من أجل التعريف على نحو أحسن بمفكري العالم العربي، اتخذ معهد العالم العربي قرار إطلاق مشروع طموح للفوز بهذا الرهان. تم إذن انتخاب المثقفين الذين أبانوا عن أصالة وغزارة إنتاجاتهم.
سعى هذا المشروع كذلك إلى جعل أعمالهم وأفكارهم في متناول عامة الناس. كيف أمكن العمل على الاستجابة لهذا التحدي الذي رفعته هذه المؤسسة عندما اختارت المؤرخ المغربي عبد الله العروي؟ هذا ما سنقف عليه في ما كتبه بالفرنسية قدوري عبد المجيد لنفس الغرض.
يعتبر هذا المفكر بحق رمزا للفكر العربي المعاصر بشكل عام والمغربي على وجه الخصوص، لا يزال من الصعب تصنيفه في تخصص محدد: هل هو فيلسوف أم مؤرخ أم باحث أم روائي؟ لا يمكن لقارئ أعماله إلا أن يصاب بالارتباك بهذا الخصوص. إنه يتجاوز التخصصات طالما أنه يدرس الإنسان ككائن معقد ومتعدد الأوجه. يأتي عمق أفكار العروي من صرامته العلمية وتكوينه المفتوح. معرفته العميقة بتاريخ مجتمعه، بتاريخ العالم العربي الإسلامي وبتاريخ الغرب، قوت حدوسه وشحذتها.
الفيلسوف هو الذي يصوغ المفاهيم ويطرح الأسئلة. يصبح روائيا عندما يريد تحرير نفسه من الصرامة العلمية للغوص في الخيال والإبداع. اما المؤرخ فهو الذي برغب في البقاء مرتبطا بمقاربته.تجدر الإشارة للوهلة الأولى إلى أن هذا المثقف أحسن صنيعا عندما حاول شرح وتوضيح وتبسيط الأفكار والأطروحات التي طورها في كتاباته دون ان ينجح أبدا في تبديد سوء الفهم وردود الفعل السلبية في بعض الأحيان، والتي يتم تداولها عن وحول أعماله.
البعض يحكم عليه بكونه مثقفا يدافع عن المخزن، ويصفه آخرون بأنه مثقف النخبة. ومع ذلك، كل الذين يتناولون فكر العروي يفعلون ذلك انطلافا من منظوراتهم. يختارون من كتاباته الإشكالية التي تهمهم (الدولة، الحداثة، الإيديولوجيا، العقل، الإسلام...)، ثم يختارون الزاوية التي تناسبهم. وفاء لنهجهم، يختارون من متون كاتبنا العناصر التي من شأنها أن تشرح، تبرر أو تعزز إشكالياتهم. من البديهي في حالة الاختيار أن نجد دائما الجواب أو الأجوبة المبحوث عنها.
لقراءة العروي، من الضروري الإلمام بالأساس والركيزة اللذين تقوم عليهما أطروحته. أسس مشروعه متجذرة في التاريخ عامة، وفي تاريخ العالم العربي الإسلامي، وتاريخ المغرب على وجه الخصوص. بدون هذا الشرط، كما هو الحال بالنسبة لمعظم أولئك الذين اهتموا بكتابات مثقفنا، يبقى فهم جميع ملامح أفكاره وتبايناتها الدقيقة بعيد المنال.
بالإضافة إلى الأساس التاريخي، يجب مقاربة كتابات العروي كمشروع شامل ومتطور. لكن، إذا ظلت اطروحته الأصلية ثابتة، يدفعه تحول السياقات إلى تحيين فكره وتوضيحه أكثر كلما استدعى الموقف ذلك. ربما هذا ما يفسر هذه التكرارات العديدة التي تميزت بها كتاباته العديدة.
تساعد عناصر محددة من سيرته الذاتية، التي تجاهلها الجمهور، على فهم شخصيته. أحيانا يكون صارما مع نفسه ومع الآخرين، ويتميز بالصرامة والعقلانية، سواء في سلوكه أو في كتاباته.
تهدف هذه الدراسة إلى تحديد الأفكار الأساسية التي تنطوي عليها كتابات هذا المفكر الذي يعتبر مشاكل المجتمع العربي نابعة من الإيديولوجيا. تتجسد هذه الأخيرة وتتجلى بثلاث طرق: الطريقة الأولى تنحصر في الدين كما يدعي البعض. سبب ضعفنا مرتبط بعدم إيماننا بالرسالة الإلهية. والطريقة الثانية تتجذر، وفقا لآخرين، في تنظيمنا السياسي. الحل يتطلب العودة إلى "الإجماع"؛ لأن الإسلام لم يفرض أي تنظيم للسلطة في الوقت الذي يتكيف فيه مع أي نظام.
أما البعد أو الرؤية الأخيرة، التي يعتبرها المؤلف غير مناسبة، هي المقاربة المتحمسة للتكنولوجيا والتي تقول إن الغرب لم يستمد قوته من وجود دولة مستبدة، ولا من دين، وإنما من القوة المادية التي تكتسب بواسطة العمل والعلوم التطبيقية. هذا ما يضمن للغرب الثروة والتنمية.
إذن، يأتي تخلف المجتمع العربي من ارتباطه بنموذج ثقافي موروث من الماضي ورافض للواقع الراهن. يطور المؤلف كذلك الوعي القومي باعتباره بناء يتأسس على الثقافة كإحالة إلى الماضي وعنصر يشكل رمزا موحدا.
لتوضيح هذه الأطروحات، تقترح هذه الدراسة اختيارا دالا لنصوص مقتطفة من كتابات العروي، ولنصوص أخرى كتبت عنه.
اسم العروي مشتق من صيغة الجمع "أولاد العروي"، الذين يشكلون عائلة غير معروفة - بحسب عبد الله العروي- وقليلة العدد تتكون من فرعين، احدهما يقيم بالجديدة بينما الثاني المتحدر منه يقيم بأزمور.
إذا كان هذا الاسم غير معروف في المغرب، فهو ذائع الصيت في الخارج لفترة طويلة. بالصدفة، اكتشف كاتبنا وجود هذا الاسم في تونس. وجده مذكورا في كتاب "الإحاطة" لابن الخطيب عندما ذكر اسم أول من كتب تاريخ الأندلس وكان هو أحمد بن موسى العروي الذي توفي سنة 388 ه/988 م.
كيف السبيل إلى التطرق إلى حياة عبد الله العروي علما بأنه يتجنب الحديث عنها؟ دعنا نقول معه إن الزمان والمكان هما اللذان جعلا منه ما هو عليه. لقد تبين أنه من المفيد جدا تحديد موقع هذا المفكر الخارج عن المألوف ضمن سياقه. دون الوقوف طويلا على سيرته الذاتية، سوف نتبع مساره بالأولى كمفكر لتسليط الضوء على اللحظات التي ساهمت في تشكيل شخصية وفكر فريد، أصيل وجذاب، ولكن غالبا ما يساء فهمه.
ما يميز هذه الشخصية هو أولا وقبل كل شيء بعدها القومي وتجذرها في البيئة القومية العربية وانفتاحها على الكوني. لا يشعر عبد الله العروي بأنه ينتمي إلى منطقة محددة ولا قبيلة معينة. إنه يعتبر هذا الانتماء مجرد وهم. وفقا له، يتعلق الأمر كثيرا برابطة عوض قرابة في الدم. توقف العروي عن الدفاع عن المجموع. هو مع ما يوحد القوم، الأمة والدولة دون السعي مع ذلك إلى إدماج التروس في هذه الأخيرة.
كثير من الناس لا يفهمون منطق هذا المفكر. ينعت بأنه متباعد، بارد في علاقاته ومن الصعب جدا الاقتراب منه. من خلال قراءة كتاباته الروائية ومذكراته نكتشف أن هذا المفكر عانى من الشعور بالوحدة منذ طفولته المبكرة. ازداد يوم 7 سبتمبر 1933 بأزمور، المدينة الصغيرة المحاذية لمصب نهر أم الربيع. ماتت والدته ولم يتجاوز عمره السنتين. حلت طامو، جدته لأبيه، مكانها لفترة قصيرة. ماتت هي الأخرى عندما كان عمره 11 سنة.
ربما هذا الوضع هو ما يفسر الإجابة التي قدمها لصحافي سأله عما هو الموت. فأجاب: إنه الرفيق الصامت.
كان للعروي علاقة خاصة مع أخته زهرة. كانت هي التي اعتنت به بعد اختفاء جدته. أما بالنسبة لدراسته فقد كان شقيقه الأكبر عبد المالك هو الذي حرص على تعليمه. يتحدث العروي عن عائلته بتواضع وبساطة. يقول إن بعض أفراد عائلته مارسوا وظائف لصالح المخزن مثل خليفة أو قائد. ولم يحصل الابتعاد عن خدمة المخزن إلا في بداية القرن العشرين. عمل أبوه في وقت ككاتب للقائد. مارس التجارة، باع النعال قبل الإفلاس بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 1929 ومنافسة المنتجات اليابانية.
يفيد مفكرنا بأن والده لم ينضم إلى أي زاوية. لم يؤد أبدا فريضة الحج، ولم يبدأ في أداء الصلاة حتى نهاية حياته. لم يجبر أطفاله على إقامة الصلاة. كان والده، بحسب أقوال الكاتب، واقعيا وعاشقا للتاريخ. إنما معه اكتشف ابن خلدون وإسلام العقل. من خلاله، اكتشف مفكرنا الإسلام كموضوع للنقاش وليس كقاعدة في الحياة(سنة) أو كواجب(فرض).
مع والده تناول الدين كموضوع للدراسة. بإماطته اللثام عن علاقاته بوالده، يعود العروي إلى الأم بوصفها مصدرا للعاطفة. ويكتب بهذا الصدد إنه في حالة غياب أم تمكنت من إعادة التوازن، تحدث الإسلام إلى عقله أكثر مما تحدث إلى قلبه.
وقال عبد الله العروي إنه عاش في بيئة ليبرالية، وكان على استعداد لقبول واحتضان منظور المفكرين العقلانيين.
أمضى عبد الله العروي سنة في مدرسة ابتدائية عمومية. في سن الحادية عشر، غادر مسقط رأسه ليواصل تعليمه في مدارس داخلية بمدن مختلفة، اولا بمراكش في إعدادية، ثم بالرباط في ثانوية مولاي يوسف. بعد حصوله على الباكالوريا درس التاريخ في ثانوية جورو تحت إشراف الأستاذ لوزينكي، والجغرافيا في ثانوية ليوطي بالدار البيضاء تحت إشراف الأستاذ جان لويس مييج.
من الواضح أن الانفصال المبكر عن عائلته وعزلته كانا حاسمين في تشكيل شخصيته، كما يشير هو نفسه عندما كتب أنه على عكس زملائه الشغوفين بالأدب والشعر، انجذب نحو الفكر المجرد، وقال إن هذه الميول بدت له في ما بعد كانها تعود ربما إلى الحرمان العاطفي المحتمل.
في الحقيقة، قرأ العروي أثناء دراسته الثانوية الكثير من نصوص نيتشه، وأندريه جيد. في ما بعد، اهتم بديكارت وأرسطو وهيغل. حول المنظومة التعليمية التي تكون في إطارها مفكرنا في عهد الحماية، قام بمقارنة دالة مع الوضع الحالي وكتب في هذا الشأن يقول إننا نلاحظ اليوم أن مستوى التعليم أو بالأحرى الدراسات مندمح مع المناخ الثقافي العام، وأن الوضع في ما قبل كان عكس ذلك، حيث الأمية كانت متفشية جدا، وكانت ثقافة الناس غير مهمة، لكن لم يكن لذلك أي تأثير على المدرسة في ذلك الوقت حيث كان مستوى التعليم مرتفعا، وبدا وكأنه واحة معزولة عن بيئتها.
مسار عبد الله العروي غني ولكنه صعب التحديد. في عام 1953، غادر المغرب لمتابعة تعليمه العالي في باريس، تردد بين الطب والعلوم السياسية، واختار الأخيرة.
تحدث عن التحاقه بكلية العلوم السياسية، أثار انتباه قارئه للمتاهة الفكرية لفرنسا في ذلك الوقت. توقف عند خصوصية المدرسة الحرة للعلوم السياسية التي أسسها البروتستانت وتميزت ابلانضباط والعمل الجماعي. كانت الدروس تقدم على شكل ندوات وليس على شكل محاضرات. كانت البرامج التي تقدمها المدرسة تسعى لتحديد وتحليل ديناميات وبنيات الدولة الحديثة.
كانت برامجها تستخدم العلوم التي تمكن الطلبة من فهم هذه الدينامية التي تميز بنيات الدولة الحديثة. وأدرك عبد الله العروي أن التكوين الذي توفره هذه المدرسة كان مخصصا للطلبة الغربيين بشكل والفرنسيين بشكل خاص. هذه الملاحظة التي دفعته إلى أن يكتب أنه في ما كان يتعلمه هو الطالب المغربي مع أحكامه المسبقة وتطلعاته..إلخ، كان عليه أن يميز بين ما هو خاص بفرنسا في ذلك الوقت وما هو قابل للتعميم، وما كان يمكن أن يطبق بطريقة أو بأخرى على الوضع الذي كانت عليه بلاده.
كما أدلى عبد الله العروي بملاحظة ثانية حول هذا التكوين. لقد أكد على تهميش، أو بالاحرى غياب التاريخ في هذا المنهاج الدراسي. في هذا الصدد، تساءل: كيف نعرف ما هي الدولة الحديثة لأجل بنائها أو إعادة بنائها إذا لم نسائل التاريخ؟ذلك ما لم يقع ذكره. لكنه الاستنتاج المنطقي الذي يمكن لطالب يقظ أن يستخلصه، كما كان يقول.
عندما أكمل العروي دراسته في مدرسة العلوم السياسية عام 1956، أراد الالتحاق بالمدرسة الوطنية للإدارة. تزامنت هذه الرغبة مع استقلال المغرب ولم تعد الإدارة الفرنسية تسمح للمغاربة باجتياز امتحان الولوج إلى هذه المدرسة التي كانت آنذاك تعتبرهم غرباء. ادى هذا الوضع الجديد إلى تغيير عميق في مسار مفكرنا والذي جعله يقول: "لذلك انقلبت خطتي في الحياة رأسا على عقب، اعتقدت أنني اخترت بالتأكيد مصيري وها انا ذا في حالة من عدم اليقين". بعد خيبة الأمل هذه، التفت إلى تاريخ العالم الإسلامي.
أمضى سنة في قراءة الكتب العربية التي تتحدث عن الفكر العربي المعاصر. وسع نطاق أبحاثه من خلال قراءة الدراسات بالفرنسية وبالإنجليزية في كل من الفكر والاقتصاد والعلوم الاجتماعية والفلسفة، ما دفعه إلى القول: "كونت نفسي بنفسي من خلال قراءات الخاصة".
كانت إقامته في باريس مفيدة له؛ إذ سمحت له باكتساب ثقافة جديدة وتعميق نطاق معرفته بالعالم العربي والعالم الغربي وبتحقيق الانفتاح على العالم.
اختار العروي دراسة التاريخ في جامعة السوربون لأجل الحصول على دبلوم في العلاقات التجارية بين المغرب والمدن الإيطالية من البدايات إلى القرن الخامس عشر. سمح له هذا البحث بمقاربة تاريخ المغرب لفهم الآليات التي أعاقت التطور الطبيعي لبلادنا وأجبرتها على الانعزال والانحطاط والتقهقر بدلا من اتباع ديناميات التغيير التي كانت تحدث في اوربا في نفس الوقت.
ولما كان غير قادر على نيل شهادة التبريز في التاريخ بسبب جهله باللاتينية، قرر عبد الله العروي إعداد دبلوم في اللغة العربية، ما دفعه إلى أن يقول بقناعة معينة: "ها أنا ذا مدفوع لأصولي".
