمجتمع، أي كنظام اجتماعي، معه، ومن ثم فيما بيننا، الأمر الذي لا ينطبق بالضرورة على تعاملنا معه كأفراد، أو على صحة وصدق ايمان الكثير منا، وانسجامهم الكامل مع المبادىء الكبرى التي يجسدها.
ط_ وفي نظري ان هذا التمييز ضروري، ليس لأنه يضع المسألة منذ البداية في مكانها الطبيعي والصحيح، ولكن أكثر من ذلك لأنه يضعها في المكان الوحيد الذي يمكن لها أن تجد فيه الحل. ذلك أنه حتى عندما نتحدث عن جمود "الاسلام" أو عدم مسايرته للعصر، والمقصود هنا طبعاً الفكر الاسلامي، فنحن إنما نعترف في الواقع بتقصيرنا عن تجديد الاسلام. وفي هذه الحالة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه ليس من النوع المضلل فعلاً والقائم على التهرب من المسؤولية من مثل: لماذا لم يتطور الاسلام أو يتجدد ويماشي العصر، وانما على العكس لماذا لم نستطع نحن المسلمين أو المنتمين إلى المجتمعات الاسلامية أن ننجح في تجديد الفكر الاسلامي وبث الحياة والحركة في رؤيتنا وفهمنا للاسلام، ولا نريد من ذلك أن ننفي أن هناك منطقاً متميزاً وأصيلاً للإسلام كدين يجعله يفترض أو يفرض نوعاً من القواعد المحددة في التجديد والتغيير والتطور الفكري، إذ من دون مثل هذه القواعد تفقد العقيدة، أي عقيدة استقلالها وتميزها ووجودها نفسه، أو تفقد سبب وجودها.
إننا نعتقد إذاً أن التركيز على العوامل التي منعت التجديد هو الأساس، لأن تغييرها يتعلق بنا، ولأن الإنسان فرداً ومجتمعاً، بما هو كائن حي ومتجدد، هو وحده الذي يستطيع، على عكس العقائد والمبادىء، والمثل والأفكار المجردة والثابتة، ان يقوم بالتجديد، بما في ذلك تجديد هذه المبادىء، أي اعادة تسليط الضوء عليها واعادة تفسيرها وتوظيفها، بينما هي لا تستطيع أن تتجدد من تلقاء نفسها، ونحن نؤمن أن صلاح الدين للحياة أو عدمه يتوقف على نوعية هذا الدين وان هذه النوعية مرتبطة هي نفسها بما نصنعه نحن بالدين، أي بكيفية رؤيتنا له وتعاملنا معه، من حيث التجديد والاهتمام أو التفريط والاهمال. وهنا ليس لنا ملاذ إلاّ في الوعي النقدي وفي النقد الذاتي المتواصل، أي في الواقع في الاعتماد على قوة البصيرة والصدق.
ي_ وفي هذا الميدان لا يمكن لعداء الاسلام أن يحل المشاكل التي يطرحها علينا الاسلام والدين عامة، تماماً كما أن العداء للجديد أو الحديث أو المعطى غير الاسلامي وغير العربي لا يفيد ولا يساعد على حل المشاكل التي يطرحها علينا انخراطنا في العصر واستيعابنا لوسائل قوته الحضارية، فبقدر ما أن الاختلاف رحمة، لأنه يساعد على طرح المشكلات وتعميق النظر فيها وبالتالي تقريب امكانية ايجاد الحلول لها، يساهم العداء والموقف القائم على التعبئة العاطفية والسياسية على قتل ملكة التفكير والغاء الوعي والنظر الحر والسليم في الميادين الثقافية.
