الصحة العامة وعقلنة تنظيم المجال الحضري، من تاريخ التمدّن-Paul Claval – ت - محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

كتب ابن خلدون في تاريخ العبر محاولا تفسير العلاقة بين كثرة العمران وانتشار الطواعين والمرض ملفتا النظر إلى أثر فساد الهواء، ورأى أن ترك مساحات فارغة بين المساكن والمباني يسمح بتموّج الهواء الذي يذهب بما يحصل فيه من فساد وعفن، ويأتي بالهواء الصحيح ، وهو علاج وقائي تأخر الوعي به في بعض بلاد أوربا حتى القرن 18م،
فالصور الأنيقة لمدن أوربا الغربية تخفي وراءها تاريخا من التطور العميق في بنياتها، وفي أنظمتها العمرانية والمعمارية، فقد كانت لفترات طويلة مجالات حضرية تصارع الموت وعوامله الصحية الصامتة ، ولم يتحول البعد الصحي إلى مقوم ضمن سياسة المدينة وثقافتها سوى بعد ولوج فترات التاريخ الحديث...
هنا مقالة في الموضوع من زاوية نظر الباحث الجغرافي Paul Claval الذي تخصص في أسئلة الجغرافيا الجديدة، وموضوعات تنظيم المجال في المدن تمثلات، وإعدادا، وتنظيما وأدوارا.

اكتشاف مشكل الصحة العامة وعقلنة المجالات الحضرية :
ازدادت جهود عقلنة تنظيم المجالات الحضرية بفعل هاجس محاربة الأمراض والحاجة إلى ذلك منذ العصر الوسيط.
الآن، وبعد أن علمنا أن سكان الحواضر لا يستقر عددهم سوى بفضل الهجرات الدائمة للريفيين، فالمشاكل الصحية صارت مُدرَكَةً بشكل جديد وحاد. لقد كانت، وفي الغالب، شروط العيش في المدينة سيئة كما يؤكد ذلك تجدد انتشار الأوبئة، والتي لا تُفهم أسبابها ولا أشكال انتشارها، وأصبح من الضروري تطويقها لقلب اتجاه التدهور الديمغرافي ووقفه.
وابتداء من سنة 1760م قام التيار" الأبُقراطي" الجديد، والذي كان له تأثير كبير داخل فرنسا، بمضاعفة نوع من الطبوغرافيا الصحية الموجهة لتدقيق مخاطر الصحة الخاصة بكل تجمع حضري وبكل حيّ . وحتى تتمكن من تحسين الصحة العمومية كان لا بد لشكل السلطة الذي تقوم به الهيئات الحاكمة تجاه السكان أن يصير أكثر فعالية .
فقد كانت السلطة السياسية كما تمت ممارستها متقطعة، وكثير من الأمور تنفلت منها.. وحجم العُقد كان كبيرا ما يحتّم ضرورة تقليصه . إنه موضوع السياسة الحيوية التي نشأت في فرنسا وبصفة عامة في أوربا الغربية نهاية القرن 18م .
لم يكن الطب بعد في مستوى التشخيص الدقيق لعدد حالات العدوى التي يعاني منها السكان، كما أنه وبشكل أقل غير قادر على فحصهم وعلاجهم، ولخفض عدد الوفيات وتجنب مآسي الموت الجماعي الذي تسببه الأوبئة، لم يكن من الممكن سوى اللجوء إلى الإجراءات الوقائية .
ازداد تضارب الآراء حول عوامل انتقال العدوى وأشكالها ، والجهل كان كليّا حول أسباب العدوى : الميكروبات والفيروسات، وحول ما يؤدي إلى نقلها من فرد إلى آخر .
ما كان مُتَّهما كان منفلتا من أمام الأعين، ولكنه يقع تحت الحواس: الاهتمام انصب بشكل خاص حول ما يرتبط بحاسة الشم.
منذ 1760 ظهرت العفونة والروائح النتنة التي تنتج عنها، باعتبارها العوامل الأكثر خطورة في انتشار الأمراض، والأعمال التي اعتنت بالتحاليل القديمة التي قام بها "روبر بويل" كانت تهتم ب"الهواء" الذي ينشأ عن تخمّر المواد العضوية. ألم تكن الغازات الناجمة عن التعفن، إذن، سببا لانتشار الأمراض؟
صار الصراع من أجل الوقاية الصحية وضد " الهواء الفاسد" أمرا ملتبسا، وانتشر هذا المذهب منذ 1770، وأفضى هذا النوع من المعرفة إلى ميلاد نوع جديد من قراءة المجال الحضري. لقد كان ُينظر إلى كل ما يؤدي إلى تراكم المواد العضوية وإلى التخمّر وتضاعف الغاز الآسن(الفاسد) بمثابة تهديد .
أين يتم إفراغ المياه المنزلية المستعملة ؟والحُفر الهشّة التي تقوم بمراكمة المادة دون أن تسمح لها بالتصريف، ألا تمثل أسوأ الحلول ؟ القنوات التي تُلقى فيها حمولات الحفر (الصحية) وبقايا، وأحشاء الحيوانات المذبوحة من أجل الاستهلاك ألقت هي أيضا بثقلها على المدن كتهديد دائم، كما أن الجثث المتعفنة في المقابر الضيقة جدا بالمدن كانت تمثل تهديدا مماثلا، وهو ما ضاعف قوة الحركة من أجل نقل وتحويل المقابر خارج مجال المدينة، وتقنين الحرف المرتبطة بالجلود، و كل الأنشطة ذات الروائح الكريهة والهواء الفاسد .
التصورات الجديدة حول الصحة سرعان ما كان لها تأثير على سياسة التحضر.
فإذا كانت الغاية هي الوقاية من المرض، فالاحتياطات التي ينبغي اتخاذها هي على نمطين: أولا التخلص من كل المواد والأشياء التي تخلق الظروف المواتية للأمراض المعدية ورميها خارج مجال المدينة، ثانيا وضع خطط للمدينة بما يسمح بحركة الهواء داخلها وبتجدد دائم وسريع له .
أصبح نظام التحضر الوقائي والصحي يوجه الاتهام إلى الممرات الضيقة والملتوية في المراكز القديمة من المدن ويرفضها، لأنها لا تستفيد أبدا من تيارات الهواء النقية والمُطَهّرة، وصار الذوق (العمراني) يميل أكثر نحو الشبابيك المستطيلة والكبيرة، والممرات الواسعة، وهذا ما يفسر التوجه لتعديل شكل السكن، وتناسق المنظورات، ثم سهولة التنقل والحركة . لا أحد كان باستطاعته الاعتراض حينما يتم فتح الأحياء القديمة وإعادة هيكلتها قصد حماية الصحة العامة .

