تميّزت القضايا التاريخية للمسيحية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بطابع محلّي، إلى جانب ما شهدته من جدل متواصل مع ظاهرة العولمة. فلأثر واقع القرية الكونية الذي صار يميّز البسيطة، بفعل فرص الاتصالات الناشئة عن توسّع الشّبكة الإعلامية وتحت دفع أشكال التّرابط الاقتصادي والسّياسي المتنوّعة، تواجه التجمّعات المسيحية تحدّيات على مستوى الحضور الفعلي وعلى مستوى الإبداع داخل عديد المجالات الاجتماعية والثقافية والرّوحية. ففي زمن التّجديد، المرتبط لدى الكنيسة الكاثوليكية بربيع المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965م)، ولدى الكنائس الأخرى بنشأة الحركات المسكونية الحديثة وتطوّرها، وبالتحوّلات اللاّهوتية، مقارنة بما كان سائدا خلال القرن التاسع عشر، تولّدت حالة نعتت بالتململ، كانت ناتجة عن مظاهر وعي مستجدّة وعن تجربة تنوّع الثقافات، وكذلك أيضا عن الضرورات التاريخية السياسية، وعن الاحتياجات والتعبيرات الرّوحية والدّينية. ففي فضاء اللاّهوت، المتميّز بالوعي النّقدي بالمعيش المسيحي والإكليروسي، جرى ذلك التّململ من خلال تطوّر في التصوّرات مسّ عديد الفضاءات، كأمريكا اللاّتينية وإفريقيا وآسيا، كانت خاضعة فيما سلف للتوجيه التقليدي الأوروبي. جرى ذلك عبر ظهور رواد جدد، كانوا في مستوى أول من العَلمانيين والنّساء، مقارنة بالهيمنة الإكليروسية والذكورية السائدتين في الماضي. كما تبدّى ذلك التململ من خلال ظهور مناهج جديدة، في علاقة أساسا بظهور قيمة الفعل، "الفعل الحقيقي"، مقارنة بالأولوية المميزة للحظة العقائدية الموضوعية، "المبدأ الجوهري". لقد كان للجدل بين المحلّي والعالمي الناتج عن تلك التحولات الأثر المباشر. فإذا كان إيلاء الاهتمام للإيمان يتطلّب إقرارا عميقا بالتحدّيات الواردة من السّياقات التاريخية الاجتماعية، وكذلك توظيفا إيجابيا ونقديا للّغات المختلفة -تعبيرات المواريث الثقافية والأنساق العلائقية المتغايرة فيما بينها-، فإن الأمر يطرح في الآن سؤالا مصيريا متعلّقا بتواصل الإيمان ذاته، وبالتالي عن فرص المحافظة على عرى التوحّد الحقيقية، والتفاهم المشترك، بين اللاّهوت والممارسة العملية المسيحية، في تضادهما السياقي. علاوة، نجد نفس السياق العولمي الجاري على مستوى كوني يتحدّى سياقات الوعي الداخلية، بشكل يجعل هذه الأخيرة تتخلّى عن طابعها المطلق المانع للحوار، والحائل دون الاقرار بالتنوّع داخل شبكة التواصل، ليدفع بها نحو الانفتاح على وحدة إيمان أكثر رحابة وأكثر عمقا.
سيتم عرض مسيحية منتهى القرن السالف، بشكل إشاري، من خلال تقديم محاور تفسيرية عامة وأساسية، تنساق ضمن تحليل تحدّيات وأنماط الوعي اللاّهوتي والتاريخي للإيمان المحلّي. متابعين ضمن ذلك الاختبار: المسيحية الغربية، في وجهيها الأوروبي والشّمال أمريكي؛ والمسيحية الأمريكية اللاّتينية والآسيوية والإفريقية؛ وكذلك المسيحية الشّرقية، العائدة لأوروبا الأرثوذكسية، ولآسيا من خلال تحديات الدّيانات الكبرى. أما في المحور الختامي فنجد رصدا للتحدّيات والسياقات التي تنطلق من المحلّيات باتجاه مستلزمات التوحّد، التي يستدعيها الالتزام بنشر الرّسالة المسيحية في القرية الكونية، والتي يشكّل الجميع، بأنماط متغايرة من حيث الفعل والوعي أطرافها.
أوّلاً- شمال العالم: أزمة الحداثة الغربية واللاّهوت كمعين للمعنى
تترافق الحداثة الغربية مع تحوّل انطلق مع هيمنة العقل يرنو لاستيعاب شامل للاّمعنى، كان فيه جليا تراجع الآفاق العتيدة للإيديولوجيا، المميّزة للزمن المابعد حداثي. "القرن الطويل"، التاسع عشر، اللّيبرالي والبرجوازي، الذي انطلق مع الثّورة الفرنسية وانختم بتراجيديا الحرب العالمية الأولى، فسح المجال لما سمّاه هوبزباوم "القرن الخاطف"، المتميّز بالشّموليات الإيديولوجية، والمتلخّص في سقوط جدار برلين سنة 1989م. هذا المنعرج تم تصويره من طرف ماكس هوركهايمر وتيودور. و. آدورنو في مستهلّ مؤلّفهما "جدل عصر الأنوار" بقول: "التنوير، في معناه الفكري الموسّع وفي طبيعة تطوّراته المتواصلة، يتقدّم بشكل دائم نحو تخليص النّاس من مخاوفهم ليجعلهم سادة أنفسهم. لكن الأرض الـمُنارة تنفتح بشكل عام على فجيعتها الهائلة".
فتطوّر الحداثة الغربية يبدو متداخلا، فهي من جانب تستلهم تطلّعات مشاريع التحرّر، التي تسعى لجعل الإنسان غاية تاريخه لا وسيلة له، عبر تخليص الشعوب المستغَلَّة وتحرير الطبقات المضطهَدة، وبهذا المعنى، رسمت الحداثة التنويرية تطلّعات إنسانية مثّلت أهدافا مصيرية. ومن ناحية أخرى، بدا الزّمن الذي انطلق مع التّنوير زمن عنف إيديولوجي، تهاوت عديد الأنظمة الشمولية التاريخية في اقتراف آثامه. ففي سياق تفسير الكلّ وإعطائه معنى، تطلّعت الإيديولوجيا لمعانقة الواقع بمجمله، لحدّ إرساء معادلة تامة بين المثالي والواقعي، ضاق فيها الفضاء لاستيعاب المخالف والمعارض. لذلك جاءت التعبيرات الإيديولوجية التاريخية فظّة عنيفة، لما استلزمته من حشر للواقع ضمن قدرات الوعي المطلقة للمفهوم. فصار حلم الشّمول شمولية، وأنتج الهوس بالعقلانية الإيديولوجية أزمته الذاتية. كما صوّر الأمر اللاّهوتي الإنجيلي دييتريش بونهوفر، الذي قضى سنة 1945 ضحية البربرية الإيديولوجية للقومية الإشتراكية، في محتشدات فلوسنبورغ، بقوله:" صار سيّد الآلة عبدا، وأمست الآلة عدوا للإنسان. ثارت الخليقة ضد بارئها: ردّ مميز عن الخطيئة الآدمية! فتحرّر الجماهير انتهى إلى رعب المقصلة، والقومية أدّت إلى الحرب، كما قاد مثالُ التحرّر المطلق الإنسانَ للدمار الذاتي. لقد تفتّحت أبواب العدمية عقب مطاف السّير مع الثّورة الفرنسية ".
ظهرت أزمة العقل التنويري في أوروبا، مع فشل عديد الأنظمة الشّمولية الإيديولوجية، مما فسح المجال في ثقافات الغرب لما سمّي بما بعد الحداثة، التي كان ردّة فعل حقيقية على اليقينيات الإيديولوجية، الأمر الذي هيّأ الأجواء للتخلّي عن عنف الفكرة الشمولي وعن ادّعاءاتها التأسيسية القوية والمطلقة. فإذا ما كان لكل شيء معنى داخل الإيديولوجيا، فمع الفكر الخامل المابعد حداثي لا شيء يبدو له معنى، انه زمن الغرق والسقوط، إذ استبدِلت الحماسة الإيديولوجية بالوَهَن. هكذا أشاحت الأزمة الحادة للقرن بوجه السّقوط، ذلك ما أشار إليه بونهوفر ذاته، متأمّلا في دراما الوعي الأوروبي التي عاشها في شخصه: "فلا أعسر من تأسيس الحياة التاريخية، أي الثقة، في كل أشكالها. فقد توارت الثّقة في الحقيقة، وعوّضتها سفسطة الدّعاية. كما اختفى الإيمان بالعدالة، وصار يعلن الصّدقية أيّا كان]...[. فكيفما كانت حالة زمننا، فهو زمن السقوط الحقيقي". فقد حالَ التهاوي دون شغف الإنسان بالحقيقة، وانتزع منه تلك الحوافز القوية التي لاتزال الإيديولوجيا تقدّمها له. حصل انتصار الدّجل على الحقيقة، الدّجل الذي يعمل في خدمته أصحاب التأثير الخفي للحضارة الإعلامية، التي فرضت سلطتها بسرعة فائقة في العقود الأخيرة للقرن. لقد تفرّعت الثّقافة القوية، تعبير الإيديولوجيا، إلى جداول عدّة في الثّقافات الواهنة، في تلك المجمّعات من المنعزلات، أين يحصر شُحّ الآمال الجماعية الكبيرة كلّ واحد في ضيق خصوصيته. فتحت موجبات العيش والعيش معا، يتبدّل مطلب الضروري المباشر واللائق، فعادة ما مثّلت الصّراعات العرقية المتكرّرة وظهور الخصوصيات منفتحات وتطلّعات في منتهى القرن، هذا هو بشكل جلي الفضاء الحالي للفعل المسيحي في الغرب.
أ- أوروبا: الخلاصة اللاّهوتية والأنساق المنفتحة
كيف ينظر الوعي المسيحي لإشكالية الحداثة، في تحوّلاتها من الهوس الإيديولوجي إلى زمن السقوط؟ فموقف التشكّك الذي كان سائدا من حيث تحديد أزمة الإيديولوجيات، يجد نفسه اليوم أمام تحدّيات في معظمها غير منتظرة. فإذا ما كان زمن الانسحار المتولّد عن عوالم الإيديولوجيا، تجلّى فيه "لاهوت الأمل"، في معناه الأكثر عمقا في نور الإله المصلوب، الذي تم تصويره بجلاء في أعمال الإنجيلي يورغن مولتمان، و"اللاّهوت السّياسي" المصوغ من طرف الكاثوليكي جوهانس بابتيست ماتز، اللّذان حثّا معا على التيقظ الدائم للمعين الأخروي الحاضر في الإيمان المسيحي لمواجهة أي إطلاقية دنيوية؛ وإذا ما كانت المناهضة للشّمولية الإيديولوجية خاصية منتشرة في التجمّعات الإكليروسية، حتى وإن كان الثّمن باهضا، أساسا في البلدان المنعوتة بالاشتراكية الواقعية سابقا، فإن نهاية التضاد بين تكتّلي المجتمعات الأوربية لم ينتج التداخل المرجو. كان توحيد الجهود ضد المناهض الإيديولوجي أكثر يسرا من توظيفه نحو أفق معنى مشترك، لذلك يبدو التحدّي الكبير للوعي المسيحي في هذه السنوات، خصوصا في أوروبا الغربية، منشغلا بتوفير آفاق موحّدة، غير إيديولوجية وخالية من العنف، قادرة على حفز الانخراط العام من أجل بناء مجتمع عادل ومتضامن ينعم فيه الجميع. مما يفسّر حاجة اللاّهوت الأوروبي الملحّة في أيامنا، للعودة لمقترحات هيكلية، قادرة على توفير رؤية جامعة للتاريخ والحياة، وبالتالي لتأسيس خطوة ملتزمة، تتجاوز منعرج اللاّمبالاة. من ناحية المحتوى، تستعيد هذه المقترحات المحاور الأساسية للاّهوت، وأساسا سؤال الألوهية في خصوصيته الثالوثية للرسالة المسيحية، وأهمية التفسير الأخروي والقراءة اللاّهوتية للتاريخ. تيسر ذلك بعد سنوات التجدّد الكنَسي، المرتبط بالمجمع الفاتيكاني الثاني، ولهيمنة الدور المسيحولوجي لسنوات الستينيات، من خلال البحث في يسوع، المسيح، عن أساس تاريخي متعال، يكون بديلا للانسحارات الإيديولوجية (يمكن الإشارة لأعمال والتر كاسبر في ألمانيا وكريستيان دوكوك في فرنسا)، أو على النقيض في نمط مناسب مثلما الأمر في "لاهوت الثورة"- لسنوات الثمانينيات فلاحقا، والذي تجلّى في استعادة السّؤال اللاّهوتي المحض وتفعيله مع مختلف أوجه الحياة والتاريخ. تكفي بعض النماذج المعبرة عن ذلك: فنفس اللاّهوتيين الذين شكلوا في الستينيات، خصوصا في ألمانيا، مقترح لاهوت الأمل، يلوحون اليوم بضرورة مقترح "العقائدية المسيحانية"، مع يورغن مولتمان، أو باللاهوت المنهجي، مثلما تم شرح ذلك في المجلدات الثلاثة للّوثري وولفهارت بانبيرغ، المتمحور حول وحي إله يسوع المسيح. بنفس الحاجة تلتقي ضمن سياقات مغايرة الأعمال الجامعة (مثل أعمال اللاّهوت التاريخية العديدة المنتجة خلال هذه السنوات لسد ثغرة هامة، من بينها تلك التي لـ: أ.فيلانوفا و ج. لافونت و ب. موندان، و ر. أوسكولاتي، أو ما تم صياغته في إيطاليا من موسوعات وقواميس لاهوتية، وفي فرنسا مثل المجلدات الخمسة المعنونة بـ:"Initiation à la pratique de la théologie" أو المجلدات الثلاثة التي سهر على إعدادها جوزيف دوري" Introduction à la la théologie"، وأيضا عديد الأعمال المنتجة من طرف كتّاب منشغلين أساسا بالتحاور مع فكر مابعد الحداثة، كما في إيطاليا مع مؤلَّف "الرّمزية الكنَسِية" لصاحب الدراسة، والذي ينبني على استعادة مركزية الإيمان الثالوثي وعلى أهمية الشكل التاريخي في الفكر اللاّهوتي. نجد توجهّات لاهوتية منهجية مماثلة، كتلك العائدة للاهوتيين الكاثوليكيين إدوارد شيليبيكس من هولندا، وجوزيف رازينغير ووالتر كاسبر من ألمانيا، وللإنجيلي إبرهارد يونجيل. وكذلك محاولات الإنتاج اللاّهوتي الجديدة المتأتية من إسبانيا لأوليغاريو غونزاليز دي كارديدال، ولجوزيب روفيرا بلوزو، ولآندري توريس كويروغا، إلخ. وللتوضيح، فلا مؤلَّف من تلك الأعمال يتقدّم بكونه الخلاصة النهائية، فعبرها هناك تيقّظ نقدي لمخاطر الأدلجة للمسيحية. بل هناك تنبيه لضرورة عرض خلاصة، حتى وإن كانت منفتحة، مستوحاة من عقل لاهوتي تاريخي، مشبع بالإيحاءات الكتابية. أيضا، فليست الصلة مع المعيش الرّوحي والكنسي ومع التراث المسيحي الواسع، شرطا حاجيا فقط بل ضروريا، للمحافظة على الوعي النقدي بالإيمان خارج أي توظيف إيديولوجي يتهدّده. فاللاّهوت يرنو إجمالا، ليكون معينا للمعنى، وحافزا للدفع، وأملا في مواجهة أزمة الأسس والتخلي العدمي، في عديد الجوانب من ثقافة أوروبا المابعد حداثية.
ب- أمريكا الشمالية: اللاّهوت العملي
إذا ما بدا اللاّهوت في أوروبا ردّا على سياقات التّفتيت والانهيار، من خلال استعادة الفكر جرأته المنهجية بشأن طرح الأسئلة، فهو في الجانب الآخر من شمال العالم، في أمريكا الشمالية، يبقى اللاّهوت العملي في الصدارة. فأزمة الإيديولوجيا في القارة العتيقة تترافق مع انتعاشة غامضة للنموذج الأمريكي، الذي يضيق ذرعا بفردانية الحقوق على حساب الضعفاء، غير القادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية منها والأولية، من خلال مطالبة طبيعة بالحقوق الاجتماعية. تُدرَك بالتالي دواعي ظهور التحرّر في هذا السياق، كمستلزمات لليونة العقدية: فإذا ما كان اللاّهوت الأسود- Black thelogy - (جايمس كوين) قد دفع قدما، على ضوء رسالة العدالة والتحرّر الإنجيلية، بالوعي بكرامة الشعوب الملونّة وقضاياها، التي لاتزال هدفا لأشكال من التمييز المتنوع، متلخّصا بالأساس في روايات أزمنة العبودية الوافرة، المعبّر عنها في لغة الأسلاف الأفارقة. فإن اللاّهوت النّسوي لا يطالب فحسب بالتساوي الشامل والثنائي بين الرجل والمرأة، بل ينادي أيضا بإلغاء الأحكام الجنساوية في الحياة الاجتماعية المدنية والحياة الكنسية. يرشح هذا الوعي دائما، من تطلّع نحو تحوير جذري للأسس اللاّهوتية للوجود المسيحي، بدءا من صورة الله، التي لاتزال رهينة الثقافة الذكورية.