إن الهدف ينبغي إذاً أن يكون تجاوز الموقف الذي يدفع إلى تحويل الجدال من حول الاسلام وداخله إلى معركة اختيار بين نمطين اجتماعيين شاملين ومتعارضين، أي إلى تصادم دائم بين حاجات المجتمع الروحية وحاجاته المادية، والتجاوز لهذا الموقف يعني التوصل إلى التسوية التي تجعل التعاون بين الاسلام وبين التفكير التاريخي وسيلة لبناء الذات والشخصية العربية بدل أن يكونا وسيلة لتدميرها، فمهما كانت اعتقاداتنا المذهبية والفلسفية، ينبغي ادراك أن المجتمع العربي لن يستطيع، على الأقل في المدى المنظور، وفي اعتقادي واللا منظور، أن ينجح في بناء نفسه وتحقيق استقراره النفسي والثقافي ضد الاسلام أو خارج الاسلام أو حتى من دون الاسلام. وبالمثل، فإن من غير الممكن والمتوقع له أن يقوم بهذه المهمة دون أن ينفتح على العالم ويتعلم منه ويأخذ منه كل ما هو جديد. أي من غير المتوقع أن يكتفي لبناء نفسه بما ورثناه من علوم عربية أطلقنا عليها اسم علوم اسلامية، وأن يترك بالتالي، كل ما أنجزته البشرية في العصور الحديثة من مكتسبات تقنية أو مادية أو نظرية أو اجتماعية أو فكرية، بل إن ذلك لو حصل فإنه لن يساهم أبداً، كما يمكن للبعض أن يعتقد، في تدعيم الاسلام، لا كدين ولا كحضارة، وانما سوف يقوده على العكس إلى التراجع والتقهقر مع المجتمع المتقهقر. وإذا كان الفكر الاسلامي يردد أن الاسلام دين ودنيا، فإن ذلك لا يعني، إذا عنى شيئاً، إلا أن الاسلام، باهتمامه بأمور الأرض، يظل دائماً مفتوحاً ومنفتحاً على ما يبدعه أبناء الأرض، وما تتفتق عنه قريحة سكانها وشعوبها. وهو لا يستطيع أن ينفي تطور الدنيا ويلغي تطور نظرته لشؤونها دون أن يفرض على المجتمع نموذجاً ثابتاً للدنيا، أي أن يحول الدنيا المتغيرة إلى دين لا يتغير ولا يتبدل. وهذا يقود إلى نفي جزء من حقيقته العميقة ويتناقض مع ادعاء البعض برغبتهم في جعله اطاراً صالحاً ليس لتحقيق حاجات العبادة والدين، فقط، وانما لتقديم المفاهيم والأدوات التي تساعد الناس في كل عصر على أخذ نصيبهم من الدنيا ومتابعة شؤونها وفهمها والتحكم بها، أي تجعل منه ديناً اجتماعياً أيضاً. لقد كانت قوة الاسلام في الماضي نابعة من قدرته الاستثنائية على أن يتأقلم مع الظروف المتغيرة وأن يتماشى مع التاريخ وينفتح بالمرونة الهائلة على كل أنواع التبادل والمبادلات والتواصل الإنساني الفكري والروحي، أي على رفض الإنغلاق والتقوقع والانكفاء على الذات، وكان لهذا السبب بامتياز دين الفتح الروحي والجغرافي والتاريخي. باختصار ان الاسلام لا يمكن أن يبقى ديناً ودنيا إلا بقدر ما يبقى متفتحاً وحساساً لكل ما تقدمه الدنيا، أي الزمن والتاريخ والجماعات والعقول البشرية، من انجازات جديدة وابداعات، ولسوء الحظ فهمت هذه الشمولية للدين والدنيا على أنها نفي للتاريخ بدل أن تفهم على أنها استعداد دائم لتقبل التجدد والتعامل معه، إن الإسلام بانفتاحه على الدنيا، أي على ابداعات البشر والتاريخ، يستطيع أن يكون حاضراً وشاملاً، لكنه إذا قبل بالانغلاق فلن يكون بإمكانه أن يشارك في حضارة الإنسانية ولا أن يساهم بتقديم الحلول المطلوبة للمشكلات التي ينتجها التاريخ والتي لا يمكن أن نعرفها مسبقاً لا نحن ولا غيرنا، وما كان بإمكان أجدادنا من علماء المسلمين تقديم الحلول الملائمة لها.
ك_ وأخيراً لابد من أن ندرك أن الثقافة لا تموت، لا شيء يموت، وإنما كل شيء يتحول، وإذا لم نحوله في الاتجاه الذي يتفق ومصالح وأهداف مجتمعنا فإنه سوف يتحول ويجد من يحوله ويستغله في غير مصلحتنا، وحتى المنظومات الثقافية والنظم الفكرية التي لا تتجدد، أو لا تنجح في العثور على ما يجددها حتى تتابع مسيرة الحياة الظاهرة، وتتعامل معها ويتعامل الناس من خلالها، فإنها لا تضيع، وإنما تتحول نحو الداخل والباطن، فتختزن هناك وتتخمر وتصبح طاقة روحية ملهمة خلاقة. وفي هذا المستودع الروحي العميق والسري تتبلور وتتصور العناصر اللا واعية التي تصدر عنها الرموز والقيم والمعالم والانطباعات وتتحول إلى أرصدة معنوية ثابتة ومبدعة في المرجعية العميقة للثقافة والشعب، إنها تتحول إلى أساس التاريخ الثقافي، وجذوته الحية والتعبير المكثف عن روحه. فكل ما يحدث هو أنها تنتقل من دائرة تنظيم الخبرة العملية الظاهرة للجماعة إلى دائرة تنظيم الخبرة الشعورية الباطنة، قبل أن تتاح لها ظروف ملائمة كي تعود أقوى وأكمل مما كانت عليه، مغتنية بالتجربة الكبرى لضياعها الذاتي. وفي غياب نظم فعالة واعية كثيراً ما تكون الكلمة الأخيرة بل والأولى في تحديد سلوك الفرد إلى هذه الدائرة الخطيرة اللا واعية وغير المرئية.