كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول مصطلحات استحوذت على النقاشات الفكرية العالمية من قبيل ؛ صراع الحضارات وحوار الثقافات والقيم الكونية والقرية العالمية والغزو الثقافي والهوية الثقافية والعولمة والإرهاب وغيرها من المصطلحات ، بحيث كثر الجدال واختلفت الآراء وتنوعت القضايا دون أن يؤول منها القارئ المتأمل إلى أية رؤية واضحة أو فهم سليم . ونحن ـ في هذه الورقة ـ نحب أن نقف عند مستويات من القراءة نحاول من خلالها أن نقارب هذا الموضوع ، وذلك انطلاقا من المداخل التالية :
1 ـ قراءة لغوية بلاغية :
إن ما أثار انتباهنا واستوقف نظرنا هو أن غالبية هذه المصطلحات يكتنفها الكثير من الخلط وعدم الدقة ، وتثير من مواطن الخلاف أكثر مما تقود إلى مظاهر الوفاق ، فإذا وقفنـا ـ مثلا ـ عند المصطلحين الأولين ( صراع ـ حوار) فإننا سنلاحظ أنهما يشتركان في الصيغة الصرفية . فصراع على وزن فعال (بكسر الفاء وفتح العين) ، وكذلك وزن حوار ، كما أن الصيغ المشتقة منهما لها نفس الوزن ، فحاور من حوار ومحاورة ، وصارع من صراع ومصارعة من أوزان : فاعل فعالا ومفاعلة . إن الملاحظ هو أن وزن فاعَل يدل على المشاركة بمعنى أنه يتطلب مشاركة فاعلين اثنين ، إذ لا يمكن أن ينجز هذا النوع من الفعل فاعل واحد . هكذا يقول علماء النحو . وإذا انتقلنا إلى علماء البلاغة أو المعجم فإننا سنجد المعنى يقودنا إلى نفس الدلالة ، ألا وهي أن الفعل حاور يتطلب مشاركة وتعاونا وتبادلا لدوري الحوار: المتكلم والمجيب ؛ بحيث يصبح المتكلم مستمعا والمستمع متكلما ، والمرسل متلقيا والمتلقي مرسلا ـ وهذا عادة ما يتم في الحوار العادي ـ هذا النوع من الحوار يتطلب الاعتراف بالآخر واحترام رأيه ومحاولة إقناعه بالحجة والبرهان ، إن أمكن ، وإلا احتفظ كل طرف من الأطراف برأيه دون أدنى مساس بالاحترام.
إذا توقفنا عند هذا المستوى لنتأمل الواقع الحالي ، فماذا نلاحظ ؟ هل تحقق في " الحوار" الحالي بين الحضارات تساو ؟ هل توفر فيه شرط الاحترام ؟ أو هل تم فيه توظيف آلية الإقناع بالحجة والبرهان ؟ باختصار هل تمت مراعاة خصائص الحوار وشروطه وأركانه ؟ هل ـ مثلا ـ تعترف الحضارة الغربية المعاصرة بنا نحن العرب والمسلمين ؟
مصطلح " صراع " بدوره يثير نقاشا يرتبط بطرفي المعادلة . هل يمكن مثلا اعتبار اعتداء القوي على الضعيف صراعا ؟ أم أن الصراع يتطلب قدرا من القوة يمتلكها الطرفان حتى يمكن تسميته صراعا . هل البطش صراع ؟ ـ مثلا ـ أمثلة كثيرة من الواقع الراهن تحتاج إلى إن تطرح بصددها أسئلة من هذا القبيل .
الحضارة :civilisation بدورها يعرفها المعجم الموسوعي الفرنسي بأنها مجموع المميزات caractèresالخاصة propres بالحياة الفكرية والفنية والأخلاقية والمادية لمجتمع من المجتمعات البشرية . أو بصيغة أخرى تمثل الحضارة كل ما ينتج عن نظرة شعب من الشعوب إلى الكون والحياة والإنسان ، ثم ما ينتج عن هذه النظرة في جل مناحي الحياة المادية والعملية .
أما الثقافة culture فيعرفها نفس المعجم بأنها مجموع البنيات structures الاقتصادية والدينية … التمظهرات manifestations الثقافية والفنية …التي تميز مجتمعا من المجتمعات . والـسؤال الذي يلح علينا في هذا السياق هو كيف يمكن الفصل بين الحضارة وبين الثقافة أو بصيغة أوضح : ما هو الفرق بين البنية الثقافية وبين الخصائص الثقافية ، أو بين البنية الأخلاقية وبين الخصائص الأخلاقية لمجتمع من المجتمعات على سبيل المثال ؟! وقل نفس الشيء بالنسبة لباقي المكونات .
2 ـ قراءة تاريخية :
أ ـ قديما :
عرف التاريخ البشري كل أشكال التفاعل بين الأمم والشعوب والحضارات والثقافات ، تمثلت في المثاقفة وتبادل السلع والمنتوجات ، كما تمثلت في التأثير والتأثر بل و في الصراعات والحروب ، بحيث إنه لم تستغن حضارة بشرية عن سابقاتها ولم تخل من التأثير في لاحقاتها.
نظرة علماء المسلمين للتفاعل بين الحضارات تنبني على أن الهدف من هذا الحوار هو السعي إلى إدراك الحقيقة سواء على لسان العالم أو على لسان محاوره دون فرق .
ب ـ راهنا:
يمكن الوقوف على بعض مظاهر التفاعل التالية :
ـ الاستعمار الغربي للعالم العربي والإسلامي يمثل أحد أبرز صور العلاقة السلبية بين الغرب وبين العالمين العربي الإسلامي في القرن العشرين .
ـ الحرب الإعلامية على الإسلام وعلى المسلمين الآن في الغرب .
ـ سعي الغرب في إطار ما يسمى بالملكية الفكرية إلى تسييج المعلومة في وجه أبناء الدول النامية ، وسعيه إلى احتكار المعرفة العلمية .
ـ ارتفاع نسبة الأمية في البلدان العربية والإسلامية مقابل رفاهية خارقة للغرب .
ـ القضية الفلسطينية والحرب ضد العراق … بعض مظاهر الظلم الغربي ...
