تنبيهات: اعتراض محمد العمري على قراءة محمد عابد الجابري للبيان العربي - البشير النحلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

«..على هذا النّحو وحدَه يجبُ أن يكون الشّأن لدى الفيلسوف.  فلا حقّ لنا في أنْ نكون مُتَحيّزين في أيّ مجال: لا حقَّ لنا في أن نخطئ جزئيّا، وفي أن نصيب جزئيّا. ذلك أنّ أفكارنا تنبثق منّا بنفس الضّرورة الّتي تُثْمِر بها الأشجار: قِيمُنا، وما نقوله من «نعم» و«لا» و«متى» و«إذا» ينشأ منّا، وهي كلّها متقاربة ومُرتبطٌ بعضُها ببعض: إنّها شهاداتٌ على إرادةٍ واحدة، وصحّةٍ واحدة، وأرضٍ واحدة، وشمسٍ واحدة. أمّا أنْ تُعجبـكم هذه الثّمار، الّتي هي ثمارُنا، فهذه مسألةٌ أخرى. - ولكنْ ما أهميّة ذلك بالنّسبة للأشجار؟ ما أهميّة ذلك بالنّسبة لَنا نحن الفلاسفة؟»[1]

« القَصص القرآني ليسَ مجرّد حكاية أخبار، بل هو بيان وبرهان: وسيلةٌ في الإقناع تدعو للاحتكام إلى العقل بعيداً عن أساليب اللّاعقل»[2]

فاتحة:

يَعترض محمد العمري على استدلال الجابري على "لا برهانية الفكر العربي من خلال أعمال اختارت عن وعي مجال عملها وحددت اختصاصها المتمثل في البلاغة"[3] . وقد أراد لاعتراضه أن يكون تقويميّا، يصحّح غلط الجابري ويضع الأمور في نصابها. فالأعمال البلاغيّة ينبغي، حسب ما يُفْهَم من اعتراضه، أن تُناقش في إطار البلاغة، أو ينبغي أن تُحترَم خصوصيتُها على الأقلّ فلا يُنَاقَش البلاغيّون باعتبارهم مناطقة أو فلاسفة أو يطالبون بعمل هؤلاء. لكنَّه بَدل أن يوفّر لاعتراضه صياغة تجعله قابلا للفهم أَوردَه مُلتبسا وفي غاية التّخليط؛ وبدل تفسيره وتقديم سنده في الاعتراض بإظهار ما يدلّ على أنّهم عوملوا معاملة الفلاسفة وطولبوا بعملهم وتوضيح كيف يُمْنَع تناول أعمالهم من زاوية فلسفيّة ومن زوايا تخصّصات أخرى، انتقل إلى موقع المدّعي –وهو ما ليس ممنوعا في ذاته- فأتى بآراء لا تَثْبُت؛ وبدل أن يلتزم بعضَ النّزاهة ويسلك طريق "العلم" الّذي يريد الانتساب إليه، فينظر إلى ما اقتطفه من عمل الجابري في ضوء سياقه المقالي والمقامي ومنطلقاته ومقاصده، نجده لا يكتفي بعزله وإغراقه في مسبقاته الخاصّة، بل يصل إلى حدّ تزييفه وتشويهه. لمناقشة ذلك نبتدئ بتقديم ما قاله في اعتراضه الإجمالي، ثمّ نوزّع فقرات مقالتنا على عنوانين أساسيّين، الأوّل نُخصّصه لصيغة الاعتراض والثّاني لمضمونه؛ وفي كلٍّ تفصيل. أمّا ما اعتبرَه اعتراضا مبنيا على "النظر إلى الأجزاء والفروق والممهدات"، فسنجعله موضوعَ مقالٍ قادم.

الملحق التّوضيحي:

ينهي العمري الفصل الرّابع من القسم الأوّل من كتاب "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" بالقول »إن عمل ابن وهب أقرب إلى نظرية معرفية، في حين أن عمل الجاحظ يندرج ضمن النظرية البلاغية: بلاغة الخطابة. وهذا يقتضي منا توضيحا بصدد مفهوم البيان والفكر البياني عند الأستاذ عابد الجابري، حيث وجدنا مجموعة من البلاغيين يناقشون باعتبارهم مناطقة أو فلاسفة، أو يطالبون بعمل هؤلاء [4] «؛ ثم يضع، في الصّفحة الموالية، ملحقا للتوضيح، يستهله بما يلي:

»يقول الأستاذ محمد عابد الجابري:

"انقسمت الأبحاث البيانية منذ نشأتها إلى اليوم إلى قسمين: قسم يعتني بـ"قوانين تفسير الخطاب" وقسم يهتم بـ "شروط إنتاج الخطاب".." .

"إن هذا الاهتمام بنظام الخطاب على حساب نظام العقل قد ترتب عنه جملة أمور: الانشغال والاهتمام بتجنب التنافر بين الكلمات على حساب الاهتمام بتجنب التناقض بين الأفكار"[5]. "

 

ثمّ "يوضّح" أنّه أورد المقولة 1 تمهيدا لرقم 2، لذا فهو لن يناقش "إمكان التفريق بين العمليتين "التفسير" و"الإنتاج" تفريقا حاسما"[6]  لماذا؟ لأنّ هذا "النوع من النقاش داخلي يتعلق بمعيارية العلم ووصفيته بعد التسليم بخصوصيته"[7] ما الّذي يبقى للمناقشة مما أورده في المقتطفين من "بنية العقل العربي" للجابري؟ الّذي يبقى والّذي فرض على العمري إبداء الرأي هو مناقشة الجابري لـ "طبيعة الفكر العربي لإثبات لا برهانيته من خلال عمل بلاغيين مثل الجرجاني والسكاكي[8]"؛  ذلك "أن الاستنتاج أو الحكم الّذي تتضمنه المقولة الثّانية يتجاهل الفرق بين أنواع الخطاب[9]"، هذا ومراعاة الفرق "والفصل بين المستوى البلاغي القائم على الانزياح من جهة والاحتمال من جهة ثانية وبين المستوى البرهاني أمر مفيد، بل ضروري، في تناول مثل هذه الأعمال الّتي اختارت عن وعي مجال عملها وحددت اختصاصها. وعليه فوجود نسقين أو نظامين حسب تعبير الأستاذ مسألة منهاجية لا أكثر. وغياب السببية في النظام الشعري والخطابي لا يحرج بل يضع الأمور في نصابها[10]". وبعد أن يضع ترسيمة تقابل بين نظام الخطاب الّذي يعتمد الفاعليّة والمفعوليّة في الكلام ويرفض السّببيّة ونظام العقل، ينتصب للدّفاع عن عبد القاهر الجرجاني وريث أبي عبيدة والفرّاء ممّن اهتمّوا بالانزياح واستنباط قواعد على هامش القيّاس النّحوي، ويقول إن مزيّة عبد القاهر عند دارسي الخصوصيّة الشّعرية تكمن في سعيه لتأويل وتدليل الصيغ غير المأنوسة، وإن لم يستطع صياغة قوانين ترضيه لأنّ مجال اشتغاله يستعصي "على الضبط المطلق"[11] لينهي  اعتراضه "المجمل" باستفهامين يُنكر من خلال أولهما أن يكون الجرجاني والباقلاني ادّعيا تنظيم الأسباب والعلل العقليّة، ويُنكر في ثانيهما على الجابري عدم قوله عن أرسطو ما قاله عن الجرجاني والسكاكي "وعن غيرهما من البلاغيين ومحللي الخطاب"[12]

صياغة الاعتراض:

1.2. مَوقع الاعتراض في الكتاب:

يَضع العمري ملحقه التّوضيحي في خاتمة الفصل الرّابع من القسم الأوّل، وهو الفصل الّذي خصّصه للبيان عند الجاحظ، وبعده عند ابن وهب. بعد الفصل الخامس يأتي القسم الثّاني الّذي يتناول "الامتدادات والنماذج الكبرى"، والّتي يضع فيها كلّا من الجرجاني والسكاكي.. ومعلومٌ أنّ الجابري تناول أعمال هؤلاء، وتناول غيرهم. فبماذا برّر العمري وَضْعَ الاعتراض على الجابري في هذا الموقع بالضّبط: أي في خاتمة كلامه عن بيان الجاحظ وفَذلكته عن "برهان" ابن وهب؟. يقول في آخر فقرة من كلامه عن هذين الكاتبين: إنّ عمل ابن وهب "أقرب إلى نظريّة معرفيّة"، أمّا عمل الجاحظ فـ"يندرج ضمن النّظرية البلاغيّة[13]". من لم يطّلع على عمل الجابري سيرى في التّفريق بينهما وتوزيعهما على نظريّة في المعرفة وعلى البلاغة جهدا ظاهرا في التّصنيف؛ وقد يُشْكِل عليه أمر طبيعة تلك النّظريّة في المعرفة، وفي الأقصى قد يتردّد في تقليص الجاحظ وبتر ما يزيد عن مساحة البلاغة كما يفهمها العمري، لكن سيبقى قول العمري في حدود القول غير التّامّ وغير المضبوط لا أكثر. أمّا المطّلع على عمل الجابري فلا بدّ أن يصاب بالذّهول أمام ما يقوم به هذا النّاقد: بعد جهدٍ في الرّصد والوصف والانتقاء والتّحليل والتّركيب والتّأويل يصل الجابري إلى أنّ ابن وهب أراد في "البرهان" « أن يجمع شتات «البيان» وينظِّم مسائله ليُظْهِره كنظريّة عامّة في المعرفة، بيانيّة المضمون والاتجاه»[14]، فيأكل العمري من زاد الجابري ما أراد من غير أن يذكره[15]؛ ولكنْ، بالطّبع، مع إسقاط ما لا يخدم قُصوده، وهي شتّى: فيقول إنّ «عمل ابن وهب أقرب إلى نظرية في المعرفة»! ما فرضيّات هذه النّظريّة؟ ما مقاصدها؟ ما مفاهيمها؟ ما درجة تماسك صياغتها؟ ما مدى انسجامها مع مجالها التّداولي؟ ما مدى كفايتها وقدرتها على رفد مناهج التّحليل أو توليدها؟ ..أسئلة يُسقِطها النّاقد الْمتكلّم باسم "علم البلاغة" من حسابه!، بل ويُسقِط أيضا سياق رأي الجابري في عمل ابن وهب باعتباره "نظرية في المعرفة"، ويُسقِط معها وصفه لها  بأنّها " بيانيّة المضمون والاتجاه"؛ ويستحضر الجابري الذّوات الاعتباريّة المتعدّدة للجاحظ[16]، فالجاحظ متكلّم وإعجازيّ وناقد وبيانيّ وبلاغيّ وبيداغوجيّ أيضا؛ وهو كذلك، ليس لأنّه موسوعيّ وزّع  كتاباته على تخصّصات وموضوعات مختلفة فحسب، بل لأنّه كان يتنقّل بين زوايا نظر متباينة في نفس التّخصّص ونفس الموضوع؛ والجابري لا ينظر في ذلك التّوزّع والتّنقّل للبحث في مضامين كتاباته، بل إنّه ينظر في موسوعيّته بحثا عن رؤية ومنهج وآليات مشتركة بينه وبين مجموع من ينتمون إلى نفس النّظام المعرفي. فيأتي العمري ليقول: إنّ عمل الجاحظ يندرج ضمن النّظرية البلاغيّة[17]. لا نقف عند "النظرية البلاغية"، فهي من باب التّقليد غير الموفّق؛ والجابري يتسامح في الحديث عن البلاغة زمن الجاحظ، وينصّ عليه. إنّ ما ينبغي التّنبّه له هو الاعتماد على الجابري وعدم ذكره إلا عند قلب أقواله عليه باستعمال إجراءت غير نزيهة؛ وهو هنا يُغلّط صاحب "نقد العقل العربي" حتّى لو ضيّق الخناق على الجاحظ: فالرّجل بلاغي ولا شأن له بما يبحث عنه الجابري. ولكنّ انعدام النّزاهة لا يقف عند هذا الحدّ؛ ذلك أنّ إدراج الجاحظ في تخصّص واضح هو البلاغة، هكذا بإثبات واثق دون الحاجة إلى أيِّ تحقيق أو تبرير معقول، يجعل الطّريق سالكة لمحاسبة الجابري على مناقشته كُتّاباً آخرين كالجرجاني والباقلاني والسكاكي، ذلك أنّ مسائل وجوابات هؤلاء شأنٌ داخلي يخصّ "علماء البلاغة"! وبالفعل فإنّ العمري لا يثير الجاحظ في ملحقه التّوضيحي إلا عرضا في سياق ادّعاء "تلافي" الباقلاني لكلمة "نظم" الّتي كانت شائعة عند سابقيه بمن فيهم الجاحظ "هروبا" من مرجعيتها[18]! والواقع أنّ العمري هو من يـ"تلافى" هنا الكلام عن تحليل الجابري لكتابات الجاحظ "هروبا" من حقيقة كون الجاحظ متكلّم معتزليّ إعجازي كما نصّ عليه هو نفسه، متّبعا، حين أراد توسيع الدّائرة[19]! ذلك أنّ الجابري ألَحّ على اهتمام الجاحظ بعلم الكلام وعِنايته بالتّبيين والإفهام والإقناع وقمع المجادل وإفحامه[20]، وهو بالضّبط ما سيُغري العمري بمحاولة ربط الجاحظ بـ"النّظرية الحجاجيّة" ربطا حصريّا[21]، لينضاف ذلك إلى إرادته التّدليلَ على ريادته في الانتباه إلى "جناح البلاغة المقصوص" في المجال العربي المتمثّل في الحجاج، فيوقعه ذلك في فخّ نقد طه عبدالرحمان للجابري، ذلك النّقد الّذي يطابق بين منطق المتكلّمين (علماء الكلام) والمنطق الطّبيعي أو المنطق الموسّع!

وَبالجملة، يتّضح أنّ وضع العمري لاعتراضه على الجابري في هذا الموقع من كتابه، فيه ترتيبٌ ومقاصد تطرح أسئلة تمسّ الضّبط والتّثبت والنّزاهة. وقد كان عليه، إذا أراد مناقشة الجابري الحسابَ، أن يفعل ذلك في بداية كتابه أو خاتمته، مادام الجابري ناقش كل أولئك الّذين ذكرهم العمري في ملحقه وتناول أعمالهم بعد الملحق باعتبارهم بلاغيّين ولا بدّ!