بعد حصوله على إجازة في اللغة العربية، قام بإعداد دبلوم الدراسات العليا في نفس التخصص سنة 1961. أطره روبرت برونشفيج، المؤرخ المختص في الحفصيين،. هذا الأخير كلف العروي بترجمة نص لابن خلدون: "شفاء السائل وتهذيب المسائل".
في عام 1963، حصل مفكرنا على شهادة التبريز في الإسلاميات، ثم في علم المعلومات. وفي 1976، حصل على شهاده دكتوراه الدولة في التاريخ من جامعة السوربون.
تركز مسار العروي الفكري على العالم العربي بشكل عام والمغرب بشكل خاص، كما أدرك هو نفسه عندما كتب أنه متى يعكف على الوضع المحدد للمغرب يمارس عمل مؤرخ وعندما ينتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية يتحول إلى باحث في علم الاجتماع. ولكن عندمآ يركز انتباهه على المفاهيم يستخدم الفلسفة. يرفض العروي التخصص ويشجع على الانفتاح على التفكير النقدي.
مكنه اهتمامه بابن خلدون من الكشف عن التناقض بين العقلانية اللازمة للدولة وظهور التصوف، سواء كان فرديا أو جماعيا، الذي يشهد - وفقا له - على اليأس العام ويدفع الفرد والجماعة عن العالم للسقوط في "انتظار الموت والأمل الراسخ في أن يتذوق مباهج الآخرة".
إقامة مفكرنا بالقاهرة سمحت له بفهم الأزمة العميقة التي كان العالم العربي يمر بها في الستينيات، وبتطوير تفكيره حول التيمة التي شكلت الأطروحة المركزية لكتابه؛ ألا وهي التخلف التاريخي للعالم العربي وتمثله للذات والآخر.
بلور كتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" تفكيرا عميقا وأصيلا. إنه تشريح جثة لوضعية تعودد جذورها إلى الماضي البعيد.
استبدت بعبد الله العروي موهبته كباحث، لكنها لم تمنعه من شغل الوظائف التي سيستخدمها في بحوثه. عند عودته من باريس عام 1958، التحق بوزارة الشؤون الخارجية. في 1960، أصبح ملحقا ثقافيا في باريس ثم في القاهرة. ثم جرى تعيينه ممثلا عن المغرب في اليونسكو.
انطلاقا من عام 1962، غادر الوزارة ليتفرغ للبحث والكتابة والتعليم. وهكذا عمل سنة 1963 في معهد للدراسات الإسلامية بباريس. تم تعيينه أستاذا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1964. بين عامي 1967 و1970، كان أستاذا زائرا في لوس أنجلوس بجامعة كاليفورنيا، تم فصله من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ليلتحق بمعهد التعريب.
تزامن ذلك القرار مع نشره باللغة العربية لكتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة". كانت السلطة تخشى من أن يكون لهذا الكتاب تأثير على الحركة الطلابية التي شهدت غليانا غير مسبوق.
بعد هذه الفترة المضطربة، عاد عبدالله العروي لمنصبه كأستاذ بالكلية واستمر فيه حتى حصل على تقاعده سنة 2000. في سنة 1977، انخرط العروي في تجربة سياسية من خلال الترشح للانتخابات باسم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الدار البيضاء بدائرة حي العنق.
دون قيامه بأي مهمة دبلوماسية سابقة، تم تكليفه من قبل الملك الحسن الثاني بعدة ملفات من بينها قضية الصحراء المغربية، وتسوية الخلاف الطارئ عام 1990 بين المغرب وفرنسا. استطاع أن يتدخل لدى أصدقائه من اليسار الفرنسي والتقى بموروا وجوسبان وفابيوس.
منذ عام 1985، أصبح عضوا في أكاديمية المملكة المغربية. وكان أيضا عضوا في مجلس السلام العالمي. في عام 2002، صار عضوا في مجلس حقوق الإنسان بالمغرب.
حصل عبد الله العروي على العديد من الجوائز الفخرية والعديد من الجوائز في المغرب وأماكن أخرى. نذكر، من بين أمور أخرى، جائزة الحكومة الكاتالونية لعام 2000، وجائزة رجل السنة في الإمارات العربية المتحدة.
ليس من السهل تصنيف العروي. لكنه هو نفسه يؤكد على أنه مؤرخ بالضرورة. لكن أي نوع من المؤرخين هو؟ يرفض التاريخ كمخزون للوقائع والأحداث، ولكن لا يقتصر عنده دور المؤرخ في إبراز آثار الماضي. بالنسبة له، من يكتفي في أبحاثه بهذا المخزون ليس مؤرخا ولكنه أراخ، مدون تاريخ.
ابتكر العروي كلمة خاصة باللغة العربية بالنسبة لأولئك الذين يختصرون التاريخ في عملية تخزين الوقائع: هذه الكلمة هي(أرخ). الكلمة العربية تؤكد شدة الفعل الذي يسعى للحصول على أقصى قدر من الوقائع. هي تعني أيضا أن الأساسي يتركز في إرادة تقديم أكبر عدد ممكن من الأحداث التاريخية. الأراخ يعطي أكبر قدر ممكن من الوقائع لمحاربة النسيان.
بالنسبة للعروي، من يكتفي بهذا العمل لا رؤية واعية له. إنه بكل بساطة وسيط. إنه خبير بدون خبرة لفترة زمنية يكتب تاريخها دون أن يكون قادرا على اكتشاف الأساسي فيه ومنطق الأحداث التي استطاع تخزينها.
التاريخ بالنسبة للعروي عملية معقدة، يتم إنجازها عبر عدة مراحل يشكل عمل الأراخ انطلاقتها الأولى. يجب ألا يكتفي المؤرخ بتجميع الأحداث. لكن من المفترض أن يكون له تصور ورؤية بحيث لا ينفصل التاريخ عن الحرية. الوعي التاريخي ضروري للمؤرخ، والتاريخ تصتعه الوقائع.
بناء الواقعة التاريخية يتأسس ويتغذى على الوثائق. كل من اكتسب الوعي التاريخي، كما يقول، تكون لديه القدرة على إدراك الفرق بين المؤرخ والإيديولوجي. الأول يبحث عن منطق الأحداث، بينما يحاول الثاني العثور على الأحداث التي يمكن لها تبرير مواقفه.
هذا الوعي التاريخي لا يمكن أن يتوفر فقط لدى المؤرخ وحده ولكن يجب أن يكون موجودا أيضا في المجتمع ككل. في هذا الشأن، كتب العروي يقول إن المسألة لا تكمن في التاريخ كوقائع، لأن الوقائع التاريخية تحدث بدون توقف، ولكن المشكلة تكمن بالضبط في وجود أو عدم وجود وعي تاريخي. هذا يهم عقلية المجتمع بأسره وليس فقط المؤرخين المحترفين.
التوضيح هذه الفكرة عن الوعي التاريخي الذي يهم عقلية المجتمع بأسره وليس فقط المؤرخين المحترفين، يستشهد العروي بأحداث الانقلاب العسكري بالصخيرات الذي أجهض عام 1971 قائلا: "هذه الأحداث تذكرني بما قاله الحجوي عن أحداث عام 1908. في ذلك الوقت، تعارضت مصالح فرنسا مع مصالح إنجلترا وفي عام 1971 وقعت تناقضات بين المصالح الأمريكية والمصالح الفرنسية".
يميز العروي بين مستويات ضمن مبحث التاريخ. البعض يقارب هذا الأخير كما لو كان شهادة يدلي بها الإنسان عن نفسه. يمكن أيضا اعتباره
أمضى سنة في قراءة الكتب العربية التي تتحدث عن الفكر العربي المعاصر. وسع نطاق أبحاثه من خلال قراءة الدراسات بالفرنسية وبالإنجليزية في كل من الفكر والاقتصاد والعلوم الاجتماعية والفلسفة، ما دفعه إلى القول: "كونت نفسي بنفسي من خلال قراءات الخاصة".
كانت إقامته في باريس مفيدة له؛ إذ سمحت له باكتساب ثقافة جديدة وتعميق نطاق معرفته بالعالم العربي والعالم الغربي وبتحقيق الانفتاح على العالم.
اختار العروي دراسة التاريخ في جامعة السوربون لأجل الحصول على دبلوم في العلاقات التجارية بين المغرب والمدن الإيطالية من البدايات إلى القرن الخامس عشر. سمح له هذا البحث بمقاربة تاريخ المغرب لفهم الآليات التي أعاقت التطور الطبيعي لبلادنا وأجبرتها على الانعزال والانحطاط والتقهقر بدلا من اتباع ديناميات التغيير التي كانت تحدث في اوربا في نفس الوقت.
ولما كان غير قادر على نيل شهادة التبريز في التاريخ بسبب جهله باللاتينية، قرر عبد الله العروي إعداد دبلوم في اللغة العربية، ما دفعه إلى أن يقول بقناعة معينة: "ها أنا ذا مدفوع لأصولي".
بعد حصوله على إجازة في اللغة العربية، قام بإعداد دبلوم الدراسات العليا في نفس التخصص سنة 1961. أطره روبرت برونشفيج، المؤرخ المختص في الحفصيين،. هذا الأخير كلف العروي بترجمة نص لابن خلدون: "شفاء السائل وتهذيب المسائل".
في عام 1963، حصل مفكرنا على شهادة التبريز في الإسلاميات، ثم في علم المعلومات. وفي 1976، حصل على شهاده دكتوراه الدولة في التاريخ من جامعة السوربون.
تركز مسار العروي الفكري على العالم العربي بشكل عام والمغرب بشكل خاص، كما أدرك هو نفسه عندما كتب أنه متى يعكف على الوضع المحدد للمغرب يمارس عمل مؤرخ وعندما ينتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية يتحول إلى باحث في علم الاجتماع. ولكن عندمآ يركز انتباهه على المفاهيم يستخدم الفلسفة. يرفض العروي التخصص ويشجع على الانفتاح على التفكير النقدي.
مكنه اهتمامه بابن خلدون من الكشف عن التناقض بين العقلانية اللازمة للدولة وظهور التصوف، سواء كان فرديا أو جماعيا، الذي يشهد - وفقا له - على اليأس العام ويدفع الفرد والجماعة عن العالم للسقوط في "انتظار الموت والأمل الراسخ في أن يتذوق مباهج الآخرة".
إقامة مفكرنا بالقاهرة سمحت له بفهم الأزمة العميقة التي كان العالم العربي يمر بها في الستينيات، وبتطوير تفكيره حول التيمة التي شكلت الأطروحة المركزية لكتابه؛ ألا وهي التخلف التاريخي للعالم العربي وتمثله للذات والآخر.
بلور كتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" تفكيرا عميقا وأصيلا. إنه تشريح جثة لوضعية تعودد جذورها إلى الماضي البعيد.
استبدت بعبد الله العروي موهبته كباحث، لكنها لم تمنعه من شغل الوظائف التي سيستخدمها في بحوثه. عند عودته من باريس عام 1958، التحق بوزارة الشؤون الخارجية. في 1960، أصبح ملحقا ثقافيا في باريس ثم في القاهرة. ثم جرى تعيينه ممثلا عن المغرب في اليونسكو.
انطلاقا من عام 1962، غادر الوزارة ليتفرغ للبحث والكتابة والتعليم. وهكذا عمل سنة 1963 في معهد للدراسات الإسلامية بباريس. تم تعيينه أستاذا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1964. بين عامي 1967 و1970، كان أستاذا زائرا في لوس أنجلوس بجامعة كاليفورنيا، تم فصله من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ليلتحق بمعهد التعريب.
تزامن ذلك القرار مع نشره باللغة العربية لكتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة". كانت السلطة تخشى من أن يكون لهذا الكتاب تأثير على الحركة الطلابية التي شهدت غليانا غير مسبوق.
بعد هذه الفترة المضطربة، عاد عبدالله العروي لمنصبه كأستاذ بالكلية واستمر فيه حتى حصل على تقاعده سنة 2000. في سنة 1977، انخرط العروي في تجربة سياسية من خلال الترشح للانتخابات باسم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الدار البيضاء بدائرة حي العنق.
دون قيامه بأي مهمة دبلوماسية سابقة، تم تكليفه من قبل الملك الحسن الثاني بعدة ملفات من بينها قضية الصحراء المغربية، وتسوية الخلاف الطارئ عام 1990 بين المغرب وفرنسا. استطاع أن يتدخل لدى أصدقائه من اليسار الفرنسي والتقى بموروا وجوسبان وفابيوس.
منذ عام 1985، أصبح عضوا في أكاديمية المملكة المغربية. وكان أيضا عضوا في مجلس السلام العالمي. في عام 2002، صار عضوا في مجلس حقوق الإنسان بالمغرب.
حصل عبد الله العروي على العديد من الجوائز الفخرية والعديد من الجوائز في المغرب وأماكن أخرى. نذكر، من بين أمور أخرى، جائزة الحكومة الكاتالونية لعام 2000، وجائزة رجل السنة في الإمارات العربية المتحدة.
ليس من السهل تصنيف العروي. لكنه هو نفسه يؤكد على أنه مؤرخ بالضرورة. لكن أي نوع من المؤرخين هو؟ يرفض التاريخ كمخزون للوقائع والأحداث، ولكن لا يقتصر عنده دور المؤرخ في إبراز آثار الماضي. بالنسبة له، من يكتفي في أبحاثه بهذا المخزون ليس مؤرخا ولكنه أراخ، مدون تاريخ.
ابتكر العروي كلمة خاصة باللغة العربية بالنسبة لأولئك الذين يختصرون التاريخ في عملية تخزين الوقائع: هذه الكلمة هي(أرخ). الكلمة العربية تؤكد شدة الفعل الذي يسعى للحصول على أقصى قدر من الوقائع. هي تعني أيضا أن الأساسي يتركز في إرادة تقديم أكبر عدد ممكن من الأحداث التاريخية. الأراخ يعطي أكبر قدر ممكن من الوقائع لمحاربة النسيان.
بالنسبة للعروي، من يكتفي بهذا العمل لا رؤية واعية له. إنه بكل بساطة وسيط. إنه خبير بدون خبرة لفترة زمنية يكتب تاريخها دون أن يكون قادرا على اكتشاف الأساسي فيه ومنطق الأحداث التي استطاع تخزينها.
التاريخ بالنسبة للعروي عملية معقدة، يتم إنجازها عبر عدة مراحل يشكل عمل الأراخ انطلاقتها الأولى. يجب ألا يكتفي المؤرخ بتجميع الأحداث. لكن من المفترض أن يكون له تصور ورؤية بحيث لا ينفصل التاريخ عن الحرية. الوعي التاريخي ضروري للمؤرخ، والتاريخ تصتعه الوقائع.
بناء الواقعة التاريخية يتأسس ويتغذى على الوثائق. كل من اكتسب الوعي التاريخي، كما يقول، تكون لديه القدرة على إدراك الفرق بين المؤرخ والإيديولوجي. الأول يبحث عن منطق الأحداث، بينما يحاول الثاني العثور على الأحداث التي يمكن لها تبرير مواقفه.
هذا الوعي التاريخي لا يمكن أن يتوفر فقط لدى المؤرخ وحده ولكن يجب أن يكون موجودا أيضا في المجتمع ككل. في هذا الشأن، كتب العروي يقول إن المسألة لا تكمن في التاريخ كوقائع، لأن الوقائع التاريخية تحدث بدون توقف، ولكن المشكلة تكمن بالضبط في وجود أو عدم وجود وعي تاريخي. هذا يهم عقلية المجتمع بأسره وليس فقط المؤرخين المحترفين.
التوضيح هذه الفكرة عن الوعي التاريخي الذي يهم عقلية المجتمع بأسره وليس فقط المؤرخين المحترفين، يستشهد العروي بأحداث الانقلاب العسكري بالصخيرات الذي أجهض عام 1971 قائلا: "هذه الأحداث تذكرني بما قاله الحجوي عن أحداث عام 1908. في ذلك الوقت، تعارضت مصالح فرنسا مع مصالح إنجلترا وفي عام 1971 وقعت تناقضات بين المصالح الأمريكية والمصالح الفرنسية".