فمطلب الحث للعودة للغة استيعابية، توظّف في الكتاب المقدّس وفي اللّيتورجيا، والتي من شأنها أن تساهم في إلغاء ذلك التمييز الجنساوي، فيه إيحاء لأصالة تلك المطالب وثرائها. كما لا ينبغي أن تخفي حدّة الأصوات ومظاهر العنف، الأسباب الإيجابية للإلهام الدّيني والرّوحي في جوانب كبرى من تلك المقاربات. فهي حاضرة، حين يتجذّر الفكر في قراءة مستجدّة للذّاكرة: داخل التاريخ الرّسمي، المدوَّن من طرف المنتصرين، الرّجال. فهناك سعي لكشف الواقع المطموس والمقموع للطّرف الأنثوي. إذ الأنساق الاجتماعية الثقافية والاقتصادية، التي تطوّرت عبر الزمن في الغرب، قد رهنت المرأة داخل حالة من الخضوع والاستغلال، سخِّرت فيها لحاجات الذكر ورغباته. لذلك يظهر اللاّهوت النسوي بمثابة نظرية نقدية تحرّرية للجموع البشرية وليس للشقّ الأنثوي فحسب. يسعى لإصلاح صورة الألوهية الذّكورية، بغرض إعانة الذّكر، على هدى المسيح، للإقرار بالمكوّنات الأنثوية في كيانه، حتى تعبّر المرأة عن ذاتها كشخص، لأن الثنائي إنسانيان بحسب صورة الله المتجلّية فيهما، وهو ما يجد دعما في سفر التكوين.
وإلى جانب هذه اللّواهيت العملية النّاشئة جرّاء احتياجات واقعية، ومعاناة ضاربة في القدم، تجلو أهمّية الأعمال النّقدية التي أجراها عديد المؤمنين العاملين من أجل المساواة والسلم في أمريكا، في ظل نظام اقتصادي يلح فيه الواجب على ضرورة التضامن مع الضعفاء. لقد كان عمل الأسقفية الكاثوليكية في الولايات المتّحدة نموذجيا ومعبّرا، لما تدخّلت بشأن هذه المحاور، عبر وثائق وتصريحات ذات أهمية، والتي عادة ما تكون نتاج جهود مكثّفة. إذ تتجلّى أزمة الوعي الأمريكي في الحاجة لتجديد اليقينيات البسيطة باتجاه مرجعيات قوية، لمواجهة النتائج السلبية لثورة العوائد الحادثة مع الستّينيات والسبعينيات، مثل بليّة مرض فقدان المناعة الذي ساهم حقا في التسريع بهذا السياق. ولذلك لا يثير عجبا انبعاث الأصوليات، وتشييء الدّيني بفعل استعمالات الإعلام التجارية لما سمي بـ"shopping for God in America"، وجاذبية بعض المواقع الأصولية حتى داخل الكنائس التقليدية أيضا. وإجمالا هناك حاجة لتأمّل لاهوتي منهجي عميق يقدِر على تخطّي مخلّفات النّفعية ومحصلة نسبية الأخلاق. فيبدو لافتا تطوّر صائغ مانفستو العَلمنة الأمريكية، هارفي كوكس، من مواقفه في "المجتمع العَلماني" سنة 1965 إلى "الدّين في المجتمع العَلماني" سنة 1984، أين يؤكد، لا على ضرورة الدّين بل على أطروحة كون المجتمع ككلّ هو ظاهرة دينية.
فلا تبدو مؤثّرة بشكل فاعل، إسهامات المعرفة المعمّقة بالكتاب المقدّس، على السياقات الجارية، وعلى الجدل الأخلاقي الموسّع، كما الشأن أيضا إسهامات بعض كبار المفكّرين المستقلّين مثل آفري دولس ودافيد تراشي الكاثوليكيين، وجيوفري واينرايت الإنجيلي. فمما يجلو أن تحدّي التحول في المسيحية الأمريكية في جزء كبير منه لا يزال رهن الاختزان.
ثانياً- جنوب العالم: تغيير التاريخ واللاّهوت كوعي نقدي من أجل التحرّر
إذا ما كانت المسيحية في شمال العالم مدعوّة لتوفير أفق جديد للمعنى قادر على تجاوز الأزمة الأخلاقية الناشئة عن انهيار الأنساق الإيديولوجية للحداثة، فإن الوضع الاجتماعي والسياسي لجنوب العالم، خصوصا في إفريقا وأمريكا اللاّتينية، يحثّ المؤمنين للوعي بأوضاع الاستغلال والقهر التي تخيّم على شقّ كبير من البشرية، مما يدفع للالتزام بمطالب التحرير والعدالة، المستلهمين من الإيمان برب يسوع المسيح. لقد كتب غوستافو غوتيراز، الأب الرّوحي للاهوت التحرّر، مع نهاية الستّينيات: "جرى الحديث في العالم المسيحي منذ أمد، عن المشكلة الاجتماعية، أو ما يسمّى بالمسألة الاجتماعية، ولكن فقط في السّنوات الأخيرة تم التنبّه بيقين لعمق البؤس، وحياة العسف والاغتراب التي تعيش فيها الأغلبية الساحقة من البشرية، داخل أوضاع تشكّل إهانة للإنسان، وبالتالي لله". فحياة اللاّبشر، لأولئك الذين ألغي حقّهم في الوجود من خلال الدّوس على كرامتهم الإنسانية، يسيّره نظام خضوع تصير بموجبه بلدان وطبقات اجتماعية أكثر غنى وأشدّ قوّة، في حين تصير غيرها، البلدان والطبقات الخاضعة، أكثر سوءا وتدهورا. فلا يكفي التدخّل، عبر إيديولوجيا النهوض الاقتصادي، للحدّ من هذه الأوضاع، لأن ذلك الفعل يبقى خاضعا لإرادة الأقوى، التي تحافظ على شدّ تلك الدول والتجمّعات لأوضاع استغلالها.
فالذي يدفع بالمضطَهدين، لهجران أوضاع اغترابهم، نوع من الوعي يحولهم إلى صانعي تاريخهم. ولكن هذا الوعي الذاتي لدى الفقراء غير كاف، ما لم يعضده تطوير نظام اقتصادي عالمي يحوّر بنى الاستغلال السّائدة، ويدفع الدّول الضعيفة باتجاه اقتدار ذاتي من أجل نماء فعلي. نشير مثلا إلى مسألة الدُّيون العالمية التي تضغط على عديد البلدان الفقيرة، التي لا يكفي مجمل منتوجها السّنوي لتسديد مستحقّاتها التي تلزم بها العقود. أثارت كنيسة أمريكا اللاّتينية بدورها عديد الانتقادات المتعلّقة بالشأن، خصوصا في المؤتمرات العامّة لأسقفية القارة، في مدلين بكولمبيا سنة 1968، وفي بوبلا بالمكسيك سنة 1979. كما نادى التجمّع المنعقد بسانتو دومنغو، في 1992، بضرورة التنمية الشاملة للشخصية البشرية وبناء ثقافة مستجدّة في سياق الأنجلة الجديدة، ودعا في السياق لاهتمام خاص بالثقافات الأهلية، الإفريقية-الأمريكية وتلك المولّدة. أيضا، انشغل المجْمع المخصّص لإفريقيا المنعقد بروما سنة 1994، بحالة الخضوع التي لا تزال متواصلة برغم النهاية الظاهرية للاستعمار، والتي تدفع بالكنيسة لتكون صوت من لا صوت لهم. كما أكّد الملتقى اللاّهوتي الأوّل لفيدرالية المؤتمرات الأسقفية الآسيوية، المنعقد ببتّايا بتايلاندا سنة 1994، على أن وجود الكنيسة في آسيا يعني نشاطها المزدوج لفائدة كافة المؤمنين من أجل خدمة الحياة.
أ-لاهوت تغيير التاريخ
ما المرجو من الإيمان المسيحي لمواجهة أوضاع الحيف التي تكبّل ما يسمّى بالعالم الثالث؟ لقد تجلّى الأثر الفاعل لصيحة التحذير، التي أطلقها لاهوت التحرّر في دفع التجمّعات المسيحيّة للالتزام بقضايا الفقراء ومساندة المضطهدين، والتي لم تخل من غموض وأحيانا من تأويلات إيديولوجية. ولكن يبقى نادرا أن أثّر فكر لاهوتي بسرعة وعمق على الممارسات الكنسية، كما كان في وثيقة مؤتمر "الحرّية المسيحية والتحرير" سنة 1986، التي عبرت عنها كلمة البابا يوحنا بولس الثاني الموجّهة لأساقفة البرازيل في أفريل سنة 1986، حين أعتبِر لاهوت التحرّر ليس مناسبا فحسب، بل هاما وضروريا. بصفته نتاجا لضغوطات رنا للإجابة عنها، في مواجهة التاريخ المعتبر بقراءة تنويرية تقدّما منجزا بفضل المنهزِمين والمستَغَلِّين، تلخّصه ذاكرة عهود القهر الملغية والمجهولة، وكذلك حاضر الآلام وما يتجلّى في صراع المستضعَفين وآمال المهمَّشين لأجل مستقبل مغاير وحرّ. فليس موضوع ذلك التاريخ المغاير، البرجوازيَّ الذي يتوارى خلف الإيديولوجيا الغربية، اليمينية أو اليسارية، لكن مجموع المستضعفين، بقضّهم وقضيضهم دون حصر لتواريخ اضطهادهم. فالفقير يعمر موضوع تاريخه لما يستعيد هويّة ذاكرته، التي تجعله يعي هَوْل عذابات الماضي، عذابات المنهزِمين، ويتعلّم قراءة الحاضر بأعين جديدة، مؤلّفا بين صلات الخضوع الجائرة السابقة التي تصوّر على أنها نتيجة القدر أو بسبب وطأة تخلّف قديمة، ليخطو خطى ثابتة نحو التقدّم باتجاه التحرّر. داخل الدلالة الحيّة لهذا السياق يثار السّؤال المصيري الذي نشأ منه لاهوت التحرّر: بأي شكل يتمّ الحديث عن إله متجلّ في المحبّة داخل أوضاع يخيّم عليها الفقر والعسف؟ كيف يتم التبشير بكلمة إله الحياة بين أناس يواجهون موتا ظالما ومبكّرا؟ وكيف السبيل للاعتراف بعطيّة محبّته المجانية وبعدالته انطلاقا من عذابات الأبرياء؟ وبأي لغة تتيسّر مخاطبة الجموع المنبوذة بأنهم أبناء الله وبناته؟.
فبالنسبة للاهوتيي التحرّر، يتطلّب تجاوز عالَم النفي للإنسان هجران الإبستمولوجيا العقلانية، التي تكتفي بالمصالحة المثالية فحسب، ليفسح المجال لإبستمولوجيا ذات مدلول نصّي قدسي، يتمّ فيها إدراك مدلولات المحبّة والالتزام بقضايا الآخرين. فنزع الخوصصة عن الرسالة المسيحية ينبغي أن ينطلق من اللاّهوتي ذاته، لذلك فهو مدعو للاندماج بحيوية في تاريخ شعبه، للتفعيل في ذاته ومعه الذاكرة الخطيرة لفعل الله التحريري، المنجَز في يسوع المسيح. بذلك الشّكل تتحدّد المحاور الثلاثة المميّزة لمنهج لاهوت التحرّر: الوساطة الاجتماعية التحليلية، التي تتابع عالم المضطَهد؛ الوساطة التأويلية، التي تقرأ الوحي الإلهي وتسعى لفهم المشروع في علاقته بالفقير؛ الوساطة العملية، المتّجهة للتدخّل لأجل تحوير الواقع. بشكل يصير اللاّهوت وعيا إنجيليا نقديا للممارسة المسيحية والكنسية، قادرا على الانخراط في تغيير الواقع وليس في تفسيره فحسب: فقط عند معالجة آلام البشر ومعاناة الأبرياء بكل جدية، والعيش في النور الفصحي لسرّ الصليب، داخل محكّ ذلك الواقع، حينها يتيسّر نفي التّهمة عن لاهوتنا كونه ليس لغوا باطلا. بعيدا عن أي تناقض، يلتقي التصوّف والالتزام التاريخي عبر هذه القراءة للإيمان، من خلال تقوى متيقّظة وأمل متحفّز. فبخطى حثيثة، توجّه لاهوت التحرّر في العقدين الأخيرين نحو تمتين جذوره بالتراث المسيحي وبالتجربة الرّوحية، معترفا بتحدّره من التصوّف الإسباني العائد لـ- siglo de oro-، القرن السادس عشر. فالذين يلاقون ربهم لا يهجرون التاريخ، لكن فيه وإليه المآب، مثلما الشأن مع المعلّمين الرّوحيين الكبار تريزا دافيلا وجوفاني ديلا كروشي وإغنازيو دي لويولا. فقد انتشر ذلك التقليد بفضل أعمال المبشرين الوافدين مع الغزاة، الذين آثروا الاستقلال لاحقا، حيث أنتج عملهم تفطنا لمعاناة الفقراء والسكان الأهليين، يمكن الإشارة في ذلك لعمل برتولوميو دي لاس كاساس. مما خلف تبلورا لوعي متيقظ بحقيقة انحياز إله يسوع المسيح لصفّ المستضعَفين والمحرومين فيه تقريع للمستغِلِّين والأقوياء وحث لهم لأجل التوبة. فالوفاء بعهدي الأرض والسماء ليسا منفصلين، حين يكون الشأن ذا صلة بعذابات المحرومين.
ب-التحرير والسياقات التاريخية للقهر
ألهم المشروع الذي وُضِع رهن التطبيق من طرف لاهوت التحرّر بأمريكا اللاّتينية عديد الفضاءات، في مسعاها لبلورة معرفة نقدية بالإيمان، كان ذلك في أمريكا الشمالية في ما عرف بـ-Black theology- وفي مختلف أشكال اللاّهوت النّسوي، وكذلك في إفريقيا وآسيا عبر مختلف سياقات الاندماج الإيماني، بحسب ظروف القارّتين وما ترزحان تحته من حالات متنوعة من العسف والفقر، نعثر على مثال للانتشار الموسع للنموذج في لاهوت التحرّر المتبلور داخل أوضاع معاناة الشعب الفلسطيني. ولتأكيد وحدة المنطلق والمنهج، برغم اختلاف السّياقات، وتيسير الفهم والتبادل الثنائي بين اللاّهوتيين الملتزمين بخدمة رسالة الكنيسة، كشاهدة على إنسانية جديدة في المسيح، معبر عنها من خلال النضال من أجل مجتمع عادل، نشأت وتطوّرت الجمعية المسكونية للاهوتيي العالم الثالث المعروفة بـ(EATWOT، Ecumenical Association of Third World Theologians )، التي اجتمع أعضاؤها في المرة الأولى بتنزانيا سنة 1976، أين صيغ مانفستو دار السّلام، الذي يعتبر الإعلان الرّسمي لمولد لاهوت العالم الثالث. وعلاوة على عديد المؤتمرات اللاّهوتية بين القارات الثلاث، عقدت الجمعية خلال تلك السّنوات أربعة تجمّعات عامة بالتوالي، في نيودلهي بالهند سنة 1981، وفي أواكستباك بالمكسيك سنة 1986، وفي نيروبي بكينيا سنة 1992، وفي مانيلا بالفلبين سنة 1996.
يبقى إلتماس التحرّر مطلبا أساسيا، فقد أكّد اللاّهوتي جون سوبرينو في نيروبي، من خلال التذكير باغتيال الشهداء اليسوعيين السلفادوريين سنة 1989، أن "الاضطهاد- ليس شيئا مستجدا؛ فصيحة المظلوم تتصاعد إلى عنان السماء [...]؛ والله مصغ لتلك الصرخة، ومستمر في إدانة الظلم، ومناصرة التحرّر". ويردف بالسؤال المقلق: "كيف السبيل لأن ينعت اللاّهوت ذاته مسيحيا وهو يعبُر فوق صلب شعوب بأكملها وفوق تعطّشهم للانبعاث، حتى وإن واصل الحديث، في كتاباته عن الصليب، وعن بعث جرى منذ عشرين قرن؟". فالالتماس الناشئ يرنو لتدشين مسيحولوجيا شاهدة على "سرّ مانح للحياة"، الذي يوفّر معيارا للفعل، بصفة كل مسيحولوجيا أصيلة تتأسس على السُنّة العملية للمسيح. ومن بين رواد ذلك التوجّه نذكر: آلويسيوس بياريس وتيسا بالاسوريا، وهما لاهوتيان من السنغال، وجورج سواريس-برابهو، وهو لاهوتي هندي رحل أخيرا، وكذلك أيضا لاهوت المنيونغ الكوري-minjung theology-، المقترح من طرف دافيد سوح.