2.2. عنوان الملحق التّوضيحي:

العنوان الّذي يضعه العمري لملحقه "التّوضيحي" هو البيان: نظام للخطاب أم نظام للعقل؟". وقد جعله بصيغةٍ للاستفهام يُمكن أنْ تفيد الشّك في جُمَلٍ وسياقات أخرى، أمّا في هذه الجملة بالضّبط فلا يمكن إلّا أن تدلّ على عِلْم المستفهِم ورغبتِه في تقديم تفسير لاختيار محدّد هو: البيان نظام للخطاب. ويؤكّد هذا كون العمري سبق أن غلّط الجابري في آخر فقرة من الفصل الّذي خصّصه لبيان الجاحظ وابن وهب، ونصّ على أنّه تعامل مع أعمال البلاغيّين وكأنّهم مناطقة أو فلاسفة، أو ينبغي أنْ يكونوا كذلك. وإذن، فإنّ السّياق وطبيعة المذكورَيْن في الجملة اللّذين يتعيّن أنْ نُعَرِّف بأحدهما البيان وصيغة العنوان الاستفهاميّة، كلّ ذلك صريحٌ في القصد إلى توجيه القارئ إلى الاعتقاد بكون الجابري يرى: أنّ البيان نظام للعقل، أو ينبغي أن يكون كذلك. وهذا تزييفٌ بالقطع. فالجابري، على العكس، يقول إنّه تتبّع نزوع البيانيّين إلى جعل نظام الخطاب يطابق نظام العقل ويحتويه[22]، وانتقده.

3.2. انتقاء وترتيب المقولتين المقتطفتين من "بنية العقل":

   ينتزع العمري "مقولة" الجابري الأولى من الصّفحة 16 من "بنية العقل العربي"، والثّانية من الصّفحة 105[23]. المسافة بين الصّفحتين شاسعة، والمعنى الّذي يمكن أنْ يُسند إليهما يتجاوز ما بينهما إلى الكتاب ككلّ، بالإضافة طبعا لمتغيّرات أخرى معلومة للمختصّين في الخطاب والمهتمّين بشأنه. ومن المسلّم أنّ الاقتطافَ ليس ممّا يطرح مشكلا في حدّ ذاته، بل هو ممّا لا بدّ منه، وإن كان ترحيل المقتطفات من سياق إلى آخر يغيّرها ضرورة بهذا القدر أو ذاك، فلا تَتَطابقُ أبداً. المشكل يبدأ عندما يحصل التّزوير والتّزييف. وإذا كان من الصّعب الحدّ من التّأويلات المشروعة، فإن التّأويلات غير المشروعة تفضح نفسها. والعمري ينتقي المقولتين المذكورتين ويُسقط ما يعطيهما المعنى ممّا له مَتاتَة بسياق ومقام ومبادئ ومقاصد نسق الخطاب في "نقد العقل العربي" ويضع إحداهما بعد الأخرى، وينصّ على أنّ المقولة الأولى ليست للمناقشة لأنّها شأنٌ بلاغي داخلي، وأنّها مجرّد تمهيد للثّانية؛ ثمّ يقول "إن الاستنتاج أو الحكم الّذي تتضمنه المقولة الثّانية يتجاهل الفرق بين أنواع الخطاب"! السّؤال الواجب هنا هو: أين استنتج الجابري المقولة الثّانية من الأولى؟ وإنْ لم يكن الجابري هو من قام بالاستنتاج، فكيف يورد العمري "المقولتين" بهذه الطريقة التي توهم أنّ الاستنتاجَ له؟  وكيف يمكن بناء حكم الثّانية من خلال الأولى أصلا؟  وإنْ لم يكن ذلك هو المقصود، فالاستنتاج ممّاذا؟ ولماذا إيراد المقولة الأولى، وهو يقول إنّه لا يوردها للمناقشة، ويجعلها -مع ذلك- ممهّدة للثّانية؟

3. مضمون الاعتراض:

1.3. تعليق العمري على "المقولة" الأولى:

   رأينا في الفقرة السّابقة الّتي أدرناها على الشّكل الّذي انتقى به العمري ورتّب المقولتين المقتطفتين من "بنية العقل العربي" أنّه لم يُبيّن كيف يمكن أنْ تكون الأولى مُمَهّدة للثّانية، وأنّه لم يقدّم تَبريرا لإيرادها مادام مُصِرّا على عدم مناقشة الجابري في مضمونها لأنّه شأنٌ بلاغي خاصّ! أمّا هذه الفقرة، فنُديرها على ما يقوم به فعلاً في تعليقه على تلك "المقولة": يُناقشها أم يتركها لأنّها ليست من شأن الجابري أصلا؟

   قراءة تعليقه بانتباه تبيّن أنّه "التزم" حقّا بما صرّح به، فهو لا يُناقشها ولا يفسّر كيف تمهّد للمقولة الثّانية، ولا يحدّد أيّ شكل من الارتباط بينهما من عنده، أو منسوباً للجابري. كلّ ما يفعله عندما يصرّح بعدم تعرضّه لمناقشة «مدى إمكان التفريق بين العمليتين "التفسير" و"الإنتاج"» هو وصفه لذلك "التّفريق" بـ"الحاسم[24]"! وهو ما يقْتضي أنّ الجابري لا يفرّق بين العمليّتين فقط، بل يفرّق بينهما تفريقاً "حاسماً"؛ وهذا تزويرٌ محض. فالجابري الّذي يقول إنّ الجاحظ « يبدو وكأنه كان يريد أن يقوم في مجال تحديد شروط إنتاج الخطاب البياني بمثل ما قام به الشافعي في مجال وضع قوانين لتفسير ذات الخطاب.. [25]»،  هو نفسه الّذي يُشدّد على أنّ" الجاحظ اهتم –شأن سَلَفِه وخَلَفه- بفهم الخطاب القرآني وتفسيره فألّف في ذلك كتابين على الأقل وضَمَّن كتابَه "الحيوان" شروحا لآيات توضح البيان والبلاغة فيها[26]". ولا يحتاج كلامُ الجابري عن "الفهم" و"الإنتاج" إلى أيّ عناء حتّى يفهم؛ يقول: «الجاحظ المتكلم لم يكن معنيا بقضية "الفهم"، فهم كلام العرب وحسب، بل لقد كان مهتما أيضا، ولربما في الدّرجة الأولى، بقضية الإفهام، إفهام السامع وإقناعه وقمع المجادل وإفحامه[27]. وإذن فهو سيتجه باهتمامه غير اتجاه الشافعي. إنّ ما سيشغله أساسا هو شروط إنتاج الخطاب وليس قوانين تفسيره.[28]» وحتّى حين ربط بين علم المعاني وعلم البيان وبين شروط إنتاج الخطاب وقوانين تفسيره فإنَّه استعمل تركيب "يُعنى أساسا بـ.." أيْ في المقام الأول، وعلّق قائلا: « ونحن نقول "أساساً لأن مسائل العلمين تبقى مع ذلك متداخلة بعض الشيء..[29]»؛ فكيف يصير خطابٌ يشدِّد على تداخل شروط إنتاج الخطاب وقوانين تفسيره -مع محاولة إبراز الجانب الّذي تمّ التّركيز عليه وإعطائه الاهتمام الأكبر وفقا لهذا البيانيّ أو ذاك- خطابا يفرّق بينهما تفريقاً "حاسماً"؟ 

2.3. منع الاستدلال بـ"الأعمال البلاغيّة":

   نصلُ الآن إلى الاعتراض الّذي رصد له بشكل صريح ملحقه "التّوضيحي": «انطلاق الجابري من أقوال "البلاغيين ومحللي الخطاب" لإثبات لا برهانية الفكر العربي». وهو اعتراض نُناقشه بالفحص عن سنده في المنع، لكون العمري تحوّل فيه إلى مدّع يُثبت أحكاماً ويقدّم تبريرات، من أجل مزيد من التّمكين لتصوّر "بياني" بالغ الضّيق إذا استعنّا بتوصيف الجابري. ونختار أن نأخذ مكوّنات ذلك السّند فُرادى حتّى نُظْهِر خلوّها من الحجّية الّتي يدّعيها لها صاحبها:

1.2.3. تجاهل الفرق بين الخطابات:  

   يرى العمري أنّ "مقولة" الجابري الثّانية تتجاهل الفرق بين الخطابات. وهو ما يعني أنّه وجد هذا التّجاهل في هذه المقولة المنتزعة من خطاب الجابري، أو في سياقٍ أوْسع يشملها ويفيد ذلك التّجاهل بطريقة ما. فإنْ كان الأوّل، أي أنّه وجد ذلك في هذه العبارة وحدها، فإنّه أخلّ بشرط تعيين الطّريق الّتي سلكها في استنتاجه ذاك، فليس في هذه "المقولة" ما يمكن أن يُستشفّ منه تجاهل الفرق بين الخطابات. والتّثبّت يمنع منه، فهي لا تنصّ على أكثر من " أن الاهتمام بنظام الخطاب الّذي يتمّ على حساب نظام العقل يؤدّي إلى إهمال التّماسك المنطقي"؛ وعزلها عن السّياق يجعلها مفتوحة لا تُسعف بالتّدليل على تجاهل ولا على عدم تجاهل؛ وهذا بيّن.  يبقى افتراض: أنْ يكون العمري معتقدا أنّ عمل "البلاغيّين ومحلّلي الخطاب" اعتمدوا ويجب أن يستمرّوا في اعتماد المنظور اللّفظي، وأنّ إشارة الجابري إلى أنّ اهتمامهم بالتّلاؤم والتّنافر اللّفظي كان على حساب المنطق وانسجام الفكر إنّما هو مطالبةٌ لهم بما ليس من شأنهم واختصاصهم. من حقّ العمري أن يقف هذا الموقف، لكن عليه، حينها، أن يدرك أنّه لا يخرج من زمرة المنتقدين ممّن "يطلون من زاوية حرجة أو من ثقب الباب"[30]؛ ذلك أنّ التّشبّت بالنّظر إلى المسألة من هذه الزّاوية الضّيقة، زاوية اللّفظ بدعوى أنّ واجب الإعلاء من تماسك وانسجام المعنى ليس من اختصاص "البلاغي" سيكون، في سياق عمل الجابري، تشبّتا بالإقامة الدّائمة في "مذهب بياني" ضيّق يعتقل العقل ويعطّله، بما يستتبعه ذلك من وأدٍ للفعل المبدع الحر. وأمّا إنْ كان الثّاني، أي أنّه وجد تجاهل الفرق بين الخطابات في هذه المقولة ضمن سياقها في "بنية العقل"، أو في مجموع كتابات الجابري، فإنّ اعتراضه إمّا أن يكون فيه نقص يتعلّق بعدم إيراد القرائن النّصّيّة الكافيّة والواضحة المبرّرة للاعتراض، وإمّا أن يكون فيه انعدام للجدّيّة واستسهال لإطلاق الحكم، وإمّا أن يكون فيه قصدٌ إلى المغالطة والتّزوير.

   هذا والواقع أنّ ما قام به الجابري بعيد عن مَزاعم العمري بهذا الخصوص. فقد وضع، في نقده للعقل العربي، الثّقافة "العالمة" موضوعا للدّرس، وأخرج الثّقافة الشّعبيّة لأنّه منشغل بالعقل والعقلانية. ونقد "البيان العالم[31]" بالتّركيز على المنطلقات والقبليّات الّتي حكمت جهود البيانيّين وربطتها بكلام الأعرابيّ الّذي صار، وهذه مفارقة كبيرة، أستاذا لهم[32]. ووضّح أنّ "الانخراط" في "الإشكاليّة" البيانيّة كانت أقوى عند من يعتبرهم العمري "بلاغيين ومحللي خطاب"!، وذلك لانشغالهم بقضايا المتكلّمين والفقهاء على السّواء ممّا عزّز تقيّدهم بسلطة القديم وجَعْلَه إطارا مرجعيّا ومعيارا ثابتا، فسادت سلطة الشّكل وعمّ الاجترار والتّكرار[33]. ولقد كان حريصا في تتبّعه لسيرورة تكوُّن الثّقافة العربيّة المترابط وتحليل مرتكزات بنيتها على مستوى الرّؤية والمنهج والوسائل والإجراءات على أنْ يأخذ فروعها في الحسبان، من نحو، وفقه، وكلام، وبلاغة، وتصوّف، وفلسفة،..[34] وأن يحدّد الإشكاليّة[35] الّتي تجمع تلك الفروع وتوحّدها، منطلقا من الجزء إلى الكلّ اقتناعا منه "بأنّ "الكلّ" الجاهز يضلّل القارئ ويشوّه المقروء"[36]. والجزء عنده في هذا السّياق هو التّخصص، أو سيرورة التكّوّن الّتي تؤدي إليه. وقد قام الجابري بحفريات دقيقة في العلوم العربيّة المشار إليها أعلاه، ومنها تلك الّتي كانت ما تزال في طور التّشكل كما هو شأن "البلاغة"، إلى حدّ يصعب معه أن نجد جديدا دالّا عند العمري في تأريخه للبلاغة. هذا وينبغي أن نضع في الحسبان أنّ الجابري إنّما قصد إلى ما يربط هذه التّخصّصات في إطار شمولي[37]، وركّز على الأسس وليس على المحتويات[38]. وقد كان، فوق هذا، واعيا بأنّ نظرته الكلّية الّتي تستهدف منظومة الفكر لا بدّ أن تختلف عن نظرة الاختصاصي الّذي يُعْنى بـ«"نبضة" الحياة كواقعة متفرّدة، في هذا العلم أو ذاك[39]».

2.2.3 ضرورة الفصل بين البلاغي والبرهاني:

     لم يشتغل الجابري على قضايا فلسفية مجرّدة، بل جعل كلّ أعماله في إطار فلسفة عمليّة يحرّكها اهتمامٌ مركزيّ يتمثّل في رصد عوائق التّفكير العقلاني والتّنبيه على ما يتطلّبه تحرير الإبداع وفتح الطّريق لتستأنف الحياة دورتها في المجال الحضاري العام؛ لهذا يصحّ تصنيف مجموع أعماله في إطار الفلسفة المدنيّة الّتي «تَفْحَصُ عنِ الأشياء الّتي شأنُها أنْ تُعمل بالإرادة وتُنال بالإرادة[40]» لِترقية طبيعة التّواجد في المجتمع وفي العالم. وإذن، فإنّ من التّزوير الصُّراحِ ادّعاء انحيازه إلى النّظر المجرّد وإلى النّزعة المنطقيّة الصّوريّة[41]. وعندما يلحّ على ضرورة تأسيس الخطاب العلمي، أيّاً كان، تأسيسا برهانيّا، فهو لا يختصر البرهان في المنطق الصّوري، ولا يشترط، بالقطع، تحكيم قيود ذلك المنطق في عمليّات الإبداع، ولا يتطلّب السّببية في الأنظمة الشعرية والخطابية[42]!