يميز العروي بين مستويات ضمن مبحث التاريخ. البعض يقارب هذا الأخير كما لو كان شهادة يدلي بها الإنسان عن نفسه. يمكن أيضا اعتباره
مؤشرا، علامة تركها الماضي علينا وعلى بيئتنا الطبيعية. كما يصر العروي على أن الإطار النظري أساسي للمؤرخ، لأنه يسمح له بفهم خلفية الأحداث والمسكوت عنه في التاريخ. في هذا الصدد ، كتب يقول: "إنما بالفعل في إطار النظرية والتأويل يمكن للمرء أن يحكم بشكل أفضل على ما يجب أن يكون عليه عمل المؤرخ.»
هناك التاريخ العام الذي يروي الأحداث التي وقعت في العالم منذ خلقه وحتى أيامنا هاته، والتاريخ الذي يحفظه ويبنيه المؤرخ. الفرق بين الاثنين هو أن التاريخ العام كوني، فهو تحت تصرف الإنسان شريطة أن يتم اكتشافه، بينما المحفوظ هو الذي تم بوعي من قبل المؤرخ.
ومع ذلك، عن هذا التمييز يمكننا القول إن التاريخ العام يجب أن يُنظر إليه على أنه كوني في محتواه وأن يُنظر إليه على أنه إنساني بمجرد حفظه. إنما من هذا المنظور يصر العروي على مفهوم التاريخ كماض/حاضر. هذا الماضي هو حاضر بالآثار والبقايا الموروثة عن تلك الفترات المنصرمة، ولكن يمكن أن يكون الماضي حاضرا باعتباره نتيجة لعمل المؤرخ الذي يعيش في الوقت الحاضر.
يعني ذلك أن المعرفة التاريخية هي دائما نسبية. إنها شخصية وتلبي متطلبات السياقات التي يعيش فيها المؤرخون. ومهما فعلوا، لا يستطيع الأخيرون الانفصال عن ازمانهم. ووفقا للعروي، الماضي التاريخي عالم عقلي. التاريخ المحفوظ أو المبني عبارة عن حركة دائبة بين الماضي والحاضر.
استحضار الماضي هو موقف مستمر في حياة كل فرد. وطالما أن الإنسان نشط، لا يتوقف عن استحضار الماضي وتمثله باستمرار لأنه يعتقد أنه يضيء مساره في الحياة إن حاضرا أومستقبلا. ما يميز المؤرخ عن الآخرين وعيه بالتغييرات. التاريخ صراع دائم بين الأعراق والقبائل والأمم والطبقات والأحزاب، وما إلى ذلك، من أجل ضمان الحد الأقصى من الأرض والثروة والسلطة. يستخدم العروي هذه الفرضية ويطبقها على مساوئ السياسة الاستعمارية في المغرب.
يتساءل العروي عما يمكن قوله عن الاستعمار مما لا يمكن قوله عن الحرب و السياسة. يضاعف المؤلف من الأمثلة لتوضيح فكرة سيادة رؤية المسيطر. هيرودوت يروي فقط الرؤية المهيمنة للملك الفارسي العظيم الذي لم يكن يتصور دولة صغيرة مثل اليونان يمكن لها أن تقاومه. روى ثيوسيديدز الصدام بين إسبارطة، كقوة برية، وأثينا، كقوة بحرية.
يواصل العروي استشهاداته ويتوقف عند حالة قبائل الجزيرة العربية التي كانت، كما يقول، مستثناة من الحضارة والتي تتقاتل في ما بينها قبل أن تتوحد بالقرآن في ما يشبه المعجزة.
أوروبا الفيودالية، التي استنزفتها هي الأخرى الحروب التي كانت لا تتوقف إلا لكي تستمر، استطاعت أن تتوحد استجابة لنداء البابا. هذه الوحدة هي ما جعلت ميلاد عالم جديد أمرا ممكنا.
بالنسبة للعروي فإن المؤرخ ملزم بقراءة الوثائق في التزام تام بمنطق إنتاجها حتى لا يسقط في التاريخ الأيديولوجي. وهكذا يصل المؤلف إلى الاستنتاج التالي: إذا تمكن الأيديولوجي من إسكات المؤرخ في مجتمع ما، يصبح الأخير أعمى. لهذا، يطلب العروي من قارئه أن يقيم تمييزا بين القراءة والتاويل. ويلاحظ أن التاريخ حقق الكثير من التقدم منذ أن ترك الخطابة وعانق النقد.
يلفت العروي انتباه أولئك الذين يكتفون بنشر وتقديم نصوص بدون الانخراط في التفسير. يتركون فراغا ليقوم الباحثون الأجانب بملئه. بهذه العملية، يصبح هؤلاء الأخيرون قيمين على تراثنا وينجزون البحوث الحقيقية. في هذا الشأن، أطلق العروي الصرخة التالية: الأجانب هم الذين يبحثون عن الوثائق ويحللونها ويستخرجون منها المعلومات التي يصنفونها كما يحلو لهم. وهكذا أصبحوا الحماة الحقيقيين لتراثنا؛ بذلك يحتكرون في الوقت نفسه البحث الحقيقي. هم أكثر حظا للابتكار في مجال التأويل.
من خلال هذا الموقف، عبر العروي عن شعوره ووعيه القوميين في حواراته مع الكتابة الاستعمارية. حاول الدخول في هذا النقاش لتمييز الأمور عن بعضها البعض. وعندما يتناول الوضع الداخلي في المغرب، يلاحظ بدايات انهيار البنيات الاجتماعية. كباحث، حاول فهم الوقائع وتحليلها وشرحها والكشف عن أسباب الأزمات ونتائجها. لكن العروي يغير نبرته عندما يتناول المواقف، الفرضيات والنظريات التي طورها التأريخ الاستعماري عن المجتمع المغربي وعن مؤسساته. لا يتردد في إرجاع المعطيات إلى مكانها كما هو الحال مع الفوضى التي مر بها المغرب في بداية القرن العشرين
عن الفوضى التي عانى منها المغرب في بداية القرن العشرين كتب العروي يقول: "المؤرخ يواجه اليوم، لأجل تفسير هذه الثورات التي تتجدد باستمرار، نفس الثنائية... إذا كانت الفوضى تعني فقط إضعافا مؤقتا للسلطة المركزية، يمكن أن ترتبط، عبر سلسلة سببية بالأحداث التي عاشها المغرب: تجارة مفروضة، حماية، إنذارات، تعويضات. كانت إذن نتيجة غير مباشرة إلى حد ما للتدخل الأجنبي".
جعل العروي من هذا التدخل مسؤولا عن إذلال المخزن و عصبية المجتمع المغربي. من خلال إثارة موضوع السيبة، تناول العروي الحقيقة القبلية في المغرب. أشار إلى الاهتمام الذي حظي به هذا المفهوم في الكتابة الاستعمارية. اقترح مقاربة الحقيقة القبلية على أنها حركة وفي هذا الصدد كتب: "الحديث عن القبيلة، هو بالضرورة حديث عن حقيقة لم تتوقف أبدا عن التطور وعن أن تكون موضوع تفسير لنظريات متغيرة". كانت الثورات القبلية، بحسب العروي، جزء من نمط إدارة المخزن. كانت تلك الثورات بمثابة انتفاضات ضد تجاوزات ممثل السلطان، قائد، حاكم.
شكلت هذه الثورات وسيلة عادية للاحتجاج ليس على الملك، ولكن على أحد ممثليه. الثورات الأكثر خطورة كانت تلك التي انتفضت ضد السلطان والتي كانت مرشحة للانتشار إلى حد تقويض مشروعية الملك.
إذا تقلصت هبة السلطة المركزية٦ فهذا٦ يعني فتح الطريق أمام الفوضى. السيبة، التي يتكلم عنها التأريخ الاستعماري للوصول إلى الاستعمار في غياب الدولة في مغرب ما قبل الاستعمار، كانت بحسب العروي جزء من النظام المخزني. كانت تجسد المشاركة الإقليمية في الشؤون العامة.
تناول العروي مفهوم السيبة بطريقة إيجابية ووقف ضد التأويلات الأيديولوجية. السيبة حقيقة اجتماعية وسياسية جسدت الارتباط الدائم بين العرف والشريعة. في هذا الصدد ، يطرح العروي السؤال التالي: "هل السيبة وسيلة الدفاع عن العرف؟ أم أنه العرف حقا الذي مثل في هذه الحالة تبريرا للسيبة؟"
باختصار، نقول إن التاريخ عند العروي علم مفتوح يرتكز على طريقة نقدية. لن يصل المؤرخ المحترف ابدا إلى الحدث الأصلي ولكنه يتمكن من بناء وقائع ماضية في الحاضر. الأساسي بالنسبة للعروي يكمن بقدر أقل في الاحداث ولكن بقدر أكبر ولا سيما في فهم منطق الوقائع التاريخية. لتوضيح نهج العروي، سنتناول حالتين ذواتي مغزى: سيرة ذاتية وواقعة دينية. بماذا يتعلق الأمر فعلا؟
بعد ذلك، توقف العروي عند السلطان الحسن الأول (1873-1894) ليقول في بداية هذا المطلب إن الملك اعتلى العرش سنة 1873، لكن ساكنة فاس رفضت الاعتراف به ملكا. طالب حرفيو الدباغة في المدينة بأن يكون تنصيبه مصحوبا بإلغاء الضرائب على الأسواق. رفض الملك المساومة وتم فرض الطاعة على المدينة بالقوة. أصدر العروي حكما إيجابيا على هذا السلطان، حيث وضعه في السياق العام وأشاد بطريقة إدارته للبلاد تحت الضغط المتزايد للأوروبيين. تم تقديم السلطان من قبل العروي على النحو التالي: "كان الحسن الأول رجل نظام، كشف عن نفسه في ما بعد كملك حصيف، يتمتع بحس تنظيمي عال". وجده أقل ثقافة من مولاي سليمان (1792-1822) أكثر ليبرالية من مولاي عبد الرحمن (1822-1859) وأقل ابتكارا من محمد الرابع (1859-1873).
حاول العروي إبراز الخلفية والمنطق اللذين ميز تدبير الحكم عند من سبقوه. وأثار الانتباه إلى أن نتائج حكم الحسن الأول لم تكن في مستوى طموحاته. بفضل دبلوماسيته الجيدة، تمكن من مقاومة الضغوط
المتزايدة القوة التي مارستها عليه القوى العظمى، وعناد رعاياه الذين طالبوه بمواصلة إصلاحات والده، بعدما تخلوا عن الجوانب السلبية لوجهة نظرهم.
إصلاح المجتمع المغربي تحت شعار الوفاء للتقاليد، كما يقول العروي، ذلك هو البرنامج الطموح والعسير جدا الذي كان على هذا السلطان تنفيذه".
تمكن العاهل المغربي من تنفيذ بعض الإصلاحات بفضل السياق الدولي الذي كان مواتياً له. خرجت فرنسا منهكة ومذلولة من الهزيمة العسكرية التي ألحقتها بها ألمانيا عام 1870. إسبانيا، من جانبها، كانت مشغولاة بأزمتها الدستورية لعام 1868. كانت إيطاليا وألمانيا قوتين جديدتين التي استكملتا لتوهما وحدتهما ولم تكن لديهما بعد أطماع توسعية في المغرب. اما إنجلترا فقد كانت هي المدافع الشرس عن استقلال المغرب وانفتاحه على التجارة دولية.
سمح هذا السياق المناسب للحسن الأول بالحفاظ على وحدة المغرب. هذه الأخيرة شكلت البند الرئيسي في عقد البيعة الذي ربط السلطان بشغبه. من أجل تعزيز هذه الوحدة، قام الحسن الأول بعدة حركات، خاصة في المناطق الحدودية التي كانت مهددة. توجه السلطان إلى وجدة عام 1876، إلى سوس مرتين في 1882 و1886، إلى توات عام 1892 وتافيلالت في عام 1893. أظهرت هذه الحركات إرادة السلطان السياسية لربط اتصال مباشر برعاياه. كتب العروي بهذا الصدد: "من خلال إظهار نفسه في كل مكان على الحدود، اكتسب السلطان مزية غير عادية لدى رعاياه مع حفظ السلام في قلب المملكة."
كان الحسن الأول على علم بالخسائر المادية التي يمكن أن يتكبدهاالمغرب من خلال الامتثال للتوصيات الأوروبية؛ ألا وهي حرية تصدير المنتجات الضروريات الأساسية، إمكانية والحق الممنوح للأجانب لإجراء المعاملات العقارية، الحق في التنقل داخل البلاد.
بالإضافة إلى هذه الخسائر المادية، هناك مضاعفات نفسية وثقافية كانت لا تزال أكثر خطورة. يضاف إلى ذلك فساد موظفي الخدمة المدنية المغربية وظاهرة الحماية التي ستنتشر على نطاق واسع.
تواصل تلغيم وتقويض المجتمع من الداخل وتورطت الدولة في المديونية. ازدادت القبضة الخانقة لأوروبا على المخزن حدة وشدة.
كان السلطان محاصرا من جميع الجهات، وانتفض الرأي العام المغربي المختنق أكثر فأكثر بالضغط الأجنبي، واضطر الملك أن يأخذ بعين الاعتبار استياءه الواضح بشكل متزايد.
رغم هذه الحركة الداخلية والضغط الخارجي لم يترك الحسن الأول نفسه تخضع للغزاة الأوروبيين، ولا للرأي العام الداخلي الغاضب والمنهك. ويختصر العروي الوضع على النحو التالي: "لقد كان ملكًا عظيمًا على وجه التحديد لأنه لم يسمح لنفسه بالميل إلى هذا الجانب دون الجانب الآخر. وقف في وجه القوى الأجنبية مع الحفاظ على طاعة السكان، الشيءالذي تطلب منه الكثير من الجهد والحيلة والذكاء والمهارة. هذا ما رأيناه جيدا عندما اختفى عام 1894".
يشدد العروي على إرادة هذا الملك الذي حرص على الإصلاح دون مفاجأة العقليات. بعث بالطلبة ليتلقوا التكوين في اوروبا. فشل مسعاه إما بسبب مناورات القوى الأجنبية، أو بسبب الرفض القاطع للعلماء التقليديين.
بالنسبة للعروي، الحسن الأول هو الملك الذي فهم بشكل أفضل المغرب والمغاربة. فعل كل شيء من أجل أن يحافظ بلده على استقلاله ووحدته. كان في مستوى المسؤولية.
"وقف - يقول العروي - في وجه فرنسا وإسبانيا حمل لقبه كخليفة للغرب الإسلامي على محمل الجد، ونجح في أخذ مسافات من تركيا القومية الإسلامية".
كان شغله الشاغل هو الرغبة في تحقيق توازن بين الانفتاح على الدول الأجنبية والحفاظ على النظام الداخلي في سياق متغير وصعب. واعتبر العروي عهد الحسن الأول عصرا ذهبيا عندما كتب: "المؤرخ الناقد اليوم يمكن له بسهولة الكشف عن أن الإصلاحية السلطانية عانت بنفس القدر من تقاليد العلماء وكراهية الأجانب الطائشة والمبررة في ذات الوقت لدى الحشود القروية. اجتمعت هذه العناصر الثلاثة المتناقضة في القرن التاسع عشر القرن لتفرز إيديولوجيا تعبوية في خدمة الحركة الوطنية. كان هذا هو أصل اتحاد مقدس معين يجد الأجانب اليوم صعوبة في فهمه اليوم". هذا الاقتباس يكشف عن النهج التاريخي للعروي المؤرخ الذي يسعى وراء منطق الةقائع.
الحالة الثانية ذات البعد الديني والأهمية القصوى فتتعلق بمراحل أسلمة وتعريب شمال إفريقيا بشكل عام والمغرب بشكل خاص.