ومما يميّز المسيحولوجيا الآسيوية عن نظيرتها في أمريكا اللاّتينية إيلاء اهتمام أوفر للحوار بين الأديان، يُفسح فيه المجال للتراث الرّوحي للتقاليد غير المسيحية، والذي يمكن أن يتم الانزلاق بموجبه باتجاه اختزال يسوع المسيح في مجرّد رقم للسرّ المطلق الذي لا ينتهي، والذي يتجلّى عبر ألف اسم للخلاص. كما نجد إلحاحا على ضرورة الخروج من المسيحية الاستعمارية، المثقلة بمركزيتها الأوروبية، بصفته مطلبا مشروعا. جرى التأكيد على ذلك خصوصا في إفريقيا، مع الكاثوليكي جون مارك إلال ومع الأنجليكاني جون امبيتي، كما يعتبر انبعاث "المجلة الإفريقية للاّهوت" -Revue africaine de théologie- بكنشاسا في الكونغو، موحيا في ذلك الشأن. يبقى المسار مفتوحا حيث يلح النّداء من أجل الحياة، كما تؤكّد الوثيقة الختامية لتجمّع نيروبي، على ضرورة بذل جهود أوفر لتحويل الواقع، حتى تزهر كلّ حياة. فقد دعا تجمّع مانيلا اللاّهوتيين للتيقّظ لمواجهة سياقات العولمة الاقتصادية التي تسير باتجاه مصالح الاقتصاديات القوية، وما تستبطنه من مخاطر على البيئة، وما تمليه من ضغوط على الثقافات الأهلية.
يتوسّع حقل انشغالات لاهوت أمريكا اللاّتينية وإفريقيا وآسيا، فكلما رشد الوعي بالإيمان بالمسيحية في العالم الثالث واشتد عوده، سار دائما باتجاه الاستقلال عن أوروبا، ونحو فك ارتباطاته بالأنماط النظرية والعملية غير المحلية. بالتالي، يعرض بشكل جلي مسألة المشترك العالمي، حول وحدة الإيمان والرسالة، مع الوقائع التاريخية الأخرى للمسيحية، وعلى مستوى التحدي المتنامي جراء العولمة الثقافية. فمما هو مفترض أن تلك التحدّيات ستشغل أعمال الكنائس خلال السنوات المقبلة.
ثالثاً- تحدّيات الشرق: الأرثوذكسية والحوار مع الأديان الكبرى
يعتبر الشرق المهد الرّوحي للمسيحيين، فمنه وفدت رسالة الإيمان بابن الله المتجسّد المصلوب والمبعوث، نحو العالم الإغريقي اللاّتيني، ثم باتجاه العالم أجمع. لكن الشّرق الأوروبي يبقى بحق المكان الأساسي للمسيحيّة الشّرقية، وبالأساس للأرثوذكسية، فالشرق الآسيوي مهد الأديان الكبرى وفضاء انتشارها، تلتقي فيه المسيحية مع اليهودية، التي تعدّ الجذر المقدّس للكنيسة (أنظر العهد الجديد، الرسالة إلى أهل روما11: 18)، عبر الأرض المقدّسة لدى الآباء والملوك والأنبياء؛ وتلتقي مع الإسلام، الناشئ في الجزيرة العربية، الذي لا يخلو من تواصل مع التراث اليهودي-المسيحي، وما يتطلّع إليه منذ ظهوره نحو دعوة عالمية؛ كما تلتقي المسيحية مع أديان الهند، كالهندوسية، والبوذية المنتشرة خارج حدود شبه القارة الهندية، أساسا في الصّين واليابان؛ ومع الطّاوية والكنفشيوسية والشنتاوية، الحاضرة على مدى تاريخ ممتدّ لآلاف السّنين في تلك الثّقافات. يبدو التحدّي الوافد، مع تلك التجارب الدّينية، للهويّة والرّسالة المسيحيّة متنوّعا ومركّبا، يتمحور في ثلاثة فضاءات كبرى: منه ما يعود للشّرق المسيحي، بكافة خصوصياته ومخزوناته ذات التأثير على مجمل العالم المسيحي. وذلك المتعلّق باليهوديّة، أين يعترف الإيمان المسيحي بالشّهادة الحيّة لشعب العهد التي لم تنقضي مع إله الآباء. وذلك العائد للأديان الأخرى، بشكل يختلف فيه الاتصال عن لاهوت المؤمنين بالمسيح وممارساتهم.
يظهر السّياق التاريخي الثّقافي للمسيحيّة الأرثوذكسية في أوروبا، في العقدين الأخيرين، شديد الشبه بمابعد الحداثة الأوروبية، تتخلّله أزمات هويّة مماثلة وسياقات مشابهة من التفكّك، متولّدة عن التجربة الشّمولية السوفياتية مباشرة وعن ظواهر اليقظة الدّينية المتضاربة والواعدة في نفس الوقت. وتتأسّس العلاقة مع اليهودية داخل سياقات مختلفة، أين يلاقي المسيحيّون "إخوتهم الكبار"، الذين يحوزون دلالة مميزة في صلتهم بأرض الآباء والأنبياء ويسوع، والتي لا تزال للأسف مصدرا لتوترات حادّة، مرتبطة بصعوبة تفعيل مسار السلام بين دولة إسرائيل والفلسطينيين. الحالة الاجتماعية الثقافية للشّرق الأقصى والهند مرتبطة من جانب بتواصل الثقافات التقليدية، ومن جانب آخر بما يسمّى بسياقات التحديث، المستوحاة بشكل كبير، إن لم نقل منفعلة، بالنموذج الغربي. فحضور الخاصيات الدّينية في تلك الثّقافات معطى واقعي، برغم ما نشطت من حملات دعاية إلحادية منظّمة على مدى عقود، كما الشأن في الصين الشيوعية، التي تبدو اليوم فاسحة المجال لتسامح مصلحي وغامض. فاليقظة الدّينية التي تلاحظ في تلك البلدان، والتي تمثل ردّة فعل على عنف بعض الظواهر، مثل الثّورة الثّقافية، التي أقرّ بتراجيديتها وبربريتها ممثّلون حاليون لنهج الاشتراكية الصّينية، تشكّل تحدّيا كبيرا ليس للمسيحيّة فقط، بل لكلّ الدّيانات العالمية الكبرى.
أ-الأورينتال لومن: الأرثوذكسية
أعلن يوحنّا بولس الثاني سنة 1995 رسالة - Oriental lumen-، التي ثمّن فيها قيمة الكنائس الشرقية في العالم المسيحي، بما توفّره من إسهامات جليلة يمكن تلخيصها في العناصر التالية: المعنى العميق والعناية بالتقليد، بصفتهما نقل حيّ لرحمة الوحي في الكنيسة تحت الفعل الأمين والثابت للرّوح القدس؛ مركزية اللّيتورجيا لديها، المستوحاة من السرّ المعلن في كلمة الرب والنّابعة من السرّ المعيش في شهادة الإيمان والرّحمة؛ الحساسية الرّوحية الكبرى، التي صار لأجلها الإنسان الإلهي الفراقليط الألوهي الخفي بشكل دائم في الغرب، والذي بقي في قلب التأمل اللاّهوتي والتجربة الرّوحية؛ شهادة الرّهبنة والموقف البسيط للفكر والفعل الإيمانيين. تمثل هذه الثوابت الأوجه الأكثر تعبيرا عن حياة الكنائس الأرثوذكسية في القرن العشرين، وإن صاحبتها تحوّلات عميقة ذات خاصيات تاريخية سياسية، أفرزت حالات مستجدّة كلّيا للإيمان والتأمّل في الأرثوذكسية، في أوروبا الشرقية. فقد سحبت ثورة أكتوبر -1917- الكنيسةَ الرّوسيةَ إلى موضع خلفي افتقدت جرّاءه السلطة وشهدت أثناءه اضطهادا مستمرا، تواصل حتى سنة 1989، حين دفعت بها وبالكنائس الأخرى المستقلّة، تحوّلات الواقع السياسي الاجتماعي في بلدان شرق أوروبا، للمساهمة في الانبعاث الخلقي والرّوحي لشعوبها. مع كلي الحالتين، طرح مطلب الهويّة والرّسالة الأرثوذكسية صياغة جديدة للاهوت تلك الكنائس وأنشطتها. بالإضافة، فقد فرضت حالة الشتات، التي أعقبت ثورة أكتوبر، على عديد المؤمنين الأرثوذكس لقاء لا عهدة لهم به، وبشكل موسّع ومثمر مع الثقافة الغربية، فأفرز من ناحية، ظهور مراكز جديدة للفكر اللاّهوتي، مثل معهد سان سرجيو بباريس ومعهد سان فلاديميرو بنيورك، ومن ناحية أخرى ساهم في تطوّر الحوار المسكوني الحديث، الذي شاركت فيه الأرثوذكسية بحيوية وروح نقدية. لقد وجدت التحدّيات أجوبة لها في عديد الاجتهادات الفكرية والصياغات اللاّهوتية المغايرة: فالحاجة لتثبيت الهوية الأرثوذكسية، بعيدا عن الأنظمة السلطوية التي تبدو حارسة ومحدّدة لها من خارج، قادت إلى إعادة اكتشاف تراث آباء الكنيسة. وقد كانت للطروحات المستجدّة، دعائم متجذّرة في التّراث، يفي فيها اللاّهوت للهويّة المسيحيّة وينفتح أيضا على الوساطة الثقافية للفلسفة الإغريقية، التي تواصل ترك بصماتها على الثقافة الأوروبية، وهو ما تم مع مجموعة ج. فلورفسكيج. في مقابل هذه الاستعادة للهلينية المسيحية، فضّل آخرون حوارا أكثر حيوية مع الفكر الحديث، خصوصا ما له صلة بالمثالية الألمانية، مع الحرص على عدم التخلي عن التراث الكتابي الواسع للآباء، وهو ما تم مع س. بلغاكوف ومع ن. برداياف ومع ب. فلورنسكيج. في حين سعى آخرون للاستعادة الخلاّقة للهوية الأرثوذكسية على أساس لاهوت صوفي وأيقوني، مثلما كان مع ف. لوسكي، ومع ب. إفدوكيموف، وفي القريب الرّاهن أيضا من خلال محاورة فكر م. هايدغر، و ك. ينّاراس. لقد دفعت سياقات التحوّل الجارية إلى تأمّل جوهري، سواء عبر تقييم الأصول العقدية للكنيسة المحلّية، كما تم مع ن. أفاناسياف، وفي جانب أيضا مع ج. مياندورف، أو كذلك بإعادة عرض الأصول الكونية للتّناول، المتجذّرة في التقليد والمعبّر عنها في صورة الأسقف، مثلما الحال مع جان زيزيولاس. لم يغب أيضا موقف شائع من المحافظة، خصوصا في الأرثوذكسية التي لم تعش تجربة مباشرة مع الأنظمة الشيوعية، كما الشأن في اليونان، حيث بقي اللاّهوت الأكاديمي مرتبطا بأنماط الأرثوذكسية المدرسية.
مع العقود الأخيرة من القرن العشرين، وجدت الأرثوذكسية نفسها أمام اختبار عميق لهويتها ورسالتها، ليس فقط في صلتها بالتحوّلات التاريخية المشار إليها، ولكن أيضا تحت دفع الحوار المسكوني، يمكن الإشارة لمساهمات هـ. آليفيزاتوس و ن. نيسّيوتيس. إذ كشفت البنية المتأسّسة على استقلالية الكنائس المحلّية عن نقاط ضعف داخلها، حيث تعرضت تجمّعات المؤمنين لإكراهات السّلط السياسية وتبدّلاتها. ذلك أن التحضير للمجمع الأرثوذكسي العام منذ مدّة، والذي لم ينعقد بعد، يكشف عمق الأسئلة المطروحة وأهميتها في هذا الاتجاه، لغرض إجلاء عناصر الوحدة، خصوصا اللّيتورجية منها والروحية، وفي جانب آخر الثقافية، التي تربط بين الكنائس ذات التقليد الشرقي. فالتوتّر بين المحلّي والعولمي يمس الأرثوذكسية أيضا، بشكل يجعل التطوّرات المستقبلية للتفكير والعمل، كما تهز الداخل، تمس الحوار المسكوني مع التقاليد المسيحية الأخرى ومع العوالم الدّينية غير المسيحية أيضا.
ب- العلاقة بين إسرائيل والكنيسة
وَجَدت اليهودية في أيامنا، بعد ما يقارب الألفي سنة، في الشرق الأوسط، في الأرض التي وُعِد بها الآباء، فرصة للتعبير بتنوّع عن خاصياتها. فبسبب هذا المستجد الجوهري، إضافة إلى الحافز التراجيدي للتأمل في أحداث المحرقة-shoah-، تلك الكارثة المهولة التي دفعت بعمق للتساؤل عن الصّلة بين الإله التوراتي وآلام أبنائه، والتي فتحت حساسية جديدة تتعلّق بمسؤولية المسيحيين عن اللاّسامية. صارت العلاقة بين إسرائيل والكنيسة خلال العقود الأخيرة موضوعا لتأمّلات لاهوتية عميقة، تقاطعت مع أحداث تاريخية ذات شأن، مثل زيارة يوحنا بولس الثاني لبيعة روما، في 13 من أفريل 1986، والاعتراف بدولة إسرائيل من طرف الكرسي الرّسولي سنة 1993. وعلى أطروحة "القيام مقام"، التي تحقّق الكنيسة بفضلها على الوجه التام، ما كان لإسرائيل ضمنيا، من دور في السياق الإلهي للخلاص، كان الاعتماد على أطروحة "وحدة العهد"، التي لا يستوجب الاختيارُ الحتمي فيها الانفصام بين العهدين، القديم منه والجديد. فالفتنة التي حدثت بين الكنيسة وإسرائيل، بسبب الأحداث اللاّسامية في تاريخ الغرب، لا تتّفق مع المراد الإلهي. وعلى كلي الأمّتين السّعي باتجاه التوحّد الثنائي بموجب وحدة النّداء الإلهي: فإسرائيل كـ"الجذر"، شاهد ثابت على سرّ الاختيار الذي يفصل ويقدّس، والكنيسة شجرة، أغصانها تمتدّ في الزّمان والمكان. فيكون يسوع المسيح بحسب هذا الطرح اللاّهوتي، الصلّة الرّابطة بين الأمتين، فهو خلاصة عبر آلامه، لتاريخ عذابات الشّعب المختار، فهو قائم في بعثه، لأجل إتمام رسالة الخلاص الكوني. إنه توراة متجسّدة، كما كتب ج. سكونفيلد، فيه معنى الشريعة الأعمق الذي صار شفّافا للأمم: فالعيش بين يدي الله متجل في صورته. وهذا التماثل العميق بين الكنيسة وإسرائيل ينبغي ألاّ يخفي عناصر الاختلاف بينهما، كما لا ينبغي وعيه بشكل تمييزي، لكن عبر وفاء للهوية الرّوحية للأمّتين، كما شرح اليهودي جرشيم شولام ذلك بقوله: "ما لليهودية من حظوة في منتهى التاريخ، مثل اللّحظة التي تلتقي فيها الأحداث الخارجية، صار في المسيحية مركز التاريخ، متلخّصا في ما سمي بتاريخ الخلاص". يتعلق الأمر إذن بإدراك موحّد لاقتصاد الخلاص الموزّع بين العهدين القديم والجديد، والذي يبقى متميّزا مع استبعاد أي تضاد بينهما، كما يستدعي منطق "القيام مقام" وما يتطلّبه من تكامل، ينير من خلاله العهد الجديد بنور مستجدّ العهدَ القديمَ، كما أن هذا الأخير يعدّ ضروريا لفهم الجديد. فالعهد الذي قطع مع إسرائيل يحفظ قيمتها في تاريخ الخلاص، وهو ليس تهديدا أو إفراغا، بل إغناء ضروريا للكنيسة التي تعترف فيها بأصلها المقدّس الذي تستند إليه، سواء في حاضرها الرّاهن، أو في تبلور هويتها الرّوحية الأكثر عمقا. بالتالي، ودون نسخ القديم، يبقى العهد الجديد عطيّة راهنة فائضة، بمعنى متجلّية عبر يسوع المسيح. والتحدّي الذي يبقى قائما، يتعلّق بترسيخ الوعي بوحدة الصلات التاريخية بين المسيحيين واليهود عبر مفهوم التّمايز والتماثل، عن طريق حوار التآلف والتعاون، والذي، داخل تنوع السّياقات التاريخية الثقافية، يمكن أن يقدّم شهادة مشتركة على غنى التراث الكتابي اليهودي المسيحي بما يوفّره لكافة النّاس. والاعتراف الصادق والعميق، بالأخطاء المقترفة من المسيحيين ضدّ إسرائيل عبر التاريخ، تمثّل لكلّ منهما شرطا صحّيا للتجدّد والنّماء، قادرا على تثبيت الكنيسة داخل مقاصد ومساعي اليهودي يسوع الناصري، المسيا الذي جاء للمّ شمل إسرائيل. دون إلغاء ذلك الحلف الأبدي الذي ضرب مع الآباء، والذي يبقى معناه نافذا في مفهوم الخلاص، المنطلق بالجميع نحو زمن المصالحة الأخير، نحو "شالوم" الكوني، القائم بحضور إله الكل في الكل (أنظر العهد الجديد، رسالة بولس إلى أهل رومية: الإصحاحات 9-11).