   لا أحد يُنكر أنّ الإبداع  يتولّد بمعزل عن "القواعد" المسبقة منطقيّة كانت أو غير منطقيّة، أو هكذا يفترض[43]؛ وأن انبثاق أشكاله إنّما يتمّ وفقا لعمليّات خاصّة. والجابري قام بعمل جبّار من أجل كسر أغلال القبليّات الّتي تجعل العقل أسير مقرّرات بيانيّة وعرفانيّة ومنطقيّة ضيّقة ومفصولة عن الواقع. وما قام به من نقدٍ لابن سينا والغزالي ممّن دافعوا عن المنطق بالمعنى الاصطلاحي وقرّبوه وشغّلوه في مجال الثّقافة العربيّة[44] ، كافٍ ليدفع عنه تهمة الانتصار لشكلانيّة المنطق الصّوري. في ما يلي معلومات قليلة عمّا يعنيه بالبرهان، حتى يَظهر التّزييف الّذي يقوم به العمري وغيره، ممّن يأخذون من نقد طه عبد الرحمان، من غير أن يذكروا ذلك الأخذ أوْ يحقّقوا فيه!

وَكان طه عبد الرحمان قد ابتدأ التّزييف عندما انطلق من البرهان بمعناه الاصطلاحي الضيّق في المنطق الحديث، أي باعتباره استدلالا تجريديّا دقيقا قابلا للصّورنة والصّياغة الحسابيّة[45]، وادّعى أن الجابري يُحاكم في ضوئه التّراث العربي، ويفاضل بين أجزائه مخالفاً بذلك منطلقاته نفسها. والواقع أنّ القراءة الّتي يقوم بها الجابري للتّراث بعيدةٌ في هذه النّقطة عمّا يدّعيه طه عبد الرحمان، ومن تبعه بغير إحسان. وقد أوضح الجابري أنّه لا يستعمل كلمة البرهان بالمعنى المنطقيّ التّجريدي الضيّق ولا يستعمله بالمعنى العام[46]، بل يضعه «عَلَما على نظام معرفي متميّز»[47].  يقول في تحديدٍ أوليّ يقارن فيه هذا النّظام بالنّظامين البيانيّ والعرفانيّ: «إذا كان البيان يتخذ من النص والإجماع والاجتهاد سلطات مرجعية أساسية ويهدف إلى تشييد تصور للعالم يخدم عقيدة دينية معطاة هي العقيدة الإسلامية أو بالأحرى نوعا من الفهم لها، وإذا كان العرفان يتخذ من الولاية، وبكيفية عامة من « الكشف» الطريق الوحيد إلى المعرفة، ويهدف إلى الدخول في نوع ما من الوحدة مع الله، وهذا هو موضوع المعرفة عند أصحابه، فإن البرهان يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية، من حس وتجربة ومحاكمة عقلية، وحدها دون غيرها، في اكتساب معرفة بالكون ككل وكأجزاء، لا بل لتشييد رؤية للعالم يكون فيها من التماسك والانسجام ما يلبي طموح العقل إلى إضفاء الوحدة والنظام على شتات الظواهر ويرضي نزوعه الملح والدائم إلى طلب اليقين»[48].  ما الّذي يعنيه هذا المقتطف في سياق عمل الجابري، وفي جانب علاقة البرهان بالبلاغة؟ إنّه يُبْرِز تباين ثلاثة مسالك في تحصيل المعرفة: أمّا الأوّل، فهو مسلك البيانيّين الّذين ينطلقون من نصوص معطاة قبليّا ويسيرون على نهج مرسوم مبنيّ على "بادئ الرأي[49]" لـ"يستخرجوا" منها كنوز الحقائق وأسرار المعاني[50]، وهم يستدلّون على صحّة مسبقاتهم[51] - الّتي من الطبيعي أن يختلفوا فيها مع ذلك- وينكرون السّببيّة[52] وينفون الطبائع[53] ويهملون المقاصد؛ ومن يأخذ منهم بالمنطق يوظّفه لخدمة تلك المسبقات، فلا يكون بينه وبين من يرفضه وينقضه فرق،  وهم جميعا يندرجون في مذاهب، فلا يعملون إلاّ على نشر معتقداتهم وتحصينها من الأسئلة، فيُسيّجون أتباعهم في نزعات هوّياتيّة منغلقة منسوجة بخيوط السّلط الثّلاث: سلطة اللّفظ وسلطة الأصل وسلطة التّجويز[54]، ولا يهمّهم غيرهم ولا يقبلون بوضع خطاباتهم موضع اختبار[55]، وإذا كان لنا أن نورد مثالا دالًّا لما يمكن أن يؤدّي إليه مسلك هؤلاء حتى في المسائل الدّقيقة فلن نجد في هذا السيّاق أفضل من الجرجاني نفسه الذي فصل بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي وأخرج الاستعارة من التّخييل كما يعرف ذلك المهتمّون، لأنّ «المستعير لا يقصد إلى إثبات معنى اللفظةِ المستعارة، وإنّما يعمد إلى إثبات شَبَهٍ هناك، فلا يكون مَخْبَرُهُ على خلاف خَبَره. وكيف يعرض الشكُّ في أنْ لا مدخل للاستعارة في هذا الفنّ، وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفى..»[56] . وأما الثاني، فمسلك العرفانيّين الّذين ينشغلون، هم أيضا، بالحقيقة المطلقة ولكنّهم يتميّزون بقولهم إنّ منهجهم كشف وإلهام[57] وهو اختيارٌ يمكن أن يدخل في إطار "فن العيش" على المستوى الفردي، ولا صلة له بالعلم والمجتمع الّذي لا يأبه له ولا تؤهّله طبيعتُه نفسُها للتّفكير في شأنه، بلهَ ترقيته والبحث عن تفتّحه وسعادته[58]. وأمّا الثّالث فهو مسلك البُرهانيّين وهو المسلك الفسيحُ والمُتاحُ لكلّ معنيٍّ بالسّعي للإسهام في ابتداع أسباب العيش اللّائق في المجتمع وفي العالم، وهو مسلك يفتح المجال للفعل الحرّ باعتماد قِوى الإنسان المعرفيّة الطّبيعية من حسّ وحدْسٍ وتجربة ومنطق، أو قُل، باختصار، باعتماد العقل؛ لذلك يُرتّبُ البُرهانيّون المُسَبّبات على الأسباب[59]، ولا يُنكرون الطّبائع ولا يرون في أن تكون هناك "أسبابٌ" فاعلة غير الله ما يعارض الإيمان[60]، فيجتهدون من أجل تصنيف الموجودات ووضع قواعد المعرفة والتّواصل بين النّاس، وإذا اتّخذوا المنطق نموذجا أمثل، فليس ليُحَكِّموا قواعده الصّورية في كلّ المجالات بما فيها مجالات الفنّ، بل يمكن التّأكيد على أنّ البرهانيّين في المجال العربي حاولوا، مثل سلفهم ومعلّمهم الأوّل أرسطو، أن يستعملوا المنطق الثّنائي القيم في الموضوعات القابلة للضّبط وتحصيل اليقين، واتخذوه نموذجا في الموضوعات التي لا تحتمل أكثر من تحقيق درجات دنيا من التّعقيل فعملوا على تخليق الجدل مع علماء الكلام وتصحيح منطقه متعدّد القيم، وهو ما برّز فيه ابن رشد الذي أعاد له الجابري الاعتبار كما هو معلوم[61]، وبيّنوا  طبيعة المنطق الذي يستعمله الخطباء الذين يقصدون الإقناع ويقيمون حُجَجهم على "تقويّة الظّن" بتعبير حازم. والواقع أن الجابري اختار أن يكون من سالكي هذا المسلك بشجاعة أدبيّة كبيرة[62]، وأعماله تشهد له. وقد ظنّ العمري أن كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم" يُمَكّنه من إعادته إلى "حظيرة" البيان؛ وهو ظن فاسد، لأنّ "مدخل" الجابري محاولة لإبراز الفرق بين النّزعة البيانيّة الّتي تبتلع القرآن وعموم الوجود بمنطقها اللغوي-الكلامي من جهة، والقرآن باعتباره خطابا يرتبط بالواقع والمجتمع والتّاريخ على نحو أصيل، ويستعمل استدلالا برهانيّا في ما يتعلّق بكلّ ذلك؛ وانظر، إنْ شئتَ مثالا، بعضَ ما يقوله عن القصص القرآني: إذْ يلحّ على أنّ الجانب الفنّي لا يدخل في اهتمامه، ولكن، إذا كان لا بدّ من إبداء الرّأي، فإنّ «من غير الصّواب قراءة ذلك القصص في ضوء «خصائص أدب القصة» في عصرنا»[63] ولا حتّى في ضوء ما قاله المتكلّمون والبلاغيّون بما فيه  مفهوم النّظم الّذي صاغه الجرجاني صياغته الدّقيقة المعهودة، وإنّما ينبغي أن يُقرأ في ضوء نصوص التّوراة والإنجيل. لماذا؟ لـكي نعرف أنّ الاستدلال في القرآن يتمّ وفق «مقتضيات العقل، حتى داخل القصص نفسه، بعيدا عن أسلوب التوراة والإنجيل في الإقناع، الأسلوب الذي يعتمد الاحتكام إلى أمور تقع خارج طور العقل من مثل قلب العصا ثعبانا والقفز على ما جرت به العادة من سنن طبيعية لا تتخلّف[64]».

   هذا، والواقع أنّ المنطق القَضوي الثّنائي القيّم نفسه، الّذي يتخذه البرهانيّون نموذجاً أمثل، كان في بدايته مع أرسطو ذا طابع حواريّ، ومبدأ "عدم التناقض" الأكثر صوريّة فيه لا يمكن توضيحه إلّا في إطار العلاقة بكلام الآخر. فيظهر أنّ البرهان الّذي يتحدّث عنه الجابري هو نوع من الموقف المبدئيّ الّذي يُبعد القبليّات الّتي تحجر على العقل، أو على الأقلّ يضعها بين قوسين ويحاول الحدّ من تأثيرها، ويعتمد "قوى الإنسان المعرفية الطبيعية" في بناء المنهج والمفاهيم وتوظيفهما. لذا فالجابري، من قبلُ ومن بعدُ، لا يقول بخلوّ البيان من أيّ منطق[65]، ولا يقول حتّى بأنّ البيانيّين لم يستعملوا المنطق الأرسطي، بل إنّه يبيّن، بالعكس، أنّهم استعملوه بعد تكييفه وإدماجه وجعله في خدمة النّظام البياني. وما ينتقده بالضّبط هو هذا النّوع من القلب: فبدلاً مِنْ أن يؤسّسوا عليه وعلى عموم نظر العقل -الّذي سمّاه برهانا- أعمالهم وتفسيراتهم للظّواهر القابلة للمعالجة العلميّة خِطابيةً كانت أو غير خِطابية حكّموا قبليّات مقرّرة هي، أحيانا، تقنينات وقواعد وقوالب عقليّة وعلميّة ورياضيّة صارمة، تحكيما أدّى إلى فصل عالم البيان -الّذي صار خطاطات مجرّدة وفارغة- عن العالم الواقعيّ التّجريبي الدّيناميّ المشخّص، وَتحوّل، عندهم، المنطق الأرسطي نفسه إلى «عادة- عقلية»[66]، أي إلى قواعد شكليّة تكبّل العقل[67].

   وَبَعْدُ؛ إنّ الاعتراض على عدم الفصل بين البلاغي والبرهاني اعتراضٌ مُغَلّط، لأنه ببساطة اعتراض على ما لم يقل به الجابري ولم يقم به، بل قال وقام بعكسه. وليسَ عنده ما يمكن أن يُحمَل على مطابقته بين البلاغة والبرهان! يبقى أنّ البلاغة، في منظور الجابري ووفقا لمفهومه للبرهان الّذي وفّر له قدرا كافيّا من التّأصيل والتّوضيح أولى أن تبنيَ خطابها على أساسٍ من ذلك البرهان وأن تقتصر على دراسة الخطاب وتكفّ عن احتكار تفسير الدين والعالم والكون وعن التّشريع لجميع العلوم وللمجتمع إذا كانت تسعى إلى أن يتّصف ذلك الخطاب بصفات العلم ويتملّك بعضا من خصائصه ومقوّماته[68]. وإذا كان ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون قد حاولوا بعض ذلك في المجالات التي اشتغلوا فيها، فإنّ حازم القرطاجني – الذي يُلْحِقُه العمري بـ"زمن" أو "أنموذج" الجرجاني! [69]- حاول ذلك، أيضا، في مجال البلاغة، فانتقد المتكلّمين الإعجازيين ولم يقبل لهم رأياً في الشّعر لأنهم يتكلّفون «أن يعلموا من طريقتهم ما ليس منها»، وهو شطط[70]،  «والّذي يورّطهم في هذا أنّهم يحتاجون إلى الكلام في إعجاز القرآن، فيحتاجون إلى معرفة ماهيّة الفصاحة والبلاغة من غير أن يتقدّم لهم علم بذلك، فيفزعون إلى مطالعة ما تيسّر لهم من كتب هذه الصّناعة، فإذا فرّق أحدهم بين التّجنيس والتّرديد، ومازَ الاستعارة من الإرداف، ظنّ أنّه قد حصّل على شيء من هذا العلم، فأخذ يتكلّم في الفصاحة بما هو محض الجهل بها. [71]» ؛ وقد ذهب حازم في محاولته مذهباً قصيّا، فلم يكتف بالسّعي إلى تأسيس البلاغة على أساس برهانيّ، بل اشترط في الخطيب المعرفة بجهات الفحص عن الصدق في الأقاويل، وقال إنّ ذلك "متأكّد" في حق الشاعر كذلك[72]، ولكنّه لم يقُل، بالطّبع، ما قال لِكي يَلْزَم كلٌّ من الخطيب والشّاعر الصّدقَ، بل ليعرفا "الوجوه التي تصير بها الأقاويل موهمة أنّها صدق"[73] ، مع العلم أنّ خطاب الأوّل يقوم، أساساً، على تقوية الظّن، وخطاب الثّاني يقوم على التّخييل في المقام الأوّل.