إذا حاول التمشي في الحالة الأولى أن يبين كيف تعامل العروي مع جنس السيرة الذاتية، فقد قارب المؤلف، في الحالة الثاتية، حركة جماعية. تم تقديم المغرب العربي كمساحة مفتوحة ولهذا، تم اختراقه من قبل العديد من المجموعات العرقية والثقافات و الحضارات لسنوات عديدة. تم إلحاقه بـالإسلام في القرن الثامن لكنه عرف منذ العصور القديمة ديانات وحضارات أخرى.
المزيج الحضاري كان في محله، لكن الركيزة الأساسية كانت أمازيغية. تم العثور على تدخلات في المعتقدات وفي الحياة اليومية للشعب. من الصعب ان نميز في هءا الأخير بين الدين والسحر. كان الأنسب عدم التكلم عن الدين مع الامازيغ بل الأفضل التحدث عن مواقف محددة تجاه المقدس. حاولت علاقتهم بالمقدس حل المشاكل الملموسة التي تطرأ في الحياة اليومية: الاستسقاء، كيفية علاج العقم عند المرأة، كيف يضمن الانتصار على عدو.
مثل هذه الظواهر سبق أن ذكرها هيرودوت في القرن الرابع القرن قبل الميلاد، وابن بطوطة في القرن الرابع عشر، وعلماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين. تداول هذا الموقف المقدس القديم لم يفقده الإسلام وهجه.
تكيف ذلك الموقف مع الدين الجديد في صورة "البركة" و"الزيارة" كمل ما يتصل بالزوايا والتبرك من الأولياء الصالحين. شدد العروي على استمرارية هذا الموقف العقلي تجاه المقدس القديم ورفض فكرة القطيعة. اعتنق سكان شمال إفريقيا الإسلام بهذه العقلية الموروثة. وتساءل: لماذا أثرت بعض الحضارات على البرابرة كما كان حال الحضارة الفينيقية البونية ولم تؤثر عليهم حضارات أخرى، مثل حالة الحضارة الرومانية؟
بعدما تساءل العروي لماذا أثرت بعض الحضارات على البرابرة كما كان حال الحضارة الفينيقية البونية ولم تؤثر عليهم حضارات أخرى كالحضارة الرومانية، كتب في هذا الصدد يقول: "الأساسي هو أن ذلك يكشف عن جانب دائم من نفسية المغاربيين. يبدو أنهم يقبلون الثقافات الأجنبية بسهولة، لكنهم يختارون منها عنصرا يجعلونه
الإصلاحية الطبيعية للمسؤول نزعة حداثية؟ رمزا لهويتهم. في هذا
الاتجاه، بشرت الدوناتية Donatism (نسبة إلى القس Donat) بما كان يجب أن يكون عليه الخوارج". من الواضح أن الأمازيغ ظلوا منفتحين على الحضارات وهم الذين تبنوها و كيفوها مع حياتهم اليومية.
يسهب العروي في الحديث عن أسلمة وتعريب المنطقة. بحسبه، هاتان العمليتان لم تكونا ثمرة الفتح العربي، ولكن هذا الأخير كان، كما قال، "في الأساس اعترافا ... كان على الأسلمة أن تنتظر قرونا، وكانت من عمل الأمازيغ ... انتصار موسى بن نصير المانح لقادة الأمازيغ فرصة مشاركته أمجاد وغنائم الفتوحات، ألم يدل في النهاية على شكل معين شكل من أشكال الحكم الذاتي؟
"الأمازيغي يوثر الملموس على المجرد، ويفصل الاجتماعي - كما يقول العروي - على حساب الفردي. من الواضح أن الإسلام استقر على تقليد ديني متجذر بقوة في عقلية المجتمع الأمازيغي. كان مسار التعريب أكثر بطء من مسار الأسلمة. انتشر الإسلام بسرعة وتم تسييسه. سوف يستغله العرب أو المعربون في إطلاق حركات الحكم الذاتي الموجهة ضد السلطة المركزية (في الشرق). أنهي العروي مقاله بطرح سؤال مهم قال فيه: "لماذا لم ينجب شمال إفريقيا متصوفة كبارا مثل ابن عربي الأندلسي، أو ابن الفريد المصري، أو ابن الرومي الفارسي؟ لماذا شاهدنا ولادة علماء مثل ابن خلدون الذي اختار دراسة التاريخ وتطور المجتمعات؟
استنتج العروي من ذلك أن الإسلام ظهر وكأنه أقل فردانية وفكرانية في المغرب العربي، وأكثر جماعية وبرغماتية من أي مكان آخر ... في وعي شعوب (المغرب العربي)، ظل الإسلام قبل كل شيء شريعة تعبر عن التضامن بين المؤمنين".
والآن ما المعنى الذي يجب أن نعطيه للحداثة؟ هل تحتفظ دائما بنفس المعنى هنا وفي أي مكان آخر، بالأمس و اليوم؟ بالنسبة للعروي، وحده التفكير العميق و الجدي يجعل من الممكن فهم المعنى، بينما العكس لا يمكن إلا أن يزرع الالتباس الذي يستغله أعداء الحداثة لترسيخ الروح التقليدية. الحداثة عملية يخرجها المؤرخون من الواقع. لشرح هذه الفكرة، يستشهد العروي بسلسلة من الثورات التي أخرجها من التاريخ الأوروبي: ثورة اقتصادية، ثورة علمية على أساس الملاحظة والتجريب، ثورة دينية وقفت ضد الكنيسة واحتكارها تأويل المقدس. كما يتحدث عن الثورة السياسة التي تجلت في الحركة التي حاربت الإقطاع والكنيسة.
يجمع المؤرخون على سيرورة تعاقب هذه الثورات، لكنهم يختلفون تماما حول الثورة التي سبقت الأخريات ويتساءلون دائما عما هي تلك التي كانت هي المنطلق أو تلك التي كانت نتيجة لها.
انطلاقا من هذه الملاحظة، ثمة سؤال منهجي يفرض نفسه على أولئك الذين يسعون إلى فهم الحداثة. هل يجب أن نبدأ من الواقع وفي هذه الحالة من الضروري، بحسب العروي، الاستماع إلى ما يقترحه المؤرخون وأخذه بعين الاعتبار…. أو بالأحرى، يجب أن نبدأ من المفهوم ومن خلاله نقيم الواقع؟ بشكل أكثر تحديدا، هل يجب أن نحكم عليها من خلال معايير خارجية؟ هذا ما يقوم به أغلب الباحثين الذين ينطلقون من مفهوم الحداثة للحكم على المجتمعات سواء في الماضي أو في الحاضر .
هذه التمشي لا يأخذ أبدا في الاعتبار الفروق الدقيقة التي تميز عمل المؤرخ والتي تمنع الخلط والتعميم. يحذر العروي في هذه الحالة من عدم التمييز بين الحداثة كسيرورة تاريخية وبينها كأيديولوجيا. لا يستطيع المؤرخ القول بأن الحداثة حدثت فعليا. يقدمها كحدث وقع عبر عدة مراحل باعتبارها سيرورة، ثورة مستمرة
الحداثة سيرورة تدريجية. إنها دينامية لا تقع دائما موقع القبول. العقليات التقليدانية دائما تعبئ ضدها وتحذر منها. من الناحية التاريخية، يعتبر العروي الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية حركتين عززتا الحداثة. هذا الأمل تلاشى في القرن التاسع عشر الذي كان قرن التصنيع والتوسع والحروب المتكررة.
قسمت هذه الصراعات أوروبا التي كان يهيمن عليها من المفاهيم اثنان هما العقل والعلم. وبدلا من استخدام هذين المفهومين في السلام والتعاون بين الشعوب، كانا في أصل المنافسة، العداء والعنف: الاستعمار كعنف ضد الآخر، والحروب كعنف ضد الجيران والثورات كعنف ضد الإخوة.
من الواضح، بحسب العروي، ان الحداثة مرتبطة بالتنافس والأزمات الداخلية والخارجية. في هذا الصدد كتب يقول: "من هذا المنظور، المشكل الأساسي هو أن التحديث ظهر على شكل استعمار، في العالم الثالث بالطبع ، ولكن أيضا وقبل ذلك بكثير داخل أوروبا. إنه مكر العقل الذي بدأنا نعرفه بشكل أفضل".
يتحدث العروي عن أوروبا باعتبارها تجسيدا لـلحداثة ولكنه يحاول إضفاء النسبية وتحديد الفوارق الدقيقة. يطلب من القارئ أن يأخذ الحداثة على أنها عولمة وتمايزا فيما يتعلق بالخارج. انطلاقا من هذه الملاحظة يطرح العروي هذا السؤال: "ما هي الحداثة بالنسبة لفرد ينتمي إلى مجتمع ينعت، عن خطإ أو صواب، بأنه تقليدي؟
يلاحظ وجود الخوف من الحداثة في مجتمع مثل المجتمع المغربي. بالنسبة له، هذا الموقف النفسي أمر طبيعي. إنه يتوافق بشكل أفضل مع التجربة السابقة، أي مع التطور التاريخي. التفاعل مع الجديد ومقاومته مؤكدان من قبل التاريخ وفي كل المجتمعات.
يستشهد العروي بعقلنة الاقتصاد خلال جميع مراحل تطوره من خلال الدعوات إلى اللاعقلانية. الإنسان بطبيعته محافظ. يجد صعوبة في قبول التغييرات التي يفرضها عليه التطور التاريخي.
حسب العروي، الحداثة هي شأن مجموعتين مختلفتين في المجتمع وحول هذه النقطة، كتب: "في النهاية، القول بأن مجتمعا يحدّث، معناه أنه أصبح واعيا بتاريخانيته. ليس المجتمع ككل هو الذي يصبح قادرا على تحليل نفسه وانتقاد نفسه، بل فقط مجموعة محدودة إلى حد ما هي التي تفي هذه الوظيفة"، حتى وإن كانت تجر الآخرين للسير في أثرها من خلال الفعل التي تقوم به".
يشدد المؤلف على البعد التاريخي ليقول إن التحديث عملية تحدث وتتحقق في مجتمع لا يكون بالضرورة متجانسا وأن التعارض بين الحداثيين والتقليدانيين ينتهي به الأمر دائما إلى التلاشي؛ "لأنه لا وجود لمجتمع يقبل الموت".
يسهب العروي في الحديث عن الخوف من الحداثة من قبل الدين والسلطة في بلد ما كالمغرب. رجال الدين يعارضونها طالما تخيلوا أنها تخاطر بإيذاء الإسلام. رجال السياسة يجادلون بأن الحداثة تقلل الخوف وتحفز الجرأة في الفرد.
اوضح العروي، قبل تأليف كتابه ،"الإيديولوجيا العربية المعاصرة: أنه أجرى مقابلات مع علماء على تكوين تقليدي وإيمان راسخ. استشهد بعلال الفاسي، أبي بكر القادري أو عبد الله كنون. خرج من هذه اللقاءت بقناعة مفادها أن لا داعي لدى الإسلام للخوف من الحداثة.
أجري العروي مقارنة ذات مغزى قائلاً: "من يعتقد أن الحداثة يمكن أن تضر بالإيمان لا يعرف شيئًا لا عن الحداثة ولا عن الإيمان". كما لاحظ أن عدد المؤمنين هو أكبر بكثير في البلدان التي تسود فيها الحداثة منه عندنا. الحداثة تقوي الإيمان وكان ابن رشد خائفا على مستقبل الإسلام على وجه التحديد بسبب تراجع الفكر الحداثي لدى المسلمين.
من ناحية أخرى، يتم تعزيز السلطة بواسطة الحداثة وليس بالخوف أو بالتربية الميتافيزيقية الاي تدفع الناس إلى الاعتناء بالدنيا الآخرة حتى لا يهتموا بالدنيا الحاضرة. وكلما كان الفرد حرا وواعيا، كلما كان الإيمان والسلطة قويين وحصينين. جعل الفرد مسؤولا، كما يقول العروي، لا يعني إضعافه، بل تلك على العكس إرادة معلنة لتقوية الإيمان والدولة في المجتمع. لتحقيق ذلك، يرى العروي أن الحل يكمن في التربية ويكتب بهذا المعنى: "البعض سيسألون أنفسهم ما هو دور الدولة؟ الحل في التربية يتم في إطار الدولة، فيالأسرة، في الهيئات الحزبية، في الفريق، في الجمعية وحتى في المصنع ".
الحداثة بالنسبة للعروي هي دينامية تتطلب مساهمة واعية من جميع مكونات المجتنع. كيف نفهم موقفنا السلبي تجاه الحداثة؟ هل نحن المسؤولون الوحيدون؟ يجيب على هذا السؤال بإبراز دور ضغط وظلم الأجنبي في (تشكيل) وعينا. "هذا لا يعني أن الأعداء أخذوا أرضنا وأخضعوا شعوبنا للعبودية، ولكن الأخطر من ذلك أنهم لا يزالون يربطوننا بالسلاسل".
يلاحظ العروي أن النهج التاريخي يجعل من الممكن إضفاء الطابع النسبي على مفاهيم ومحتوى الحداثة التي ليست قيمة في حد ذاتها، لا أحد اكتسبها بشكل نهائي ولا أحد ممنوع منها.
كيف نتصور بلدا متقدما كإنجلترا أو بلدا آخر يقول إنه في طور التحدّيث. من الواضح أنه لا يوجد على الإطلاق بلد حديث بالكامل.
بهذا المعنى يجب أن نفهم أولئك الذين يقولون أن الحداثة هي أيديولوجية تغيير دائم. يدرك العروي ذلك ولا يسعى بأي شكل من الأشكال إلى لدفاع عن الحداثة. قال من موقعه كمؤرخ: "ليست الحداثة ولا الثقافة، ولا معاني الهوية مطلقة، قيما يجب الدفاع عنها حتى الموت". يرفض استبعاد الحداثة وهو غير مستعد لإنكار ثقافته لأنه يعلم أن لغته وثقافته ستتأقلمان مع الوقت وهما يتغيران وأنهما لن تبقيا ثابتين. باعتبلره مؤرخا، يوثر العروي مفهوم التحديث على مفهوم الحداثة. بين أن هذا الأخير نحته ماكس فيبر انطلاقا من أفكار متباينة مأخوذة عن مؤرخين واقتصاديين، فلاسفة ولغويين. لقد كان - كما قال - رائعا وملتبسا في نفس الوقت. يبدو أن التحديث يطرح مشاكل أقل من التطور الذي يفترض الانتقال من مرحلة إلى أ أخرى، من الأقل إلى الأكثر. يفضل الحديث عن التحديث ويبسط مقترحه في التاريخانية.
أنجز العروي دراسة حالة عن التأريخانية. درس المغرب في القرن التاسع عشر. لاحظ منذ البداية أن مشكل الحداثة قد استنفد ادإمكانية التعريف. البحث عن معنى أو محتوى مفهوم ما هو عمل فريق اجتماعي محدد جيدا. إنه فريق من المثقفين. لاحظ أن الإنسان العملي بشكل عام، الشخص الحاكم والملزم باتخاذ القرارات، التقني، الميكانيكي، بمعنى آخر كل أولئك المضطرين يوميا لمواجهة مشاكل التدبير و صعوبات في التنظيم أو الإنتاج او التوزيع، هذه الفئة، كما يقول العروي، ليس لها قط مشاكل مع التعاريف، وبوصفها كذلك لا تشارك في المناقشات الهادفة إلى تحديد الفرق بين الحداثة والتحديث. في هذه الحالة يقترح العروي التمييز بين رجل العمل، الذي منحه المركز الأول، ورجل الخطابة..
هذا هو المعنى الكامل الذي يعطيه الكاتب للتاريخانية التي تبناها، لا يهمه ما يفعله الناس، ولا ما يدعون فعله. بل ما يهمه ويتحدث عنه هو المنطق العملي.