ـ يلاحظ التردي الخطير في العلاقات الدولية بشكل ينذر بكوارث عالمية وتهدد البشرية ( خاصة أمام سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانفراد بالقرارات الدولية ومحاولتها تقزيم المنظمات والهيئات الدولية ذات الشأن).
ـ التطور المهول في وسائل الاتصال والإعلام .
ـ انتشار ما يمكن تسميته ب "الحرب الاصطلاحية " أو "حرب المصطلحات" .
ـ يهمنا هنا أن نورد نتائج دراسة إحصائية أنجزها المعهد الفرنسي لعلم الحربpolemologie بين سنتي 1470 و1974 حيث تم إحصاء نشوب 336 نزاعا مسلحا ، منها 114 حربا بين دول ، و174 حربا ضمن دولة واحدة ، و36 حربا بدأت ضمن دولة واحدة ثم تحولت إلى حرب بين دول في حين أن ( 3 ) ثلاث حروب منها وقعت بين دول ثم تحولت إلى نزاع ضمن دولة .
246 من هذه الحروب هي نزاعات حول الحدود أو لغرض اكتساب أراض جديدة والباقي نزاعات ذات أسباب وأهداف سياسية واقتصادية . (1).
على مستوى نظرة مفكري الغرب يهمنا أن نقف هنا عند أحد أبرز دعاة الصدام بين الحضارات ، نظرا لما له من تأثير بارز على صناع القرار في الإدارة الأمريكية ، وهو صمويل هنتنغتون (2).
يرى هذا المفكر الأمريكي قبل بضع سنوات أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت بحال جيدة إلى أن بدأ يدرك خطورة النمو الديمغرافي السريع في الدول غير الغربية ، الأمر الذي جعله يشك في أن يكون في إمكان الولايات المتحدة فرض سيطرتها على العالم ، إلا أنه يستدرك ليؤكد بأن القوة كفيلة بحماية مصالحها الحيوية بل وفي إعطائها القدرة على تحقيق التوازن الدولي .
وحول موقفه من الوضعية العالمية ، يرى أنه لا يمكن أن يبقى العالم في سلام ووئام إلا إذا كان الغرب ـ وعلى رأسه الولايات المتحدة ـ يحتفظ بسيطرته على العالم .
إن نظرته إلى طبيعة الصراع تجعله يرى أن القوتين الاقتصادية والعسكرية هما اللتان تفرضان التفوق والسيطرة . وبما أن القوة الاقتصادية لها أهمية قصوى في العلاقات الدولية فإنه يدعو الولايات المتحدة إلى المحافظة على تفوقها الاقتصادي حتى على الدول الحليفة والصديقة .
إن الولايات المتحدة في نظر هنتنغتون هي الناطق الرسمي باسم السلام العالمي وهي رمز الحريات ورمز الديمقراطية ، وهي الحامية لاقتصاديات السوق ، وبالتالي فإن تربع الولايات المتحدة الأمريكية على رأس القوتين الاقتصادية والعسكرية عالميا سيضمن الرخاء وترسيخ قيم الحرية والعدالة، علما بأن المصالح الأمريكية هي مصالح البشرية كما يقول ( فلاحظ) .
أما السياسة العالمية فينظر إليها صامويل هنتنغتون على أنها سعي إلى فرض سيطرة بعض الدول على البعض الآخر ، وهو ما تؤكده دراسات بعض الخبراء الصينيين الذين أكدوا على أن العلاقات بين البشر قديما وحديثا لم تتغير ، فالغني يحتقر الفقير والقوي يظلم الضعيف .
إلا أن نظرة هنتنغتون تخفي رغبة أمريكية في خلق عدو وهمي تسعى إلى الانتصار عليه حتى تبرر سعيها إلى حماية مصالحها ولو بالقوة ، في هذا السياق يؤكد هذا المفكر على أنه لتأكيد الهوية لا بد من وجود أعداء .
ويمكن أن نضيف بأنه وبعد الحرب العالمية الثانية ، شكل كل من القطبين : القطب الاشتراكي والقطب الرأسمالي بعضهم لبعض ذريعة وحجة يعلق عليها أخطاءه ومسؤولياته . لكنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم تجد الولايات المتحدة من تحمله تبعاتها ، فما كان منها إلا أن اعتبرت الإسلام ـ ومعه المسلمين ـ عدوا .
نظرية من هذا النوع ترى أنه حتى في حال حصول تفاهم بين الدول فإن كل واحدة ستسعى إلى الحصول على أكبر قدر من قطعة الحلوى لتضمن التفوق الاقتصادي وبالتالي العسكري . والسؤال المطروح هو : هل من الضروري أن تؤدي القوة الاقتصادية ـ إذا توفرت ـ إلى قوة عسكرية ؟ إن هنتنغتون يجيب على هذا السؤال بقوله : نعم .
3 ـ قراءة منهجية :
إذا كنا نتفق على أن العولمة شكل من أشكال التفاعل بين الأمم والشعوب والثقافات والحضارات ، فكيف يمكن الحديث عن الحوار العادل علما بأن العولمة هذه تشتغل وفق آليتين متناقضتين هما : التكامل والتفكيك ، التكامل الاقتصادي على مستوى دول المركز ، والتفكيك الثقافي على مستوى دول الأطراف ؟
ـ كيف يمكن الحديث عن الهوية في ظل العولمة علما بأنها تهدد ما يسمى بالنقاء العرقي ، وترسخ ما يمكن تسميته بالقيم الكونية العالمية ؟
إذا كانت العولمة تعمل وفق قواعد تزيد من غنى الغني وتزيد من فقر الفقير ، وإذا كانت ثقافة العولمة تتمظهر في الصور والأشكال التالية على أنها :
1 ـ ثقافة يصاحبها في الغالب خطاب تقني وعلمي .
2 ـ ثقافة نخبوية تأتي من الأعلى نحو الأسفل .
3 ـ ثقافة تعتمد على تركيز القوة بكل أشكالها ( القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية...) .
4 ـ ثقافة الاستهلاك ( تعمد إلى خلق حاجيات وهمية لدى المستهلك بتعاون مع قيم المجتمع الرأسمالي) .
5 ـ ثقافة تحمل تناقضات جوهرية في داخلها.
فإذا كانت هذه هي قيم العولمة فماذا يمكن القول إذا علمنا أن العولمة الاقتصادية هي المسيطرة على باقي أشكال العولمة ، والمتحكمة فيها ؟!