ج-تحدّيات الدّيانات الأخرى: الإسلام وأديان الهند والشّرق الأقصى
ترد على المسيحية من الهند والشّرق الأقصى تحدّيات تمثّلها الدّيانات التاريخية الكبرى بآسيا، وذلك بسبب ظواهر الهجرة المتنامية نحو الغرب، خصوصا في العقود الأخيرة، وأيضا لتقلّص المسافات، جرّاء آثار العولمة. فما عادت العوالم الدّينية، للهندوسية والبوذية والطاوية والكنفشيوسية والشنتاوية اليوم، تمثل حضورا نائيا للمسيحيين، بل نجدها تسائل هويتهم ورسالتهم بشكل مباشر. يمكن قول نفس الشيء عن الإسلام، فبراديكالية وحدانيته وأصولية مبادئه، يستوقف الإيمان والشهادة المسيحية أيضا. لذلك انطلق في السّنوات الأخيرة تحت إلحاح هذه المقتضيات جدل حول "لاهوت الأديان"، والتساؤل بحد ذاته يتعلّق بتفرّد المسيح بنهج الخلاص، أم تمثّل الأديان الأخرى طرقا مضاهية للمسيحية لولوج سرّ الألوهية وبذلك تشكّل تجارب خلاصية هي أيضا؟ وإذا ما كانت الإجابة بالإيجاب، فما الهدف من حمل الرّسالة وإعلان البشارة بين الأمم؟ وإذا ما كانت بالنّفي، فأي معنى للحوار بين الأديان وما مصداقيته، وما الثراء الرّوحي المتبادل، وهل هو ممكن حقا بين عوالم دينية متباينة؟ البحث اللاّهوتي الجاري حول تلك التساؤلات، والذي يجد مساندة معنوية أيضا من أنشطة مختلفة، مثل ملتقى أسّيسي للأديان من أجل السّلام في 1986، يتحرّك بين حدّين: من جانب، نجد الطروحات الاحتكارية، والتي بموجبها "ألاّ خلاص خارج الكنيسة"، ويمثل كارل بارث النّقطة المرجعية العليا لهذا الموقف في القرن العشرين؛ ومن جانب آخر، نجد الطروحات التعدّدية ذات الطّابع النّسبي، التي بموجبها لا تحوز المسيحية هيئة الدّين الوحيد المطلق، لأن الألوهية لها مسمّيات عدّة ولا تنحصر فقط في اللّقيا بيسوع المسيح، وهو ما تعرضه مثلا أطروحات ج. هيك البرسبيتارياني. فبشكل إيجابي، يؤكّد الموقف التعدّدي على أن ليس للأديان قيمة استيعاضية فحسب، بل تشكّل إجابات إنسانية مغايرة على سرّ الألوهية الأوحد، بحسب نموذج تأويلي للخلاص يلغي مركزية المسيح ليستبدلها بمركزية الألوهية، مثلما يقترح ب. كنيتر، الكاثوليكي. كما تعترف مواقف عدّة بيسوع مسيحاً، وترفض قبول كون مجمل المسيح متضمّن فيه، فتصير فكرة المسيح بهذا الشكل نوعا من الصّياغة اللاّهوتية الخلاصية الكونية، التي لا يقدّم الوحي المسيحي سوى نموذجا منها، لعله الأكثر سموا، كما يقترح الكاثوليكي من أصل هندي ر. بنيكّار. ولدعم هذه الأطروحات، تم إيجاد أسس هرمنوطيقية، استنادا على ما لوحظ في الفكر الآسيوي، وأساسا الهندي، من تأسّس على رحابة الهوية، التي يمكن التعبير عنها داخل تعدّدية الأشكال الواقعية.
يمكن أن يكون أثر تجاوز اللّغة اللاّهوتية الواحدية مستندا لنفس غنوص الألوهية في المسيح، من خلال تقبّل التصوّرات الأخرى للوحي التاريخي، المماثلة للتصوّر الإنجيلي التوراتي، كتلك العائدة للتقاليد الدّينية الهندية. وبشأن هذا الطرح التأويلي وأهمّيته اللاّهوتية، يمكن متابعة مواقف اللاّهوتي الهندي ف. ولفراد. وإن بدت الأطروحات الاحتكارية اليوم قد هُجِرت، باستثناء بعض التجمّعات التّمامية أو الكتّاب الأصوليين، فإن المفهوم التعدّدي يبقى مرفوضا لدى الكثير، لأنه يُفرِغ الوحي التاريخي والحاجة للتبشير من محتوياتهما، تجلو تلك الأطروحات بشكل ما عبر رسالة -Redemptoris missio- ليوحنا بولس الثاني سنة 1990، وكذلك عبر وثيقة اللّجنة اللاّهوتية العالمية خلال 1996 المعنونة بـ"المسيحية والأديان"، التي تؤكّد على واحدية الوساطة عبر يسوع المسيح، وعلى كونية فعل الرّوح، وعلى الكنيسة كهيكل قداسي للخلاص، لأجل الاعتراف بالقيمة الخلاصية التي يمكن أن تحويها الأديان الكبرى. هكذا يرتسم بحث تأويل العلاقة بين المسيحية والأديان تحت شارة الاحتكارية، من خلال المحافظة على وجوب حضور المسيح وواسطيته، كما تؤخذ مأخذ اليقين أطروحة الخلاص الكونية. من هنا كان التفرّع لعديد الاتجاهات التأويلية، فمع البعض تحوي المسيحية قيم الأديان الأخرى، التي تمثل علامات ترقّب أكثر من كونها وساطات خلاصية، وهو ما نجده مع ج دانيلو، ومع هـ. دي لوباك، ومع هـ. أ. فون بالتزار؛ في حين مع آخرين فهناك اعتراف بشيء من القدسية للأديان الأخرى، كما الشأن مع ي. كنغار ومع أ. شلبيكس؛ ومع شق آخر، جرى التمييز بين التاريخ العام والتاريخ الخاص للخلاص، فعلى ذلك الأساس تكون وساطة التعالي للأديان، التي تحقّقت في المسيحية فقط، كما يذهب لذلك ك. راهنر وأيضا هـ.ر. شليتي.
ونتيجة للتحوّل الحادث في اللاّهوت المسيحي بسبب ممارسة الحوار مع الأديان العالمية الكبرى، يبدو التأمل اللاّهوتي في الأديان حقل بحث مشرعا ولا يخلو من مصاعب، مما يترتّب على نتائج العلاقة بين إعلان الرسالة والحوار مع العوالم الثقافية والرّوحية المغايرة للمسيحية.
رابعاً- مسارات العولمة: التحدّيات والسياقات نحو الوحدة
إذا ما كانت الظّواهر المحلّية المعالجة حتى الآن، قد خلّفت أثرا على مسيحية منتهى القرن العشرين، فبالمثل نجد تأثيرا متأت مما هو سائد على المستوى العالمي متجلّ في العولمة: فالسياق له طابع اقتصادي سياسي، ويرتبط بمصالح الوكالات الكبرى الناشطة على مستوى كوني، كما يقدِّم أيضا أوجها اجتماعية وثقافية، دافعة نحو سلوكات محدّدة، وموجّهة للرغبات والتطلّعات الجماعية والفردية باتجاه مظاهر استهلاك وأشكال تقبّل معيّنة، مسايرة للاستثمارات. ذلك أن تحوُّل الكوكب إلى قرية كونية، جرّاء التطور في عالم الاتصالات، قد أثّر أيضا على المجال الدّيني والرّوحي. فقد شاعت ظواهر مستجدة مثل ما عرف بالعصر الجديد - New Age- أو "عصر الدلو"، خصوصا في ثقافة شمال أمريكا وجنوبها، وكذلك في فضاءات أخرى، أين تلعب أنواع من الغنوص دورا في تسريع انتاج تلك التحوّلات والإجابة عنها، والتي تجد فيها الثّقافات الهامشية عزاء نفسيا وسلوى، بما يناسب بشكل جيد تطلّعات الوكالات الاقتصادية والسياسية الكبرى المهيمنة على العالم. لهذا السبب يبدو لازما جرد التحدّيات الكبرى المطروحة التي أفرزتها سياقات العولمة، وسبل المسيحية في ذلك للمساهمة في بناء علاقات تفضي بالإنسانية لتشييد أوضاع عادلة، بما يلائم مشروع الخلاص الإلهي، الموحى بتمامه عبر يسوع المسيح.
- تحدّيات العولمة: البيئة والعدالة والأخلاق
تربط شبكة العلاقات التي يتواجد الإنسان ضمنها، عبر السياق المتنامي للعولمة، ثلاث دوائر ذات مركز موحّد. تتعلّق الأولى بسعة المجال الكوني الطبيعي، والثانية بمجموع العلاقات التاريخية، والثالثة بالوعي الفردي. الدّوائر الثلاث متصلة ببعضها البعض، فمن مستلزمات الأولى أن تتموضع تحت مسؤولية وتصرف الثالثة، التي لا يمكن أن تتم دون وصل الموضوع بغيره من المواضيع التاريخية الأخرى. زيادة، فالعولمة وبشكل فاعل هي التي تحفز التبادل العالمي المتواصل بين مختلف الدّوائر العلائقية، بما تدفع به الفرد وباستمرار للإحساس بكونه جزء من كلّ، مولِّية إياه باستمرار شطر الحشد، نموذج القرية الكونية. فبهذا الشكل تتجلّى التحدّيات الثلاثة المتمثّلة في: البيئة والعدالة والأخلاق، التي تستدعي الإنسانية مجتمعة، والدّول مستقلّة، والأفراد على حدة، لمواجهتها في ظل تصاعد سياق العولمة.
تحضر المشكلة البيئية اليوم في قلب عديد التنديدات والتحذيرات، بسبب اختلال التوازن الطبيعي جرّاء التحوّلات المتسارعة الناتجة عن السلوك الإنساني. تحولات كانت تحدث سابقا على مدار ملايين السنين، صارت اليوم، بفعل اللاّتوازن، تنجز خلال عشرات السنين، مما جعل نتائج التبدلات على التوازن البشري والاجتماعي تتوافق مع تسريع ملايين السنين من التاريخ... والحال أن الأزمنة البيولوجية والأزمنة التاريخية تتابعان نسقين مختلفين. لقد تجلت نتائج هذا الاختلال في الآثار المدمّرة للتّدهور البيئي وفي التحوّل الطاقوي، وهي عوامل تحدّ بجلاء من فرص التطوّر. فالتنامي الشامل للـ Homo sapiens يظهر غير متناسب مع المحافظة على النظام البيئي، وكأن ذلك التهديد بمثابة ثأر للزمن البيولوجي من الزمن التاريخي. قاد البحث عن مسبّبات الأزمة لإجلاء مدى خضوع العقليات للسلوكات في التعامل مع الطبيعة، كما لم يخف أيضا من رأى في الانتهاك الممارس على الأنساق الطبيعية انه ناتج عن العبث بالمركزية الإنسانية في التوراة والإنجيل، المبشر بها من طرف المسيحية. في نفس الوقت، دفعت هذه الإثارة لإعادة اكتشاف البعد البيئي للإيمان المسيحي، المتجلي عبر عديد الشهادات التاريخية، كما الشأن في سفر التكوين في الإصحاح2: 15، وأين يعرب بمنظور إيجابي عن السيطرة الموكل بها للإنسان في الإصحاح1: 28. وقد تجلّى التأكيد على هذه المسؤولية والتنبيه لأهمية هذه الرّوحية البيئية من خلال تجمّع الكنائس الأوروبية في بازيليا سنة 1989، وكذلك مع انعقاد الملتقى المسكوني العالمي في سيول سنة 1990، حين جرت معالجة مسائل العدالة والسّلم والمحافظة على الخليقة، وكذلك عبر التجمّع السابع للمجلس العالمي للكنائس الذي انعقد في كانبيرا سنة 1991، والذي انشغل بموضوع "تجديد مجمل الخليقة". وليست المساهمات اللاّهوتية المتعلّقة بلاهوت الخلق قليلة هي أيضا، بما مهّدت له لهذه اليقظة، نذكر من بينها العائدة لـ ب. جيزال و ج. مولتمان من بين الإنجيليين، أو لـ ج.ل. رويز دي لا بينا و أ. غانوكزي بين الكاثوليكيين.
تظهر المسألة الاجتماعية مع العقدين الأخيرين من القرن المنصرم حافلة بشتى الإشكاليات، فمن الجلي أن العدالة في بلد ما تخضع أساسا لحالات الارتهان الاقتصادي والسياسي التي تتواجد فيها، حيث يحضر النّظام الاقتصادي العالمي دائما الإطار المرجعي الذي يتيسّر تحقيق التحوّلات المصيرية بداخله، ليس لطبقات وتجمّعات بشرية فحسب، بل لشعوب بأسرها، كما يتجلّى مع مسألة الدّيون العالمية. ومن ناحية أخرى، فإن تواري نظام تقاسم العالم بين كتلتين إيديولوجيتين متضادتين لم ينه استغلال البلدان الأكثر فقرا على البسيطة. بالتالي مما هو طبيعي الخشية من تمركز السّلطة السياسية العالمية بين يدي الجبار الأمريكي، فيحدث ضررا أكثر هولا. لأن التحرك لمواجهة الحالات بشكل متفرّد، يمكن أن يسوَّى بالمعيار الذي يلائم الأقوى، وعلى سبيل الذكر مثلا، اختلاف أشكال ووسائل التدخّل لتسوية الحالة الكويتية الغنيّة ونظيرتها البوسنية الفقيرة جلي في ذلك. ففي هذا الإطار، ينبغي ألاّ ينسي إنهيار الإيديولوجيات، التي أثارت تطلّعات الطبقات المضطَهدة والشعوب المستغَلّة، الاحتياجات المشروعة لهؤلاء الذين "لا صوت لهم". لذا يبدو معبرا على المستوى التمثيلي العالي تدخل الكنيسة الكاثوليكية الذي لا لبس فيه، على الشكل الذي عرضت به المسألة الاجتماعية، سواء عبر - Sollicitudo rei socialis - لسنة 1988 أو كذلك عبر - Centsimus annus- خلال سنة 1991، اللذين شكّلا تأمّلا شاملا في التغيّرات الحادثة خلال العقود الأخيرة للقرن السالف على المستوى العالمي، وبالمثل التنديد بالنظام الجائر الذي يسيّر العلاقات، خصوصا بين شمال العالم وجنوبه، مرتئية ضرورة نحت نهج اقتصادي سياسي يتجاوز أنماط فشل الاشتراكية، ويتجاوز بالمثل الأنانية العمياء للرأسمالية المطلقة الاحتكارية. لقد بدت المساهمات النقدية المقترحة من طرف لاهوت التحرّر، في مختلف السياقات، جادة لمواجهة الخيارات الكونية بغرض تجنب آثارها على الوقائع التاريخية العينية.