حاول المغرب إجراء إصلاحات في القرن التاسع عشر. واعتبر العروي الإصلاحات على أنها محرد إجراءات تندرج في إطار النظام الطبيعي لـسياسة السلطان. العمل الحكومي يلزمه بأن يقوم بالإصلاحات شاء أم أبى. الذي - هذا جزء من النظام الطبيعي للحكم. وكان السؤال الذي طرحه العروي على نفسه كالتالي: "تحت أي شروط تصبح النزعة
واجه المغرب خلال القرن التاسع عشر أزمات داخلية وضغوطا خارجية. لأسباب متعددة، بدأ السلاطين في تقديم الإصلاحات. وهو الموقف الذي اعتبره العروي انعكاسا وعلاجا لهذا الوضع. ذهب في تقديره إلى أبعد من ذلك ليقول: "في العمل، المفاهيم الثلاثة- حكم، إصلاح ، تحديث - لا يمكن ان تكون مفصولة". الضغط الأوروبي لا يني يتعاظم. المجتمع منقسم إلى حداثيين: سلطان، تجار، كتاب من جهة ومناهضون للحداثة، علماء مدافعون عن الإيمان مبعدون عن إدارة شؤون الدولة من جهة أخرى.
باختصار،، اعتبر العروي الحداثة سيرورة تطورية للمجتمع ككل.إنها متعددة الأوجه. فضل الكاتب مفهوم التحديث على مفهوم الحداثة. حتى أنه نحت كلمة "تأريخانية" لإبراز تأثير التاريخ. ميز بين العمل والخطابة. فضل أولئك العاملين على أولئك الذين يتظاهرون بالعمل. من هذا المنظور تبنى العروي التاريخانية كمنهج مؤسس على العمل. وانطلاقا من الواقع، درس الوعي بالتخلف في المجتمعات العربية عامة والمجتمع المغربي خاصة وكذلك الحركة الوطنية.
يحتل الوعي بالتخلف التاريخي مكانة هامة في مشروع عبد الله العروي بحيث شكل الأطروحة المركزية في غالبية كتاباته. يدور مشروع هذا المفكر حول الحاجة إلى الانخراط في التفكير النقدي حول الفكر العربي المعاصر. هذا التحليل المتعمق ملزم باستخدام المنهج التاريخي والماركسية الإيجابية أو الموضوعية كمقاربة بيداغوجية وليست أيديولوجية.
في هذا الصدد، كتب: "العرب في حاجة محة إلى الماركسية التاريخية، لأنها تمثل بالنسبة لهم مدرسة الفكر التاريخي التي ستسمح لهم بالخلاص من الماضي". بالنسبة له، الماركسية هي الطريقة الإرشادية التي تساعد غير الأوروبيين على فهم الفكر الغربي ويسمح لهم باستيعاب الآليات الكامنة وراء تطور العالم الحديث.
لاحظ العروي أن التأخر الذي أثر على الفكر العربي وجد أولاً في وقائع التاريخ لكنه أثر أيضا على الرؤية وتوجه الفاعللين سواء كانوا ينتمون إلى السياسة أو الدين أو الثقافة. ناقش المؤلف هذا الإدراك للتخلف العربي استنادا أولا إلى الوقائع التاريخية بهدف تحديد أسباب الانحطاط الذي أدي إلى التأخر.
يربط هذا الانحطاط العربي الإسلامي بخسارة الأندلس. هذه الخسارة مثلت المرجع السلبي للإسلام، في حين أن فترة الرسول مثلت وجسدت في التأريخ الإسلامي مرجع العصر الذهبي. كانت الهزيمة في الأندلس، في صقلية وفي الشرق مؤشرات إلى تراجع العرب. كانت السيطرة على البحر الأبيض المتوسط رهان أساسيا. أبانت المعاينة العامة عن زخم ورغبة في التوسع لدى أوروبا الغربية وعن أزمة في العالم الإسلامي. التجارة عبر الصحراء تفككت وكانت في طريقها إلى الانحراف نحو المحيط الأطلسي، ما يؤيد تعبير بيير تشونو “المركب الشراعي ينتصر على القافلة".
عواقب هذه التغييرات كانت هائلة: تقسيم شامل لدول العالم العربي الإسلامي، اختلال البرتغاليين لأراض في المغرب والخليج. العزلة والإغلاق كان من شأنههما أن يضاعفا من عقم وجمود الفكر العربي. بدأ بالاعتقاد أن العالم لا يتغير بينما كل شيء يتطور حوله.
انطلاقا من هذه الملاحظة، طرح العروي على نفسه هذا السؤال المركزي في مشروعه: "كيف يمكن للفكر العربي استيعاب مكتسبات الليبرالية قبل وبدون المرور بمرحلة الليبرالية؟ هنا يشير مؤلف "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" إلى التحديات التي واجهها المثقفون العرب. لا يتردد في التحدث عن مأساتهم طالما أنهم على علم بمطالب العصر الذي يعيشون فيه، لكنهم يبقون عاجزين وعزلا من السلاح في وجه الجمود التي ميز مجتمعاتهم. الفرد الغربي له خبرة ومعرفة بالليبرالية وبالتالي يستطيع قبولها أو ابتكارها. ولكن عندمآ يرفض المفكر العربي الليبرالية، فهو في الواقع يرفض أشياء لا يملكها. لم يعمل بهذه المبادرة، وفق قول العروي، سوى على تعزيز الفكر التقليدي الماضوي الذي يرتدي قناع الحداثة ليعطي الانطباع بأنه معاصر بينما هو بالفعل في تفاوت عن الواقع.
الأيديولوجيا التقليدية ترفض الفكر الليبرالي. في المقابل، إنها تعود إلى التراث لتصنع منه إيديولوجيا تنموية قادرة، كما يقول العروي، على أن تقدم للمسلمين حلولا للمشاكل التي يواجهونها والتي ستتم مواجهتها أثناء كل الفترات وفي جميع المناطق الإسلامية.
منذ القرن التاسع عشر، عاش العالم العربي الإسلامي في سراب مضلل لأن فكره ينقل أفكارا مفصولة عن الواقع. على هذا الأساس، رأى العروي في حركة النهضة العربية سيرورة فكرية دفعت العالم العربي ليعيش بجسده في قرن ويستمر في العيش بفكره في زمن ولى من أجل الاحتفاظ على روحه الأصيلة.
انتقد العروي المقاربة المجزأة التي استخدمها مفكرو النهضة لدراسة الفكر الغربي. أساليبهم، الانتقائية والمجزأة، تجعل هذا الفكر يفقد رؤيته الشمولية وفعاليته. لإظهار أخطاء هذه المقاربة يلتجئ العروي إلى المنهج التاريخي.
عندما يتحدث المؤرخ عن الآخر، فهو يتحدث في نفس الوقت عن نفسه. وعندما يستحضر الماضي يستحضر الحاضر والمستقبل. هكذا يصبح تاريخ الصين في العصور الوسطى جزء من تاريخ العالم العربي نظرا للتبادلات و الآليات التي كفلت وضمنت الاتصالات المثمرة بين الثقافتين. وغني عن القول إن تاريخ البرتغال في العصور الوسطى والحديثة أو تاريخ الحماية جزء من تاريخنا. شكل الاحتلال الاستعماري الصورة المعاكسة لصورة انحطاط وتخلف العالم العربي الإسلامي. من الواضح أن تاريخ الآخر هو في الحقيقة تاريخ الذات.
لعله جدير بنا أن نلاحظ مكانة التاريخ في الخطابات المصوغة عن الإسلام. ومع ذلك، اللافت للنظر غياب التاريخ كشعبة تدرس في المنظومة التربوية الإسلامية. كشف العروي عن هذا التهميش وأكد عليه لما كتب: "التاريخ كشعبة لم يكن له في العليم الإسلامية وضع اعتباري رسمي".
يمكن أن نتساءل عما إذا كان غياب هذه الشعبة لم يكن له بطريقة أو بأخرى دور في انعدام وجود هذا الوعي التاريخي الذي سطر عليه عبد الله العروي، الذي تناول المسألة من منظور أيديولوجي. بالنسبة له، التاريخ غائب كشعبة تدرس ولكنه حاضر بقوة كوقائع ولهذا السبب تم تهميشه لأنه "ربما يكون مرهقا للغاية".
لماذا ينظر إلى هذه الشعبة بعين السخط؟ لماذا يكون كتاب المقالات مجبرون على التسلح بالحجج عندما يكتبون في التاريخ؟ يقول العروي: "في مقدمة كل بحث تاريخي، نرى الكاتب يعتذر عن تعرضه لإغراء الشعبة التي قلما تكون جديرة بإنسان صادق ... لذلك سيكون التاريخ ثمرة فضول غير صحي كالعادة بين أناس عاطلين.
التاريخ ليس شعبة نبيلة، بل مفيد فقط لخدمة تلك الشعب التي هي نبيلة مثل التفسير والنحو والفقه. هذا الوضع الاعتباري الثانوي الذي خصت به الثقافة الإسلامية التاريخ يسمح بإصدار حكم سلبي من قبل المؤرخين الغربيين على هذا الشعبة الإسلامية. بالنسبة لهم، هي شعبة خاصة بتاريخ العائلات الحاكمة. تعتمد على التقليد الشفوي، الخالي من أي نهج نقدي وموضوعي. يعتبر الغربيون أن هذه الشعبة يمكن حملها على محمل الجد عندما تدرس الإسلام. هم يتساءلون كيف نصدق ونقبل تاريخ الأراخين الذين يبدأون فصولهم بهذه العبارة: "الخبر أن..".
في هذا الشأن، يلاحظ العروي الملاحظة التالية: "انطلاقا من هنا، تعمم الأحكام حول خاصية جفاف ورتابة الإنتاج الإسلامي، حول انفصال الكاتب الوقائعي، حول المنهج الخاص بالحكاية الشفوية ... يبدو التاريخ، مهما كان مستوى التركيب، كتراكم بسيط للسرد على أحداث فردية".
لفهم الوضع الاعتباري المكرس للتاريخ، يميز العروي بين نوعين أساسيين من الكتابة، من المناهج ومن الرؤى: الأول يهيمن عليه السرد التاريخي: الخبر، بينما الآخر يسيطر عليه الحديث. كيف نميز بين الأول والثاني وما هي مميزات هذا الاخير؟ وجود منهجين جزء لا يتجزأ، حسب أطروحة العروي، من التأخر الذي يعاني منه الوعي التاريخ العربي. إذا هيمن عليه علم الكلام والحديث وجعلاه يعيش في المطلق وفي الطوبى، يبقى التاريخ مرتبطا بالمشروع الإنساني وبدعم ما هو نسبي.
يعود المؤرخ إلى الماضي لكنه يعيش في الحاضر. يتبنى هذا التمشي المنهجي من أجل اكتشاف الحدث. هذا الذهاب والإياب بين الماضي والحاضر يسمح له بفهم المنطق الكامن وراء الوقائع وتجنب المفارقات التاريخية.
من جهة أخرى، هذه الحركة بين الأمس واليوم تعطي لكل حدث خصوصيته حالما تتم جدولته على الخط الزمني الإتساني وليس على الزمز الأسطوري أو اللاهوتي.
في معرض حديثه عن هذا النهج، كتب العروي يقول: "في الظاهر، لا يعدو التاريخ أن يكون مصدرا لمعلومات متصلة بمواضيع الأحداث السياسية السامية و العائلات الحاكمة... ولكنه في العمق مجهود تأملي يجعل من الممكن فهم أسباب ومبادئ الوقائع الموجودة".
إذا كان التاريخ يسعى ليتعرف على عمل الإنسان فوق الأرض، كيف يتحدد المنهح الآخر، أي الحديث الذي سيكون الأساس الذي وضعت عليه السنة.
يميل الفكر الإسلامي إلى تهميش التاريخ لاستخدامه في تقوية الأيديولوجيا التي يتبعها معتنقو "الإيمان بالسيرة". يتوقف الأخير على أقوال وأفعال النبي، التي هي السنة في نهاية المطاف. في هذا للموضوع، يصوغ العروي الملاحظة التالية: "السنة ... بناء مؤسس على السرد التفصيلي والأصيل لحدث وضعت له غاية وبداية والآخرون كلهم يسلمون بها". ثم من ذلك يستنتج الكاتب أن هذا يعني "القفز إلى الماضي والذوبان فيه".
السنة النبوية تأخذ كوصية، كأمر، يمنح معنى للحياة ويتبع منطقا. هي لا تحتاج ليتم تبريرها أو تأكيدها من خلال أدلة من الخارج. الحديث،، أي كلام النبي يحمل في ذاته الدليل. لا يمكن أن يعتوره عيب ولا يحتاج إلى برهان. لكن الحديث يحتاج إلى أن يتم التحقق من العيوب التي تلحقه من خلال الشخص أو الأشخاص الذين يروونه. لا ننتقد أبدا محتوى الأحاديث. هي فوق كل نقد بشري.
من الواضح أن منهجية المحدثين - أي أولئك الذين يتعاملون مع أقوال وأفعال النبي، تتعارض بمنطقها وغائيتها مع منهجية المؤرخ، التي تم تدشينها من قبل الفقهاء الذين كانت تشغلهم الحياة اليومية للمسلمين. يعرضنا الحديث للنقد ويهدف إلى عكس المثل الأعلى الإسلامي من خلال القدوة النبوية.
مدرسة الحديث تترجم ما هو بديهي وتقدم حياة وكلام الرسول كنموذج متكامل ويقيني لا جدال فيه.
التأريخ الإسلامي الذي تسود فيه هذه المنهجية التي دافع عنها أتباع السيرة؛ أي سيرة النبي، ستجعل من هذا النموذج هو حقيقة مطلقة في التاريخ. لاحظ العروي، وهو يعتمد على أعمال المؤرخين، أن هؤلاء يعتقدون أنه: يجب فهم تاريخ العالم على ضوء السيرة كانكشاف لللحقيقة.
هكذا يرد التاريخ إلى حتمية، كل فعل إلا وله دلالة في هذا السياق. المهم، بحسب أقوال العروي، لا يوجد في الأسباب ولكن في الغايات.
الحديث أو علم السيرة مهم في الإسلام. يستخدم هذا العلم علوما أخرى مثل الفلسفة، التسلسل الزمني، علم الأنساب من أجل تجذير السنة، ضمان استمراريتها وتجنيبها الانقطاع، كما أكد على ذلك العلماء المتخصصون في السيرة كمسلم الذي عاش في القرن التاسع عشر. تسعى السنة، التي تروي سيرة الرسول، إلى محاربة النسيان. تعتمد المنهجية على المتن المكون من أقوال النبي. اقواله وأفعاله علامات، أختامه الدالة تديم النموذج الأصلي.
يقتضي النهج في نقل المثال المطلق من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا. هذه الخطاطة تلخص وتضمن الاستمرارية الضمنية للسنة وتعلن عن الأهمية الاستثنائية التي يمنحها المسلمون لعلم الحديث.
إن الارتباط بالسنة، أي التقليد، يشكل رمز هوية معصومة. وهنا يستحضر العروي هذه القولة: (من لا تصلحه السنة فلا أصلحه الله). الحكاية التي ينقلها ويجذرها التقليد تقدر قيمة الحكمة الإلهية. عناصر التفسير موجودة في القرآن. الحديث يساعد على شرح وتوضيح التلميحات. يتفادى التقليد التاريخ كتطور ونقد ، بل يستغله في تثبيت السنة، ضمانا لمتانتها وتكريسا لارتباطها بالزمن الأول الذي ظهر فيه الإسلام.
على خلاف التاريخ ، تزرع السنة الجمود. لذلك، فإنها تتعارض مع التغيير والتجديد. في هذا الصدد، صاغ العروي الملاحظة التالية: "امام واقعة، مؤسسة، مشروع ، لا يمكن أن نكون متيقنين مما إذا كان الأمر يتعلق فعلا بابتكار حقيقي يختبئ وراء ذريعة تقليدانية أو باستعادة شيء ما قد وقع بالفعل في إهمال. منهجية الحديث على أساس القرآن غير قابلة للتغيير وتتهرب من قوانين المعهد. إنها تدعو إلى بقاء دولة الإسلام على أساس الأخوة الإسلامية. تاريخها دائري. يهتم بالإسلام لا بالمسلم، بالدعوة لا بالدولة. تلك، إذن، منهجية مطلقة ولازمنية.