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، ما معنى الهوية ؟ ما خصائصها ؟ وما مميزاتها ؟ أي هوية سيتم الاعتماد في التحاور مع الآخر ؟ أهي هوية الدين أم هوية اللغة أم هوية العرق أم هوية الإقليم ؟ أم ماذا ؟!
كيف ينظر الغرب إلينا ؟
هذا السؤال يتطلب منا قراءة الواقع الحالي .
الحقيقة أن الغرب ـ الآن ـ ينطلق من" مسلمة " التفوق الكاسح علينا .
إنه يؤمن بتميزه وبالتالي فلا أثر للاحترام في قاموسه ـ هذا إذا استثنينا نسبة قليلة من المفكرين المنصفين في الغرب ـ بل يمكن القول بأنه لا يؤمن بالاختلاف حينما يتعلق الأمـر بالحضارة العربية الإسلامية . إن الغرب يرى أن ما وصل إليه يعتبر أرقى ما وصلت إليه الحضارة البشرية ( نموذج المفكر الأمريكي الجنسية الياباني الأصل : فرنسيس فوكو ياما ) وبالتالي فما على الآخرين إلا أن يأخذوا بأسباب " حضارته " رضوا أم كرهوا . فهل يتم ذلك بالإقناع والحجة والبرهان ؟
الواقع أنهم لا يتوانون عن استعمال القوة لفرض وجهة نظرهم أو لنقل : إنهم لا يتورعون عن توظيف الأسلحة : المعنوي منها والمادي لإقناعنا بوجهة نظرهم . وحينما يفرض الغرب نمط حياته وطريقة تفكيره على الشعوب المستضعفة التي هي نحن ، فما نوع " المادة " التي يقدمها لنا ؟
بلا شك ، هو لا يريد منا أن نأخذ منه ألا ما اختاره لنا دون ما يفيدنا ودون ما نختاره نحن ، ما يجعلنا تابعين لا مستقلين ، ما يجعلنا مستهلكين لا منتجين.
ثمة أسئلة تحتاج إلى أجوبة واضحة ـ وهي ـ : ألا يمارس الغرب نوعا من الاحتكار للمعرفة العلمية ؟ وإلا فما سر إلحاحه على التفرد بالتكنولوجيا الحيوية في مجالات العلوم الدقيقة ؟ ألم يحاول الغرب ـ وما زال يحاول ـ الاحتفاظ بتفوقه في كل المجالات والميادين من صناعة الأغذية المعدلة جينيا إلى الأسلحة الفائقة الدقة ، مرورا بالأجهزة الإلكترونية المتطورة ؟ فهل بعد هذا يمكن الحديث عن حوار بين الحضارات ؟
إذا كان الأمر بهذه الصورة ، فهل يتعلق الأمر إذن بصراع بين الحضارات ؟ الجواب : إن الصراع ـ انطلاقا من الشروح اللغوية ـ يشترط المساواة أو على الأقل التقارب في القوة ، كما يشترط المشاركة في الصراع . أما حينما يتعلق الأمر بطرف قوي قوة قاهرة ، وطرف يتلقى الضربة تلو الضربة ، طرف يمتلك كل مقومات الصراع ، وطرف لا يملك إمكانية أن يردّ بل حتى أن يفكر في الردّ ، فإن أنسب تعبير لذلك هو : ضرب ، قهر ، بطش … اختصارا كل الأفعال التي تدل في معناها على اللامساواة ، أما أن يتم توظيف لفظ يدل على المشاركة في عملية قنص يسدد فيها صياد بندقيته صوب عصفور يبحث عن طعام ، فهذا ما لا يقول به من لديه أدنى علم بمعنى المفردات .
إذا اتضح أن الأمر لا يتعلق لا بالحوار ولا بالصراع ، فلم تم التركيز على مصطلحين غير دقيقين في الواقع المعاصر؟ إن الجواب يحتم علينا الوقوف عند نقطتين محوريتين :
ـ النقطة الأولى هي أنه حينما نتحدث عن الحضارات ، يطرح السؤال التالي : عن أي الحضارات يتعلق الأمر ؟ هل الأمر يتعلق بالحضارة الغربية في مواجهة الحضارة العربية الإسلامية ؟ أم أن المسألة تشمل الحضارات الأخرى الصينية ـ الهندية ـ اليابانية ـ مثلا ؟ ما موقع هذه الحضارات في هذه العلاقة ؟ هل يتم النظر إليها على أنها مع أو ضد الحضارة الغربية ؟!
ـ النقطة الثانية يمكن صياغتها على شكل سؤال يقدم نفسه على الشكل التالي : كيف يمكن الحديث عن علاقة بين حضارتين ، حضارة لها امتداد في التاريخ ، وحضارة لها امتداد في التاريخ وأثر في الواقع الراهن ؟ الحضارة العربية الإسلامية حضارة الأجداد ، نحن ورثناها ، إننا لم نساهم في بنائها ، وبالتالي فنحن عاجزون عن فهمها واستيعابها ، ونحن أعجز عن الدفاع عنها .
فقد لا يختلف الكثير من الباحثين والمفكرين في أننا نحن عرب اليوم ومسلميه في موقع ضعف ، سواء تعلـق الأمر بحضارة الأجداد أو تعلق بحضارة الغرب ، وهنا يطرح السؤال بالصيغة التالية : هل نحن فعلا طرف في الصراع ـ إذا كان ثمة من صراع ـ ؟
في مقابل حضارة المسلمين التي لم يبق لها سوى وجود رمزي ، بحكم أنها لم تعد تساهم في ما يحدث من تطور في العالم ، نجد حضارة لها بعد تاريخي يمتد ليتصل باليونان ، وبعد واقعي يتمثل فيما حققه الغرب حاليا في كل المجالات والميادين .
فإذا كان الغرب يمتلك حضارة فنحن نمتلك تراثا ـ أو لنقل إرثا ـ عجزنا حتى الآن عن هضمه .