3.2.3. قيامُ البلاغة على الانزياح والاحتمال:

   بناءً على ما سبق، تكون دعوة العمري "إلى ضرورة الفصل بين المستوى البلاغي القائم على الانزياح من جهة و"الاحتمال" من جهة ثانية وبين المستوى البرهاني" دعوة مخلِّطةٌ، مغلِّطة، مُخْتَزِلة، وواقعة في خانة الفكر البياني الضّيّق الّذي بذل الجابري جهدا محمودا من أجل إعادته إلى سويّته وإقامَته على رِجليْه. وإذا كان من المشروع البحث في تأليفات البيانيّين والإعجازيّين والمتكلّمين القدامى عن جوانب ومسائل "بلاغيّة" في إطار تتبّع سيرورة تشكّل علم البلاغة أو في إطار استثمار ذلك في مجال هذا العلم بأيِّ وجه يُبرّر تبريرا علميّا كافيا[74] ، فإنّ الانجرار إلى منع تناول كتابات هؤلاء المؤلّفين من زوايا أخرى، أو اشتراط اصطناع المنظور البياني وتشغيل مفاهيمه لمّما يدل على اضطراب في الفهم وضيق في التّفكير، خاصّة إذا كان المنع والاشتراط يتمّان من داخل إبدال واحد من الإبدالات الموجودة أو الممكنة في هذا التّخصّص.  ومَنْ تناولهم الجابري من البيانيّين في عمومهم كانوا منشغلين، في المقام الأول، بفهم القرآن وفهم العالم فهما لغويّاً[75]، لانطلاقهم من كون القرآن "جمع علوم الأوّلين والآخرين"، حتّى "الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك[76]"؛ ومن تناولهم من البيانيّين، بالمعنى الخاصّ، هم من ضيّقوا زاوية النّظر أكثر فنظروا من خلال مفهومهم للنّظم، الّذي أقاموه على أساس كلامي- لغويّ-نحوي، إلى القرآن وإلى الخطاب في عمومه، بل وإلى العالم، فَشُغِلوا بهذا المفهوم الّذي يجعل من منطقِ اللغة العربية منطقا للعقل؛ فغيّبوا الوجود وفقّروا القرآن، وأساؤوا الأدب عندما جعلوا الله يُماتِن العرب ويغالبهم في الكلام[77]! والجابري إنّما تتبّع سيرورة تشكّل هذا المنظور الضيّق الّذي كانت له آثار لا تُنكر على أشكال تواجدنا في المجتمع وفي العالم. وفي هذا السّياق شرح دور الجرجاني الّذي قام بنقلة إبستيمولوجية من إشكالية الجاحظ إلى إشكالية السكاكي[78]، وذلك بإبرازه للطّبيعة الاستدلاليّة للتّشبيه والاستعارة والتّمثيل والكناية. نعم، يمكن لعلماء "الكلام الجدد" أن يقولوا إن هذا لشيء إيجابي! فقد سبق "البلاغيّون" العرب إلى التّنبه إلى المنطق الطّبيعي، ويربطوا ذلك بعلم الكلام ويجاهروا بتوفّر تراثنا على "نظرية حجاجية" تفوق كلّ نظرية..؛ والجواب: لا.. نعم، والتّثبّت يقضي بمراعاة متغيّرات كثيرة عند النّظر في ذلك، وعسى أن نجد لها متّسعا في قادم. وإذن، فإنّ القراءة الّتي يقوم بها الجابري تتمتّع بمشروعيّة أكبر بالنّظر لاستراتيجية هؤلاء "البيانيّين" التّأويليّة الّتي تتخطّى حدود الخطاب، إلى النّظر في العلم وفي العالم من غير أنْ تُغَيّر زاوية النّظر وتأخذ بالشّروط الّتي تستلزمها مقاصد تصنيف العلوم وتقنينها وتفسير الوجود وظواهر العالم والتّشريع في مجال الاجتماع والعيش المشترك. لهذا قلنا إنّ اعتراض العمري الّذي يريد أن يُسنده بالقول إن "البلاغة" تتميز بكونها تقوم على الانزياح والاحتمال فيه اختلاق لصورة ذهنيّة للبلاغة وإسقاطها على زمن قديم، كانت فيه للنّاس أولوياتٌ ومقاصد مختلفة في مجال الكتابة والبحث. وقد ترتّب عن هذا الاختلاق والإسقاط الوقوع في الخلط والبتر داخل البلاغة نفسها كما يتصورها هذا البلاغي الناقد: فقد (1) خلط بين البلاغة في الكلام (الكلام الأدبي) وبين "البلاغة" باعتبارها خطابا يسعى إلى أن يتّصف بصفات خطاب العلم ويلتزم بشرائطه، (2)  وفقّر الإبداع نفسه بحصره  في الشّعر والخطابة، (3) وحشر الشّعر، كلّ الشّعر، بأنواعه وتجاربه وتصوراته المتباينة والمتفاوتة والمتشابكة تبعا للفترات التاريخية والإبدالات المعرفية والجمالية في نظرية واحدة هي نظريّة الانزياح، وهو ما لا يصحّ لأحد! [79] (4) ووقع في اللّاتاريخيّة بإسقاط مفهوم الانزياح نفسه على أنظار القدماء وهو لا ينتمي إلى مجال التّداول لديهم البتّة! (5)  واستعمل الاحتمال في الإشارة إلى ما يميّز الاستدلال في مجال الخطابة، كأنه مفهوم دقيق ومسلم، لأنه منسوب لأرسطو والجرجاني، في حين أن كلمة الاحتمال في العربيّة وما يماثلها في اللّغات المترجم عنها قد يكون ترجمة غير موفّقة لما يقصده أرسطو الّذي من المرجّح أن يكون هو "تقويّة الظّن[80]" وقد نبّه إلى ذلك شايم بيرلمان، فقال بأنّ الاحتماليّة في الاستدلال الخطابي لا ينبغي أن تُخْلَط بالاحتماليّة القابلة للحساب، وأنّ لفظ أرسطو الذي يترجم بـ"مقبول بشكل عام" أو "مقبول" له مظهر نوعي يقربه من "معقول" أكثر من "محتمل"[81]".

2.4.  أعمال البيانيّين الّتي تناولها الجابري أعمال بلاغيّة:

   يؤاخذ العمري الجابري على تناوله لأعمال الجاحظ والباقلاني والجرجاني والسكاكي، ويدّعي أنّ الأعمال الّتي تناولها أعمال اختار لها أصحابها أن تكون في تخصّص محدّد هو البلاغة. وهذا كلام فيه قصد واضح إلى التّزييف والتّغليط [82]، فالتّغليط يبدأ من دعوى عدم مشروعيّة تناول الأعمال البلاغيّة من زوايا ومنظورات تخصّصات أخرى. أما التّزييف فيتمثّل في الانطلاق من وجود علم للبلاغة محدّد الموضوع، موحّد المسائل، واضح الغاية، ومتميّز المنهج عند هؤلاء المؤلّفين الّذين يمنع العمري النّظر في المنطق الّذي تأسّست عليه أعمالهم. وهو ما يمكن أن يُرد بمجرّد استعراض عناوين كتبهم. والجابري كان دقيقا عندما أكّد أنّ البلاغيّين المختصّين فعلاً «كانوا آخر من ظهر على مسرح الدراسات البيانية» وتصنيفهم لعلوم البلاغة «لم يتقرّر بصورة نهائية إلا في مرحلة متأخرة، وبكيفة خاصّة مع السكاكي المتوفي سنة 626 ه»؛ بل يمكن الذّهاب أبعد ممّا فعل الجابري الّذي اعتمد على ابن خلدون فتسامح مع رواج فكرة وجود علم مستقلّ معروف الموضوع والمنهج زمن هؤلاء الباحثين، فنقول إنّ السكاكي نفسه لم يعرف شيئا اسمه علم البلاغة، ومصنّفه "المفتاح"، الّذي تهافت العمري بخصوصه على نحو ما رأينا في المقالات الّتي خصّصناها لقراءته له، هو في "علم الأدب" إذا راعينا اختيار صاحبه. أمّا قبله فقد كان هناك لغويّون ونحاة ومتكلّمون إعجازيّون ومفسّرون وفقهاء وأصوليّون وبديعيّون ونقّاد شعر. لذلك، يصحّ إدراج اعتقاد العمري بوجود علم متميّز يتوجّب احترام خصوصيّته في السّلفية الّتي نَظَر الجابري في طريقة تفكيرها، ورصد فيها آفتين متداخلتين متلازمتين: افتقاد الحدّ الأدنى من الموضوعيّة في المنهج، واللّاتاريخيّة في الرّؤية[83]. إلّا أنّ سلفيّة العمري تذهب إلى أبعد من السّلفيات الأخرى، فهو يختلق تخصّصا "علميّا" غير موجود عند مؤلّفين بيانيين وإعجازيّين وعلماء أدب، وينظر من خلاله إلى الحاضر ويُقوّم في ضوئه عمل صاحب "نقد العقل العربي"! وما لا يقع في حيّز الرّؤية لدى العمري أنّه، وحتّى على فرض أنّ هذا التخصّص  كان موجودا محدّدا ومتميّزا  زمان الجاحظ  وابن وهب والباقلاني والجرجاني والسكاكي، وعلى فرض أنّ الجابري استعمل البرهان بالمعنى المنطقيّ الضّيّق، وعلى فرض أنّ أيًّا مِنْ هؤلاء لم يدّع أنّه يسعى لتنظيم "الأسباب والعلل العقلية"، فإنّ ذلك لا يقدح في مناقشة الجابري لأعمالهم ومساءلتها، مادام خطابهم يتشوّف إلى أن يُعَدّ ضمن خطابات العلم، بل إنّ ذلك لممّا يدخل في باب إنفاذ الواجب عند من يعقل؛ «فصناعةُ المنطق تُعطي في كُلّ واحدةٍ من الصّنائع القياسيّة القوانين الخّاصّة الّتي تَلْتئِم كلّ واحدة منها، وقوانين بِها يُمتحَن ويُميّز ما وُضِع أنّه على مذهب صناعة ما مِنها، فيُعلَم هل ذلك على مَذهبها أم لا[84]».

1.2.4. مَتى؟ الأنكار التّكذيبي:

   ويتساءل العمري في نهاية تقديم سَنَده في الاعتراض: «فمتى ادعى الجرجاني والباقلاني تنظيم الأسباب والعلل العقلية؟» الصّيغة استفهامٌ عن زمن ادّعاء البلاغيّين "ما نسبه" إليهما الجابري، ولكنّ القول هنا خارج عن الاستفهام إلى الإنكار التّكذيبي. والجابري جديرٌ بالتّكذيب إنْ قال إنّ هذين "البلاغيين" ادّعيا ما ذكره العمري؛ لكنّ الواقع أنّه لم يقل شيئا من ذلك أو قريبا منه، لأن معالجته لا ترتبط بمضامين النّصوص وما يصرّح به أصحابها أو يدّعونه. فيكون "تكذيبُ" الجابري في ما لم يقل والأنكارُ عليه سفسطةٌ تقصد إلى تحويل الانتباه بعيدا عن المشكل الأساسي: فليس من شروط مناقشة خطاب "البلاغيّين"، رؤية ومنهجا وآليات ومقاصد، من زوايا تخصّصية أخرى أن يكون هناك ادّعاء في ما يضعه المُناقش موضعَ البحث من ذلك! فكلّ خطاب قابلٌ من حيث المبدأ للمعالجة والفحص، حتّى لو كان منتميّا للأنماط الإبداعيّة! بل إنّ حاجة هذه الأنماط إلى تلك المعالجة وذلك الفحص هو بالضّبط ما كان وراء نشوء التّخصّصات المهتمّة بشأن الخطاب، بما فيها البلاغة. وليس شرطا، أيضاً، أن يقصد مؤلّف من المؤلّفين إلى النّظر في العلم والمنطق حتّى يصحّ وضع خطابه موضع المساءلة. وإذا صحّ هذا، فإنّ البلاغة الّتي تسعى إلى أن توفّر لخطابها بعضا من مستلزمات "العلميّة" أشدّ افتقارا لتلك المساءلة. فيتوجّب أن تضع خطابها هي نفسها موضع اختبار، وأن تقبل أن يوضع موضع الدّرس والنّقد من زوايا ومنظورات أخرى. لذلك فإنّ نقد الجابري للجرجاني والباقلاني نقد مشروع، بل هو واجب عند من يقدّر مسؤوليّة الكلمة تقدير صاحب "نقد العقل العربي".

    فيتّضح أنّ اعتراض العمري المبني على حجّة عدم انشغال الباقلاني والجرجاني وغيرهما من البيانيّين بتنظيم "الأسباب والعلل العقلية" اعتراض سفسطائي مغلّط، وإيراده في صيغة الاستفهام الإنكاري التّكذيبي إغراق في التّغليط والعناد.

   هذا والجابري يصرّح أنّ عمله "قراءة" و"تأويل" يقوم به انطلاقا من منظور يدرك حدوده ويعرف امتناع اصطناع رؤية موضوعيّة قادرة على تقديم الحقيقة بالأحرف الكبيرة؛ ويُلِحّ على أنه لا يقصد إلى تقديم مضامين البيانيّين والعرفانيّين والبرهانيّين، ولا يُعْنى بما ادّعوا وما لم يدّعوا؛ بل يؤكّد أنّ تركيزه يتوجه إلى رصد الأنظمة المعرفيّة الّتي ابتناها هؤلاء، وتحديد آلياتها ومفاهيمها ورؤاها وعلاقة بعضها ببعض في إطار بنية كليّة سمّاها "بنية العقل العربي". لذلك فهو لا يضع العرفان والبرهان في خارج مطلق، ولا ينظر إلى البيان نظرة جوهرانيّة تجعله خالصا ومرتبطا بعرق، أو حتى بعقيدة على نحو ما تذهب إليه بعض القراءات الّتي تدّعي العلميّة[85].