بالنسبة لعبد الله العروي، يجب تناول الوعي بالتأخر التاريخي، معرفة الذات ومعرفة الآخر في الفكر العربي في إطار واحد وشامل. سعى العروي إلى مقلربة مشاكل الفكر العربي انطلاقا من كتابات إيديولوجية. تشكل الإيديولوجيا انعكاسا منحرفا للواقع، وتخفي الأخير نظرا لأنه من المستحيل أو من الصعب تحليله في العالم العربي. الأخطر هو أن الإيديولوجيا تبني مننظومة نظرية تستعيرها من مجتمعات أخرى في سياقات أخرى.
لتوضيح نهجه، يركز العروي تحليله مستخدما ثلاثة ممثلين إيديولوجيين يجسدون بشكل مثالي، كل على طريقته وتبعا لمنطقه الخاص، هذا الوعي بتأخر هذه المحتمعات.
من هذه المنظور، يقول العروي: "يمكن التمييز في الإيديولوجيا العربية المعاصرة بين ثلاث طرق رئيسية لاستيعاب المشكل الأساسي في المجتمع العربي: الأولى تتموقع في العقيدة الدينية، والثانية في التنظيم السياسي، والثالثة في النشاط العلمي والتقني".
يستخدم العروي كلمة "كليرك" (clerc) عندما يتحدث عن الشيخ. وأعتقد أن هذا الاستخدام ليس بريئا طالما أن المؤلف يحيل قارءه إلى الأجواء السجالية بين المسلمين والمسيحيين. يريد أيضا أن يظهر استخدام العلماء المسلمين لانتقادات المناهضين للإكليروس. بالنسبة للمسلم، أوروبا هي وريثة الحروب الصليبية. التعارض بين المسيحية والإسلام تقليد يأتي من بعيد. الذاكرة الإسلامية مشحونة بالعداء والكراهية والحروب. انتصارات تليها هزائم، والعكس صحيح. كانت الحروب سريعة. الجديد هذه المرة هو أن الهزيمة لازمت المعسكر المسلم. العدو يستقر وينظم نفسه بطريقة جديدة.
لا يزال المتدين يعتقد أن المواجهة القديمة لا تزال مستمرة. لا يأخذ بعين الاعتبار التغييرات الحادثة وعدم التوازن الطارئ. إنه لا يصدق ما يحدث للعالم الإسلامي ويبدأ في البحث عن مبررات في القرآن. العدو ليس سوى جند من جنود الله. يعيد قراءة النص ويجد السبب ويؤمن بأن كل شيء يتم حله في إطار علاقة المجتمع بالله.
يستخدم الديني الحجج المناهضة للإكليروس. يكتشف التعقل إلى جانب الإسلام، التعصب إلى جانب المسيحية. يصطدم بتناقض: كيف يفسر انحطاط العالم الإسلامي؟ الجواب بسيط ما دام يرتبط ارتباطا وثيقا بـ "عدم وفاء المسلمين تجاه الرسالة الإلهية".
إنه يميز بين العقيدة التي تجسد النقاء في رأيه والتاريخ الذي ما هو إلا دنس. المتدين يحبس نفسه في الرؤية السماوية وينفصل عن الواقع. يشرح التخلف والانحطاط بانحراف المسلمين عن الرسالة الإلهية وكفرهم بها. كيف يكون إذن رد فعل رجل السياسة على المشاكل التي تواجه المجتمع؟
التبادلات بين الشرق والغرب تتكاثر وتنوّع وتتكثّف. المسلمون يتعرف على الغرب بشكل أفضل. لم يعد تاريخه يتناول بشكل انتقائي فقط من منظور سجالي بين الإسلام والمسيحية أو دار الإسلام ودار الحرب.
أدرك المسلمون أنه إذا لم يكن العقل جزء من المسيحية، ومع ذلك فهي موجودة في أوروبا وتجد في الغرب تربة خصبة لخلق دينامية من التغيير حتى لو جاءت من مكان آخر. نجح المسلمون في إجراء هذه الاستباطات السياسية لأنهم اكتشفوا وقرأو فلاسفة عصر الأنوار.
أعاد رجل السياسة رويدا رويدا السياسة إلى الأرض وأدرك أن المسؤولية تقع على الشطط في استعمال السلطة.
"القارئ الشرق أوسطي - يكتب العروي - شعر بالخزي من صعود الترك الغاصب ... يقر بلطف أن الخليفة ... كان يحكم حسب هوه .. أن الدولة ليس لها هدف آخر سوى استغلال السكان المقهورين… الإدارة فاسدة والعدالة ذاتية ... كانت سلطة غير محدودة من واحد وعبودية من الجميع".
رجل السياسة، الرجل الجديد الذي حل محل رجل الدين وأخذ زمام المبادرة في المجتمع ، يعتقد أن انحطاط العالم الإسلامي يرتبط بطبيعة السلطة. يعتقد أن الأتراك مغتصبون. أنهم اقاموا سلطة مستبدة يمارسها دائما شخص واحد.
يصل رجل السياسة إلى هذه الاستنتاجات بفضل انفتاحه ومعرفته بالغرب و فلاسفة عصر التنوير. تم تشخيص المرض، وتم إيجاد العلاج، كما يقول العروي، محيلا على علي عبد الرازق عندما كتب: "العقيدة الإسلامية لم تترك بصمة شاهدة على تنظيم صارم للسلطات العامة، ويمكن لها، بالتالي، أن تتميف مع أي نظام سياسي اختارها المسلمون".
تخلى رجل الدين عن مركز الصدارة لفائدة رجل السياسة. هذا الأخير يدرك أنه يتضاءل و لاحول ولا قوة له ولا يستطيع تغيير أي شيء. منهكا وغاضبا، يصمت ويفسح المجال لصوت آخر و لصرخة أخرى تعتقد أنها قادرة على إيجاد الحلول التي تتناسب مع مشاكل هذا المجتمع الذي يعيش التراجع والجمود. الحل الذي تقترحه وجدته في التكنولوجيا. هل ينجح حيث فشل الاثنان الآخران؟
في تناوله للجانب التقني من نفس المسألة (= سبب تخلف المسلمين)، ينسج العروي خطابا متشائما. يخرج القارئ بانطباع بأن المؤلف يكتب وهو يفكر في بعض الشخصيات. يشعر التقني المنتخب، المحامي، الطبيب، الصيدلاني أو الأستاذ بخيبة أمل كبيرة. كتب بهذا الصدد يقول: "هذا النائب ... يكافح من أجل احتلال مناصب عالية، عندما يبلغها، يشعر مع ذلك بأن كل شئ يفلت منه ... وأن حضوره غير مرغوب فيه ما عدا خلال الاحتفالات الرسمية". المُثُالان اللذان يعتقد فيهما: الشعب الباسل ، والحرية المتوفرة ولكن بدون قوة ولأول مرة، يخطو خطوة إلى الوراء ويتأكد من كون هذين المُثُالين ليسا إلا سرابا.
في هذا الجو من الفشل، يفسح رجل السياسة المجال ل"وافد جديد" لا هو بالمحامي ولا بالطبيب ولكن ربما من أصل متواضع. بقي مهمشا ولكن تحت تأثيرات مختلفة. حصل على صورة أخرى عن الغرب وفي ارتباط بهذه الصورة، يتابع العروي، سوف يحكم على مجتمعه وعمل أسلافه. الغرب، على حد قوله، لا يعرف بدينه المجرد من الخرافات ، ولا بدولة بلا استبداد، ولكنه يتحدد بقوته المادية التي كان قادرا على اكتسابها كنتيجة لعمله المضني وبالعلوم التطبيقية. يستخدم العروي أقوال سلامة موسى لتوضيح فكرته.
في عام 1930, سأل سلامة موسى طلابه المصريين هذا السؤال: "هل يدين الغربيون بنفس الدين؟ هل هم من نفس العرق؟ وهل لهم نفس المؤسسات؟" يجيب: "منذ ربع قرن، ظهرت لي حقيقة واحدة فقط وهي هذه: الفرق الذي يفصلنا عن الأوروبيين المتحضرين هو الصناعة و لا شيء غير الصناعة".
غالبا ما يستشهد عشاق التقنية بحالة اليابان، التي لديها دين مختلف جدا عن الأديان التوحيدية و التي لها تاريخ حافل بالرعب والعنف. لكن هذا البلد استطاع حرق المراحل "لأنه ذهب مباشرة إلى سر الغرب. لنفعل مثله". حضارة اليوم هي الصناعة وثقافتها العلم التطبيقي.
يتجنب محب التقنية خلط الدين، بمشروعه. يتجنب تأويل النصوص، وهذا ما دفع العروي لإبداء الملاحظة التالية عندما كتب يقول: "بإخراج السنة من الناقشات، يساهم (عاشق التقنية) في إنقاذها للمرة الأخيرة".
محبي التقنية يعشق تقنية الغرب. من خلال استحضار الغرب، يشعر كأنه في بيته، يتكلم لغته ويتلاءم مع منطقه. ثم ينفصل ببطء عن ماضيه ليذوب شيئًا فشيئًا في هذا الغرب. يعتقد أن الحل الحقيقي بالنسبة لانحطاط مجتمعه - كما يقول - سوف يتحقق غدا، ولن يكون غير التقنية.
توصل العروي إلى الاستنتاج بقوله عن محب التقنية هذا: "باعتقاده أنه تجاوز رجل الدين ورجل السياسة الليبرالي، يمهد محبي التقنية فكريا لإقامة دولة جديدة. لكن الدولة الجديدة سرعان ما تدرك أن هذا العاشق للتقنية ليس في غالب الأحيان تقنيًا ، تستمع إليه لمدة، ثم تبتعد عنه بسرعة".
النظرية والنقد يسكنان تمشي عبد الله العروي. يصوغ الفكرة العامة قبل تناول الإشكالية المراد دراستها. ولكن ما تعريف الإشكالية عند كاتبنا. في الهامش رقم 5 على الصفحة 15 من كتابه عن "مفهوم الدولة نجد أن الإشكالية تعني كيفية تصور المشكلات في منظومة فكرية معينة.
عندما رغب في معالجة قضية القومية المغربية، ركز منهجه على تطورها. بالنسبة له، كل عصر له رؤيته الخاصة للعصور التي سبقه ولكل أمة ولكل مجموعة وجهة نظرها الخاصة عن ماضيها. هذا يعني حسب تصور هذا المفكر أنه لا توجد حكاية واحدة عن حدث ما، وبالتالي لا تشذ القومية المغربية عن هذه القاعدة. مع العلم أن النزعة الوطنية المغربية تكون أولا شعورا قبل التعبير عنها بسلوكيات تهدف إلى تحقيق تطلعات فردية وجماعية.
بحسب العروي، قدؤ للقومية المغربية تن تؤدي دورا يتجاوز ما هو نفسي، ما هو إيديولوجي و ما هو سياسي. تجمع كل ذلك في بنية تعكس سلوكا جماعيا. وغني عن القول إن القومية التي نشأت في أوروبا في القرن التاسع عشر أخذت بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع في الذي توجد فيه. أما القومية المغربية فهي مرتبطة بالضغوط الخارجية خلال القرن التاسع عشر والتي اختتمت بفرض نظام الحماية ابتداء من 30 مارس 1912. كان احتلال الأراضي المغربية بمثابة صدمة نفسية. كيف ردت المجتمع المغربي على هذا التحدي وكيف كانت ردة فعله؟
تلك هي الأهداف التي وضعها عبد الله العروي نصب عينيه. استخدم هذا التحدي الذي واجهه مجتمع المغربي لصياغة تصوره الأساسي حول مسألة القومية المغربية. شكك في النظريات الاستعمارية التي أنكرت وجود أمة مغربية. ربط الوعي الوطني بوجود هذا الخطر الخارجي. صاغ موقفه على شكل سؤال عندما كتب: "هل هذه الفكرة، البريئة في ما يبدو، عن مجتمع يتفاعل مع خطر خارجي، لا تفترض ان امتلاك وعي مشترك دليل على وجود أمة؟" استغل الاستعمار بدون شك ثروات البلاد ، ولكن الأخطر من ذلك انه دمر شخصية الشعب وصادر كل مبادرة تاريخية. المأساة الحقيقية، بحسب العروي، إنها منعت المغربي من صنع تاريخه، حتى اعتقد أنه عاجز عن ذلك.
أعتقد العروي أن الوعي الوطني ظل مرتبطا بـ ما أسماه "تنظيما ذا توجه شمولي". لمساعدة القارئ على اتباع مسار تفكيره و فهم أسس هذه القومية، يلجأ إلى سلسلة من الأسئلة: ما هي عناصر الاندماج بين المكونات المختلفة لـلمجتمع المغربي؟ هل هناك فرق بين القومية والوعي القومي؟ هل يمكن أن يكون هناك وعي قومي دون وجود درجة من التكوين ابفكري ؟
بالنسبة للعروي، القومية يعبر عن نفسها اجتماعيًا وسياسيًا وعقائديا. لقد وعد العروي في سنوات السبعينيات بدراسة القومية. اصطدم بنشوة الاستقلال ولاحظ أن المثل الأعلى المأمول لم يتحقق ةأن الاستقلال السياسي كان مجرد واجهة لأن تأثير فرنسا لم يتوان عن أن يكبر ، وأدرك ان ذلك الاستقلال السياسي كان في حاجة لأن يكون مصحوبا بإصلاحات عميقة لأن المغربي ما زال يعاني الفقر والأمية والمرض.
من خلال المقابلات التي تمكن العروي من إجرائها مع علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد قائدي حزب الاستقلال، صاغ المؤلف سلسلة من الأسئلة لطرحها عليهما - كما يقول - حول مشاريعهم المستقبلية: هل سيتوقفان عن النضال؟ هل سيتوجها إلى تغيير المنظور واعتماد برنامج جديد؟ هل سيستمران في أنشطتهما المعتادة بدون طرح أسئلة مبكرة وغير ضرورية؟
تثير هذه الأسئلة الخلفية التي ميزت القومية المغربية وتوحي أسبابها انحدارها السريع إلى الحضيض. تخلى العروي عن البحث في القومية السياسية التي اعتبرها عرضية للعودة إلى الزمن الماضي والتأكيد على البعد الثقافي لأنه بالنسبة له القومية المغربية هو المشروع الذي صممته البنية القديمة من أجل الاستدامة؛ الشيء الذي يظهر - كما يقول - أن المجتمع المغربي ظل سجين ماضيه.
تهدف مقاربة المؤلف إلى فهم المغرب وليس القومية لأن هذه الأخيرة يتم تحديدها بالثقافة. الأمر الذي يتطلب مقاربة لا هي تاريخية بحتة ولا سوسيولوجية حصرية، ولكنها تجمع بينهما مغا.
لتركيز البحث على الوعي الوطني، شعر بأنه مضطر لأن يستبعد أولاً الأطروحات الاستعمارية التي حاولت التهويت حتى لا أقول إنكار وجود هذا الوعي مع محاولة استعادة القومية السياسية من خلال تطوير فكرة ان نشأة الأخيرة وتطورها من عمل الحماية.
لتركيز البحث على الوعي الوطني، شعر العروي بأنه مضطر لأن يستبعد أولاً الأطروحات الاستعمارية التي حاولت التهوين حتى لا أقول إنكار وجود هذا الوعي مع محاولة استعادة القومية السياسية من خلال تطوير فكرة ان نشأة الأخيرة وتطورها من عمل الحماية. فتح عبد الله العروي أطروحته حول القومية المغربية على النقاش مع الإسطوغرافيا الكولونيالية في هذه القضية.