هنا يلح السؤال التالي على عقولنا وهو : إذا كان الأمر يتعلق بالحوار ، فهو حوار بين من ؟ وحوار حول ماذا ؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالصراع فهو صراع بين من ؟ وصراع من أجل ماذا ؟
إن القليل من التنبه يؤول بنا إلى ملاحظة أن مصطلح " صراع " يميل إليه مفكرو الغرب من منطلق مصالح لا تخفى على أحد ، إذ إن الرغبة في خلق "عدو وهمي" يهدد الحضارة الغربية ، لها مبررات تخدم مصالح طبقة رأسمالية معينة توظفها لتقنع الشعوب بأن في الأفق عدوا وخطرا يهددانها . لكن ما أثار ويثير الاهتمام هو : لماذا تم اختيار الحضارة الإسلامية تحديدا ليتم إقحامها في صراع وهمي ؟ فهل كان الإسلام في يوم من الأيام دينا يؤسس لحضارة الصراع والقمع ؟!
في الطرف الآخر نتساءل : لماذا تم توظيف مصطلح " حوار الحضارات " ـ علما بأن المفكرين العرب هم من تبنوه إلى حد كبيرـ ؟ لعل الرغبة هي في أنه يحمل في طياته رغبة دفينة في أن يتحقق هذا الاعتراف الذي ينطوي تحت لفظ " حوار" . لفظ حوار يخفي رغبة لا شعورية اصطدمت بالواقع لتنزوي إلى اللاشعور وتبرز كحلم لم يتحقق ولن يتحقق ـ على الأقل بالشروط الحالية وفي الظروف الراهنة ـ وأهل الشأن يعرفون ذلك جيدا .
إن العلاقة إذا كان يحكمها مقياس التفوق ـ أو مجرد الإحساس به ـ على المستويين الواقعي والنفسي فإن أنسب اصطلاح لها هو القهر . القهر باعتباره ينطبق ، من حيث الصيغة والمعنى ، على الواقع الراهن ، على أن يتم توظيف التركيب الإضافي لا التركيب النعتي الوصفي . والمقصود بالتركيب الوصفي أن نقول : " القهر الحضاري " على أن لفظ الحضاري نعت للقهر ، إن هذا الاصطلاح كما هو ملاحظ غير مناسب إذ القهر قهر ، ليس فيه ما هو حضاري وما هو بخلاف ذلك ، وبالـتالي فإن أنسب صيغة لهذا الوضع هي : قهر الحضارات حيث يضاف المصدر إلى المفعول به .
4 ـ قراءة تركيبية :
إذا تبينت صعوبة الحوار فهل هذا يعني أنه ينبغي التخلي عنه وصرف النظر إلى أشكال أخرى من التفاعل بين الأمم والشعوب ؟
الواقع أن الحوار أصبح ضرورة حضارية في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى ، فهـو ضروري في تحقيق ما يلي :
1 ـ حل النزاعات الوطنية والإقليمية والدولية .
2 ــ تطوير وإدراك الحقيقة بكل أشكالها.
3 ـ إدراك ما لدى الآخر من أجل احترامه وتجنب الاعتداء عليه .
4 ـ تحقيق عملية التغيير الاجتماعي .
أهمية الحوار :
بناء على الرغبة التي أبدتها بعض الحكومات والأمم والشعوب في صياغة حوار عادل بين الحضارات تم عقد ندوات متعددة على مستوى عالمي ، نشير منها إلى عناوين ما يلي :
ـ الحوار بين الحضارات ، نظمت بـ طهران سنة 1999 .
ـ الحوار بين الحضارات في عالم متغير ، وقد تم عقدها في الرباط سنة 2001 .
ـ الحوار بين الحضارات ، التنظير والتنفيذ ، تم عقدها بتونس سنة 2001 .
ـ الحوار بين الحضارات من أجل التعايش دمشق 2002 .
ـ الحوار بين الحضارات والثقافات ، الفهم والتفاهم لشنشتاين 2002 .
ـ التنوع في إطار التكامل بولاية هيسن بألمانيا 2003 .
كما تم تخصيص سنة 2001 سنة الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات ، ولنا أن نتساءل بعد هذا العدد من الندوات ، أين الحوار في الواقع ؟
يمكن أن نضيف بأنه في هذا السياق يمكن إدراج اجتهادات المفكر السويسري الأصل البروفيسور هانس كينغ الذي يرى ـ على خلاف هنتنغتون ـ أنه لا يمكن التوصل إلى نمط أخلاقي شامل من دون الدين ، مستدلا على ذلك بفشل ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ترسيخ سلام عالمي نظرا لمعاداة الدين ـ في نظره ـ ونحن نطرح عليه السؤال التالي : هل كان من الممكن أو من المنتظر أن تنجح هذه المنظمة بالصيغة التي تأسست بها وعليها منذ البداية ، دول ذات عضوية دائمة ودول على العكس مـن ذلك ؟! دول لها حق النقض ( الفيتو) في مجلس الأمن في مقابل دول ما عليها إلا أن تنفذ هذه القرارات الجائرة ودون نقاش ؟! فضلا عن أن هذه المنظمات تم إفراغها من كل محتوى لتصبح مجرد أدوات في أيدي الدول التي ساهمت في بنائها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ؟!
ما يهمنا من موقف هانس كينغ هو اقتراحه شعارات ثلاثة وهي :
1 ـ لا استمرارية من دون أخلاق كونية .
2 ـ لا سلام عالمي من دون سلام ديني .
3 ـ لا سلام ديني من دون حوار بين الديانات .
شروط الحوار:
يشترط في الحوار الخصائص التالية :
1 ـ الإيمان بالنسبية الفكرية ، وتعني أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ، يقول العلامة ابن خلدون :<< إن الحقيقة لا يملكها طرف واحد>> (3).
ـ تحييد أثقال الماضي .
ـ الاعتراف بالتنوع الثقافي والاختلاف العقائدي .
ـ ضرورة تحديد خصائص الهوية حتى يتم إدراكها من طرف صاحبها ليعتز بها ويعرفها الآخر ليحترمها .
ـ القضاء على الجهل بالآخر . وفي هذا السياق ينبغي توظيف كل الإمكانات والوسائل من نظم تربوية وإعلام وغيرها في التعريف بالآخر . لأن معرفة الآخر تجنب الإساءة إليه وبالتالي الإساءة إلى النفس ، وذلك مصداقا لقوله تعالى : << ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون >> (4).
ـ احترام الكرامة الإنسانية وتجنب التمييز بكل أشكاله .