   ولقد أوضح أنّ تشكّل البيان لا يرجع إلى "علماء البلاغة وحدهم"، فالبداية كانت في ما سيعرف، في ما بعد، باللّغة والنّحو والفقه والكلام، أي أن مفاهيم البلاغة وأدواتها تكوّنت في هذه التّخصّصات[86]، أمّا البلاغيّون فقد "كانوا آخر من ظهر على مسرح الدراسات البيانية[87]". انتقل البيان، في فترة التّدوين، من "حالة اللاوعي" إلى "حالة الوعي"، أي إلى "حالة التّفكير المنظّم الخاضع لقوانين، والمحدود بحدود[88]"؛ ثم تعمّق الوعي بالخصوصيّة بفعل الجدل بين البيانيّين أنفسهم، وبينهم وبين العرفانيّين والبرهانيّين[89]. هذا الرّبط بين البيانيّين باختلاف مجالات عملهم ربط "يحمل معه مستنداته" في كتابات الجابري، أي أنّه فعل مبرّر تبريرا كافيا؛ وهو ما "يشهد له به" طه عبد الرحمان الّذي يقرّ بوجود تصوّر مشترك يجمع البيانيّين، ويرى «أن استعمال لفظ «البيان» في البلاغة جاء متأخّرا عن استعماله في مجال هو إلى علم المنطق أقرب منه إلى علم اللّغة، وهو علم أصول الفقه[90]»، وأنّ ورود البيان في مجال البلاغة «لا يمنع من وجود تصوّر عربي للبلاغة يجعل موضوعها يزدوج فيه الاعتبار اللغوي بالاعتبار المنطقي[91]»، وهو تصوّر متميّز « مغروس في الفكر العربي الأصيل[92]»، وهو بالضّبط ما لاحظه الجابري قبله واعتبره نزوعا لاعتبار منطق اللّغة هو نفسه منطق العقل عند البيانيّين في مختلف مجالات عملهم.

   وإذن، فإنّ التّطالب بين البيان بالمعنى الاصطلاحي الضّيق والبيان الّذي يؤسّس العلوم العربيّة جميعها صحيح معترف به؛ وأنّ القول بأنّ الانتقال به إلى مستوى الوعي تمّ في علم أصول الفقه صحيح معترف به، وأن التّوكيد على أن نشأته طبعته بازدواج لغويّ-منطقي صحيح معترف به أيضاً، وأنّ استمرار تلك الازدواجيّة حتّى بعد استعمال البيان بمعناه الاصطلاحي الضّيّق صحيح ومعترف به كذلك. نعم كلّ ذلك يُقِرّ به طه عبد الرحمان ويشهد به متّبعاً للجابري ومستعملا له ضدّه في استراتيجيته الكلاميّة شديدة التّماسك، ولكن المفرّغة من كلّ موقف فلسفيّ أصيل. وليس بِخاف أنّ العمري يقتفي هو الآخر أثر الجابري وإن كان يخلّط في ما يقول ويضطرب. فهو يرجع إلى كتاب الرّسالة للشافعي ويقدّم تعريفه للبيان، ويورد تعليق الجابري الّذي يذهب إلى أنّ البيان في ذلك التّعريف ينتقل من مستوى المواضعة الّلغوية إلى مستوى المصطلح العلمي، ثم يقول: «من الأكيد أن الجاحظ قد تأثر بهذا المفهوم الّذي يجعل النص القرآني دليلا على معاني يحاول الأصولي وضع أصول (أي قوانين) لاستكشافها كما هو متأثر بالمفهوم الكلامي  الّذي يجعل الكون دليلا على وجود الله وقدرته: دلالة الأثر على المؤثر. تأثر بهذين المفهومين وربما بغيرهما وحاول صياغة نسق سيميائي في ضوء الهموم المنطقية الإقناعية لعصره الّتي لا يمكن أن يغيب عنها المنطق الأرسطي[93]»!

   هذا كاف؛ ولكنّنا نُنهي هذه الفقرة بإيضاح مركّز ومباشر لعلاقة مسعى الباقلاني والجرجاني بتنظيم شروط النّظر العقلي، من منظور بياني نزّاع لاحتواء كلّ شيء؛ فالكون موجود على نحو مضغوط في كلمة البياني المفتولة بين شدقيه من القرآن وثقافة الأعراب الّذين «هم الأصل والقدوة» و«علمهم العلم[94]»!

   إعجاز القرآن مبحث أصيلٌ في علم الكلام[95]، والباقلاني نفسه يخصّص له الباب الحادي عشر من كتابه "التمهيد"[96] الّذي لا يبدو أن العمري تصفّحه، بلهَ أن يطّلع عليه؛ وهو كتاب في صناعة الكلام الّتي هي «العِيارُ على كلّ صناعة[97]»، إذ بها يقتدر «الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة الّتي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل[98]». وإذا كان الإعجاز من مباحث صناعة الكلام، فإنّ المرجع الّذي تبحث فيه هذه الصناعة لا يتمتّع بأيّ استقرار، ممّا يجعل الموضوع عند كلّ متكلّم إعجازيّ مبنيًّا نوعا من البناء. في هذا الإطار يمكن فهم الكتب الّتي صُنّفت فيه: إنها بناءات لأوجه في الإعجاز تتوسّع مع مرور الزّمن، وتتباين تبعاً للوجه الّذي يتمّ التّركيز عليه عند هذا المؤلّف أو ذاك. وبالطّبع فإنّ مفهوم "الإعجاز" نفسه ليس مفهوما ملائما في البلاغة، ولكن التّركيز على الوجه النّظمي فسح المجال لاستثمار حواصل التّفكير في الخطاب من زوايا مختلفة. ومع ذلك، فإنّ تركيز الباقلاني والجرجاني بعده على الوجه "النّظمي" لا يعني أيّ انفلات من منطق "الكلام"[99] أو أيّ "حسم للأسئلة الإعجازية لصالح البلاغة" كما يدعي العمري[100]. ونحن هنا لا نحتاج إلى تقديم أدلّة من كتابي الباقلاني والجرجاني في الإعجاز، ولا من كتاب الجرجاني في "أسرار البلاغة"[101]، بل نقدّم  كتاب العمري "البلاغة العربية" نفسه دليلا؛ ففيه الكثير مما ينافي نزوعه الإسقاطي المتهافت، ونكتفي منه بوصفه لــ "مداخل" "أسرار البلاغة" بالقول: «إذن فالمدخل الأول مدخل لغوي منطقي، والمدخل الثاني مدخل نقدي منطقي، والثالث مدخل ديني منطقي[102]». وهو ما يعني أنّ العمري يردّ على نفسه، خاصّة إذا استحضرنا أنّ المنطق عند الجرجاني هو نوع من النحو الموسع الّذي يريد أن يمتدّ إلى النّظر في وقوع الأحكام مواقعها من العقل والصّحة واليقين والقطع من ناحية، ويجتهد لكي يبرز الطّابع الاستدلاليّ للآليات البيانية من النّاحية الأخرى؛ وهو ما قال عنه الجابري إنّه يشكل المساهمة البارزة والخاصة بالجرجاني في تحليل الظّاهرة البيانيّة، إذ «تجاوز إشكالية اللفظ والمعنى، من منظور يتخذ من النحو (=منطق اللغة) إطارا مرجعيا له، ويجعل «سر البلاغة» راجعا إلى «توخّي معاني النحو» أي إلى نظام الخطاب، مبنى ومعنى[103]».

2.2.4. ثمّ لماذا؟: الأنكار التوبيخي:

   ويسأل العمري: «ثم لماذا لا يقال عن أرسطو في الشعر والخطابة ما قيل عنهما (يقصد الباقلاني والجرجاني) وعن غيرهما من البلاغيين ومحللي الخطاب؟»   والاستفهام خارجٌ إلى التعجّب من صنيع الجابري، بل إلى توبيخه عليه: فمن ظلم البلاغيّين العرب وتحامل عليهم وانحاز لأرسطو وسكت عن كتابيه "الريطوريقا" و"البويطيقا" حقيق أنْ يوبّخ ويجهّلَ الإسنادُ عند الحديث عنه! هذا الاستفهام التّوبيخي يعطفه العمري على استفهامه التكذيبي ليُرسّخ "غلط" الجابري في ذهن القارئ: يكفيه، أو هكذا ظنّ، أن ينسب إليه "أن الباقلاني والجرجاني ادّعيا تنظيم الأسباب والعلل العقليّة" ويكذّبه، حتّى ينفسح له المجال للتّوجيه إلى مقارنة قساوته على هذين البلاغيين الكبيرين وسكوته، بالمقابل، عن بلاغة أرسطو واكتفائه بالإعلاء من منطقه وبرهانه؛ وهل هناك أسوأ من الكيل بمكيالين في مجال المعرفة والعلم؟! أمّا نحن فنقطع أنّ هذه سفسطةٌ مضرّة من كلّ وجه. إذْ حتّى لو كان من اللّازم أنْ يعتمد مَن ينظر في خطابٍ من الخطابات ما يصرّح به صاحبه، وكان الباقلاني والجرجاني ممّن لم يقولوا أيّ كلام عن العقل، وكان الجابري اقترف ظلما فاحشا بمناقشته لأعمالهما الّتي "اختارا لها أن تندرج في إطار البلاغة"!، فإن ذلك كلّه لا يُجيز للعمري أن يقول له "ولماذا لم تقل نفس الشّيء عن ريطوريقا و بويطيقا أرسطو؟"؛ ذلك أنّ الجابري لم يُعْنَ بالشّعر والخطابة، وهو ما لا يصحّ اعتباره مؤشّرا على أيّ موقف سلبي؛ ولم ينشغل في ما يتعلّق بأرسطو والثّقافة الغربيّة عموما بغير ما قدّر نفعَه في فهم التّراث العربي من أجل التّوجيه إلى سبيل رفع أسباب الجمود والنّكوص في المجتمعات العربيّة في زمنها الحاضر.  وهذا كافٍ.

   ومع ذلك نضيف: إنّ كتاب الـ"ريطوريقا" والـ"بويطيقا" يدلّان دلالة واضحة على أنّ أرسطو صاحب رؤية ومنهج خاصّين ومتميّزين، جعلاه –ونحن نقتصر على ما يتعلّق بسياقنا- يقف على مسافة (1) من الميثولوجيّين أصحاب الحقائق القبليّة العامّة غير القابلة للتّحاور والتّفاوض، (3) ومن السّفسطائيّين "التقنيّين" الّذين يختزلون اللّوغوس في الكلام ويقيمون آلاعيبه على أساسٍ من المنفعة الفرديّة. ولقد عالج أرسطو الشّعر والخطابة اعتمادا على قدراته الطّبيعية، فلم يَنْسَق لأيّ مقرّرات قبليّة حتّى لو تعلّق الأمر بآراء أستاذه أفلاطون الّذي حطّ من الشّعر والخطابة، ولم يُسْقط ما يتعلق بمجال على مجال آخر. ففي الشّعر يميّز الأنواع الرّائجة في زمنه ويربطها بالمحاكاة ويحدّد موضوعاتها وصيغها ووسائلها، فلا يُسقط ما ينتمي إلى مجال على مجال ولا يجعل خطابا مجرّد تعلّة لخدمة خطاب آخر؛ وفي الخطابة أوضح أنواعها وطبيعة منطقها العقلاني التداوليّ، وهو منطق مختلف عن منطق العلم اليقيني. وإذا كان قد أعاد، بذلك، الاعتبار للخطابة الّتي ألحّ على ضرورتها في المجتمع وعلى أهميّة نسبيّة الحقائق في إطارها المرتبط بالتواصل وتدافع الإرادات وتداول المنافع، فإنّ عمله الدّقيق الّذي قصد به تحديد طبيعة المنطق الّذي يحكم عمليات التّخاطب، وإلحاحه على ضرورة معرفة طرق الإقناع بما فيها الحيل الّتي تستعمل لتحقيقه من أجل التعرّف عليها وتجنّبها يبعده عن السّفسطائيّين، ويجعل عمله داخلا في سياق هم التّعقيل، والإسهام في خلق شروط مجتمع قادر على العيش المشترك المتفتّح والمتجدّد. وإذن فإنّ الأساسي في تناوُل أرسطو للشّعر والخطابة هو اعتماده التّامّ والأصيل على العقل في احترام خصوصيّة كلّ مجال، ومراعاة ما تستلزمه تلك الخصوصيّة عند التّصنيف والوصف والتّحليل والحكم..فكيف يصحّ أن يجمعه الجابري بمن يقصد في تأليفه "ذكر" جملةٍ «من القول جامعة، تسقِطُ الشبهات، وتزيل الشكوك الّتي تعرض للجُهَّال، وتنتهي إلى ما يَخْطُر لهم، ويَعْرضُ لأفهامهم، من الطّعن في وجه المعجزة[104]» ومن ينطلق من أنّ «الكلام هو الّذي يُعطي العلوم منازلَها [105]»  ويهتم بالشّعر لأنّه الجهة الّتي بها "تُعرف حجّة الإعجاز ومنه ينتزع الشّاهد والدّليل" [106] !

   وبعد؛ إن الجابري نبّه على خطورة تداخل المقرّرات الدّينيّة القبليّة والمتاع السّفسطائي الجامع للآليّات المنطقيّة والجدليّة والخطابيّة في إطار كلاميّ يجعل العقل أسير قبليّاته ويجعل أفعاله شكلانيّة ومفرّغة من الأصالة والقوّة. وبالطّبع فإنّ بإمكان كلّ "متكلّم جديد" أنْ يُسقط الوقائع ويخفي الشّروط ويتعالى على التّاريخ ويغتصب مؤلفات وينسبها إلى تخصّص علميّ لم يكن، ويتبجّح بالعلم أو بفلسفة المعرفة على نحو ما قام به طه عبد الرحمان الّذي نستحضره هنا لمناسبة دفاعه عن التّخليط عند من[107] يجمع الآليّات المنطقيّة والحجاجيّة للدّفاع عن مقرّرات كلاميّة محفوظة واعتبارها هي العلم، كلّ العلم! ألم يعترض على الجابري بالتّغليط والتّحايل زاعما أنّ "تعامل المسلمين مع النّصوص" إنّما هو من صميم ما تقرّه فلسفة المعرفة الّتي تعتبر "الوعي بالوسيلة أعمق وأرسخ من الوعي بالمضمون"! مستبعدا من حيّز رؤية القارئ أنّ ما سمّاه تعاملا مع النصوص إنّما هو انطلاق من قبليّات نشأت في عصر التّدوين، وأنّ نشأتها إنّما تمّت في إطار لغوي-كلامي، ثم توسّعت وطبعت كل التّخصّصات الّتي تكونت في إطارها، فكان لذلك آثار بالغة الفحاشة مسّت التّأويلات المرتبطة بالخطاب الدّيني نفسه ؛ وأنّ ما سمّاه وعيا بالوسيلة وربطه هو نفسه بتدبّر النّصوص واستخراج الأحكام إنما هو جهد لا ينكر في الدّفاع عن تلك المقرّرات والقبليّات لا أكثر، وهو بعيد تماما عن الوعي بالوسائل الّتي من المفروض أن تتنوّع حسب الحقول المعرفيّة وحسب المناهج، وبعيد أيضا عن الوعي بشروط التّوظيف ومستلزمات النّقل من حقل على آخر.