وفي النهاية نجد التحدي الخلقي يستوقف الإيمان العملي للمسيحيين في زمن العولمة، فإذا كانت أزمة اللاّهوت قد خلفت في الغرب خصوصا، خواء في فاعلية السلوكات من حيث ارتباطاتها العلوية، فإن قوّة التطوّر العلمي الحديث وعنفه فرَضا على المجال الكوني مشاكل خلقية لازالت حتى الآن خفية، فيما يتعلق باحترام الحياة البشرية في كافة أطوارها، من الأمور الجينية إلى مسائل الإجهاض، إلى تلك التي تمسّ الجوانب الخلقية في حقل التدخّل الطبّي، إلى غيرها مما يتعلّق بالقتل الرّحيم. أيضا، تحضر هنا مستجدّات العقود الأخيرة، مع أوكد وأوسع المشاكل المطروحة في شتى أصقاع الدنيا، ومن ناحية أخرى تحضر نسبية الحلول المقدّمة، المرتبطة بتوحيد مراكز السّلطة العلمية والاقتصادية والسياسية التي تهيمن على الكون. فحتى تيقّظ الرأي العام نفسه، فقد تم التحكّم به وتوجيهه، من طرف الوكالات الدّولية المتعاونة أو المسيَّرة مباشرة من طرف من يوجِّه الخيارات في حقول البحث والإنتاج. فإذا ما تم تفعيل حوار خلقي، يراجع الصلات بين الأخلاق والسياسة، والأخلاق والاقتصاد، والأخلاق والعلم، وإذا ما صارت الحياوة الخلقية "bioetica" تخصّصا مركزيا في الفكر اللاّهوتي الخلقي -مثلا في إيطاليا يمكن الإشارة إلى أ. بوبياني، أ. سغريشيا، أ. سبنسانتي، د. تيتامانزي-، فليس هناك شكّ كون السّؤال الرّئيسي متعلّق بأسس الأخلاق وصياغتها، وهو هل يوجد معيار مطلق وموضوعي على أساسه يتيسّر تمييز ما هو خير وما هو شرّ؟ وهل يكفي الوفاق لتأسيس سلوكات أخلاقية مقبولة وغير مغتربة على المدى الطويل بالنسبة للوجود الإنساني الفردي منه والجماعي؟ وإذا ما كان موجودا كيف السبيل لبلوغه؟ وما هي الصلة الرابطة بينه وبين المرجع النهائي والمطلق، الذي يشار إليه هنا باسم الله، مصحوبا بوحيه التاريخي؟ وإذا كانت ما تسمى "الأخلاق المستقلّة" منشغلة بالبحث عن إجابة لتلك التسّاؤلات، داخل عقلانية الموضوع الإنساني، فإن الأخلاق العلوية تبحث خارج الذاتية عن أساس الأخلاق ومعيارها، ويتم ذلك ليس فقط عبر التفكير في التجربة الدّينية الكونية، ولكن خصوصا من خلال اقتراح كونية الخصوصي المسيحي للإله، المتمثّل في المحبّة، والتوازي الذي يحوزه في التعالي الذاتي للروح الإنساني. سوف تكون هذه الأسئلة التأسيسية في السنوات القادمة الأكثر أهمية للبحث عن حل المشاكل الطارئة، والتي تتطلّب أفاقا مرجعية غير اعتباطية.
د.عز الدين عناية : أستاذ بجامعة لاسابيينسا بروما
أوّلاً- شمال العالم: أزمة الحداثة الغربية واللاّهوت كمعين للمعنى
تترافق الحداثة الغربية مع تحوّل انطلق مع هيمنة العقل يرنو لاستيعاب شامل للاّمعنى، كان فيه جليا تراجع الآفاق العتيدة للإيديولوجيا، المميّزة للزمن المابعد حداثي. "القرن الطويل"، التاسع عشر، اللّيبرالي والبرجوازي، الذي انطلق مع الثّورة الفرنسية وانختم بتراجيديا الحرب العالمية الأولى، فسح المجال لما سمّاه هوبزباوم "القرن الخاطف"، المتميّز بالشّموليات الإيديولوجية، والمتلخّص في سقوط جدار برلين سنة 1989م. هذا المنعرج تم تصويره من طرف ماكس هوركهايمر وتيودور. و. آدورنو في مستهلّ مؤلّفهما "جدل عصر الأنوار" بقول: "التنوير، في معناه الفكري الموسّع وفي طبيعة تطوّراته المتواصلة، يتقدّم بشكل دائم نحو تخليص النّاس من مخاوفهم ليجعلهم سادة أنفسهم. لكن الأرض الـمُنارة تنفتح بشكل عام على فجيعتها الهائلة".
فتطوّر الحداثة الغربية يبدو متداخلا، فهي من جانب تستلهم تطلّعات مشاريع التحرّر، التي تسعى لجعل الإنسان غاية تاريخه لا وسيلة له، عبر تخليص الشعوب المستغَلَّة وتحرير الطبقات المضطهَدة، وبهذا المعنى، رسمت الحداثة التنويرية تطلّعات إنسانية مثّلت أهدافا مصيرية. ومن ناحية أخرى، بدا الزّمن الذي انطلق مع التّنوير زمن عنف إيديولوجي، تهاوت عديد الأنظمة الشمولية التاريخية في اقتراف آثامه. ففي سياق تفسير الكلّ وإعطائه معنى، تطلّعت الإيديولوجيا لمعانقة الواقع بمجمله، لحدّ إرساء معادلة تامة بين المثالي والواقعي، ضاق فيها الفضاء لاستيعاب المخالف والمعارض. لذلك جاءت التعبيرات الإيديولوجية التاريخية فظّة عنيفة، لما استلزمته من حشر للواقع ضمن قدرات الوعي المطلقة للمفهوم. فصار حلم الشّمول شمولية، وأنتج الهوس بالعقلانية الإيديولوجية أزمته الذاتية. كما صوّر الأمر اللاّهوتي الإنجيلي دييتريش بونهوفر، الذي قضى سنة 1945 ضحية البربرية الإيديولوجية للقومية الإشتراكية، في محتشدات فلوسنبورغ، بقوله:" صار سيّد الآلة عبدا، وأمست الآلة عدوا للإنسان. ثارت الخليقة ضد بارئها: ردّ مميز عن الخطيئة الآدمية! فتحرّر الجماهير انتهى إلى رعب المقصلة، والقومية أدّت إلى الحرب، كما قاد مثالُ التحرّر المطلق الإنسانَ للدمار الذاتي. لقد تفتّحت أبواب العدمية عقب مطاف السّير مع الثّورة الفرنسية ".
ظهرت أزمة العقل التنويري في أوروبا، مع فشل عديد الأنظمة الشّمولية الإيديولوجية، مما فسح المجال في ثقافات الغرب لما سمّي بما بعد الحداثة، التي كان ردّة فعل حقيقية على اليقينيات الإيديولوجية، الأمر الذي هيّأ الأجواء للتخلّي عن عنف الفكرة الشمولي وعن ادّعاءاتها التأسيسية القوية والمطلقة. فإذا ما كان لكل شيء معنى داخل الإيديولوجيا، فمع الفكر الخامل المابعد حداثي لا شيء يبدو له معنى، انه زمن الغرق والسقوط، إذ استبدِلت الحماسة الإيديولوجية بالوَهَن. هكذا أشاحت الأزمة الحادة للقرن بوجه السّقوط، ذلك ما أشار إليه بونهوفر ذاته، متأمّلا في دراما الوعي الأوروبي التي عاشها في شخصه: "فلا أعسر من تأسيس الحياة التاريخية، أي الثقة، في كل أشكالها. فقد توارت الثّقة في الحقيقة، وعوّضتها سفسطة الدّعاية. كما اختفى الإيمان بالعدالة، وصار يعلن الصّدقية أيّا كان]...[. فكيفما كانت حالة زمننا، فهو زمن السقوط الحقيقي". فقد حالَ التهاوي دون شغف الإنسان بالحقيقة، وانتزع منه تلك الحوافز القوية التي لاتزال الإيديولوجيا تقدّمها له. حصل انتصار الدّجل على الحقيقة، الدّجل الذي يعمل في خدمته أصحاب التأثير الخفي للحضارة الإعلامية، التي فرضت سلطتها بسرعة فائقة في العقود الأخيرة للقرن. لقد تفرّعت الثّقافة القوية، تعبير الإيديولوجيا، إلى جداول عدّة في الثّقافات الواهنة، في تلك المجمّعات من المنعزلات، أين يحصر شُحّ الآمال الجماعية الكبيرة كلّ واحد في ضيق خصوصيته. فتحت موجبات العيش والعيش معا، يتبدّل مطلب الضروري المباشر واللائق، فعادة ما مثّلت الصّراعات العرقية المتكرّرة وظهور الخصوصيات منفتحات وتطلّعات في منتهى القرن، هذا هو بشكل جلي الفضاء الحالي للفعل المسيحي في الغرب.
أ- أوروبا: الخلاصة اللاّهوتية والأنساق المنفتحة
كيف ينظر الوعي المسيحي لإشكالية الحداثة، في تحوّلاتها من الهوس الإيديولوجي إلى زمن السقوط؟ فموقف التشكّك الذي كان سائدا من حيث تحديد أزمة الإيديولوجيات، يجد نفسه اليوم أمام تحدّيات في معظمها غير منتظرة. فإذا ما كان زمن الانسحار المتولّد عن عوالم الإيديولوجيا، تجلّى فيه "لاهوت الأمل"، في معناه الأكثر عمقا في نور الإله المصلوب، الذي تم تصويره بجلاء في أعمال الإنجيلي يورغن مولتمان، و"اللاّهوت السّياسي" المصوغ من طرف الكاثوليكي جوهانس بابتيست ماتز، اللّذان حثّا معا على التيقظ الدائم للمعين الأخروي الحاضر في الإيمان المسيحي لمواجهة أي إطلاقية دنيوية؛ وإذا ما كانت المناهضة للشّمولية الإيديولوجية خاصية منتشرة في التجمّعات الإكليروسية، حتى وإن كان الثّمن باهضا، أساسا في البلدان المنعوتة بالاشتراكية الواقعية سابقا، فإن نهاية التضاد بين تكتّلي المجتمعات الأوربية لم ينتج التداخل المرجو. كان توحيد الجهود ضد المناهض الإيديولوجي أكثر يسرا من توظيفه نحو أفق معنى مشترك، لذلك يبدو التحدّي الكبير للوعي المسيحي في هذه السنوات، خصوصا في أوروبا الغربية، منشغلا بتوفير آفاق موحّدة، غير إيديولوجية وخالية من العنف، قادرة على حفز الانخراط العام من أجل بناء مجتمع عادل ومتضامن ينعم فيه الجميع. مما يفسّر حاجة اللاّهوت الأوروبي الملحّة في أيامنا، للعودة لمقترحات هيكلية، قادرة على توفير رؤية جامعة للتاريخ والحياة، وبالتالي لتأسيس خطوة ملتزمة، تتجاوز منعرج اللاّمبالاة. من ناحية المحتوى، تستعيد هذه المقترحات المحاور الأساسية للاّهوت، وأساسا سؤال الألوهية في خصوصيته الثالوثية للرسالة المسيحية، وأهمية التفسير الأخروي والقراءة اللاّهوتية للتاريخ. تيسر ذلك بعد سنوات التجدّد الكنَسي، المرتبط بالمجمع الفاتيكاني الثاني، ولهيمنة الدور المسيحولوجي لسنوات الستينيات، من خلال البحث في يسوع، المسيح، عن أساس تاريخي متعال، يكون بديلا للانسحارات الإيديولوجية (يمكن الإشارة لأعمال والتر كاسبر في ألمانيا وكريستيان دوكوك في فرنسا)، أو على النقيض في نمط مناسب مثلما الأمر في "لاهوت الثورة"- لسنوات الثمانينيات فلاحقا، والذي تجلّى في استعادة السّؤال اللاّهوتي المحض وتفعيله مع مختلف أوجه الحياة والتاريخ. تكفي بعض النماذج المعبرة عن ذلك: فنفس اللاّهوتيين الذين شكلوا في الستينيات، خصوصا في ألمانيا، مقترح لاهوت الأمل، يلوحون اليوم بضرورة مقترح "العقائدية المسيحانية"، مع يورغن مولتمان، أو باللاهوت المنهجي، مثلما تم شرح ذلك في المجلدات الثلاثة للّوثري وولفهارت بانبيرغ، المتمحور حول وحي إله يسوع المسيح. بنفس الحاجة تلتقي ضمن سياقات مغايرة الأعمال الجامعة (مثل أعمال اللاّهوت التاريخية العديدة المنتجة خلال هذه السنوات لسد ثغرة هامة، من بينها تلك التي لـ: أ.فيلانوفا و ج. لافونت و ب. موندان، و ر. أوسكولاتي، أو ما تم صياغته في إيطاليا من موسوعات وقواميس لاهوتية، وفي فرنسا مثل المجلدات الخمسة المعنونة بـ:"Initiation à la pratique de la théologie" أو المجلدات الثلاثة التي سهر على إعدادها جوزيف دوري" Introduction à la la théologie"، وأيضا عديد الأعمال المنتجة من طرف كتّاب منشغلين أساسا بالتحاور مع فكر مابعد الحداثة، كما في إيطاليا مع مؤلَّف "الرّمزية الكنَسِية" لصاحب الدراسة، والذي ينبني على استعادة مركزية الإيمان الثالوثي وعلى أهمية الشكل التاريخي في الفكر اللاّهوتي. نجد توجهّات لاهوتية منهجية مماثلة، كتلك العائدة للاهوتيين الكاثوليكيين إدوارد شيليبيكس من هولندا، وجوزيف رازينغير ووالتر كاسبر من ألمانيا، وللإنجيلي إبرهارد يونجيل. وكذلك محاولات الإنتاج اللاّهوتي الجديدة المتأتية من إسبانيا لأوليغاريو غونزاليز دي كارديدال، ولجوزيب روفيرا بلوزو، ولآندري توريس كويروغا، إلخ. وللتوضيح، فلا مؤلَّف من تلك الأعمال يتقدّم بكونه الخلاصة النهائية، فعبرها هناك تيقّظ نقدي لمخاطر الأدلجة للمسيحية. بل هناك تنبيه لضرورة عرض خلاصة، حتى وإن كانت منفتحة، مستوحاة من عقل لاهوتي تاريخي، مشبع بالإيحاءات الكتابية. أيضا، فليست الصلة مع المعيش الرّوحي والكنسي ومع التراث المسيحي الواسع، شرطا حاجيا فقط بل ضروريا، للمحافظة على الوعي النقدي بالإيمان خارج أي توظيف إيديولوجي يتهدّده. فاللاّهوت يرنو إجمالا، ليكون معينا للمعنى، وحافزا للدفع، وأملا في مواجهة أزمة الأسس والتخلي العدمي، في عديد الجوانب من ثقافة أوروبا المابعد حداثية.
ب- أمريكا الشمالية: اللاّهوت العملي
إذا ما بدا اللاّهوت في أوروبا ردّا على سياقات التّفتيت والانهيار، من خلال استعادة الفكر جرأته المنهجية بشأن طرح الأسئلة، فهو في الجانب الآخر من شمال العالم، في أمريكا الشمالية، يبقى اللاّهوت العملي في الصدارة. فأزمة الإيديولوجيا في القارة العتيقة تترافق مع انتعاشة غامضة للنموذج الأمريكي، الذي يضيق ذرعا بفردانية الحقوق على حساب الضعفاء، غير القادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية منها والأولية، من خلال مطالبة طبيعة بالحقوق الاجتماعية. تُدرَك بالتالي دواعي ظهور التحرّر في هذا السياق، كمستلزمات لليونة العقدية: فإذا ما كان اللاّهوت الأسود- Black thelogy - (جايمس كوين) قد دفع قدما، على ضوء رسالة العدالة والتحرّر الإنجيلية، بالوعي بكرامة الشعوب الملونّة وقضاياها، التي لاتزال هدفا لأشكال من التمييز المتنوع، متلخّصا بالأساس في روايات أزمنة العبودية الوافرة، المعبّر عنها في لغة الأسلاف الأفارقة. فإن اللاّهوت النّسوي لا يطالب فحسب بالتساوي الشامل والثنائي بين الرجل والمرأة، بل ينادي أيضا بإلغاء الأحكام الجنساوية في الحياة الاجتماعية المدنية والحياة الكنسية. يرشح هذا الوعي دائما، من تطلّع نحو تحوير جذري للأسس اللاّهوتية للوجود المسيحي، بدءا من صورة الله، التي لاتزال رهينة الثقافة الذكورية.
فمطلب الحث للعودة للغة استيعابية، توظّف في الكتاب المقدّس وفي اللّيتورجيا، والتي من شأنها أن تساهم في إلغاء ذلك التمييز الجنساوي، فيه إيحاء لأصالة تلك المطالب وثرائها. كما لا ينبغي أن تخفي حدّة الأصوات ومظاهر العنف، الأسباب الإيجابية للإلهام الدّيني والرّوحي في جوانب كبرى من تلك المقاربات. فهي حاضرة، حين يتجذّر الفكر في قراءة مستجدّة للذّاكرة: داخل التاريخ الرّسمي، المدوَّن من طرف المنتصرين، الرّجال. فهناك سعي لكشف الواقع المطموس والمقموع للطّرف الأنثوي. إذ الأنساق الاجتماعية الثقافية والاقتصادية، التي تطوّرت عبر الزمن في الغرب، قد رهنت المرأة داخل حالة من الخضوع والاستغلال، سخِّرت فيها لحاجات الذكر ورغباته. لذلك يظهر اللاّهوت النسوي بمثابة نظرية نقدية تحرّرية للجموع البشرية وليس للشقّ الأنثوي فحسب. يسعى لإصلاح صورة الألوهية الذّكورية، بغرض إعانة الذّكر، على هدى المسيح، للإقرار بالمكوّنات الأنثوية في كيانه، حتى تعبّر المرأة عن ذاتها كشخص، لأن الثنائي إنسانيان بحسب صورة الله المتجلّية فيهما، وهو ما يجد دعما في سفر التكوين.