ـ ترسيخ قيم التسامح والقبول بالآخر .
ـ تقوية عناصر الاتفاق وتحييد عناصر الاختلاف .
ـ أساس الحوار الاختلاف وليس التشابه ، ونتيجته إدراك الحقيقة وليس الإقناع بالضرورة .
من أجل حضارة عالمية :
يمر الحوار عبر قنوات ووسائل متعددة متنوعة لعل اللغة أن تكون أكثرها دقة واستعمالا ، فإذا كانت اللغة هي هذه الوسيلة التي تتبوأ رأس قائمة الأدوات الناقلة أو الوسيطة في الحوار فإن سوء استعمالها قد يؤدي إلى النفور وسوء الفهم وربما إلى النزاع والصراع . وقد علمنا أن كثيرا من الحروب ـ الكلامية خـاصة ـ إنما نشأت إما بسبب سوء استعمال في لغة الحوار أو ربما سوء نية فـي توظيفها ، وذلك باستعمال عبارات تحمل إيحاءات السخرية والتهكم وربما الاحتقار ، فينتقل النزاع من مستوى الحرب الكلامية إلى مستوى الحرب الساخنة ، وذلك في حال توفر الطرفين على ما يكفي من القوة للانخراط في الحرب ، أو قد ينتج عنها إحساس بالمهانة والذل لدى الطرف الأضعف في حال غياب المساواة .
ولو أننا ذهبنا نستقصي هذه المصطلحات لطال بنا المقام ، لذا نكتفي بإعطاء أمثلة توضيحية لذلك .
وقد أحصينا مجموعة من أشكال سوء استعمال الألفاظ ـ علما أن منها ما هو قصدي ومنها ما هو عفوي غير مقصود ـ ونريد أن نمثل لها بما يلي :
ـ ألفاظ ذات حمولة قدحية يتم استخدامها أحيانا عمدا .
ـ ألفاظ محايدة يتم توظيفها في سياقات تدل فيها على المعاني السلبية .
ـ ألفاظ تمتلك قدسية في لغة معينة ولا تمتلكها في لغة أخرى (جبريل ـ الملائكة…).
ـ اختلاف السياقات الثقافية والمعرفية ( التنزيه الإلهي مثلا…) .
من بين أشكال التوظيف السيئ للغة ذلك التقابل الظالم بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة أو العالم الأول والعالم الثالث أو إذا تم تلطيفها تعوض بالدول السائرة في طريق النمو أو حوار الشمال والجنوب .
ومن قبيل الإهانة اللفظية تقسيم العالم إلى محورين : محور الخير ومحور الشر، أو قد تكون الإهانة بالمس بدين معين على شاكلة ( الإسلام دين الإرهاب والانغلاق…) ، كـما أنه قد يتم بصيغ أخرى لعل منها توظيف ألفاظ ذات طبيعة قدسية في لغة في سياقات مادية في لغة أخرى .
من هذا النوع ما يتم استعمال الألفاظ فيه للدلالة على معان لم تكن تدل عليها صيغها الاشتقاقية أصلا على غرار : ما نسمعه من الأمريكيين مؤخرا مما يسمونه : الحرب العادلة .
ونحن نلح ـ في هذا الإطار ـ على ضرورة تحييد المصطلحات ذات الحمولة العنصرية والقهرية ، مثلا حينما يتم الحديث عن أوربا أو أمريكا يتم اعتماد علم الجغرافيا : فنسمع : القارة الأوربية والقارة الأمريكية ، في حين أنه حينما يتعلق الأمر بالآخر يتم استعمال مصطلح من علم الألوان ( إن صح وجود علم من هذا النوع ) ، فيقال : القارة السوداء أو تهذيبا القارة السمراء.
إن ما نسعى إليه هو صيغة حوار عادل وشامل يعتمد التوزيع العادل للخيرات والتحمل العادل للمسؤوليات ، وهذا ما تثبت الوقائع غيابه .
هنا نقف عند نقطة سبقت الإشارة إليها وهي ما يمكن أن نسميه بالحضارة العالمية .
إن رغبة الغرب في فرض تصوره للحضارة على الآخرـ سواء كان الأمر تحت مسمى العولمة أو تحت غيره من المصطلحات ـ يخفي رغبة تحمل من المكر ما تحمل .
إن الحضارة الغربية كغيرها من الحضارات تحمل من القيم ما هو إيجابي وما هـو سلبي ، وهذه مسألة لا تحتاج إلى توضيح ، فقيم العلم و التقنية واحترام العمل والتنافس تتعايش مع قيم الاستهلاك والغربة واستلاب الإنسان …
فعن أي شق أو نوع يتعلق الأمر حينما يتم الحديث عن فرض حضارة الغرب ؟ هل يسمح الغرب للآخر ـ الذي هو نحن ـ بأن يقتبس من الحضارة الغربية ما يفيده ويرقيه ، أم أنه يمارس تدخله في كل شيء ؟ فضلا عن أن الفرق بين الاقتباس وبين الفرض شاسع جدا . وحتى على مستوى الفرض يتم فرض نمط اقتصادي استهلاكي لا نمط ثقافي وشتان ما بين الاثنين .
حينما نسعى نحن الطرف الأضعف إلى الأخذ من الغرب ، فما يسمح لنا به وما لا يسمح به يحدده الآخر/ الغرب ولنا على ذلك أمثلة كثيرة :
ـ في لحظة توهج الحضارة العربية الإسلامية لم تمارس الاحتكار للمعرفة العلمية ولم تغلق الأبواب أمام طلبة العلم من أبناء الحضارات الأخرى . في حين أن الغرب الآن يمارس احتكارا شنيعا بحيث إنه لا يسمح من العلم إلا بما لا يهدد تفوقه ، وحتى في حال سعي الدول الأخرى ـ العربية والإسلامية تحديدا ـ إلى تنمية قدراتها العلمية معتمدة على طاقاتها الذاتية وقدراتها الفردية ، فإن الغرب يتدخل بكل الوسائل لقمع هذه النهضة العلمية في هذا البلد أو ذاك .
ـ رغبة الغرب في أن يبقى هو المحتكر الوحيد للتكنولوجيا الحيوية ( الأسلحة المتطورة ـ تقنيات الاتصال ـ غزو الفضاء ـ …) .