خاتمة:

   الحاصلُ أنّ العمري أراد أن يعترض على تناول الجابري لبعض المؤلّفين القدامى ممّن يقول إنهم اختاروا العمل في إطار "علم البلاغة"؛ فلم يجد ما يستند إليه، فاقتطف مقولتين من كلام الجابري وركّب بينهما بشكل غير مضبوط وبعيد عن النّزاهة، وادّعى أنّ صاحب "نقد العقل العربي" لا يفرّق بين أنواع الخطاب! ولأنّه لم يجد ما يستدلّ به، فقد انجرّ إلى القول بأنّ الشّعر والخطابة يقومان على الانزياح والاحتمال، وهو قول لا معنى له لأن الجابري لا يناقش الشّعر والخطابة، فموضوعه هو الخطابات "العالمة" التي يُفْتَرض أن تأخذ بمستلزمات "العلميّة" في معالجتها لمواضيعها. وفي هذا الانجرار تحويلٌ لاهتمام القارئ بعيدا عن المسألة الأساسيّة: فأنْ تكون المؤلّفات في الإعجاز وفي علم الكلام ساهمت في نحت المفاهيم البلاغيّة وصقلها وتعميق الوعي بأساليب وطرق استعمال اللّغة والخطاب لا يجعل منها أعمالا بلاغيّة. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ في هذا الشّق من التّوضيح الّذي سمّاه إجماليّا، بل تعدّاه إلى تكذيب الجابري في ما لم يَكْذِب فيه ولا قاله، وقَصْدُه من ذلك التّغليط أن يُرسّخ ادعاءً لا يَثْبُت، مفاده أنّ "علم البلاغة" يقوم على الانزياح والاحتمال فيتوجّب عدم التّعرض له بالمدارسة مادام الكاتبون فيه لم يدّعوا النظر في العقل والمنطق! ورغم قُصور هذا النّوع من "النّظر" واضطرابه فإنّه يسير به إلى أبعد، فيوبّخ الجابري على عدم تناوله لـ"ريطوريقا" و"بويطيقا" أرسطو؛ وكأنّ الجابري معنيٌّ، أو يجب أن يكون معنيّا بـ"أرسطو" وبالشّعر والخطابة! ولا ندري كيف يمكن أن يَعُدّ من يقدّم مثلَ هذه الحجّة نفسَه بلاغيّا ومحلّلَ خطاب؛ ولا ندري، قبل ذلك، كيف يمكن لأحدٍ أن يُحلّل خطابا لم يطّلع عليه؛ وهل يمكن لمن قرأ "بنية العقل العربي" أنْ لا ينتبه إلى أن ما يهمّ الجابري هو الثّقافة العربيّة لا غير، والبرهان نفسه الّذي انشغل به « ليس البرهان  كما تُصُوِّر في الثّقافة اليونانيّة بل كما كان حاضرا في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة[108]» !

المراجع:

  • السكاكي: مفتاح العلوم، تح. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 2000.
  • ابن عربي: فصوص الحِكَم، تح. نواف الجراح، دار صادر-بيروت، ط.1، 2005، ص. 11.
  • ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، تح. محمود محمد عثمان، دار الحديث- القاهرة، 2005.
  • ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 3، 2007.
  • تهافت التهافت، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 1، 1998.
  • ابن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ويليه كشف النقاب عن سر لب الألباب، تح. عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي-البيضاء، ط.1، 2004.
  • ابن عربي: فصوص الحِكَم، تح. نواف الجراح، دار صادر-بيروت، ط.1، 2005، ص. 11.
  • الغزالي: المستصفى من علم الأصول، اعتنى به عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية- بيروت، ط. 1 ، 2008.
  • تهافت الفلاسفة، تح. سُليمان دُنيا، دار المعارف-مصر، ط.4، بدون تاريخ.
  • الباقلاني: كتاب التمهيد، عني بتصحيحه ونشره الأب رتشرد يوسف مكارثي اليسوعي، المكتبة الشرقية-بيروت، 1957.
  • إعجاز القرآن، تح. أحمد صقر، دار المعارف-القاهرة، ط. 5، 1997.
  • التفتازاني: شرح المقاصد، ت. عبدالرحمان عميرة، عالم الكتب-بيروت، ج.1، ط.2، 1998.
  • الجاحظ: البيان والتبيين، تح. عبد السلام هارون، ج.1، دار الجبل-بيروت، دون تاريخ.
  •   رسائل الجاحظ، من كتابه في صناعة الكلام، تح. عبد السلام هارون، ج.4، دار الجيل-بيروت، دون تاريخ.
  • السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، تح. أحمد بن علي، مجلد واحد، دار الحديث –القاهرة، 2006.
  • الزركشي: البرهان في علوم القرآن، تح. محمد أبو الفضل إبراهيم، دار التراث –القاهرة، ج.1، 1984.
  • الفارابي: المنطق عند الفارابي، تح. رفيق العجم، الجزء الأول، دار المشرق- بيروت، 1985.
  • إحصاء العلوم، قدمه له وبوبه علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال- بيروت، ط. 1، 1996.
  • كتاب الحروف، قدمه له ووضع حواشيه إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية- بيروت، ط. 1، 2006.
  • جمال الدين بن الشيخ: الشعرية العربية، تر. مبارك حنون ومحمد الولي ومحمد أوراغ، دار توبقال، البيضاء، ط.1، 1996، ص. 294.
  • حازم: منهاج البلغاء، تحقيق وتقديم محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 3، 1986.
  • طه عبد الرحمان: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، البيضاء-بيروت، ط.2، 2000.
  •   اللسان والميزان، أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، البيضاء-بيروت، ط.1، 1998.
  • الجرجاني: أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، ط.1، 1991.
  • دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.
    • محمد العمري: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.
    •           المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017.
    • أسئلة البلاغة في النّظرية والتاريخ والقراءة، إفريقيا الشرق، البيضاء،2013.
    • تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر، مطبعة النجاح الجديدة- البيضاء، ط.1، 1990،
    •   الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، ضمن: محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة، مجموعة من المؤلفين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط.1، 2016.
    • الجابري: نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط. 6، 1993.
    •   تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 10، 2009.
    • بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 7، 2004.
    • مدخل إلى القرآن الكريم، ج.1، في التعريف بالقرآن، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 1، 2006.
    • مدخل عام لكتاب ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 3، 2007.
  • Chaim Perelman: L'empire rhétorique, Librairie philosophique J.VRIN, Paris, 2éme É, 2012.
  • Nietzsche: La généalogie de la morale, texte et variantes établis par Giorgio Colli et Mazzino Montinari, Tr. de l’allemand par Isabelle Hildenbrand et Jean Gratien, Ed. Gallimard, 1971.

[1]- Nietzsche: La généalogie de la morale, texte et variantes établis par Giorgio Colli et Mazzino Montinari, Tr. de l’allemand par Isabelle Hildenbrand et Jean Gratien, Ed. Gallimard, 1971, P. 9.

[2]- الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، ج.1، في التعريف بالقرآن، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط. 1، 2006، ص.425.

[3]- محمد العمري: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999، ص.214 و215 و216.

[4] - نفسه، ص. 213. 

[5]-  نفسه، ص. 214.

[6]- نفسه، نفس الصّفحة.

[7] - نفسه، نفس الصّفحة.

[8]- نفسه، نفس الصّفحة.

[9]- نفسه، نفس الصّفحة.

[10]- نفسه، نفس الصّفحة.

[11]- نفسه، ص. 215.

[12]- نفسه، نفس الصّفحة.

[13]- نفسه، ص.213.

[14]- الجابري: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 7، 2004، ص.33.

[15]- هذه العبارة نصف بها فعل العمري، وهو الّذي سبق إلى استمدادها من المتنبّي ووصف بها علاقة النّحو بالبلاغة عند السكاكي، فقد أسر النّحوُ البلاغةَ ولم يجد لها في محبسها من مأكلٍ سوى «قطع من خبز شعير منطقي جاف انقطعت الصلة بينه وبين الحياة منذ قرون». أنظر: محمد العمري: أسئلة البلاغة في النظرية والتاريخ والقراءة، إفريقيا الشرق، 2013، ص.148.

[16]-الجابري: بنية العقل العربي، م.م، ص.33.

[17]- نفسه، ص.37.

[18]- وهذا ادّعاء أجوف، سنعود إليه في المقال الثاني.

[19]- محمد العمري: البلاغة العربية، م.م. ص.153، وما بعدها.

[20]- الجابري: بنية العقل العربي، م.م، ص.25.

[21]- بعد أن يقول إنّ الجاحظ تعرّض لسوء الفهم من قِبَل نقّاد الشّعر ومن قِبَل ابن وهب في توجّهه المنطقي! يضيف: «لذلك فمن المثير أن نجد بعض الدارسين المحدثين يبحثون في عمل الجاحظ عن بلاغة شعرية»، أنظر: البلاغة العربية، م.م. ص.14-15.

[22]- الجابري: بنية العقل العربي، م.م، ص.89.

[23]- في النّسخة الّتي نعتمدها من "بنية العقل العربي"، المقولة الأولى واردة في الصّفحة 16، والمقولة الثّانية في الصفحتين 107و 108.

[24]- محمد العمري: البلاغة العربية، م.م، ص. 214.

[25]- الجابري: بنية العقل العربي، م.م، ص.24.

[26]- نفسه، ص.24-25.

[27]- توقّف محقّق "البيان والتبيين" نفسه، في فقرة وجيزة، عند العناية الخاصّة الّتي أولاها الجاحظ للخطابة والجدال. انظر: البيان والتبيين، تح. عبد السلام هارون، ج.1، دار الجبل-بيروت، دون تاريخ، ص. 10.

[28]- الجابري: بنية العقل العربي، م.م، ص.25.

[29]- نفسه، ص.97.

[30] - محمد العمري: الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية، ضمن: محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة، ص. 113. في هذا المقال يعيد العمري الجابري إلى "النّظام البياني"، وسنعود إليه في مقال قادم.

[31]- اختيارُه "البيان العالم" موضوعا للدّرس إخراج للشّعر والخطابة وغيرهما من الأنواع الأدبيّة، فيكون قول العمري «وغياب السببية في النظام الشعري والخطابي لا يحرج بل يضع الأمور في نصابها» قولا فارغا، لا حاجة تدعو إليه.

[32]- هذا لا يعني أنّ الجابري ذهب إلى أن عصر التّدوين استعاد ثقافة العصر الجاهلي من خلال الأعراب على نحو متطابق، فهو ينصّ على أنّ «صورة العصر الجاهلي في الوعي العربي لم تكن دوما وليدة المعطيات التاريخية وحدها» والاستعادة إنّما كانت، تبعا لذلك، لما «عاشه في وعيهم عرب ما بعد البعثة». أنظر: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 10، 2009، ص. 56 وما بعدها؛ والمقتطفان من ص.58 و61 على التّوالي.  

([33]) بنية العقل العربي، م.م، ص.106.   

[34]-  تكوين العقل العربي، م.م، ص.6.

[35]- الجابري: نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط. 6، 1993، ص. 27.

[36]-  نفسه، ص.11.

[37]- يقول: «..وفي عملية «الاستخلاص» هذه سلكنا مسلكا تكوينيا، فتتبعنا «تطور» الثقافة العربية ككل، من البداية الّتي اخترناها، حريصين على النظر إلى فروع هذه الثقافة (نحو، فقه، كلام، بلاغة، تصوف، فلسفة..) كغرف في قصر واحد، متصلة مترابطة، يقود بعضها إلى بعض عبر بوابات ونوافذ..وليس كخيام منعزلة مستقلة ومنصوبة في  ساحة غير ذات سور ولا سياج، كما هو حال النظرة السائدة. لقد قمنا برحلة داخل أروقة الثقافة العربية، رحلة نقدية، انصرف اهتمامنا خلالها إلى أسس هذه الأروقة وأعمدتها، وليس إلى معروضاتها.» أنظر: تكوين العقل العربي، م.م، ص. 6.

[38]- وهو ما لا يعني أنّه لم يتعامل: «مع المادة المعرفية وبطانتها الإيديولوجية نوعا من التعامل.» نفسه، نفس الصفحة.

[39]-  بنية العقل العربي، م.م، ص. 89-90.

[40]-الفارابي: المنطق، تحقيق رفيق العجم، الجزء الأول، دار المشرق بيروت، 1985، ص. 59.

  • [41]- يقول الجابري: «ولا بد أن يكون القارئ الملمّ بفكر أرسطو قد لاحظ أننا قد تعاملنا مع المنطق الأرسطي بوصفه منهجا وليس بوصفه منطقا صوريا، كما تعاملنا مع فلسفته بوصفها رؤية للعالم (الطبيعة والإنسان والله) وليس بوصفها قضايا «ميتافزيقية». وهذا ما قصدناه قصداً، لأن ما يهمّنا في تراث أرسطو هو ما كان يطمح إليه أرسطو نفسه، أعني إنتاج قواعد منهج برهاني لتحصيل معرفة صحيحة وتأسيس تصور «علمي» يقيني عن العالم باعتماد هذا المنهج..». أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص.413.
  • [42]- أكّد الجابري، في إحدى خلاصاته، أنّه لا يقف ضدّ الخيال، ولا ضدّ الأسطورة نفسها «بوصفها شكلا من أشكال التعبير ونمطا من أنماط التصور له منطقه الخاص». أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص.378.