وإلى جانب هذه اللّواهيت العملية النّاشئة جرّاء احتياجات واقعية، ومعاناة ضاربة في القدم، تجلو أهمّية الأعمال النّقدية التي أجراها عديد المؤمنين العاملين من أجل المساواة والسلم في أمريكا، في ظل نظام اقتصادي يلح فيه الواجب على ضرورة التضامن مع الضعفاء. لقد كان عمل الأسقفية الكاثوليكية في الولايات المتّحدة نموذجيا ومعبّرا، لما تدخّلت بشأن هذه المحاور، عبر وثائق وتصريحات ذات أهمية، والتي عادة ما تكون نتاج جهود مكثّفة. إذ تتجلّى أزمة الوعي الأمريكي في الحاجة لتجديد اليقينيات البسيطة باتجاه مرجعيات قوية، لمواجهة النتائج السلبية لثورة العوائد الحادثة مع الستّينيات والسبعينيات، مثل بليّة مرض فقدان المناعة الذي ساهم حقا في التسريع بهذا السياق. ولذلك لا يثير عجبا انبعاث الأصوليات، وتشييء الدّيني بفعل استعمالات الإعلام التجارية لما سمي بـ"shopping for God in America"، وجاذبية بعض المواقع الأصولية حتى داخل الكنائس التقليدية أيضا. وإجمالا هناك حاجة لتأمّل لاهوتي منهجي عميق يقدِر على تخطّي مخلّفات النّفعية ومحصلة نسبية الأخلاق. فيبدو لافتا تطوّر صائغ مانفستو العَلمنة الأمريكية، هارفي كوكس، من مواقفه في "المجتمع العَلماني" سنة 1965 إلى "الدّين في المجتمع العَلماني" سنة 1984، أين يؤكد، لا على ضرورة الدّين بل على أطروحة كون المجتمع ككلّ هو ظاهرة دينية.
فلا تبدو مؤثّرة بشكل فاعل، إسهامات المعرفة المعمّقة بالكتاب المقدّس، على السياقات الجارية، وعلى الجدل الأخلاقي الموسّع، كما الشأن أيضا إسهامات بعض كبار المفكّرين المستقلّين مثل آفري دولس ودافيد تراشي الكاثوليكيين، وجيوفري واينرايت الإنجيلي. فمما يجلو أن تحدّي التحول في المسيحية الأمريكية في جزء كبير منه لا يزال رهن الاختزان.
ثانياً- جنوب العالم: تغيير التاريخ واللاّهوت كوعي نقدي من أجل التحرّر
إذا ما كانت المسيحية في شمال العالم مدعوّة لتوفير أفق جديد للمعنى قادر على تجاوز الأزمة الأخلاقية الناشئة عن انهيار الأنساق الإيديولوجية للحداثة، فإن الوضع الاجتماعي والسياسي لجنوب العالم، خصوصا في إفريقا وأمريكا اللاّتينية، يحثّ المؤمنين للوعي بأوضاع الاستغلال والقهر التي تخيّم على شقّ كبير من البشرية، مما يدفع للالتزام بمطالب التحرير والعدالة، المستلهمين من الإيمان برب يسوع المسيح. لقد كتب غوستافو غوتيراز، الأب الرّوحي للاهوت التحرّر، مع نهاية الستّينيات: "جرى الحديث في العالم المسيحي منذ أمد، عن المشكلة الاجتماعية، أو ما يسمّى بالمسألة الاجتماعية، ولكن فقط في السّنوات الأخيرة تم التنبّه بيقين لعمق البؤس، وحياة العسف والاغتراب التي تعيش فيها الأغلبية الساحقة من البشرية، داخل أوضاع تشكّل إهانة للإنسان، وبالتالي لله". فحياة اللاّبشر، لأولئك الذين ألغي حقّهم في الوجود من خلال الدّوس على كرامتهم الإنسانية، يسيّره نظام خضوع تصير بموجبه بلدان وطبقات اجتماعية أكثر غنى وأشدّ قوّة، في حين تصير غيرها، البلدان والطبقات الخاضعة، أكثر سوءا وتدهورا. فلا يكفي التدخّل، عبر إيديولوجيا النهوض الاقتصادي، للحدّ من هذه الأوضاع، لأن ذلك الفعل يبقى خاضعا لإرادة الأقوى، التي تحافظ على شدّ تلك الدول والتجمّعات لأوضاع استغلالها.
فالذي يدفع بالمضطَهدين، لهجران أوضاع اغترابهم، نوع من الوعي يحولهم إلى صانعي تاريخهم. ولكن هذا الوعي الذاتي لدى الفقراء غير كاف، ما لم يعضده تطوير نظام اقتصادي عالمي يحوّر بنى الاستغلال السّائدة، ويدفع الدّول الضعيفة باتجاه اقتدار ذاتي من أجل نماء فعلي. نشير مثلا إلى مسألة الدُّيون العالمية التي تضغط على عديد البلدان الفقيرة، التي لا يكفي مجمل منتوجها السّنوي لتسديد مستحقّاتها التي تلزم بها العقود. أثارت كنيسة أمريكا اللاّتينية بدورها عديد الانتقادات المتعلّقة بالشأن، خصوصا في المؤتمرات العامّة لأسقفية القارة، في مدلين بكولمبيا سنة 1968، وفي بوبلا بالمكسيك سنة 1979. كما نادى التجمّع المنعقد بسانتو دومنغو، في 1992، بضرورة التنمية الشاملة للشخصية البشرية وبناء ثقافة مستجدّة في سياق الأنجلة الجديدة، ودعا في السياق لاهتمام خاص بالثقافات الأهلية، الإفريقية-الأمريكية وتلك المولّدة. أيضا، انشغل المجْمع المخصّص لإفريقيا المنعقد بروما سنة 1994، بحالة الخضوع التي لا تزال متواصلة برغم النهاية الظاهرية للاستعمار، والتي تدفع بالكنيسة لتكون صوت من لا صوت لهم. كما أكّد الملتقى اللاّهوتي الأوّل لفيدرالية المؤتمرات الأسقفية الآسيوية، المنعقد ببتّايا بتايلاندا سنة 1994، على أن وجود الكنيسة في آسيا يعني نشاطها المزدوج لفائدة كافة المؤمنين من أجل خدمة الحياة.
أ-لاهوت تغيير التاريخ
ما المرجو من الإيمان المسيحي لمواجهة أوضاع الحيف التي تكبّل ما يسمّى بالعالم الثالث؟ لقد تجلّى الأثر الفاعل لصيحة التحذير، التي أطلقها لاهوت التحرّر في دفع التجمّعات المسيحيّة للالتزام بقضايا الفقراء ومساندة المضطهدين، والتي لم تخل من غموض وأحيانا من تأويلات إيديولوجية. ولكن يبقى نادرا أن أثّر فكر لاهوتي بسرعة وعمق على الممارسات الكنسية، كما كان في وثيقة مؤتمر "الحرّية المسيحية والتحرير" سنة 1986، التي عبرت عنها كلمة البابا يوحنا بولس الثاني الموجّهة لأساقفة البرازيل في أفريل سنة 1986، حين أعتبِر لاهوت التحرّر ليس مناسبا فحسب، بل هاما وضروريا. بصفته نتاجا لضغوطات رنا للإجابة عنها، في مواجهة التاريخ المعتبر بقراءة تنويرية تقدّما منجزا بفضل المنهزِمين والمستَغَلِّين، تلخّصه ذاكرة عهود القهر الملغية والمجهولة، وكذلك حاضر الآلام وما يتجلّى في صراع المستضعَفين وآمال المهمَّشين لأجل مستقبل مغاير وحرّ. فليس موضوع ذلك التاريخ المغاير، البرجوازيَّ الذي يتوارى خلف الإيديولوجيا الغربية، اليمينية أو اليسارية، لكن مجموع المستضعفين، بقضّهم وقضيضهم دون حصر لتواريخ اضطهادهم. فالفقير يعمر موضوع تاريخه لما يستعيد هويّة ذاكرته، التي تجعله يعي هَوْل عذابات الماضي، عذابات المنهزِمين، ويتعلّم قراءة الحاضر بأعين جديدة، مؤلّفا بين صلات الخضوع الجائرة السابقة التي تصوّر على أنها نتيجة القدر أو بسبب وطأة تخلّف قديمة، ليخطو خطى ثابتة نحو التقدّم باتجاه التحرّر. داخل الدلالة الحيّة لهذا السياق يثار السّؤال المصيري الذي نشأ منه لاهوت التحرّر: بأي شكل يتمّ الحديث عن إله متجلّ في المحبّة داخل أوضاع يخيّم عليها الفقر والعسف؟ كيف يتم التبشير بكلمة إله الحياة بين أناس يواجهون موتا ظالما ومبكّرا؟ وكيف السبيل للاعتراف بعطيّة محبّته المجانية وبعدالته انطلاقا من عذابات الأبرياء؟ وبأي لغة تتيسّر مخاطبة الجموع المنبوذة بأنهم أبناء الله وبناته؟.
فبالنسبة للاهوتيي التحرّر، يتطلّب تجاوز عالَم النفي للإنسان هجران الإبستمولوجيا العقلانية، التي تكتفي بالمصالحة المثالية فحسب، ليفسح المجال لإبستمولوجيا ذات مدلول نصّي قدسي، يتمّ فيها إدراك مدلولات المحبّة والالتزام بقضايا الآخرين. فنزع الخوصصة عن الرسالة المسيحية ينبغي أن ينطلق من اللاّهوتي ذاته، لذلك فهو مدعو للاندماج بحيوية في تاريخ شعبه، للتفعيل في ذاته ومعه الذاكرة الخطيرة لفعل الله التحريري، المنجَز في يسوع المسيح. بذلك الشّكل تتحدّد المحاور الثلاثة المميّزة لمنهج لاهوت التحرّر: الوساطة الاجتماعية التحليلية، التي تتابع عالم المضطَهد؛ الوساطة التأويلية، التي تقرأ الوحي الإلهي وتسعى لفهم المشروع في علاقته بالفقير؛ الوساطة العملية، المتّجهة للتدخّل لأجل تحوير الواقع. بشكل يصير اللاّهوت وعيا إنجيليا نقديا للممارسة المسيحية والكنسية، قادرا على الانخراط في تغيير الواقع وليس في تفسيره فحسب: فقط عند معالجة آلام البشر ومعاناة الأبرياء بكل جدية، والعيش في النور الفصحي لسرّ الصليب، داخل محكّ ذلك الواقع، حينها يتيسّر نفي التّهمة عن لاهوتنا كونه ليس لغوا باطلا. بعيدا عن أي تناقض، يلتقي التصوّف والالتزام التاريخي عبر هذه القراءة للإيمان، من خلال تقوى متيقّظة وأمل متحفّز. فبخطى حثيثة، توجّه لاهوت التحرّر في العقدين الأخيرين نحو تمتين جذوره بالتراث المسيحي وبالتجربة الرّوحية، معترفا بتحدّره من التصوّف الإسباني العائد لـ- siglo de oro-، القرن السادس عشر. فالذين يلاقون ربهم لا يهجرون التاريخ، لكن فيه وإليه المآب، مثلما الشأن مع المعلّمين الرّوحيين الكبار تريزا دافيلا وجوفاني ديلا كروشي وإغنازيو دي لويولا. فقد انتشر ذلك التقليد بفضل أعمال المبشرين الوافدين مع الغزاة، الذين آثروا الاستقلال لاحقا، حيث أنتج عملهم تفطنا لمعاناة الفقراء والسكان الأهليين، يمكن الإشارة في ذلك لعمل برتولوميو دي لاس كاساس. مما خلف تبلورا لوعي متيقظ بحقيقة انحياز إله يسوع المسيح لصفّ المستضعَفين والمحرومين فيه تقريع للمستغِلِّين والأقوياء وحث لهم لأجل التوبة. فالوفاء بعهدي الأرض والسماء ليسا منفصلين، حين يكون الشأن ذا صلة بعذابات المحرومين.
ب-التحرير والسياقات التاريخية للقهر
ألهم المشروع الذي وُضِع رهن التطبيق من طرف لاهوت التحرّر بأمريكا اللاّتينية عديد الفضاءات، في مسعاها لبلورة معرفة نقدية بالإيمان، كان ذلك في أمريكا الشمالية في ما عرف بـ-Black theology- وفي مختلف أشكال اللاّهوت النّسوي، وكذلك في إفريقيا وآسيا عبر مختلف سياقات الاندماج الإيماني، بحسب ظروف القارّتين وما ترزحان تحته من حالات متنوعة من العسف والفقر، نعثر على مثال للانتشار الموسع للنموذج في لاهوت التحرّر المتبلور داخل أوضاع معاناة الشعب الفلسطيني. ولتأكيد وحدة المنطلق والمنهج، برغم اختلاف السّياقات، وتيسير الفهم والتبادل الثنائي بين اللاّهوتيين الملتزمين بخدمة رسالة الكنيسة، كشاهدة على إنسانية جديدة في المسيح، معبر عنها من خلال النضال من أجل مجتمع عادل، نشأت وتطوّرت الجمعية المسكونية للاهوتيي العالم الثالث المعروفة بـ(EATWOT، Ecumenical Association of Third World Theologians )، التي اجتمع أعضاؤها في المرة الأولى بتنزانيا سنة 1976، أين صيغ مانفستو دار السّلام، الذي يعتبر الإعلان الرّسمي لمولد لاهوت العالم الثالث. وعلاوة على عديد المؤتمرات اللاّهوتية بين القارات الثلاث، عقدت الجمعية خلال تلك السّنوات أربعة تجمّعات عامة بالتوالي، في نيودلهي بالهند سنة 1981، وفي أواكستباك بالمكسيك سنة 1986، وفي نيروبي بكينيا سنة 1992، وفي مانيلا بالفلبين سنة 1996.
يبقى إلتماس التحرّر مطلبا أساسيا، فقد أكّد اللاّهوتي جون سوبرينو في نيروبي، من خلال التذكير باغتيال الشهداء اليسوعيين السلفادوريين سنة 1989، أن "الاضطهاد- ليس شيئا مستجدا؛ فصيحة المظلوم تتصاعد إلى عنان السماء [...]؛ والله مصغ لتلك الصرخة، ومستمر في إدانة الظلم، ومناصرة التحرّر". ويردف بالسؤال المقلق: "كيف السبيل لأن ينعت اللاّهوت ذاته مسيحيا وهو يعبُر فوق صلب شعوب بأكملها وفوق تعطّشهم للانبعاث، حتى وإن واصل الحديث، في كتاباته عن الصليب، وعن بعث جرى منذ عشرين قرن؟". فالالتماس الناشئ يرنو لتدشين مسيحولوجيا شاهدة على "سرّ مانح للحياة"، الذي يوفّر معيارا للفعل، بصفة كل مسيحولوجيا أصيلة تتأسس على السُنّة العملية للمسيح. ومن بين رواد ذلك التوجّه نذكر: آلويسيوس بياريس وتيسا بالاسوريا، وهما لاهوتيان من السنغال، وجورج سواريس-برابهو، وهو لاهوتي هندي رحل أخيرا، وكذلك أيضا لاهوت المنيونغ الكوري-minjung theology-، المقترح من طرف دافيد سوح.
ومما يميّز المسيحولوجيا الآسيوية عن نظيرتها في أمريكا اللاّتينية إيلاء اهتمام أوفر للحوار بين الأديان، يُفسح فيه المجال للتراث الرّوحي للتقاليد غير المسيحية، والذي يمكن أن يتم الانزلاق بموجبه باتجاه اختزال يسوع المسيح في مجرّد رقم للسرّ المطلق الذي لا ينتهي، والذي يتجلّى عبر ألف اسم للخلاص. كما نجد إلحاحا على ضرورة الخروج من المسيحية الاستعمارية، المثقلة بمركزيتها الأوروبية، بصفته مطلبا مشروعا. جرى التأكيد على ذلك خصوصا في إفريقيا، مع الكاثوليكي جون مارك إلال ومع الأنجليكاني جون امبيتي، كما يعتبر انبعاث "المجلة الإفريقية للاّهوت" -Revue africaine de théologie- بكنشاسا في الكونغو، موحيا في ذلك الشأن. يبقى المسار مفتوحا حيث يلح النّداء من أجل الحياة، كما تؤكّد الوثيقة الختامية لتجمّع نيروبي، على ضرورة بذل جهود أوفر لتحويل الواقع، حتى تزهر كلّ حياة. فقد دعا تجمّع مانيلا اللاّهوتيين للتيقّظ لمواجهة سياقات العولمة الاقتصادية التي تسير باتجاه مصالح الاقتصاديات القوية، وما تستبطنه من مخاطر على البيئة، وما تمليه من ضغوط على الثقافات الأهلية.