ـ لماذا يتم التكتم على الأبحاث العلمية في مجالات الاستنساخ وعلوم البيولوجيا … مثلا ؟
ـ فرضه نمط المجتمع الاستهلاكي الذي يخدم مصالحه .
ـ انسحاب أكثر دوله تطورا من المؤتمرات العلمية التي تمس بمصالحها ولو كانت في مصلحة الكرة الأرضية ( مؤتمرات حماية البيئة…) .
لقد آن الأوان لنعيد التفكير في علاقاتنا بأنفسنا وبغيرنا ، آن الأوان لنعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ، لنتصالح مع ذواتنا ، ونعترف بأننا نتحمل قسطا لا يستهان به من المسؤولية في ما حل بنا من الضعف والهوان .
فإلى متى ننتظر من الغرب أن يعترف بنا ونحن لم نقدر أنفسنا بما فيه الكفاية ؟ إلى متى نظل نحلم بحضارة عالمية يعمها الاحترام والتعدد والإيمان بقيم المغايرة والاختلاف ؟ حضارة تؤمن بقيم الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن اللون والجنس واللغة والدين ، حضارة المدينة الفاضلة التي لم تتحقق يوما وما كان لها أن تتحقق طالـما أن الإنسان يحمل في كيانه قيم الخير وقيم الشر ، فمتى نستفيق من غفوتنا ؟!
يمكن أن نضيف أخيرا وليس آخرا أنه تم إصدار وثيقة قيم عالمية ، تم تدشينها في مؤتمر سنة 1993 لبرلمان ديانات العالم في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية .
وقد بنيت هذه الوثيقة العالمية للقيم والأخلاق على مطلبين تشترك فيهما كل الديانات ، وهما :
1 ـ " كل إنسان يجب أن يعامل بإنسانية " .
2 ـ " ما لا ترغب أن يعاملك به الناس لا تعامل به الآخرين " .
وهذان المبدآن يقودان إلى أربع موجهات أخلاقية هي :
أ ـ التزام بثقافة اللاعنف واحترام الحياة .
ـ التزام بثقافة التضامن والتكامل ونظام اقتصادي عادل .
ـ التزام بثقافة المساواة في الحقوق والشراكة بين الرجال والنساء.
فأين هذا مما نراه ونسمعه وندركه من أحوال عالمنا المعاصر؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه المعطيات مستقاة من كتاب محمد مصطفى القباج:حوار الثقافات وحقوق الإنسان في زمن العولمة ، الصفحة 19 وما بعدها . سلسلة المعرفة للجميع عدد 30 . وقد اقتبسنا من هذا الكتيب القيم بعض المعطيات لذا وجب التنبيه.
(2) نشير إلى أن هنتنغتون أجرى مراجعة لموقفه حول صراعات الحضارات.
(3) المقدمة ، دار الجيل ، بيروت ، ص 457 ، 458 .
(4) سورة الأنعام الآية 108.
أما الثقافة culture فيعرفها نفس المعجم بأنها مجموع البنيات structures الاقتصادية والدينية … التمظهرات manifestations الثقافية والفنية …التي تميز مجتمعا من المجتمعات . والـسؤال الذي يلح علينا في هذا السياق هو كيف يمكن الفصل بين الحضارة وبين الثقافة أو بصيغة أوضح : ما هو الفرق بين البنية الثقافية وبين الخصائص الثقافية ، أو بين البنية الأخلاقية وبين الخصائص الأخلاقية لمجتمع من المجتمعات على سبيل المثال ؟! وقل نفس الشيء بالنسبة لباقي المكونات .
2 ـ قراءة تاريخية :
أ ـ قديما :
عرف التاريخ البشري كل أشكال التفاعل بين الأمم والشعوب والحضارات والثقافات ، تمثلت في المثاقفة وتبادل السلع والمنتوجات ، كما تمثلت في التأثير والتأثر بل و في الصراعات والحروب ، بحيث إنه لم تستغن حضارة بشرية عن سابقاتها ولم تخل من التأثير في لاحقاتها.
نظرة علماء المسلمين للتفاعل بين الحضارات تنبني على أن الهدف من هذا الحوار هو السعي إلى إدراك الحقيقة سواء على لسان العالم أو على لسان محاوره دون فرق .
ب ـ راهنا:
يمكن الوقوف على بعض مظاهر التفاعل التالية :
ـ الاستعمار الغربي للعالم العربي والإسلامي يمثل أحد أبرز صور العلاقة السلبية بين الغرب وبين العالمين العربي الإسلامي في القرن العشرين .
ـ الحرب الإعلامية على الإسلام وعلى المسلمين الآن في الغرب .
ـ سعي الغرب في إطار ما يسمى بالملكية الفكرية إلى تسييج المعلومة في وجه أبناء الدول النامية ، وسعيه إلى احتكار المعرفة العلمية .
ـ ارتفاع نسبة الأمية في البلدان العربية والإسلامية مقابل رفاهية خارقة للغرب .
ـ القضية الفلسطينية والحرب ضد العراق … بعض مظاهر الظلم الغربي ...
ـ يلاحظ التردي الخطير في العلاقات الدولية بشكل ينذر بكوارث عالمية وتهدد البشرية ( خاصة أمام سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانفراد بالقرارات الدولية ومحاولتها تقزيم المنظمات والهيئات الدولية ذات الشأن).
ـ التطور المهول في وسائل الاتصال والإعلام .
ـ انتشار ما يمكن تسميته ب "الحرب الاصطلاحية " أو "حرب المصطلحات" .
ـ يهمنا هنا أن نورد نتائج دراسة إحصائية أنجزها المعهد الفرنسي لعلم الحربpolemologie بين سنتي 1470 و1974 حيث تم إحصاء نشوب 336 نزاعا مسلحا ، منها 114 حربا بين دول ، و174 حربا ضمن دولة واحدة ، و36 حربا بدأت ضمن دولة واحدة ثم تحولت إلى حرب بين دول في حين أن ( 3 ) ثلاث حروب منها وقعت بين دول ثم تحولت إلى نزاع ضمن دولة .
246 من هذه الحروب هي نزاعات حول الحدود أو لغرض اكتساب أراض جديدة والباقي نزاعات ذات أسباب وأهداف سياسية واقتصادية . (1).
