04غشت 1578م كان الحدث.
كل أحلام القوى المسيحية تلاشت أمام الرياح التي هبت مضادة لهم (بروديل).
هكذا ختم ف.بروديل تعليقا له حول الانتصار-"ليبانتي"- الذي أنهى الشعور بالدونية لدى القوى الأوربية في حروبها البحرية بفضاء المتوسط ضد كل من الامبراطورية العثمانية، وقوى بلدان شمال إفريقيا الممتدة من طرابلس الليبية إلى سلا المغربية، بل إن بروديل رأى في معركة "ليبانتي" يوم 07أكتوبر1571 انتصارا في حرب صغيرة عملت الاستوغرافيا الغربية على تضخيمها، وإن لم تكن نتائجها باهرة(ص251)،ألم تكن المواجهة في "ليبانتي" بين الأسطول العثماني وتحالف العصبة المسيحية بمحض الصدفة لأن كلاهما كان تائها في مياه المتوسط؟ .
لقد كان انتصار "ليبانتي" باهت النتائج، إذ أعقبته سلسة من الهزائم المتجددة لمعسكر القوى الغربية، وشكلت هزيمة التاج البرتغالي أمام الدولة المغربية في معركة وادي المخازن واحدة من بين أشهر تلك الهزائم التي قلبت موازين الأوضاع بمجال المتوسط .
تعرض ف.بروديل لحدث وادي المخازن في الفصل الخامس من مؤلفه، تحت عنوان"الهدنة الإسبانية-التركية1577-1584" وخصص لها مجموعة هامة من الصفحات معتبرا "حرب البرتغال" منعطفا حاسما في القرن 16م خاصة وأن المعركة توافقت مع الصراعات الكبرى في المحيط الأطلنتي، ومع ازدياد المنافسة للسيطرة على العالم . فقد انزاحت السياسة الإسبانية في اتجاه المحيط، ونحو عمق القارة الأوربية بعدما امتلأت فجأة خزينة الحرب الإسبانية، والفضل في ذلك كان لتدفقات هائلة من المعادن النفيسة، وانطلاق "الدورة الملكية النقدية"1579-1592 . ومثّل ذلك تحولا مثيرا للاهتمام لدى المؤرخين، وضمنهم مؤرخو البرتغال الذي يعرفون آثار ذلك المنعطف أكثر من غيرهم، غير أنهم اختاروا النظر إليه من الزاوية الضيقة، مع أن المصير السيادي للبرتغال كان في جزء منه في قلب الأحداث التي تلتهب بمياه المحيط الأطلسي .
انتقلت مملكة فيليب الثاني بعد معركة "ليبانتي" من حالة الحذر، والسياسة الدفاعية إلى حالة عدوانية استفادت منها إسبانيا التي كانت تترقب، وتنتظر مد نفوذها وقوتها نحو غرب القارة الأوربية، وكانت ضمن موقع فيها أرض ودولة البرتغال.
انتهت المغامرة البرتغالية بالمغرب بالهزيمة الساحقة في معركة "القصر الكبير" يوم04غشت1578م، في مكان غير بعيد جدا عن طنجة، وعلى الحدود مع مجرى وادي اللوكوس الذي ينتهي عند مدينة العرائش ،وكانت هزيمة وادي المخازن بمثابة الكارثة في التاريخ البرتغالي.
مغامرة الدخول إلى الأراضي المغربية، قادها الملك البرتغالي "سيبستيان" الذي وصفه ف.بروديل بأنه كان طفلا متهورا وغير مسؤول تقريبا، بعدما أصابه الغرور بتقليد سياسة "فيليب الثاني" وأحاطت به فكرة الحملات المقدسة الصليبية.
نظّم الملك البرتغالي حملته العسكرية ضد المغرب ببطء شديد، غير أنه لا شيء كان فيها مفاجئا، فقد شاع الخبر عنها لدى الشريف "عبد الملك السعدي"، وكان له علم بها سواء من حيث الإعداد، أو عند تحرّك الأسطول، بل وحتى فترة استراحة الجيش في "قادس"، هو ما اعتبره بروديل عاملا مساعدا لسلطان الدولة السعدية على اتخاذ تدابيره الاحتياطية، والاستعداد للمواجهة، ثم الإعلان رسميا وشعبيا عن الجهاد ضد العدوان البرتغالي .