هذه الكتابة التي دعا إليها وشجيع عليها المارشال ليوطي استكشفت ودرست بالتفصيل كل ما سمح لها باكتشاف وفهم الروح المغربية للتحكم في ناصيتها.
دحض مفكرنا وانتقد الأطروحات التي قال بها تقنيو الحماية مع محاولة التمييز بين مستويات هذه الأعمال: ألأعمال التي اعتبرها ذات طابع إثنولوجي هي تلك التي أنجزها رجال الميدان الذين تجولوا في المغرب لتسجيل العادات، المشاهد، طرق استغلال الأرض، الطقوس، الزوايا وكل ما يتعلق بالحياة اليومية للمغاربة بصفة عامة. اعتبر العروي هذا الإنتاج مثل سجل لذاكرتنا تم حفظه بواسطة العملية التي قامت بها البعثة العلمية.
ثاني المستويات، وفقا لكاتبنا، ضمن هذا الإنتاج، يتعلق بالعمل الأكاديمي الذي أنجزه كل من لويس ماسينيون وجاك بيرك وجان لويس مييج. أخيرا، الكتابات الأيديولوجية التي سعت إما إلى تبرير الحماية، وإما إلى تزوير البيانات من خلال وضع الأطروحات التي ذهبت في هذا الاتجاه، كما كان الحال مع ميشو بيلير وروبير مونتاني وهنري تيراس.
صاغ هؤلاء الأخيرون وطوروا أطروحات سعت، بحسب العروي، إلى اختزال روح الوعي الوطني المغربي. أولا، ما سمي بالنظرية "البيولوجية" التي مثلها بشكل أساسي ميشو بيلير وطورها الجغرافيون. هذه الأطروحة عززتها نظرية القاعدة الأمازيغية التي طورها روبرت مونتاني في عمله حول هذه المسألة.
من هذا المنظور، كتب العروي يقول: "اعتقد أنه يستطيع انطلاقا من هذه القاعدة إعادة بناء مراحل التطور، او بالأحرى تدهور المناطق الناطقة بالأمازيغية". اعتقد مونتاني أن هذه القاعدة تسمح لك باكتشاف دورات كل قبيلة حتى يرى كيف تتطور سياسيا نحو الجمهورية، نحو استبداد أمغار (رئيس)، ثم نحو المخزن لتنتهي إلى السيبة وضيق التنفس حتى تختفي لتفسح المجال لحركة مماثلة.
ينتقد العروي بشدة هاتين الأطروحتين لكنه في المقابل يؤيد ويتبنى نظرية النسيج الاجتماعي المستمر التي اقترحها جاك بيرك، حيث قال: "هناك خلفية أمازيغية، لكنها، كما يقول بيرك ، لا تتعارض، كبنية خاصة بالقرويين المستقرين، مع بنية البدو الرحل. في كل حالة، تعانق البنية خصائص المشهد، ولا علاقة للاختلافات المترتبة عن ذلك بأي قاعدة مزعومة وبميكافيلية السلطان". أما المساهمة الأنجلوساكسونية مع النظرية الانقسامية، فلم تأت بجديد، بل تكرر ما نقل كتابات الحماية.
في هذا الصدد ، يقول: "البحث الأنجلو سكسوني هو في الواقع إعادة صياغة بسيطة للنتائج السابقة، التي لم يتم الحصول عليها كلها، ديمقراطية مونتاني سميت انقسامية، والإعادة الحتمية لبيرك بالهامشية، لا لزوم لها بمعنى من المعاني الانقسامية كنموذج، كصورة.. هي دائما جاهزة لإعادة تأويل اكتشافات الآخرين وفقًا لقواعدها الخاصة".
يعيب العروي على هؤلاء المبادرين المنظرين أعتمادهم التعميم وعدم التمييز بين المستويات. النتيجة: سقطوهم في عجلة من أمرهم لاستخلاص استنتاجات سريعة من أجل خدمة الأجندة السياسة.
لتجاوز هذه النظريات، يقترح العروي البحث عن القومية المغربية في البنيات الموروثة والآتية من بعيد. إنما في التاريخ وانطلاقا منه يعتقد أنه من اللازم والمجدي دراسة هذه الحركة.
لكي يثير فضول قارئه، جذبه بطرح السؤال التالي: "لماذا الاكتفاء بجعله (=التاريخ) فرضية إضافية؟ لماذا لا نجعل من التاريخ أطروحة أساسية ونبحث عن القومية في الوعي التاريخ نفسه؟ هذا الموقف سمح له بأن يضع موضع سؤال الأطروحة التي تربط نشأة و تطور القومية بفترة الحماية. بم يتعلق الأمر، إذن؟
لفترة طويلة، أكدت الكتابة الكولونيالية على أن القومية كحركة احتجاجية، لا يمكن أن تكون سابقة على الحماية. بالنسبة لهذا التيار، كان عليه الانتظار حتى عام 1930 ليعترف بظهور هذه الحركة.
اعتبرت هذه الأطروحة أن المقاومة التي أعقبت الإعلان عن معاهدة فاس يوم 30 مارس 1912 ليست سوى أعمال قامت بها القبائل التي كانت تغار على استقلالها وحرب الريف التي كانت جزء من هذه الحركة القبلية.
وفقا لهذه النظرية، حصول الوعي الوطني كان بسبب الجهود التي بذلتها الحماية في سبيل بناء المغرب الحديث وتجهيزه بببنية تحتية رفيعة المستوى وإدارة فرنسية فعالة. ساهمت هذه الجهود بنصيب كبير بحسب المدافعين عن هذه الأطروحة، في خلق برجوازية مغربية لم تكن موجودة. شعرت بالتهديدات التي حامت على مصالحها. وللحفاظ على امتيازاتها ومحاربة منافسة الأجانب، أخذت زمام المبادرة لتتبنى طبقات المجتمع المغربي الأخرى طموحاتها. ثم انخرطت في الحركة الوطنية.
في النهاية، أكد المدافعون عن هذه الأطروحة أن عام 1930 شهد مجيئ جيل جديد من المغاربة الذين تلقوا تكوينا في المدارس الكبرى في المتروبول والذين تأثروا بأجواء باريس.
هؤلاء الشباب كانوا في طريقهم لقيادة الاحتجاجات. لم يتم التسامح مع هذه الحركات فحسب، بل تم تشجيعها ودعمها. عن ذلك كتب العروي يقول: "طالبت الإدارة بنوع معين من الشريك، بل لنقل من الخصم".
دحض المؤلف هذه الأطروحة وأظهر أن الحركة السلفية سابقة على 1912. الوعي والشعور بالانتماء إلى وطن جاء من بعيد وتم تشخيصه بالفعل ضد الإسبان والبرتغاليين والعثمانيين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أما بخصوص الجيل الجديد من المغاربة المكونين (اسم مفعول) في باريس، فقد أظهر العروي انقسام 1937 في حركة الشباب المغربي لاستقطاب الجماهير الشعبية لصالح قضيتهم. لم يكن القادة العائدون من باريس هم الذين فازوا وأطيعوا، لكنهم خريجو جامعة القرويين التقليدية هم الذين سيفوزون. من ابرز هؤلاء علال الفاسي ومن أبرز أولئك حسن الوزاني. المعارضة لم تكن بين شخصيتين فقط، لكنها كانت تجسد معارضة أكثر عمقا وتجذرا في تاريخ المغرب. كانت معارضة بين تصورين للمستقبل.
في ختام هذا المطلب، دعونا نقول إن الكتابة الكولونيالية حطمت الحس الوطني وحولته إلى مسألة أشخاص وربطته بالحماية. وكلما أصرت الإسطوغرافيا الكولونيالية على أنها حركة من جماعات متراكبة أو موضوعة بسلاسة جنبا إلى جنب، كلما أصر العروي على التطور التاريخي، على منطق وعلة وجود أمة، أوشعب. هذا المنطق متجذر في المصفوفة التاريخية التي تجسد الوعي الوطني الذي سوف نتطرق إليه في السطور التالية.
يبدأ العروي تحليله للمسألة من فرضية بسيطة استعارها من آدم سميث مفادها أن أي ثقافة، أي مجتمع، أي طبقة اجتماعية ... تجد نفسها فجأة أمام تحد خارجي إلا وتعبر عن ردة فعلها بأحد المواقف الثلاثة التالية ؛ إما الرفض العنيف أو التقليد الذليل أو الإصلاح؛ أي التغيير في ظل الاستمرارية.
استطاعت الحركة الوطنية المغربية كإيديولوجيا أن تنتصر على إيديولوجيا الحماية التي قامت على أساس السيادة المشتركة. هذه الحركة المغربية مكنت المغرب في وقت قصير من استعادة استقلاله. سرعة العملية أثارت لدى العروي سؤالا كله تلميح صاغه هكذا: "إذا كانت الوطنية، كأيديولوجيا، قوية بما فيه الكفاية للتغلب على فكرة السيادة المشتركة، وكحركة سياسية، لجعل جيش الحماية عديم الفائدة، كيف تفككت كقوة معبئة وموحدة؟"
أولئك الذين يدرسون الوطنية المغربية يتبنون وجهات نظر مختلفة. بعضهم يتناولونها كحركة وطنية، بينما يضعها آخرون ضمن المجال الديني ويربطونها بالأمة، ثم أخيراً الأدب الكولونيالي الذي سعى لاستعادة الحركة.
إلى جانب هذه التمشيات، أشار العروي إلى أن دراسة القومية تصطدم بصعوبة الأرشيفات التي تظل غير متوفرة.
يميز العروي بين النزعة القومية السياسية والنزعة القومية التاريخية. الأولى نشأت وتطورت خلال فترة الحماية. يضعها على مستوى بنود معاهدة فاس. بالنسبة للعروي، كانت هذه الحركة عمل نخبة: "هذه النتيجة - كما يقول - الرائعة من نواح كثيرة كانت عمل حفنة من الرجال الذين تحددوا بأنهم ضمير الأمة و قادة طليعتها".
في حديثه عن هذه النزعة القومية السياسية، صاغ العروي ملاحظات سوف يستخدمها ليوضح الفارق والتقاطع بين هذه الحركة والوعي الطبيعي. هذه النخبة صغيرة من حيث العدد وغير متجانسة سواء في انتمائها الاجتماعي أوفي تشكيلها. بعض أعضائها أتوا من نظام التعليم المغربي التقليدي، والبعض الآخر تكون وفق النظام الفرنسي.
في هذا الشأن يقول العروي: "السبب الأساسي هو العدد المحدود للغاية للنخبة السياسية والمسافة الكبيرة التي تفصلها عن الجماهير ".
أبدى الكاتب هذه الملاحظات أثتاء لقاءاته ومناقشاته مع قادة حزب الاستقلال في ذلك الوقت. خرج بخيبة أمل من حواراته مع الفاعلين السياسيين الذين كانوا على علم بتداعيات تحقيقه عليهم وعلى عائلاتهم. ثم أجابوا - كما يقول العروي - في إطار رؤاهم وخياراتهم السياسية. لم يكن لهم أن ينفصلوا عن سياقهم السياسي و تفوهوا بخطابات لا تزعج مستقبلهم السياسي. بالإضافة إلى ذلك ولأسباب منهجية، أفضت دائما إجابات هؤلاء القادة إلى الوضع الحالي. وبين العروي أن هذه الحركة الوطنية السياسية كانت حركة توافقية بين الملكية والأحزاب في عهد الحماية لان المشروع كان هو الاستقلال.
بعد عام 1956، تغير الرهان. تكسر الإجماع. أصيب القوميون بخيبة أمل. تولت الوطنية السلطانية زمام الأمور، ودفعت بالفاعلين الآخرين بعيدا. كانت تلك نهاية التعاون والتشاور. دشن السياق الجديد تركيز الجميع السلط في يد الملك بتواطؤ ودعم من نظام الحماية السابق.
لقاء الكاتب عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي جعله يدرك أنه من الصعب القيام بدراسة علمية وموضوعية حول الوطنية السياسية نظرا لكونها ترتبط بعلاقات مرئية أو غير مرئية مع اللحظة الراهنة.
لقاء الكاتب عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي جعله يدرك أنه من الصعب القيام بدراسة علمية وموضوعية حول الوطنية السياسية نظرا لكونها ترتبط بعلاقات مرئية أو غير مرئية مع اللحظة الراهنة. لذلك قرر مقاربة القومية المغربية من منظور طويل الأمد. بعبارة أخرى، كانت المسالة بالنسبة إليه دراسة القومية التاريخية.
من خلال المقابلات، لاحظ أن هؤلاء الفاعلين شجعوا ودعموا بوعي عودة ظهور الماضي والتقليدانية اللذين عاما فسادا في المغرب منذ 1960. فرض التقليد على المجتمع المغربي وتعلقه بالماضي يبرر اختيار العروي لإشكاليته، وهي بناء الوعي الوطني وتجذره في تاريخ المغرب. تم تناول المفهوم على أنه دينامي (متحرك). إنه يشير إلى الذات الثقافية وإلى المرجع الغربي.
خضع المجتمع المغربي لضغوطات خارجية منذ القرن الخامس عشر، لكن الوضع أصبح أكثر ضغطا خلال القرن التاسع عشر ليؤدي إلى إعلان الحماية على البلاد في بداية القرن العشرين.
كيف تم التوصل إلى هذا الإعلان؟ للإجابة عن هذا السؤال، تموقع العروي في المدى الطويل. عاد إلى التاريخ لاكتشاف العوامل التي كانت في أصل معاهدة فاس وأظهر بنفس المناسبة تعلق المغاربة بماضيهم وتقاليدهم. أدرج القومية المغربية ضمن البنيات السوسيوثقافية للدولة و المجتمع.
في حديثه عن هذه المقاربة، وضع العروي هذه الإشكالية ضمن ما أسماه المصفوفة التاريخية حيث ولدت القومية قبل فترة طويلة من عهد الحماية.
التاريخ هو المكان الذي يبنى فيه الوعي القومي الذي يذهب أبعد من القومية السياسية. إن التاريخ والثقافة هما اللذان يجعلان من الممكن استيعاب أصالة وخصوصية الأمة المغربية. هذه المصفوفة، حسب العروي، هي "الأسمنت الحقيقي للمجتمع، هذه المصفوفة من خلال تلك الحقيقة بالذات عابرة للمجتمع. هي اللغة المشتركة التي تتحدثها جميع المجموعات، حتى عندما بالأحرى تتناحر في ما بينها؛ والتي تختلف عن تلك التي تستخدمها القومية التكتيكية في تعاملها مع الإدارة الكونوليانية".
اعتبر العروي هذه المصفوفة على أنها أساس الثقافة المحلية. يتجلى ذلك بالتأكيد على المستوى الفكري، ولكن أيضا وقبل كل شيء على مستوى السلوكيات التي تمس جميع مستويات المجتمع. الثقافة كعامل في هذه المصفوفة ضروري للوحدة. سوف تسمح للمغرب بأن يعارض بلا هوادة التأثيرات الأوروبية.
تعكس الثقافة المغربية البنية الاجتماعية. إنها توحد المغاربة من خلال ضمان استدامة المرجعيات الأساسية. "إنها - كما يقول العروي - رمز الهوية ومحرك المقاومة". لا تعد الثقافة في كتابات العروي وسيلة عمل في يد المغاربة إلا أنه يتناولها كعلامة تميزهم عن الثقافات الأخرى، سواء كانت أوروبية أو غير أوربية.
يعي العروي مدى تعقيد إشكالية الوعي القومي والصعوبات ذات الطبيعة المنهجية التي تطرحها لمن يريد دراستها بالنظر للروابط الموجودة بين هذا الموضوع والبنية الاجتماعية والدولة.
أعلن العروي أنه يريد القيام بدراسة علمية ورام إنجاز اركيولوجيا حول المسألة. واعتبر أن السجال بين مختلف التقاليد الإسطوغرافية التي تناولت المشكلة هي فرصة لتنمية وتقدم البحث في هذا الموضوع.