على مستوى نظرة مفكري الغرب يهمنا أن نقف هنا عند أحد أبرز دعاة الصدام بين الحضارات ، نظرا لما له من تأثير بارز على صناع القرار في الإدارة الأمريكية ، وهو صمويل هنتنغتون (2).
يرى هذا المفكر الأمريكي قبل بضع سنوات أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت بحال جيدة إلى أن بدأ يدرك خطورة النمو الديمغرافي السريع في الدول غير الغربية ، الأمر الذي جعله يشك في أن يكون في إمكان الولايات المتحدة فرض سيطرتها على العالم ، إلا أنه يستدرك ليؤكد بأن القوة كفيلة بحماية مصالحها الحيوية بل وفي إعطائها القدرة على تحقيق التوازن الدولي .
وحول موقفه من الوضعية العالمية ، يرى أنه لا يمكن أن يبقى العالم في سلام ووئام إلا إذا كان الغرب ـ وعلى رأسه الولايات المتحدة ـ يحتفظ بسيطرته على العالم .
إن نظرته إلى طبيعة الصراع تجعله يرى أن القوتين الاقتصادية والعسكرية هما اللتان تفرضان التفوق والسيطرة . وبما أن القوة الاقتصادية لها أهمية قصوى في العلاقات الدولية فإنه يدعو الولايات المتحدة إلى المحافظة على تفوقها الاقتصادي حتى على الدول الحليفة والصديقة .
إن الولايات المتحدة في نظر هنتنغتون هي الناطق الرسمي باسم السلام العالمي وهي رمز الحريات ورمز الديمقراطية ، وهي الحامية لاقتصاديات السوق ، وبالتالي فإن تربع الولايات المتحدة الأمريكية على رأس القوتين الاقتصادية والعسكرية عالميا سيضمن الرخاء وترسيخ قيم الحرية والعدالة، علما بأن المصالح الأمريكية هي مصالح البشرية كما يقول ( فلاحظ) .
أما السياسة العالمية فينظر إليها صامويل هنتنغتون على أنها سعي إلى فرض سيطرة بعض الدول على البعض الآخر ، وهو ما تؤكده دراسات بعض الخبراء الصينيين الذين أكدوا على أن العلاقات بين البشر قديما وحديثا لم تتغير ، فالغني يحتقر الفقير والقوي يظلم الضعيف .
إلا أن نظرة هنتنغتون تخفي رغبة أمريكية في خلق عدو وهمي تسعى إلى الانتصار عليه حتى تبرر سعيها إلى حماية مصالحها ولو بالقوة ، في هذا السياق يؤكد هذا المفكر على أنه لتأكيد الهوية لا بد من وجود أعداء .
ويمكن أن نضيف بأنه وبعد الحرب العالمية الثانية ، شكل كل من القطبين : القطب الاشتراكي والقطب الرأسمالي بعضهم لبعض ذريعة وحجة يعلق عليها أخطاءه ومسؤولياته . لكنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم تجد الولايات المتحدة من تحمله تبعاتها ، فما كان منها إلا أن اعتبرت الإسلام ـ ومعه المسلمين ـ عدوا .
نظرية من هذا النوع ترى أنه حتى في حال حصول تفاهم بين الدول فإن كل واحدة ستسعى إلى الحصول على أكبر قدر من قطعة الحلوى لتضمن التفوق الاقتصادي وبالتالي العسكري . والسؤال المطروح هو : هل من الضروري أن تؤدي القوة الاقتصادية ـ إذا توفرت ـ إلى قوة عسكرية ؟ إن هنتنغتون يجيب على هذا السؤال بقوله : نعم .
3 ـ قراءة منهجية :
إذا كنا نتفق على أن العولمة شكل من أشكال التفاعل بين الأمم والشعوب والثقافات والحضارات ، فكيف يمكن الحديث عن الحوار العادل علما بأن العولمة هذه تشتغل وفق آليتين متناقضتين هما : التكامل والتفكيك ، التكامل الاقتصادي على مستوى دول المركز ، والتفكيك الثقافي على مستوى دول الأطراف ؟
ـ كيف يمكن الحديث عن الهوية في ظل العولمة علما بأنها تهدد ما يسمى بالنقاء العرقي ، وترسخ ما يمكن تسميته بالقيم الكونية العالمية ؟
إذا كانت العولمة تعمل وفق قواعد تزيد من غنى الغني وتزيد من فقر الفقير ، وإذا كانت ثقافة العولمة تتمظهر في الصور والأشكال التالية على أنها :
1 ـ ثقافة يصاحبها في الغالب خطاب تقني وعلمي .
2 ـ ثقافة نخبوية تأتي من الأعلى نحو الأسفل .
3 ـ ثقافة تعتمد على تركيز القوة بكل أشكالها ( القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية...) .
4 ـ ثقافة الاستهلاك ( تعمد إلى خلق حاجيات وهمية لدى المستهلك بتعاون مع قيم المجتمع الرأسمالي) .
5 ـ ثقافة تحمل تناقضات جوهرية في داخلها.
فإذا كانت هذه هي قيم العولمة فماذا يمكن القول إذا علمنا أن العولمة الاقتصادية هي المسيطرة على باقي أشكال العولمة ، والمتحكمة فيها ؟!
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، ما معنى الهوية ؟ ما خصائصها ؟ وما مميزاتها ؟ أي هوية سيتم الاعتماد في التحاور مع الآخر ؟ أهي هوية الدين أم هوية اللغة أم هوية العرق أم هوية الإقليم ؟ أم ماذا ؟!
كيف ينظر الغرب إلينا ؟
هذا السؤال يتطلب منا قراءة الواقع الحالي .
الحقيقة أن الغرب ـ الآن ـ ينطلق من" مسلمة " التفوق الكاسح علينا .