يتوسّع حقل انشغالات لاهوت أمريكا اللاّتينية وإفريقيا وآسيا، فكلما رشد الوعي بالإيمان بالمسيحية في العالم الثالث واشتد عوده، سار دائما باتجاه الاستقلال عن أوروبا، ونحو فك ارتباطاته بالأنماط النظرية والعملية غير المحلية. بالتالي، يعرض بشكل جلي مسألة المشترك العالمي، حول وحدة الإيمان والرسالة، مع الوقائع التاريخية الأخرى للمسيحية، وعلى مستوى التحدي المتنامي جراء العولمة الثقافية. فمما هو مفترض أن تلك التحدّيات ستشغل أعمال الكنائس خلال السنوات المقبلة.
ثالثاً- تحدّيات الشرق: الأرثوذكسية والحوار مع الأديان الكبرى
يعتبر الشرق المهد الرّوحي للمسيحيين، فمنه وفدت رسالة الإيمان بابن الله المتجسّد المصلوب والمبعوث، نحو العالم الإغريقي اللاّتيني، ثم باتجاه العالم أجمع. لكن الشّرق الأوروبي يبقى بحق المكان الأساسي للمسيحيّة الشّرقية، وبالأساس للأرثوذكسية، فالشرق الآسيوي مهد الأديان الكبرى وفضاء انتشارها، تلتقي فيه المسيحية مع اليهودية، التي تعدّ الجذر المقدّس للكنيسة (أنظر العهد الجديد، الرسالة إلى أهل روما11: 18)، عبر الأرض المقدّسة لدى الآباء والملوك والأنبياء؛ وتلتقي مع الإسلام، الناشئ في الجزيرة العربية، الذي لا يخلو من تواصل مع التراث اليهودي-المسيحي، وما يتطلّع إليه منذ ظهوره نحو دعوة عالمية؛ كما تلتقي المسيحية مع أديان الهند، كالهندوسية، والبوذية المنتشرة خارج حدود شبه القارة الهندية، أساسا في الصّين واليابان؛ ومع الطّاوية والكنفشيوسية والشنتاوية، الحاضرة على مدى تاريخ ممتدّ لآلاف السّنين في تلك الثّقافات. يبدو التحدّي الوافد، مع تلك التجارب الدّينية، للهويّة والرّسالة المسيحيّة متنوّعا ومركّبا، يتمحور في ثلاثة فضاءات كبرى: منه ما يعود للشّرق المسيحي، بكافة خصوصياته ومخزوناته ذات التأثير على مجمل العالم المسيحي. وذلك المتعلّق باليهوديّة، أين يعترف الإيمان المسيحي بالشّهادة الحيّة لشعب العهد التي لم تنقضي مع إله الآباء. وذلك العائد للأديان الأخرى، بشكل يختلف فيه الاتصال عن لاهوت المؤمنين بالمسيح وممارساتهم.
يظهر السّياق التاريخي الثّقافي للمسيحيّة الأرثوذكسية في أوروبا، في العقدين الأخيرين، شديد الشبه بمابعد الحداثة الأوروبية، تتخلّله أزمات هويّة مماثلة وسياقات مشابهة من التفكّك، متولّدة عن التجربة الشّمولية السوفياتية مباشرة وعن ظواهر اليقظة الدّينية المتضاربة والواعدة في نفس الوقت. وتتأسّس العلاقة مع اليهودية داخل سياقات مختلفة، أين يلاقي المسيحيّون "إخوتهم الكبار"، الذين يحوزون دلالة مميزة في صلتهم بأرض الآباء والأنبياء ويسوع، والتي لا تزال للأسف مصدرا لتوترات حادّة، مرتبطة بصعوبة تفعيل مسار السلام بين دولة إسرائيل والفلسطينيين. الحالة الاجتماعية الثقافية للشّرق الأقصى والهند مرتبطة من جانب بتواصل الثقافات التقليدية، ومن جانب آخر بما يسمّى بسياقات التحديث، المستوحاة بشكل كبير، إن لم نقل منفعلة، بالنموذج الغربي. فحضور الخاصيات الدّينية في تلك الثّقافات معطى واقعي، برغم ما نشطت من حملات دعاية إلحادية منظّمة على مدى عقود، كما الشأن في الصين الشيوعية، التي تبدو اليوم فاسحة المجال لتسامح مصلحي وغامض. فاليقظة الدّينية التي تلاحظ في تلك البلدان، والتي تمثل ردّة فعل على عنف بعض الظواهر، مثل الثّورة الثّقافية، التي أقرّ بتراجيديتها وبربريتها ممثّلون حاليون لنهج الاشتراكية الصّينية، تشكّل تحدّيا كبيرا ليس للمسيحيّة فقط، بل لكلّ الدّيانات العالمية الكبرى.
أ-الأورينتال لومن: الأرثوذكسية
أعلن يوحنّا بولس الثاني سنة 1995 رسالة - Oriental lumen-، التي ثمّن فيها قيمة الكنائس الشرقية في العالم المسيحي، بما توفّره من إسهامات جليلة يمكن تلخيصها في العناصر التالية: المعنى العميق والعناية بالتقليد، بصفتهما نقل حيّ لرحمة الوحي في الكنيسة تحت الفعل الأمين والثابت للرّوح القدس؛ مركزية اللّيتورجيا لديها، المستوحاة من السرّ المعلن في كلمة الرب والنّابعة من السرّ المعيش في شهادة الإيمان والرّحمة؛ الحساسية الرّوحية الكبرى، التي صار لأجلها الإنسان الإلهي الفراقليط الألوهي الخفي بشكل دائم في الغرب، والذي بقي في قلب التأمل اللاّهوتي والتجربة الرّوحية؛ شهادة الرّهبنة والموقف البسيط للفكر والفعل الإيمانيين. تمثل هذه الثوابت الأوجه الأكثر تعبيرا عن حياة الكنائس الأرثوذكسية في القرن العشرين، وإن صاحبتها تحوّلات عميقة ذات خاصيات تاريخية سياسية، أفرزت حالات مستجدّة كلّيا للإيمان والتأمّل في الأرثوذكسية، في أوروبا الشرقية. فقد سحبت ثورة أكتوبر -1917- الكنيسةَ الرّوسيةَ إلى موضع خلفي افتقدت جرّاءه السلطة وشهدت أثناءه اضطهادا مستمرا، تواصل حتى سنة 1989، حين دفعت بها وبالكنائس الأخرى المستقلّة، تحوّلات الواقع السياسي الاجتماعي في بلدان شرق أوروبا، للمساهمة في الانبعاث الخلقي والرّوحي لشعوبها. مع كلي الحالتين، طرح مطلب الهويّة والرّسالة الأرثوذكسية صياغة جديدة للاهوت تلك الكنائس وأنشطتها. بالإضافة، فقد فرضت حالة الشتات، التي أعقبت ثورة أكتوبر، على عديد المؤمنين الأرثوذكس لقاء لا عهدة لهم به، وبشكل موسّع ومثمر مع الثقافة الغربية، فأفرز من ناحية، ظهور مراكز جديدة للفكر اللاّهوتي، مثل معهد سان سرجيو بباريس ومعهد سان فلاديميرو بنيورك، ومن ناحية أخرى ساهم في تطوّر الحوار المسكوني الحديث، الذي شاركت فيه الأرثوذكسية بحيوية وروح نقدية. لقد وجدت التحدّيات أجوبة لها في عديد الاجتهادات الفكرية والصياغات اللاّهوتية المغايرة: فالحاجة لتثبيت الهوية الأرثوذكسية، بعيدا عن الأنظمة السلطوية التي تبدو حارسة ومحدّدة لها من خارج، قادت إلى إعادة اكتشاف تراث آباء الكنيسة. وقد كانت للطروحات المستجدّة، دعائم متجذّرة في التّراث، يفي فيها اللاّهوت للهويّة المسيحيّة وينفتح أيضا على الوساطة الثقافية للفلسفة الإغريقية، التي تواصل ترك بصماتها على الثقافة الأوروبية، وهو ما تم مع مجموعة ج. فلورفسكيج. في مقابل هذه الاستعادة للهلينية المسيحية، فضّل آخرون حوارا أكثر حيوية مع الفكر الحديث، خصوصا ما له صلة بالمثالية الألمانية، مع الحرص على عدم التخلي عن التراث الكتابي الواسع للآباء، وهو ما تم مع س. بلغاكوف ومع ن. برداياف ومع ب. فلورنسكيج. في حين سعى آخرون للاستعادة الخلاّقة للهوية الأرثوذكسية على أساس لاهوت صوفي وأيقوني، مثلما كان مع ف. لوسكي، ومع ب. إفدوكيموف، وفي القريب الرّاهن أيضا من خلال محاورة فكر م. هايدغر، و ك. ينّاراس. لقد دفعت سياقات التحوّل الجارية إلى تأمّل جوهري، سواء عبر تقييم الأصول العقدية للكنيسة المحلّية، كما تم مع ن. أفاناسياف، وفي جانب أيضا مع ج. مياندورف، أو كذلك بإعادة عرض الأصول الكونية للتّناول، المتجذّرة في التقليد والمعبّر عنها في صورة الأسقف، مثلما الحال مع جان زيزيولاس. لم يغب أيضا موقف شائع من المحافظة، خصوصا في الأرثوذكسية التي لم تعش تجربة مباشرة مع الأنظمة الشيوعية، كما الشأن في اليونان، حيث بقي اللاّهوت الأكاديمي مرتبطا بأنماط الأرثوذكسية المدرسية.
مع العقود الأخيرة من القرن العشرين، وجدت الأرثوذكسية نفسها أمام اختبار عميق لهويتها ورسالتها، ليس فقط في صلتها بالتحوّلات التاريخية المشار إليها، ولكن أيضا تحت دفع الحوار المسكوني، يمكن الإشارة لمساهمات هـ. آليفيزاتوس و ن. نيسّيوتيس. إذ كشفت البنية المتأسّسة على استقلالية الكنائس المحلّية عن نقاط ضعف داخلها، حيث تعرضت تجمّعات المؤمنين لإكراهات السّلط السياسية وتبدّلاتها. ذلك أن التحضير للمجمع الأرثوذكسي العام منذ مدّة، والذي لم ينعقد بعد، يكشف عمق الأسئلة المطروحة وأهميتها في هذا الاتجاه، لغرض إجلاء عناصر الوحدة، خصوصا اللّيتورجية منها والروحية، وفي جانب آخر الثقافية، التي تربط بين الكنائس ذات التقليد الشرقي. فالتوتّر بين المحلّي والعولمي يمس الأرثوذكسية أيضا، بشكل يجعل التطوّرات المستقبلية للتفكير والعمل، كما تهز الداخل، تمس الحوار المسكوني مع التقاليد المسيحية الأخرى ومع العوالم الدّينية غير المسيحية أيضا.
ب- العلاقة بين إسرائيل والكنيسة
وَجَدت اليهودية في أيامنا، بعد ما يقارب الألفي سنة، في الشرق الأوسط، في الأرض التي وُعِد بها الآباء، فرصة للتعبير بتنوّع عن خاصياتها. فبسبب هذا المستجد الجوهري، إضافة إلى الحافز التراجيدي للتأمل في أحداث المحرقة-shoah-، تلك الكارثة المهولة التي دفعت بعمق للتساؤل عن الصّلة بين الإله التوراتي وآلام أبنائه، والتي فتحت حساسية جديدة تتعلّق بمسؤولية المسيحيين عن اللاّسامية. صارت العلاقة بين إسرائيل والكنيسة خلال العقود الأخيرة موضوعا لتأمّلات لاهوتية عميقة، تقاطعت مع أحداث تاريخية ذات شأن، مثل زيارة يوحنا بولس الثاني لبيعة روما، في 13 من أفريل 1986، والاعتراف بدولة إسرائيل من طرف الكرسي الرّسولي سنة 1993. وعلى أطروحة "القيام مقام"، التي تحقّق الكنيسة بفضلها على الوجه التام، ما كان لإسرائيل ضمنيا، من دور في السياق الإلهي للخلاص، كان الاعتماد على أطروحة "وحدة العهد"، التي لا يستوجب الاختيارُ الحتمي فيها الانفصام بين العهدين، القديم منه والجديد. فالفتنة التي حدثت بين الكنيسة وإسرائيل، بسبب الأحداث اللاّسامية في تاريخ الغرب، لا تتّفق مع المراد الإلهي. وعلى كلي الأمّتين السّعي باتجاه التوحّد الثنائي بموجب وحدة النّداء الإلهي: فإسرائيل كـ"الجذر"، شاهد ثابت على سرّ الاختيار الذي يفصل ويقدّس، والكنيسة شجرة، أغصانها تمتدّ في الزّمان والمكان. فيكون يسوع المسيح بحسب هذا الطرح اللاّهوتي، الصلّة الرّابطة بين الأمتين، فهو خلاصة عبر آلامه، لتاريخ عذابات الشّعب المختار، فهو قائم في بعثه، لأجل إتمام رسالة الخلاص الكوني. إنه توراة متجسّدة، كما كتب ج. سكونفيلد، فيه معنى الشريعة الأعمق الذي صار شفّافا للأمم: فالعيش بين يدي الله متجل في صورته. وهذا التماثل العميق بين الكنيسة وإسرائيل ينبغي ألاّ يخفي عناصر الاختلاف بينهما، كما لا ينبغي وعيه بشكل تمييزي، لكن عبر وفاء للهوية الرّوحية للأمّتين، كما شرح اليهودي جرشيم شولام ذلك بقوله: "ما لليهودية من حظوة في منتهى التاريخ، مثل اللّحظة التي تلتقي فيها الأحداث الخارجية، صار في المسيحية مركز التاريخ، متلخّصا في ما سمي بتاريخ الخلاص". يتعلق الأمر إذن بإدراك موحّد لاقتصاد الخلاص الموزّع بين العهدين القديم والجديد، والذي يبقى متميّزا مع استبعاد أي تضاد بينهما، كما يستدعي منطق "القيام مقام" وما يتطلّبه من تكامل، ينير من خلاله العهد الجديد بنور مستجدّ العهدَ القديمَ، كما أن هذا الأخير يعدّ ضروريا لفهم الجديد. فالعهد الذي قطع مع إسرائيل يحفظ قيمتها في تاريخ الخلاص، وهو ليس تهديدا أو إفراغا، بل إغناء ضروريا للكنيسة التي تعترف فيها بأصلها المقدّس الذي تستند إليه، سواء في حاضرها الرّاهن، أو في تبلور هويتها الرّوحية الأكثر عمقا. بالتالي، ودون نسخ القديم، يبقى العهد الجديد عطيّة راهنة فائضة، بمعنى متجلّية عبر يسوع المسيح. والتحدّي الذي يبقى قائما، يتعلّق بترسيخ الوعي بوحدة الصلات التاريخية بين المسيحيين واليهود عبر مفهوم التّمايز والتماثل، عن طريق حوار التآلف والتعاون، والذي، داخل تنوع السّياقات التاريخية الثقافية، يمكن أن يقدّم شهادة مشتركة على غنى التراث الكتابي اليهودي المسيحي بما يوفّره لكافة النّاس. والاعتراف الصادق والعميق، بالأخطاء المقترفة من المسيحيين ضدّ إسرائيل عبر التاريخ، تمثّل لكلّ منهما شرطا صحّيا للتجدّد والنّماء، قادرا على تثبيت الكنيسة داخل مقاصد ومساعي اليهودي يسوع الناصري، المسيا الذي جاء للمّ شمل إسرائيل. دون إلغاء ذلك الحلف الأبدي الذي ضرب مع الآباء، والذي يبقى معناه نافذا في مفهوم الخلاص، المنطلق بالجميع نحو زمن المصالحة الأخير، نحو "شالوم" الكوني، القائم بحضور إله الكل في الكل (أنظر العهد الجديد، رسالة بولس إلى أهل رومية: الإصحاحات 9-11).