أعلن العروي لقارئه، وكأنه يشركه في تمشيه، أنه سيستخدم تجربته، قائلا: "كل ما أستطيع القيام به على نحو أفضل استخدام تجربتي الخاصة كمثال. لدراسة الوعي الوطني المغربي، كان علي العودة إلى القرن التاسع عشر، متخليا عن وجهة نظر عالم النفس الاجتماعي التي كانت وجهة نظري لأتبنى وجهة نظر المؤرخ".
قرر العروي الشروع في مناقشة إشكاليته انطلاقا من سنة 1830، وهي لحظة تاريخية مهمة جدا تمثلت في احتلال الجزائر من قبل فرنسا، وأكتمل عمله سنة 1912 التي تزامنت مع معاهدة فاس أو فرض الحماية على المملكة المغربية. اتخذ هذا الاختيار عمدا وقصدا لمقاربة الإشكالية من المنبع لمعرفة و تتبع مفهوم الواقعة الوطنية. كيف تبلور هذا الوعي الوطني؟
حول هذا الموضوع كتب العروي: "فضلت ان أشاهد تكون جنين الحركة بدلاً من ولادتها عام 1912، رأيت القوميين كأدوات للتاريخ المغربي بينما ظنوا أنهم خالقوه من جديد إن لم يكونوا فاعلوه".
بعد تثبيت هذا الإطار النظري على الوعي القومي ولتوضيح أطروحته، بدأ العروي في تحليل الوقائع التاريخية التي جسدت بشكل ملموس هذا الوعي الوطني. إذن ما هي العناصر المعنية التي تسمح بفهم عملية بناء هذا الوعي؟
تجسد البناء الوطني لأول مرة في فضاء محدد ومعروف ومعترف به. كيف نرد على أولئك الذين يدعون أن المغرب لا وجود له كمنطقة ذات حدود تميزها عن المناطق الأخرى في شمال أفريقيا؟ سعى العروي لإثبات العكس. استخدم العلماء الذين يعرفون دواليب الدولة المغربية والذين كانوا على علم بـالتنظيم الإداري للمخزن. كان لديهم معرفة حقيقية باحتياجات المغرب كدولة تربطها علاقات مع الكيانات السياسية الأخرى. هؤلاء الكتاب ساعدوا المخزن على تدبير شؤون البلاد في الداخل او في الخارج سواء بسواء.
تم هذه التدبير في منطقة ذات تسمية محددة. وأعلن العروي ان هذا التقليد موروث من الأندلس. كتب بهذا الصدد يقول: "هؤلاء المشرعون ورثوا تقاليد الدولة الأندلسية… كان لديهم برنامج إقليمي… كانوا يعرفون بالضبط ما يعنونه بكلمة المغرب الذي كانوا مصممين على الدفاع عنه بكل الوسائل ضد الأعداء الخارجيين.
ركز العروي على العناصر المميزة للقطر المغربي: مغرب البلغة، الكصعة، الشاي، الكسكس. كان لهذه المنطقة اسم متداول بين سكانها قبل وقت طويل من عهد لحماية: المغرب الأقصى.
لطالما كان الدفاع عن هذه الأرض أولوية لأن المغاربة لم ينسوا قط مأساة المسلمين في الأندلس. وعندما احتلت فرنسا توات، لم يتردد المشرافي في تحميل المسؤولية للمخزن بقوله: "أن الدولة الشريفة قدمت دليلا لا جدال فيه على التهور".
يقظة المغاربة جاءت من حالة التوتر المستمر التي ميزت مناطق الاحتكاك مع الفرنسيين في الشرق ومع الإسبان في الشمال. كراهية القبائل وثوراتها ضد المحتلين تم استغلالها من طرف السلاطين بتركها تدوم لإظهار معارضتهم للقوى العظمى.
على هذه الأرض المعروفة والمعترف بها عاش شعب له تاريخ عريق. عاش هذا الشعب على إيقاعه ووفق تقاليده على طريقته في المأكل والملبس والمسكن والتواصل. استعان العروي يكتابات الرحالة الأجانب لرسم صورة عن اللحياة اليومية للمغاربة في القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين.
استنادا إلى هؤلاء الرواة، لاحظ العروي الملاحظة التالية: "رجال على استعداد لأن يروا جيدا، وأن يستوعبوا جيدا وأن يصفوا جيدا ما جعل نشأة وعي جاد أمرا ممكنا".
لأغراض معاكسة، استخدم العروي البيانات التي سجلها هؤلاء الرحالة لإثبات وجود كيان مغربي. وإذا رأى الأجانب الانفجار ، فقد أبرز العروي جوانب الوعي الوطني. عاش الشعب المغربي في أرضه متشبثا بطريقة وجوده.
لتلخيص فكرته، قال العروي: "المغربي مختلف، ويشعر بأنه كذلك، بزيه، بلغته، بالحدود التي يعترف بها لأرض يسميها ويعتبرها أرضه". خلال القرن التاسع عشر، عانت البلاد من ضغوطات خارجية مدعومة تسببت في اضطرابات متعددة، اقتصادية وثقافية واجتماعية. سوف تعرف البلاد ظاهرة الهجرة بسبب الازمات الاقتصادية والمجاعات. من ناحية أخرى، سوف تغدو الحركة عامل تجانس و تركيب سوف تصبح واقعة حقيقية.
أيد الأجانب فكرة أن الأرض انفجرت وقالوا إن السكان لم يخامرهم الشعور بالانتماء إلى كيان شامل أكثر من شعورهم بالانتماء إلى منطقة. تم اعتبار فاس ومراكش معلمتين تحيلان إلى وجود مملكتين. رأى العروي في هذه المدن وغيرها وجود نظام التكامل بين المناطق مع بيئاتها. شكلت مراكش القطب السوسيوقتصادي الذي يتم انطلاقا منه ضمان المبادلات التجارية مع مناطق الأطلس وسوس والصحراء. كانت موغادور ميناء ضامنا للمبادلات التجارية مع العالم الخارجي. وكانت فاس قطبا امتد إشعاعه نحو شرق المغرب وشماله. أما طنجة فكانت هي الميناء الذي ضمن التجارة مع حوض البحر الأبيض المتوسط.
وجود هذه الأقطاب وغيرها يؤشر على وجود تسلسل هرمي و انتظام في التبادلات الموجهة إلى حد ما من قبل السلطة السياسية.
لم يقبل ميشو بيلير أن يكون للمغرب أرض وشعب وسلطة سياسية يجسدها المخزن. وهو يتحدث عن النظام السياسي المغربي، استخدم كلمة جهاز ليعني بها مؤسسة لم يتمكن من تعريفها وبقيت سلطتها لا محدودة. واجه هذا الجهاز منافسة من السلطات المحلية و الزوايا. لإظهار أخطاء ميشو بلير، استخدم العروي البيعة كمؤسسة بما تعنيه من عقد راسخ الجذور في رأي جميع مكونات المجتمع المغربي سواء بين القبائل أو في المدن. تم القبول به من قبل وجهاء المغرب، أي المؤثرين في المجتمع: قضاة، قادة جيوش، كبار التجار. هذه المؤسسة هي تعبير عن اتفاق بالإجماع. إنها قائمة على الإجماع. هي تستمد شرعيتها من بيعة النبي المعروفة ببيعة الرضوان والمذكورة في القرآن.
لهذه المؤسسة السوسيوسياسية ضمانات اجتماعية وسياسية لاستدامة سلطة السلطنة ومنع فراغ السلطة. هي ليست بأي حال من الأحوال ديمقراطية. اعتاد المغاربة على الاحتفاظ بهذا الاتصال في ضريح مولاي ادريس بفاس. تظهر هذه العادة تأثير الزوايا على السلطة. رأى العروي في هذا الإجراء تقديسًا للسلطة. كما نظر إلى البيعة على أنها عمل آخر يقوي الاندماج والتماسك السوسيوسياسي ويساهم في منع حصول فراغ في السلطة حتى لا تفسح المجال للفوضى. إنها أحد مظاهر الوعي القومي خاصة أن السلاطين المغاربة، ومنذ السعديين في القرن السادس عشر، قدموا أنفسهم على أنهم من سلالة النبي وادعوا أن أصلهم من الحجاز. حلت النزعة الشريفية محل العصبية كإيديولوجيا سلطوية. لعبت الزوايا أدوارا مهمة في التماسك الاجتماعي سولء في المدن أو في العالم القروي.
رأت الإسطوغرافيا في ثورات القبائل والمدن سيية، أي إرادة رفض السلطة المركزية. حاول العروي إظهار أن السيبة كانت جزء من البيعة. السكان الذين ثاروا أرادوا الاحتجاج على التهميش وابتعاد السلطة. كتب العروي في هذا الموضوع يقول: "السيبة المغربية كانت النتيجة النهائية لانفجار البيعة. السيبة في المناطق القروية تماثلها معارضة العلماء في المدن: في كلتا الحالتين، أعضاء سابقون في الشورى تم إبعادهم عن السلطة هم الذين ثاروا على الاستهتار بالقاعدة والعرف". هذه الثورات هي جزء من شرعية تضمنها البيعة. بطريقة ما، تظهر أيضًا أنها علامة على حيوية الوعي الوطني.
قارن العروي تمرد مولاي حفيظ على مولاي عبد العزيز بذلك الذي قام به في القرن السادس عشر عبد الملك السعدي سنة 1576. كانت الحركة الحفيظية، في نظر العروي، رد فعل ضد الاحتلال و إذلال فرنسا للمغاربة. كانت ثورة على رفض ما لا يطاق. صاغ العروي سؤالا عن الحركة الحفيظية وكتب: "ألسنا أمام التعبير الأول عن قومية مغربية حديثة كان المولى عبد الحفيظ مروجا لها؟
بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما ربط الوعي الوطني المغربي بهذه الحركة: "لنتذكر، يقول العروي، مكانة الحركة الحفيظية في مسار الوعي القومي في مغرب القرن العشرين". استقطبت هذه الحركة كل المغاربة وحققت الإجماع الوطني حول السلطان. فشلت الحركة لأن ميزان القوى كان إلى جانب فرنسا. حاولت الإسطوغرافيا الكولونيالية تقديم دولة بلا أرض، بلا حكومة وبلا شعب. مناطق في نزاع دائم، قبائل في حروب مستمرة، قوى في منافسة مستمرة. ظهر من خلال كتابات العروي أن هذه الأطروحات خدمت وعملت لصالح أجندة الحماية. كان المغرب موجودا كأرض، كشعب، تضمن له السلطة السلطانية، تحت عين البيعة، الإدارة. دخلت المنافسة بين الزعماء الدينيين للزوايا لعبة القوة في المغرب.
من باب الخلاصة والختام، يمكن أن نقول إنه يجب تناول المشروع الفكري لعبد الله العروي ككل تتكامل عناصره المكونة وتتداخل مع بعضها البعض. يجب اعتبار كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" المصفوفة المثمرة للمشروع التي أعلنت في وقت مبكر عن معمار كل الإضافات النوعية التي أتت في ما بعد.
يتكون هذا الكتاب من أربعة فصول: العرب والأصالة، العرب والاستمرارية التاريخية، العرب والعقل الكوني، العرب والتعبير.
قد يلاحظ القارئ اليقظ أن الكتابات اللاحقة على "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" موزعة على أربعة محاور، كل واحد منها يرتبط بفصل من الفصول الأربعة ويتعلق بالتاريخ أو بالتجذر، أي الميتودولوجيا، وأخيرا بالتعبير.
لم يتوقف العروي عن إظهار هذا التداخل في مقابلاته وكتاباته. يتعلق المحور الأول بالإيديولوجيا. ردد المؤلف بصوت عال وواضح أنه لم يدرس إضافات العرب في مجالات الفلسفة والفكر أو الثقافة. لكنه اختار إشكالية الإيديولوجيا وقرأ الكتابات الأيديولوجية فقط.
هذا الاختيار هو الذي يفسر وجود ثلاثة كتب حاولت شرح مفاهيم الأيديولوجيا والحرية و الدولة. وبما أن هذه الأعمال الثلاثة لم تصل إلى الإقناع، فقظ حاول العروي تقديم المزيد من الإيضاحات من خلال المقالات والمحاضرات والمقابلات. تم نشر هذه التوضيحات ضمن مؤلفات أخرى مثل "أزمة المثقفين العرب"، "ثقافتنا في ضوء التاريخ". هذه الكتابات تشكل كلا واحد و تتناول الإيديولوجيا العربية مع إبراز ما يميزها ويبعدها عن الواقع والموضوعية.
المحور الثاني يتعلق بالبحث الموضوعي في المجتمع. هنا نكون إزاء العروي المؤرخ. إنه مدرك أن الأيديولوجيا التي لا علاقة لها بالواقع، يمكن تعميمها لتمس سائر البلدان العربية، على خلاف المقاربة التاريخية التي يمكن لها دراسة حالة بلد واحد فقط. يتعلق الأمر بالمغرب الكبير بصفة عامة وبالمغرب الأقصى بصفة خاصة. من هذا المنظور، بدأ العروي في رسم إطار تاريخي عام في"مجمل تاريخ المغرب".
ثم عزز أطروحته في "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830- 1912"، وفي "المغرب والحسن الثاني"، وأخيرا عبر محاضرات جمعت في كتاب تحت عتوان: Esquisses historiques. المحور الثالث ذو طابع منهجي: التاريخانية كأداة بامتياز لدراسة المجتمع. طالب العروي بتجاوز التاريخاتية التي تدرس السياقات إلى التأريخاتية التي تساعد انطلاقا من الواقع على فهم تطور المجتمع.
شرح هذا المنهج في الكتب التالية: "مفهوم التاريخ"، "مفهوم العقل"، "السنة والإصلاح"، "ديوان السياسة". يرى التاريخاتية على أنها بوصلة العمل السياسي. لم يتم تقديمها كإيديولوجيا بديلة ولكن كأداة ترتبط بالواقع لضمان النجاح لكل عمل بشري.
المحور الأخير يتعامل مع التعبير. إنه مرتبط بـالإبداع الأدبي للعروي. بالتعبير ومعه يشعر بالحرية. هنا يعبر عن نفسه بدون قيود. هذا ما نقف عليه في "خواطر الصباح". منذ طفولته، سجل الحياة اليومية بشكل عفوي. حكى عن ذكريات طفولته في روايات "الغربة" و"اليتيم" و"أوراق". الوضع الحالي ورؤيته القاتمة للمستقبل عبر عنهما في روايتي "الفريق" و"غيلة".
يجب قراءة عمل عبد الله العروي على أنه صرخة اليأس التي أطلقها مفكر غير عادي، كاتب تسكنه مشاكل مجتمعه وأمته. قام منذ خمسة عقود بتشخيص رؤيوي ندد من خلاله بالمأزق والانحدار اللذين ابتلي بهما المجتمع وسط اللاوعي الكلي لنخبة مشغولة بتزجية الوقت وجعل السكان ينامون في الماضي البعيد المنال وفي تقليد الأجداد مع حدوث فجوة مطلقة.
الحكم بالنسبة لهذه النخبة هو إبعاد الناس عن صرخات الحداثة ولتحقيق هذا الهدف من المهم تهميش المثقفين. من الطبيعي في مثل هذا المناخ العام أن يتم حظر بعض كتابات مفكرنا عند صدورها في السبعينيات.
انطلاقا من وعيه بهذا الرهان، كتب العروي يقول في هذا الشأن:: "لم يكن الحسن الثاني يحب من رعاياه هؤلاء الذين يحملون أفكار أصيلة. كان يشعر بالارتياح فقط عندما يجالس التقنيين، أولئك الذين يكتفون بالعثور على حلول للمشاكل التي تطرح عليهم: مهندسين، محامين، أطباء، إلخ ... كان يتفاهم كذلك مع العلماء التقليديين الذين كانوا أيضا، بطريقتهم، تقنيي الفعل والتحكم النفسي".
عندما تخنق وتهمش صرخة المثقفين يصبح المجتمع أعمى وتائها