[43]- ومع ذلك فإنّ "النّظام المعرفي البياني" الّذي أبرزَ الجابري أسسه وبيّن آلياته وحدّد خصائصه هو الّذي كبّل الإبداع وربطه بنماذج مفرّغة من "القوّة" بالمعنى الّذي يعطيه دريدا لهذه الكلمة. لنقرأ الوصف التّالي لجمال الدين بن الشيخ: «إنّ الشّاعر يجمع، بالفعل، كلمات وصورا حسب شبكات تحمل في ذاتها مبادئها التّنظيمية. وهو لا يجعل الواقع يتجلّى في اكتماله الأكبر وفي تنوّع الرّؤى الّتي يفرضها، بل يتوفّر على ترسانة لغوية بالمعنى الواسع للكلمة، ومسموح له بتناول أيّ موضوع، لا بالمعرفة المباشرة لهذا الموضوع، بل بمعرفة الألفاظ الّتي تدل عليه، فهو يمكن أن يحبّ دون أن يعرف الهوى، ويمكن أن يبكي دون أن يعاني الألم، ويمكن أن يمجّد دون أن يشعر بالإعجاب، ويمكن أن يسكر بدون خمرة، ويمكن أن يبشّر بالفضيلة دون أن يمارسها». أنظر: الشعرية العربية، ترجمة مبارك حنون ومحمد الولي ومحمد أوراغ، دار توبقال، البيضاء، ط.1، 1996، ص. 294.

[44] - يقول الغزالي، مثلا، عن المنطق إنّه »مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا«. أنظر: المستصفى من علم الأصول، اعتنى به عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية- بيروت، ط. 1 ، 2008، ص.22.

  • [45]- طه عبد الرحمان: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، البيضاء-بيروت، ط.2، 2000، ص.62. وانظر: اللسان والميزان، أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، البيضاء-بيروت، ط.1، 1998، ص. 137، حيث يوجز خصائص البرهان في: التواطؤ، والصورية، والقطعية، والاستقلال.
  • [46]- جدير بالتّنبيه أنّ طه عبد الرحمان يجيز لنفسه استعمال لفظ البرهان بمعناه العام! أنظر: اللسان والميزان، م.م، ص.403.
  • [47]- بنية العقل العربي، م.م، ص.383.
  • [48]- نفسه، ص. 383- 384. اعترض الكثيرون على هذا التّصنيف، والواقع أنّ الجابري لم يقم إلاّ بإبراز رُؤى ومناهج أصحاب هذه الأنظمة وتصنيفاتهم هم أنفسهم كما قال وأعاد!

[49]- ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 3، 2007، ص. 170.

[50]- أنظر، على سبيل التّمثيل، مقدمة الزركشي لكتابه البرهان في علوم القرآن. وممّا أورده فيها: «وقال الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسّنة، وجميع السّنّة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا- زاد غيره: وجميع الأسماء الحسنى شرح لاسمه الأعظم- وكما أنّه أفضلُ من كلّ كلام سواه، فعلومه أفضل من كلّ علم عداه». أنظر: البرهان في علوم القرآن، تح. محمد أبو الفضل إبراهيم، دار التراث –القاهرة، ج.1، 1984، ص. 6.

وانظر، مثلا ثانيا، خاتمة السكاكي لتحليلة للآية 44 من سورة هود: «ولله در شأن التنزيل، لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت؛ لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول، أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه..» أنظر: مفتاح العلوم، تح. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمي-بيروت، ط.1، 2000، ص. 531.

[51]- من تلك المسبقات "مقدّمات عقليّة" جدليّة وحجاجيّة يقيمون عليها مضامين خطاباتهم. أنظر: بنية العقل، م.م، ص. 556.

[52]- يقول الغزالي منازعا في حكم البرهانيّين بكون الاقتران المشاهد بين الأسباب والمسببات اقتران ضروري: إنّما يلزم النّزاع في هذه المسألة «من حيث إنه ينبني عليها إثبات المعجزات، الخارقة للعادة، من قلب العصا حية، ثعبانا، وإحياء الموتى، وشق القمر، ومَن جعل مجاري العادات لازمة لزوما ضروريًّا، أحال جميع ذلك..» أنظر:  تهافت الفلاسفة، تح. سُليمان دُنيا، دار المعارف بمصر، ط.4، ص.235، 236.  

[53]- أنظر، مثلا، الباب الرابع: " باب الكلام على القائلين بفعل الطباع" من: كتاب التمهيد، للباقلاني، تصحيح رتشرد يوسف مكارثي، المكتبة الشرقية-بيروت، 1957، ص.34 وما بعدها.  

  • [54]- وضّح الجابري، في خلاصة عامة، كيف تتعاضد هذه السّلط في منطق البيانيين. أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص.560 و564.

[55]- يشير الفارابي إلى أنّ بعضهم يجيز استعمال الكذب والتّخجيل والتّخويف والمغالطة والبهت والمكابرة في نصرة المذهب. أنظر: إحصاء العلوم، قدمه له وبوبه علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال- بيروت، ط. 1، 1996، ص. 90 و91 و92.

  • [56]- الجرجاني: أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، ط.1، 1991، ص.273 -274.

[57]- يقول ابن عربي، مثلا، عن الكيفيّة التي تلقى بها كتابه "فصوص الحِكَم": «أمّا بعد فإنّي رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في مُبَشِّرَةٍ –أُريتُها في العُشر الأخير من محرّم، سنة سبع وعشرونَ وستّمائة بمحروسة دمشق- وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب. فقال لي: هذا «كتاب فصوص الحكم»، خذه واخرج به إلى النّاس ينتفعون به. فقلت السمع والطّاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منّا كما أُمِرْنا. فحقّقْتُ الأُمنية، وأخلصت النيّة وجرّدت القصد والهمّة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدّه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان..» أنظر: فصوص الحِكَم، تح. نواف الجراح، دار صادر-بيروت، ط.1، 2005، ص. 11.

[58]- ما يمكن التّمثيل به كثير؛ نكتفي منه بمقتطفين لابن عجيبة: يوصي قارئه قائلا: «ولا يصدّنك عن شهود الذّات رداء الحسّ المنشور على وجه المعاني، فإنّ هذا الأمرَ من مدارك الأذواق والوجدان، لا من طريق دليل العقلِ والبرهان ولله درّ ابن الفارض حيث يقول:

فَثَمّ وراءَ العقل علم يدقّ عن ** مدارك غاية العقول السّليمة»

ويربط الحقيقة بالباطن والشّريعة بالظّاهر قائلا: « فإذا حصل للعبد هذا الذّوق، زال عنه الإشكال والتّعارض، فَيُنْزِل الحقيقة في محلِّها وهو الباطن، والشّريعة في محلّها وهو الظّاهر.. »؛ أنظر: عبد الله أحمد ابن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ويليه كشف النقاب عن سر لب الألباب، تح. عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي-البيضاء، ط.1، 2004، ص. 72-73، وص. 96 على التوالي. وممّن ردّ هذه الدّعوى ردّا شديدا من البرهانيّين ابن حزم، أنظر: الإحكام في أصول الأحكام،  تحقيق محمود محمد عثمان، دار الحديث- القاهرة، 2005، ص. 28 وما بعدها.

[59]- يقول ابن رشد: «أمّا إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تُشاهد في المحسوسات فقول سفسطائي، والمتكلم بذلك إمّا جاحد بلسانه لما في جنانه، وإمّا منقاد لشبهة سفسطائيّة عرضت له في ذلك. ومن ينفي ذلك فليس يقدر أن يعترف أنّ كلّ فعل لا بدّ له من فاعل.» ثمّ يضيف، ولنلاحظ النّزاهة العلميّة والأخلاقيّة: « وأمّا أنّ هذه الأسباب مكتفية بنفسها في الأفعال الصّادرة عنها، أوْ إنّما تتمّ أفعالها بسبب من خارج: إمّا مفارق أو غير مفارق: فأمرٌ ليس معروفاً بنفسه، وهو يحتاج إلى بحث وفحص كثير.»؛  أنظر: تهافت التهافت، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 1، 1998. ص.505.

[60]- أنظر مثلا: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، م.م. وخاصّة من: ص. 166 إلى: ص.171.

[61]- يقول الجابري إنّ ابن رشد لم يتَمَذْهَبْ، و«إذا غابت الدّوافع الإيديولوجية انفسح المجال للوازع الأخلاقي والمواقف العلمية.» أنظر: مدخل كتاب ابن رشد: تهافت التهافت، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 1، 1998. ص.54.

[62]- قام بذلك في مقاله: الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية؛ وقد أشرنا إلى المقال في الإحالة 29.

[63]- الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، م.م، ص.422.

[64]- الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، م.م، ص.424.

[65]-  ما يؤكّد ذلك كثير، وهو منتشر في مؤلّفاته. انظر، مثلا، ما ورد بالصّفحة 81 وما بعده من "تكوين العقل"؛ ومن ذلك المقتطف التالي: «تلك فكرة مجملة عن المبدإ المنهجي الّذي اعتمده الخليل واللغويون من بعده في جمع اللغة وتصنيف ألفاظها. فإذا نظرنا إلى هذا المبدأ من الزاوية المنطقية المحض وجب القول إننا إزاء عمل علمي وصرامة منطقية وعقلية رياضية راقية، وذلك ما نوهنا به من قبل وما سيبقى جديرا بالتنويه في كل زمان مادام العقل البشري يعمل وفق قواعد..غير أن المنطق شيء والواقع الحي شيء آخر. ويجب أن يكون المنطق في خدمة الواقع الحي لا العكس. وعندما يتعلق الأمر بواقع حي مُتَطوّر فإنه من الضروري ترك «الحرية» لمنطق التطور، وهو غير المنطق الرياضي، وإلا أدى فرض القوالب المنطقية الصورية على ذلك الواقع إلى قتل الحياة فيه، فيكون مآله التحجر والتوقف عن النمو.» أنظر: نقد العقل العربي، م، م. ص.82؛ وانظر، مثلا آخر، ما يقول عن القياس، وقياس الغائب على الشاهد، وهو الآلية البيانية الّتي أخضعها للنقد عندما لا تتقيّد بشروط الصّحة: «إن «قياس الغائب على الشاهد» طريقة علميّة، ما في ذلك شكّ، ولكن شريطة التقيّد بشروط صحتها». نحن والتراث، م.م، ص. 17.

  • [66]- تكوين العقل العربي، م.م، ص.328.
  • [67]- يلاحظ الجابري أنّ قطع صلة المنطق بالواقع عند "المتأخرين الّذين أغرقوا في الشّكلانيّة " في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة القديمة، في مخالفة واضحة للفارابي الّذي أكّد أنّ "كتاب البرهان" هو القصد الأوّل من المنطق، سيعتبره المناطقة المعاصرون تطوّرا؛ ويصرّح بمخالفته لذلك. وهو موقف سليمٌ رغم هجوم طه عبد الرحمان المدجّج بترسانة معتبرة من وسائل "منطقـ"ـه الكلامي! أنظر: تكوين العقل العربي، م.م، ص.372.
  • [68]- يقول الجابري: «نظام الخطاب هو «ما يوجب الفاعلية والمفعولية على صعيد الكلام»، أما نظام العقل فهو ما يوجب الفاعلية والمفعولية على صعيد الأشياء، أشياء العالم الفكري والحسي. إنه بكلمة واحدة نظام السببية، وهذا ما لا يريد العقل البياني أن يراه..». أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص.107.
  • [69]- أنظر: المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017، ص. 13.

[70]-  أنظر: منهاج البلغاء، تحقيق وتقديم محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 3، 1986، ص. 62 و86_87.

[71]-  نفسه، ص. 87.

[72]-  نفسه، نفس الصفحة.

[73]-  نفسه، ص. 63.

[74]- ذلك ما كان العمري قد شرع فيه عند إعداده أطروحته المنشورة في كتاب "تحليل الخطاب الشعري" بإشراف محمد مفتاح؛ و"انزاح" عنه إلى الكلام المرسل عندما صار هو المشرف وثابر في "تمليك الخطاب" وتكثير الورثة من الحفظةَ والتّابعين!

  • [75]- يقول الجابري: «ما نريد أن نخلص إليه هنا هو أن التأويل في الحقل المعرفي البياني لم يكن في أي وقت من الأوقات، ولا لدى أية فرقة من فرق البيانيين، يتجاوز اللغة العربية كمحدد أساسي من محددات النظام المعرفي الذي يصدرون عنه، بل بالعكس لقد كان التأويل عندهم يعني توظيف هذا المحدد (اللغة) في بَنْيَنَة العقل العربي توظيفا مقنّنا مضبوطا وذلك لجعل نظام الخطاب ونظام العقل متطابقين مع إخضاع هذا لذاك إذا لزم الأمر. وإذن فالتأويل البياني، من هذه الزاوية، كان تشريعا للعقل العربي ولم يكن، كما قد يعتقد، مجالا لممارسة الفعالية العقلية، فعالية العقل الكوني المستقل بنظامه عن نظام اللغة ». أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص.67.
  • [76]- السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، تح. أحمد بن علي، مجلد واحد، دار الحديث –القاهرة، 2006، ص. 321 وما بعدها.
  • [77]- ومعلومٌ أنّ الباحثين في البلاغة والفصاحة اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا؛ والآيات الّتي اعتمدوا عليها في تأويلاتهم "النّظميّة" هي التّاليّة:﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ الإسراء: 88؛ ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾  هود:13؛ ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يونس:38.

([78]) إشكالية الجاحظ، يقول الجابري، هي العلاقة العمودية بين اللفظ والمعنى، أمّا إشكالية السكاكي فهي العلاقة الأفقية بين الألفاظ بعضها مع بعض والمعاني بعضها مع بعض، أي نظام الخطاب ونظام العقل؛ وقد قام الجرجاني بنقلة ابيستيملوجية بالغة الأهمية بإظهاره للطابع الاستدلالي للأساليب البيانية. أنظر:بنية العقل العربي، م.م، ص.83 وما بعدها.   

  • [79]- العمري نفسه أورد آراء بعض "الشّعريّين" ممّن بيّنوا حُدودَ نظريّة الانزياح ومشاكِلها! أنظر كتابه الّذي أشرنا إليه آنفاً: تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر، مطبعة النجاح الجديدة- البيضاء، ط.1، 1990، ص. 36 وما بعدها.