نزلت الحامية العسكرية البرتغالية في طنجة، وبعدها انتقلت صوب مدينة أصيلا يوم 12يوليوز1578م: "لقد قامت دولة البرتغال بغزو بلد قرر الدفاع عن نفسه" ولديه قوة متميزة يعتمد عليها خاصة من الفرسان، مع قطع من السلاح (بنادق مصدرها في الغالب بلاد الأندلس)والمدافع.
يصف ف.بروديل حركة الجيش البرتغالي في مسيرته الممتدة بالعربات، وهي تتجه نحو مصيرها في عمق الداخل بأراضي المغرب، وكان اللقاء والمواجهة بالقصر الكبير يوم 04غشت1578م.
لم يكن الملك البرتغالي قادرا على القيادة، وضاعف نقص الغذاء، وتعب الجنود الناجم عن السير لمسافات طويلة تحت أجواء الصيف الحار، عجز وضعف المعسكر البرتغالي، وكان في مواجهته بلد المغرب وحشود المقاومين الذين سحقوا الجيش البرتغالي ،والناجون منه فرارا وجدوا الأهالي بالمرتفعات في انتظارهم .
صار الملك البرتغالي في عداد الموتى، وانتهى الشريف السعدي المعزول من الحكم ،والذي رافق المسيحيين في حربهم، غرقا، بينما توفي السلطان السعدي عبد الملك متأثرا بمرضه مساء "معركة الملوك الثلاثة"(بروديل.ص.347) وبلغ عدد أسرى المعركة-حسب ما جاء به بروديل- ما بين 10.000و 20.000.
يرى ف.بروديل، بأن معركة وادي المخازن، لم تكن بمثابة الكارثة الكاملة بالنسبة للبرتغال والاستوغرافيا البرتغالية، معتبرا بأنه لا يمكننا بالمطلق إغفال نتائجها الهائلة .
فقد أعلنت معركة القصر الكبير قوة المغرب، حتى أن السلطان الجديد حمل في نفس الوقت لقب المنتصرVictorieux والذهبيDoré ،وبالمقابل دشنت الهزيمة البرتغالية لحظة ضياع السيادة المستقلة.
مقتل الملك البرتغالي في المعركة، وغياب الوريث المباشر له، ثم عجز الكاردينال"هنري"(عمّ الملك سبستيان) خاصة وأنه شخص هرم، فتحت الباب على البرتغال من جهة مملكة فيليب الثاني.
لقد كانت معركة وادي المخازن اختبارا قاسيا لدولة البرتغال التي استطاعت بناء امبراطورية تجارية عبر الأطلسي، غير أن تلك الآلة التجارية وجدت نفسها في وضع عطب وشلل أمام المغرب، ومع تخلي نبلاء البرتغال عن جزء كبير من ثرواتهم مقابل افتداء الأسرى، وفقدان البرتغال لعدد هائل من أطره العسكرية في المواجهة، صار عاجزا عن التحكم في صناعة مصيره أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد قادرا على تجاوز ضعفه .
فابتداء من سنة 1578م تضاعفت النتائج الوخيمة بالبرتغال، ومن سوء حظه- بتعبير بروديل- وقع بين يدي منقذٍ عاجز هو الآخر(الكاردينال هنري) لم يجد الدعم والعون في حكومة ساد الفساد بين أعضائها وأساليب الثأر الداخلي.
لقد جعلت تلك الأوضاع طموح المملكة الإسبانية مضاعفا للتوجه غربا، وأحيت آمال الملك "فيليب الثاني" في استعادة حقوق له في التاج البرتغالي(كانت له من جهة والدته)مع أن الدافع الحقيقي لإسبانيا كان هو ضعف السلطة السياسية بلشبونة، وصار أمر خلافة السلطة البرتغالية مشكلا فعليا، هو ما سيتولى أمرها الملك الإسباني مستفيدا من صفته "حارس المسيحية الكاثوليكية " والتي منحته إياها كنيسة روما، وبتأييد من البابوية، وقوى المسيحية غرب القارة الأوربية .
04غشت1578م هزيمة وادي المخازن،ويوم12يونيو1580 توغلت القوات الإسبانية داخل أراضي البرتغال ،وحدث الأمر كما لو أن جيش الملك "فيليب الثاني" كان يقوم بمجرد نزهة عسكرية، ومع أن إسبانيا قد حافظت للبرتغاليين على امتيازاتهم التقليدية وإدارتهم فقد صار البرتغال مجرد "دومينيون"(ص354) تابع للعرش الإسباني ،واستمر الحال كذلك إلى غاية منتصف القرن17م تقريبا .
*تم الاعتماد على مؤلف ف. بروديل-الجزء3- طبعة1990.