ج-تحدّيات الدّيانات الأخرى: الإسلام وأديان الهند والشّرق الأقصى
ترد على المسيحية من الهند والشّرق الأقصى تحدّيات تمثّلها الدّيانات التاريخية الكبرى بآسيا، وذلك بسبب ظواهر الهجرة المتنامية نحو الغرب، خصوصا في العقود الأخيرة، وأيضا لتقلّص المسافات، جرّاء آثار العولمة. فما عادت العوالم الدّينية، للهندوسية والبوذية والطاوية والكنفشيوسية والشنتاوية اليوم، تمثل حضورا نائيا للمسيحيين، بل نجدها تسائل هويتهم ورسالتهم بشكل مباشر. يمكن قول نفس الشيء عن الإسلام، فبراديكالية وحدانيته وأصولية مبادئه، يستوقف الإيمان والشهادة المسيحية أيضا. لذلك انطلق في السّنوات الأخيرة تحت إلحاح هذه المقتضيات جدل حول "لاهوت الأديان"، والتساؤل بحد ذاته يتعلّق بتفرّد المسيح بنهج الخلاص، أم تمثّل الأديان الأخرى طرقا مضاهية للمسيحية لولوج سرّ الألوهية وبذلك تشكّل تجارب خلاصية هي أيضا؟ وإذا ما كانت الإجابة بالإيجاب، فما الهدف من حمل الرّسالة وإعلان البشارة بين الأمم؟ وإذا ما كانت بالنّفي، فأي معنى للحوار بين الأديان وما مصداقيته، وما الثراء الرّوحي المتبادل، وهل هو ممكن حقا بين عوالم دينية متباينة؟ البحث اللاّهوتي الجاري حول تلك التساؤلات، والذي يجد مساندة معنوية أيضا من أنشطة مختلفة، مثل ملتقى أسّيسي للأديان من أجل السّلام في 1986، يتحرّك بين حدّين: من جانب، نجد الطروحات الاحتكارية، والتي بموجبها "ألاّ خلاص خارج الكنيسة"، ويمثل كارل بارث النّقطة المرجعية العليا لهذا الموقف في القرن العشرين؛ ومن جانب آخر، نجد الطروحات التعدّدية ذات الطّابع النّسبي، التي بموجبها لا تحوز المسيحية هيئة الدّين الوحيد المطلق، لأن الألوهية لها مسمّيات عدّة ولا تنحصر فقط في اللّقيا بيسوع المسيح، وهو ما تعرضه مثلا أطروحات ج. هيك البرسبيتارياني. فبشكل إيجابي، يؤكّد الموقف التعدّدي على أن ليس للأديان قيمة استيعاضية فحسب، بل تشكّل إجابات إنسانية مغايرة على سرّ الألوهية الأوحد، بحسب نموذج تأويلي للخلاص يلغي مركزية المسيح ليستبدلها بمركزية الألوهية، مثلما يقترح ب. كنيتر، الكاثوليكي. كما تعترف مواقف عدّة بيسوع مسيحاً، وترفض قبول كون مجمل المسيح متضمّن فيه، فتصير فكرة المسيح بهذا الشكل نوعا من الصّياغة اللاّهوتية الخلاصية الكونية، التي لا يقدّم الوحي المسيحي سوى نموذجا منها، لعله الأكثر سموا، كما يقترح الكاثوليكي من أصل هندي ر. بنيكّار. ولدعم هذه الأطروحات، تم إيجاد أسس هرمنوطيقية، استنادا على ما لوحظ في الفكر الآسيوي، وأساسا الهندي، من تأسّس على رحابة الهوية، التي يمكن التعبير عنها داخل تعدّدية الأشكال الواقعية.
يمكن أن يكون أثر تجاوز اللّغة اللاّهوتية الواحدية مستندا لنفس غنوص الألوهية في المسيح، من خلال تقبّل التصوّرات الأخرى للوحي التاريخي، المماثلة للتصوّر الإنجيلي التوراتي، كتلك العائدة للتقاليد الدّينية الهندية. وبشأن هذا الطرح التأويلي وأهمّيته اللاّهوتية، يمكن متابعة مواقف اللاّهوتي الهندي ف. ولفراد. وإن بدت الأطروحات الاحتكارية اليوم قد هُجِرت، باستثناء بعض التجمّعات التّمامية أو الكتّاب الأصوليين، فإن المفهوم التعدّدي يبقى مرفوضا لدى الكثير، لأنه يُفرِغ الوحي التاريخي والحاجة للتبشير من محتوياتهما، تجلو تلك الأطروحات بشكل ما عبر رسالة -Redemptoris missio- ليوحنا بولس الثاني سنة 1990، وكذلك عبر وثيقة اللّجنة اللاّهوتية العالمية خلال 1996 المعنونة بـ"المسيحية والأديان"، التي تؤكّد على واحدية الوساطة عبر يسوع المسيح، وعلى كونية فعل الرّوح، وعلى الكنيسة كهيكل قداسي للخلاص، لأجل الاعتراف بالقيمة الخلاصية التي يمكن أن تحويها الأديان الكبرى. هكذا يرتسم بحث تأويل العلاقة بين المسيحية والأديان تحت شارة الاحتكارية، من خلال المحافظة على وجوب حضور المسيح وواسطيته، كما تؤخذ مأخذ اليقين أطروحة الخلاص الكونية. من هنا كان التفرّع لعديد الاتجاهات التأويلية، فمع البعض تحوي المسيحية قيم الأديان الأخرى، التي تمثل علامات ترقّب أكثر من كونها وساطات خلاصية، وهو ما نجده مع ج دانيلو، ومع هـ. دي لوباك، ومع هـ. أ. فون بالتزار؛ في حين مع آخرين فهناك اعتراف بشيء من القدسية للأديان الأخرى، كما الشأن مع ي. كنغار ومع أ. شلبيكس؛ ومع شق آخر، جرى التمييز بين التاريخ العام والتاريخ الخاص للخلاص، فعلى ذلك الأساس تكون وساطة التعالي للأديان، التي تحقّقت في المسيحية فقط، كما يذهب لذلك ك. راهنر وأيضا هـ.ر. شليتي.
ونتيجة للتحوّل الحادث في اللاّهوت المسيحي بسبب ممارسة الحوار مع الأديان العالمية الكبرى، يبدو التأمل اللاّهوتي في الأديان حقل بحث مشرعا ولا يخلو من مصاعب، مما يترتّب على نتائج العلاقة بين إعلان الرسالة والحوار مع العوالم الثقافية والرّوحية المغايرة للمسيحية.
رابعاً- مسارات العولمة: التحدّيات والسياقات نحو الوحدة
إذا ما كانت الظّواهر المحلّية المعالجة حتى الآن، قد خلّفت أثرا على مسيحية منتهى القرن العشرين، فبالمثل نجد تأثيرا متأت مما هو سائد على المستوى العالمي متجلّ في العولمة: فالسياق له طابع اقتصادي سياسي، ويرتبط بمصالح الوكالات الكبرى الناشطة على مستوى كوني، كما يقدِّم أيضا أوجها اجتماعية وثقافية، دافعة نحو سلوكات محدّدة، وموجّهة للرغبات والتطلّعات الجماعية والفردية باتجاه مظاهر استهلاك وأشكال تقبّل معيّنة، مسايرة للاستثمارات. ذلك أن تحوُّل الكوكب إلى قرية كونية، جرّاء التطور في عالم الاتصالات، قد أثّر أيضا على المجال الدّيني والرّوحي. فقد شاعت ظواهر مستجدة مثل ما عرف بالعصر الجديد - New Age- أو "عصر الدلو"، خصوصا في ثقافة شمال أمريكا وجنوبها، وكذلك في فضاءات أخرى، أين تلعب أنواع من الغنوص دورا في تسريع انتاج تلك التحوّلات والإجابة عنها، والتي تجد فيها الثّقافات الهامشية عزاء نفسيا وسلوى، بما يناسب بشكل جيد تطلّعات الوكالات الاقتصادية والسياسية الكبرى المهيمنة على العالم. لهذا السبب يبدو لازما جرد التحدّيات الكبرى المطروحة التي أفرزتها سياقات العولمة، وسبل المسيحية في ذلك للمساهمة في بناء علاقات تفضي بالإنسانية لتشييد أوضاع عادلة، بما يلائم مشروع الخلاص الإلهي، الموحى بتمامه عبر يسوع المسيح.
- تحدّيات العولمة: البيئة والعدالة والأخلاق
تربط شبكة العلاقات التي يتواجد الإنسان ضمنها، عبر السياق المتنامي للعولمة، ثلاث دوائر ذات مركز موحّد. تتعلّق الأولى بسعة المجال الكوني الطبيعي، والثانية بمجموع العلاقات التاريخية، والثالثة بالوعي الفردي. الدّوائر الثلاث متصلة ببعضها البعض، فمن مستلزمات الأولى أن تتموضع تحت مسؤولية وتصرف الثالثة، التي لا يمكن أن تتم دون وصل الموضوع بغيره من المواضيع التاريخية الأخرى. زيادة، فالعولمة وبشكل فاعل هي التي تحفز التبادل العالمي المتواصل بين مختلف الدّوائر العلائقية، بما تدفع به الفرد وباستمرار للإحساس بكونه جزء من كلّ، مولِّية إياه باستمرار شطر الحشد، نموذج القرية الكونية. فبهذا الشكل تتجلّى التحدّيات الثلاثة المتمثّلة في: البيئة والعدالة والأخلاق، التي تستدعي الإنسانية مجتمعة، والدّول مستقلّة، والأفراد على حدة، لمواجهتها في ظل تصاعد سياق العولمة.
تحضر المشكلة البيئية اليوم في قلب عديد التنديدات والتحذيرات، بسبب اختلال التوازن الطبيعي جرّاء التحوّلات المتسارعة الناتجة عن السلوك الإنساني. تحولات كانت تحدث سابقا على مدار ملايين السنين، صارت اليوم، بفعل اللاّتوازن، تنجز خلال عشرات السنين، مما جعل نتائج التبدلات على التوازن البشري والاجتماعي تتوافق مع تسريع ملايين السنين من التاريخ... والحال أن الأزمنة البيولوجية والأزمنة التاريخية تتابعان نسقين مختلفين. لقد تجلت نتائج هذا الاختلال في الآثار المدمّرة للتّدهور البيئي وفي التحوّل الطاقوي، وهي عوامل تحدّ بجلاء من فرص التطوّر. فالتنامي الشامل للـ Homo sapiens يظهر غير متناسب مع المحافظة على النظام البيئي، وكأن ذلك التهديد بمثابة ثأر للزمن البيولوجي من الزمن التاريخي. قاد البحث عن مسبّبات الأزمة لإجلاء مدى خضوع العقليات للسلوكات في التعامل مع الطبيعة، كما لم يخف أيضا من رأى في الانتهاك الممارس على الأنساق الطبيعية انه ناتج عن العبث بالمركزية الإنسانية في التوراة والإنجيل، المبشر بها من طرف المسيحية. في نفس الوقت، دفعت هذه الإثارة لإعادة اكتشاف البعد البيئي للإيمان المسيحي، المتجلي عبر عديد الشهادات التاريخية، كما الشأن في سفر التكوين في الإصحاح2: 15، وأين يعرب بمنظور إيجابي عن السيطرة الموكل بها للإنسان في الإصحاح1: 28. وقد تجلّى التأكيد على هذه المسؤولية والتنبيه لأهمية هذه الرّوحية البيئية من خلال تجمّع الكنائس الأوروبية في بازيليا سنة 1989، وكذلك مع انعقاد الملتقى المسكوني العالمي في سيول سنة 1990، حين جرت معالجة مسائل العدالة والسّلم والمحافظة على الخليقة، وكذلك عبر التجمّع السابع للمجلس العالمي للكنائس الذي انعقد في كانبيرا سنة 1991، والذي انشغل بموضوع "تجديد مجمل الخليقة". وليست المساهمات اللاّهوتية المتعلّقة بلاهوت الخلق قليلة هي أيضا، بما مهّدت له لهذه اليقظة، نذكر من بينها العائدة لـ ب. جيزال و ج. مولتمان من بين الإنجيليين، أو لـ ج.ل. رويز دي لا بينا و أ. غانوكزي بين الكاثوليكيين.
تظهر المسألة الاجتماعية مع العقدين الأخيرين من القرن المنصرم حافلة بشتى الإشكاليات، فمن الجلي أن العدالة في بلد ما تخضع أساسا لحالات الارتهان الاقتصادي والسياسي التي تتواجد فيها، حيث يحضر النّظام الاقتصادي العالمي دائما الإطار المرجعي الذي يتيسّر تحقيق التحوّلات المصيرية بداخله، ليس لطبقات وتجمّعات بشرية فحسب، بل لشعوب بأسرها، كما يتجلّى مع مسألة الدّيون العالمية. ومن ناحية أخرى، فإن تواري نظام تقاسم العالم بين كتلتين إيديولوجيتين متضادتين لم ينه استغلال البلدان الأكثر فقرا على البسيطة. بالتالي مما هو طبيعي الخشية من تمركز السّلطة السياسية العالمية بين يدي الجبار الأمريكي، فيحدث ضررا أكثر هولا. لأن التحرك لمواجهة الحالات بشكل متفرّد، يمكن أن يسوَّى بالمعيار الذي يلائم الأقوى، وعلى سبيل الذكر مثلا، اختلاف أشكال ووسائل التدخّل لتسوية الحالة الكويتية الغنيّة ونظيرتها البوسنية الفقيرة جلي في ذلك. ففي هذا الإطار، ينبغي ألاّ ينسي إنهيار الإيديولوجيات، التي أثارت تطلّعات الطبقات المضطَهدة والشعوب المستغَلّة، الاحتياجات المشروعة لهؤلاء الذين "لا صوت لهم". لذا يبدو معبرا على المستوى التمثيلي العالي تدخل الكنيسة الكاثوليكية الذي لا لبس فيه، على الشكل الذي عرضت به المسألة الاجتماعية، سواء عبر - Sollicitudo rei socialis - لسنة 1988 أو كذلك عبر - Centsimus annus- خلال سنة 1991، اللذين شكّلا تأمّلا شاملا في التغيّرات الحادثة خلال العقود الأخيرة للقرن السالف على المستوى العالمي، وبالمثل التنديد بالنظام الجائر الذي يسيّر العلاقات، خصوصا بين شمال العالم وجنوبه، مرتئية ضرورة نحت نهج اقتصادي سياسي يتجاوز أنماط فشل الاشتراكية، ويتجاوز بالمثل الأنانية العمياء للرأسمالية المطلقة الاحتكارية. لقد بدت المساهمات النقدية المقترحة من طرف لاهوت التحرّر، في مختلف السياقات، جادة لمواجهة الخيارات الكونية بغرض تجنب آثارها على الوقائع التاريخية العينية.
وفي النهاية نجد التحدي الخلقي يستوقف الإيمان العملي للمسيحيين في زمن العولمة، فإذا كانت أزمة اللاّهوت قد خلفت في الغرب خصوصا، خواء في فاعلية السلوكات من حيث ارتباطاتها العلوية، فإن قوّة التطوّر العلمي الحديث وعنفه فرَضا على المجال الكوني مشاكل خلقية لازالت حتى الآن خفية، فيما يتعلق باحترام الحياة البشرية في كافة أطوارها، من الأمور الجينية إلى مسائل الإجهاض، إلى تلك التي تمسّ الجوانب الخلقية في حقل التدخّل الطبّي، إلى غيرها مما يتعلّق بالقتل الرّحيم. أيضا، تحضر هنا مستجدّات العقود الأخيرة، مع أوكد وأوسع المشاكل المطروحة في شتى أصقاع الدنيا، ومن ناحية أخرى تحضر نسبية الحلول المقدّمة، المرتبطة بتوحيد مراكز السّلطة العلمية والاقتصادية والسياسية التي تهيمن على الكون. فحتى تيقّظ الرأي العام نفسه، فقد تم التحكّم به وتوجيهه، من طرف الوكالات الدّولية المتعاونة أو المسيَّرة مباشرة من طرف من يوجِّه الخيارات في حقول البحث والإنتاج. فإذا ما تم تفعيل حوار خلقي، يراجع الصلات بين الأخلاق والسياسة، والأخلاق والاقتصاد، والأخلاق والعلم، وإذا ما صارت الحياوة الخلقية "bioetica" تخصّصا مركزيا في الفكر اللاّهوتي الخلقي -مثلا في إيطاليا يمكن الإشارة إلى أ. بوبياني، أ. سغريشيا، أ. سبنسانتي، د. تيتامانزي-، فليس هناك شكّ كون السّؤال الرّئيسي متعلّق بأسس الأخلاق وصياغتها، وهو هل يوجد معيار مطلق وموضوعي على أساسه يتيسّر تمييز ما هو خير وما هو شرّ؟ وهل يكفي الوفاق لتأسيس سلوكات أخلاقية مقبولة وغير مغتربة على المدى الطويل بالنسبة للوجود الإنساني الفردي منه والجماعي؟ وإذا ما كان موجودا كيف السبيل لبلوغه؟ وما هي الصلة الرابطة بينه وبين المرجع النهائي والمطلق، الذي يشار إليه هنا باسم الله، مصحوبا بوحيه التاريخي؟ وإذا كانت ما تسمى "الأخلاق المستقلّة" منشغلة بالبحث عن إجابة لتلك التسّاؤلات، داخل عقلانية الموضوع الإنساني، فإن الأخلاق العلوية تبحث خارج الذاتية عن أساس الأخلاق ومعيارها، ويتم ذلك ليس فقط عبر التفكير في التجربة الدّينية الكونية، ولكن خصوصا من خلال اقتراح كونية الخصوصي المسيحي للإله، المتمثّل في المحبّة، والتوازي الذي يحوزه في التعالي الذاتي للروح الإنساني. سوف تكون هذه الأسئلة التأسيسية في السنوات القادمة الأكثر أهمية للبحث عن حل المشاكل الطارئة، والتي تتطلّب أفاقا مرجعية غير اعتباطية.
د.عز الدين عناية : أستاذ بجامعة لاسابيينسا بروما