[80]- يقول حازم إنّ الصّناعة الخطابيّة تعتمد في «أقاويلها على تقويّة الظّن لا على إيقاع اليقين». أنظر: منهاج البلغاء، م.م، ص. 62.

[81]  -  Chaim Perelman: L'empire rhétorique, Librairie philosophique J.VRIN, Paris, 2éme Éd.,  2012, P. 18.

  • [82]- هذا إسقاط سهل، و"تلاف" لواجب السعي إلى بناء نموذج بلاغيّ باسثمار تلك الأعمال ما دام العمري يدور داخل نفس إبدالها البياني، أو بالاشتغال التاريخي عليها ببدل بعض الجهد العلمي وترك الأخذ "بتكتّم"، أو بالبعد عنها واجتراح نموذج جديد. ومن اطّلع على كتابات العمري يعرف أنّه اكتفى بالتّكرار المملّ لـ"اكتشافـ"ـه لبلاغة عامة وامبراطورية شاسعة تجمع التّخييل بالحجاج في التّراث العربي. وهي دعوى مجرّدة وفارغة. فقد اكتشف العمري أن هناك في الغرب تصوّرات تسعى لبناء علم للبلاغة، بل وللبلاغة العامّة الّتي تشمل التخييل والحجاج، فوجد أنّ من الطّبيعي أن يكون لنا مثل تلك التّصورات. لكنّه عوض أن ينخرط في حاضره ويعمل على صياغة نموذج يستثمر فيه ما يراه ملائما وناجعا في مجال اشتغاله، يُفضّل أن يتسلّف ويُسقط ما في ذهنه من تصور على الماضين ويقف. وبالطبع فإنّ على الجابري أن يسلّم بخصوصية "علم الإعجازيّين" ويسمّيه "علم البلاغة" ويكفّ عن وضع ذلك العلم والعلوم العربيّة الأخرى في "قَرَن" العقل البياني!
  • [83]- نحن والتراث، م.م، ص. 16.

[84]-الفارابي: المنطق، م.م، ص. 57. ويقصد الفارابي بالصنائع القياسية: الفلسفة والجدل والسفسطة والخطابة والشعر؛ ولا يمتنع أن تستعمل الصنائع غير القياسية القياس في بعض جوانبها، يقول المعلم الثاني.

  • [85]- استعمل الجابري لفظ القراءة والمقاربة والتّأويل في وصف عمله؛ وصرّح في مقدمة "تكوين العقل" أنّه يضع كلمة "علم" بين مزدوجتين لأنّه يدرك أنّ الموضوعيّة في المجال الّذي يشتغل فيه نسبيّة ولا تُقارن بما في العلوم الدّقيقة؛ لذلك فإنّ حديثه عن العلم والموضوعيّة والمنطق والحياد هو نوعٌ من التّأكيد على الالتزام بتأسيس نظره على العقل والأخلاق؛ وإذا كان ذلك كذلك، فإنّنا لا نجد مبرّرا للنّقود الّتي تُلصِق به النّزعة "الوضعانيّة" في جوانبها السّلبيّة. أما إبرازه لتميّز مسلك البرهانيّين فمّما لا غبار عليه؛ وهو من مزاياه ومن تقديره للمسؤوليّة ومن شجاعته الأدبيّة؛ ولا ندري كيف يمكن أن يكون مسلك البيانيّين ومسلك العرفانيّين نافعين ومنتجين في كلّ مجالات العلم! والاحتجاج بما أنجزته الحضارة العربيّة الإسلاميّة ليس بشيء، لأنّ البرهان كان من مكوّنات العقل في تلك الحضارة، ما يعني أنّه كان مكوِّنا من مكوّنات عقل الأشخاص العينيّين المبدعين في تلك الحضارة أيضا. والجابري لم يقل بالسّعي لاجتثاث البيان والعرفان، بل قال بضرورة التّأسيس على البرهان، وجعل السيّادة له في حقل العلم وفي الفضاء العام!
  • [86]- والعمري ومن أجل أن يفحم خصمه يقلب، ويدّعي أن تلك التّخصّصات هي الّتي كانت تستعير أدوات البلاغة، العلم الّذي لم يكن موجودا أصلا! أنظر: المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017، ص. 105.
  • [87]-الجابري: بنية العقل العربي، م.م، ص.13. ويقول في الصّفحة الموالية: « وإذن، فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار الكامل كون الدراسات البيانية البلاغية قد بدأت وقطعت أشواطا من التطور، أساسيّة وحاسمة، خارج دائرة «البلاغيّين» الضّيقىة. هذا إذا كانت هناك فعلاً، في الثقافة العربية الإسلامية، مثل هذه الدائرة «الضّيّقة».» نفسه، ص. 14.
  • [88]- بنية العقل العربي، م.م، ص.14.
  • [89]- نفسه، نفس الصّفحة.
  • [90]- اللسان والميزان، م.م، ص.403.

[91]- نفسه، نفس الصّفحة.

  • [92]- نفسه، نفس الصّفحة. وَلْتقارِنْ بما سبق أن أوضحه الجابري: «ولعل كلمة «بيان» أكثر الكلمات العربية تعبيرا عن خصائص الرّؤية الّتي تقدّمها المنظومة اللغويّة العربيّة، أو الحقل المعرفي «الأصل»، عن العالم، ليس فقط لأنها من الكلمات الخاصّة باللغة العربية، إذ لا نجد لها ما يقابلها في اللغات الأخرى، ولا لأنها من أكثر الكلمات استعمالا في القرآن.. بل أيضا لأنّها أصبحت، عندما تمّت عملية تقنين اللغة العربية وضبط أساليبها التعبيرية، عَلَماً على علم من العلوم العربية «الخالصة» (علم البيان)، وأكثر من ذلك وأهم، لأنها أصبحت تدل على نظام معرفي معين أخذ الوعي به، كرؤية ومفاهيم وطريقة في التفكير، يتبلور ويتعمق مع الأيام داخل الثقافة العربية الإسلامية.» أنظر: بنية العقل العربي، م.م، ص. 16.

[93]- البلاغة العربية، م.م، ص. 195. وكالعادة فإنّ العمري لا بدّ أن يضيف إلى ما قرأ عند غيره أشياء بالغة الأهمية في تقديره، فتراه في هذا المقتطف القصير يشرح الأصول بالقوانين، ويقول بأنّ الجاحظ تأثّر بما ذكره الجابري، ويضيف من عنده "وربما تأثر بأشياء أخرى" ويجعل الجاحظ منشغلا بصياغة "نسق سيميائي" في ضوء "الهموم المنطقية الإقناعية لعصره"، وبالطبع لا بد "للمنطق الأرسطي" أن يحضر أيضا؛ فتأمّل!

[94]- الجرجاني: الرسالة الشافية، ضمن: دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص. 577.

[95]- علم الكلام يقوم مقام الفلسفة عند البيانيّين؛ يقول التفتازاني: «اعلم أن للإنسان قوّة نظريّة كمالها معرفة الحقائق كما هي، وعمليّة كمالها القيام بالأمور على ما ينبغي تحصيلا لسعادة الدارين، وقد تطابقت الملّة والفلسفة على الاعتناء بتكميل النفوس البشرية في القوتين وتسهيل الوصول إلى الغايتين، إلا أن نظر العقل يتبع في الملة هُداه وفي الفلسفة هواه، وكما دوّنت حكماء الفلاسفة الحكمة النّظرية والعمليّة ("العلمية": أثبت هنا المحقّق؟) إعانة للعامّة على تحصيل الكمالات المتعلّقة بالقوتين دوّنت عظماء الملّة وعلماء الأمّة علم الكلام، وعلم الشّرائع والأحكام، فوقع الكلام للملّة بإزاء الحكمة النّظريّة للفلسفة..» أنظر: شرح المقاصد، تح. عبدالرحمان عميرة، عالم الكتب-بيروت، ج.1،  ط.2، 1998، ص. 107-108.

[96]- يقول الجابري إنّ «بناء الباقلاني المذهب الأشعري على "المقدمات العقلية" الّتي ذكرها ابن خلدون، وهي بالتحديد "نظرية الجواهر والأعراض من جهة، ومبدأ "بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول"، أو "ما لا دليل عليه يجب نفيه" من جهة أخرى، قد حول هذا المذهب إلى عقيدة جامدة منغلقة ومؤدلجة، بعيدة كل البعد عن بساطة "مذهب أهل السنة" الّذين يحتكمون إلى ظاهر النصوص الدينية من قرآن وسنة. ذلك أن المبدأ الّذي وضعه الباقلاني، والّذي يقضي بأن "ما لا دليل عليه يجب نفيه"،  يجعل المذهب كله مرهونا لـ"نظريته" في الجواهر والأعراض لتوقف الاستدلال عليها، سواء الاستدلال على وجود الله أو على علاقة صفاته بذاته أو ما يتعلق بأفعاله وطبيعة أفعال الإنسان وما يصدر عن الكائنات الأخرى إلخ..هذا في حين أن جميع ما قالوه بصدد "الجواهر" و"الأعراض" هو مجرد تخمينات وتحكمات لا أساس لها لا في الدين ولا في العقل-كما سيبين ابن رشد- وإنما هي افتراضات مططها الجدال بين المعتزلة وبين خصومهم من أهل الملل والنحل، وفرعتها الإلزامات والإلزامات المضادة». أنظر: مدخل عام لكتاب ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 3، 2007، ص.27 و28.   

[97]- يقول الجاحظ: «إن صناعةَ الكلامِ عِلقٌ نفيس، وجوهرٌ ثمين، وهو الكنز الّذي لا يَفْنى ولا يَبْلى، والصاحب الّذي لا يُمَلُّ ولا يُغِلُّ، وهو العِيارُ على كلّ صناعة، والزّمام على كلِّ عبارة، والقِسطاس الّذي به يُستبان نُقصان كلِّ شيءٍ ورُجحانُه، والرّاووق الّذي به يُعرف صفاءُ كلّ شيءٍ وكَدَرُه، والّذي كلُّ أهل علمٍ عليه عيالٌ، وهو لكل تحصيلٍ آلةٌ ومثال..

..وبه يُستدَلّ على صرف ما بين الشّرّين من النقصان، وعلى فَضْل ما بين الخيرين من الرّجحان، والّذي يصنع في العُقول من العبارة وإعطاء الآلة مِثلَ صنيع العقل في الرّوح، ومثل صنيع الرّوح في البدن.

وأيُّ شيءٍ لولا مكانُه لم يثبت للرّب ربوبيته، ولا لنبي حجة، ولم يُفصَل بين حُجّة وشُبهة، وبين الدليل وما يُتَخيّل في صورة الدليل، وبه يُعرف الجماعةُ من الفُرْقة، والسّنّة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة» أنظر: رسائل الجاحظ، من كتابه في صناعة الكلام، تح. عبد السلام هارون، ج.4، دار الجيل-بيروت، دون تاريخ، ص.244-245.

[98]- الفارابي: إحصاء العلوم، م.م، ص. 86.

[99]- يقول الباقلاني: «ولسنا نزعم أنّه يمكننا أن نُبين ما رُمنا بيانَه، وأردنا شرحه وتفصيله، لمن كان عن معرفة الأدب ذاهبا وعن وجه اللّسان غافلا؛ لأنّ ذلك مما لا سبيل إليه، إلا أن يكون النّاظر فيما نعرض عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربيّة، قد وقف على جُمَل من محاسن الكلام ومُتَصَرّفاته ومذاهبه، وعرف جملةً من طرق المتكلّمين، ونظر في شيء من أصول الدين.

وإنما ضمن الله عز وجل فيه البيان لمثل من وصفناه، فقال: (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون). وقال:(إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون). « أنظر: إعجاز القرآن، تح. أحمد صقر، دار المعارف-القاهرة، ط. 5، 1997، ص.7.   

[100]- العمري: البلاغة العربية، م.م، ص.166.   

[101]- الجرجاني مشغولٌ، في المقام الأول، بـما ينبغي للعاقل وبطالب الدّين على نحو خاص أن يتوفّر عليه، ويصرف العناية إليه. أنظر ما يقوله في الأسرار-قبل الدلائل- عن الحقيقة والمجاز والباطل والمعقول والإفراط والتّفريط في التأويل..

[102]- العمري: البلاغة العربية، م.م ، ص. 352.

[103]- قال الجابري إنّ الجديد الّذي يجده الباحث الإبستيملوجي عند الجرجاني يكمن أساسا في إبرازه الطّابع الاستدلالي للأساليب البيانيّة العربيّة سنة 1986، ثم جاء طه عبد الرحمان سنة 1998 فبنى على ذلك ما كتبه تحت عنوان الاستعارة ومنطق الحجاج، دون ذكر الجابري. وقد أتى بكلام شديد التّفصيل والتّحصيل؛ لكن الّذي يهم هنا هو أنه أكد ما أبرزه الجابري وفصّله. أنظر: اللسان والميزان، م.م، ص. 304-313.

[104]- الباقلاني: إعجاز القرآن، م.م، ص. 6.

[105]- الجرجاني: أسرار البلاغة، م.م، ص. 3.

[106]- الجرجاني: دلائل الإعجاز، م.م، ص. 9.

[107]- يقول: «لا نسلّم أنّ التّعامل مع النّصوص أسدل حجاباً بين المسلمين وبين توجّههم إلى العلم الصحيح، كيف وفلسفة المعرفة درجت على اعتبار الوعي بالوسيلة أعمق وأرسخ من الوعي بالمضمون  الّذي يُتوسّل بها إليه! فانشغال المسلمين بتدبّر النّصوص وبناء نظريات دلاليّة وتأويليّة لاستخراج الأحكام منها دليل قاطع على وعيهم بدور المناهج  والوسائل في تشكيل المضامين المعرفية، وعلى وعيهم بوجوب تقديم النظر في الوسائل على النّظر في المضامين.. » أنظر: طه عبد الرحمان: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، م.م، ص. 147.

  • [108]- الجابري: بنية العقل العربي، ص.384. ويقول: «وكما سبق أنْ أكّدنا ذلك في مقدمة هذا المدخل فإن موضوعنا ليس دراسة هذا النظام المعرفي «البرهاني» الأرسطي لذاته، بل من حيث أنه أحد النظم التي عرفتها الثقافة العربية»، نفسه، ص. 413.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