أولى التقسيمات النطاقية كانت من أجل استبعاد الأنشطة التي يمكنها إلحاق الأذى بالصحة عن نطاق الأحياء السكنية: المجازر، والدباغة والتخلص من أحشاء وبقايا الحيوانات، كل ذلك تمّ نقله خارج المدينة.
غير أن تلك التصورات التي تستند على مذاهب وقائية وصحية كانت تقوم على ركائز هشة: فقد كانت تجهل دور الماء الشروب باعتباره عاملا ناقلا للجراثيم ،بينما أنها(التصورات) ذات حساسية تجاه البرك الراكدة الملوثة والتي تنبعث منها الروائح الكريهة. إنها دون شك بمثابة حاضنات للعدوى !
صار من الضروري ضمان تدفق المياه وجريانها، لأن كل مستنقع هو تهديد . وازداد الحماس فجأة من أجل إنشاء الأرصفة على طول الممرات، وقد أُنفقت عليه مبالغ مهمة، وكذا استيراد التقنيات الجديدة من إنجلترا لتهيئة الطرق ،وظهر الرصيف في باريس سنة 1781 (بينما تلك التقنية كانت سائدة في مدينة روما منذ القرن 16م) .
يكون الماء صحيا أكثر حينما يتدفق في جريانه، هذا ما جعل الاختيار بالنسبة للمدن يكون على توفير الماء الشروب انطلاقا من الأنهار القوية في جريانها، وذلك عبر إنشاء، وبعناية، أنابيب لنقل المياه .
وحيث أن المياه كانت تحتل مكانة أقل من تلك التي حظي بها الاهتمام بالهواء في فهم عوامل الأمراض، فقد كان الانتباه للمشاكل الغذائية والماء متأخرا وتطور ببطء .
كانت المستشفيات تعاني أكثر من غيرها من المرافق من الانتشار السريع للعدوى، وفي حالة الوباء تتحول المستشفيات إلى ردهات للموت ! ولا شيء مفاجئ في أن تُولي سياسة التحضر، لأهداف وقائية، العناية بالمستشفيات، والعمل على تطويرها عبر مزيد من الطرق الذكية لتوفير تهوية جيدة بها وقنوات تصريف للمياه المستعملة . وكانت البنية العمرانية الأفضل هي نظام البناء بالأجنحة المنفصلة، وصار من السهل التخلص من "الهواء الفاسد" والملوثات . وانطلاقا من القرن18م صار ذلك المبدأ مطبقا في المركز الملكي للتمريض"ستونهاوس" في "بلايموث"،ورغم اقتراح ذلك النموذج في فرنسا من طرف "Tenon" سنة 1788 لإعادة تهيئة مستشفى"Hotel-Dieu" في باريس لم يبدأ القيام بذلك سوى في فترة متأخرة في كل من مستشفى "لاريبواز" سنة 1854 ومستشفى "Hotel-Dieu" سنة 1878 .
لقد سجّل بذلك المنعطف الوقائي -الصحي خطوة مهمة في عقلنة تهيئة المجالات الحضرية.
"مختصر تاريخ التمدن" ص104-107 .
Paul Claval (2014).éd. Pluriel

 

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