إنه يؤمن بتميزه وبالتالي فلا أثر للاحترام في قاموسه ـ هذا إذا استثنينا نسبة قليلة من المفكرين المنصفين في الغرب ـ بل يمكن القول بأنه لا يؤمن بالاختلاف حينما يتعلق الأمـر بالحضارة العربية الإسلامية . إن الغرب يرى أن ما وصل إليه يعتبر أرقى ما وصلت إليه الحضارة البشرية ( نموذج المفكر الأمريكي الجنسية الياباني الأصل : فرنسيس فوكو ياما ) وبالتالي فما على الآخرين إلا أن يأخذوا بأسباب " حضارته " رضوا أم كرهوا . فهل يتم ذلك بالإقناع والحجة والبرهان ؟
الواقع أنهم لا يتوانون عن استعمال القوة لفرض وجهة نظرهم أو لنقل : إنهم لا يتورعون عن توظيف الأسلحة : المعنوي منها والمادي لإقناعنا بوجهة نظرهم . وحينما يفرض الغرب نمط حياته وطريقة تفكيره على الشعوب المستضعفة التي هي نحن ، فما نوع " المادة " التي يقدمها لنا ؟
بلا شك ، هو لا يريد منا أن نأخذ منه ألا ما اختاره لنا دون ما يفيدنا ودون ما نختاره نحن ، ما يجعلنا تابعين لا مستقلين ، ما يجعلنا مستهلكين لا منتجين.
ثمة أسئلة تحتاج إلى أجوبة واضحة ـ وهي ـ : ألا يمارس الغرب نوعا من الاحتكار للمعرفة العلمية ؟ وإلا فما سر إلحاحه على التفرد بالتكنولوجيا الحيوية في مجالات العلوم الدقيقة ؟ ألم يحاول الغرب ـ وما زال يحاول ـ الاحتفاظ بتفوقه في كل المجالات والميادين من صناعة الأغذية المعدلة جينيا إلى الأسلحة الفائقة الدقة ، مرورا بالأجهزة الإلكترونية المتطورة ؟ فهل بعد هذا يمكن الحديث عن حوار بين الحضارات ؟
إذا كان الأمر بهذه الصورة ، فهل يتعلق الأمر إذن بصراع بين الحضارات ؟ الجواب : إن الصراع ـ انطلاقا من الشروح اللغوية ـ يشترط المساواة أو على الأقل التقارب في القوة ، كما يشترط المشاركة في الصراع . أما حينما يتعلق الأمر بطرف قوي قوة قاهرة ، وطرف يتلقى الضربة تلو الضربة ، طرف يمتلك كل مقومات الصراع ، وطرف لا يملك إمكانية أن يردّ بل حتى أن يفكر في الردّ ، فإن أنسب تعبير لذلك هو : ضرب ، قهر ، بطش … اختصارا كل الأفعال التي تدل في معناها على اللامساواة ، أما أن يتم توظيف لفظ يدل على المشاركة في عملية قنص يسدد فيها صياد بندقيته صوب عصفور يبحث عن طعام ، فهذا ما لا يقول به من لديه أدنى علم بمعنى المفردات .
إذا اتضح أن الأمر لا يتعلق لا بالحوار ولا بالصراع ، فلم تم التركيز على مصطلحين غير دقيقين في الواقع المعاصر؟ إن الجواب يحتم علينا الوقوف عند نقطتين محوريتين :
ـ النقطة الأولى هي أنه حينما نتحدث عن الحضارات ، يطرح السؤال التالي : عن أي الحضارات يتعلق الأمر ؟ هل الأمر يتعلق بالحضارة الغربية في مواجهة الحضارة العربية الإسلامية ؟ أم أن المسألة تشمل الحضارات الأخرى الصينية ـ الهندية ـ اليابانية ـ مثلا ؟ ما موقع هذه الحضارات في هذه العلاقة ؟ هل يتم النظر إليها على أنها مع أو ضد الحضارة الغربية ؟!
ـ النقطة الثانية يمكن صياغتها على شكل سؤال يقدم نفسه على الشكل التالي : كيف يمكن الحديث عن علاقة بين حضارتين ، حضارة لها امتداد في التاريخ ، وحضارة لها امتداد في التاريخ وأثر في الواقع الراهن ؟ الحضارة العربية الإسلامية حضارة الأجداد ، نحن ورثناها ، إننا لم نساهم في بنائها ، وبالتالي فنحن عاجزون عن فهمها واستيعابها ، ونحن أعجز عن الدفاع عنها .
فقد لا يختلف الكثير من الباحثين والمفكرين في أننا نحن عرب اليوم ومسلميه في موقع ضعف ، سواء تعلـق الأمر بحضارة الأجداد أو تعلق بحضارة الغرب ، وهنا يطرح السؤال بالصيغة التالية : هل نحن فعلا طرف في الصراع ـ إذا كان ثمة من صراع ـ ؟
في مقابل حضارة المسلمين التي لم يبق لها سوى وجود رمزي ، بحكم أنها لم تعد تساهم في ما يحدث من تطور في العالم ، نجد حضارة لها بعد تاريخي يمتد ليتصل باليونان ، وبعد واقعي يتمثل فيما حققه الغرب حاليا في كل المجالات والميادين .
فإذا كان الغرب يمتلك حضارة فنحن نمتلك تراثا ـ أو لنقل إرثا ـ عجزنا حتى الآن عن هضمه .
هنا يلح السؤال التالي على عقولنا وهو : إذا كان الأمر يتعلق بالحوار ، فهو حوار بين من ؟ وحوار حول ماذا ؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالصراع فهو صراع بين من ؟ وصراع من أجل ماذا ؟
إن القليل من التنبه يؤول بنا إلى ملاحظة أن مصطلح " صراع " يميل إليه مفكرو الغرب من منطلق مصالح لا تخفى على أحد ، إذ إن الرغبة في خلق "عدو وهمي" يهدد الحضارة الغربية ، لها مبررات تخدم مصالح طبقة رأسمالية معينة توظفها لتقنع الشعوب بأن في الأفق عدوا وخطرا يهددانها . لكن ما أثار ويثير الاهتمام هو : لماذا تم اختيار الحضارة الإسلامية تحديدا ليتم إقحامها في صراع وهمي ؟ فهل كان الإسلام في يوم من الأيام دينا يؤسس لحضارة الصراع والقمع ؟!
في الطرف الآخر نتساءل : لماذا تم توظيف مصطلح " حوار الحضارات " ـ علما بأن المفكرين العرب هم من تبنوه إلى حد كبيرـ ؟ لعل الرغبة هي في أنه يحمل في طياته رغبة دفينة في أن يتحقق هذا الاعتراف الذي ينطوي تحت لفظ " حوار" . لفظ حوار يخفي رغبة لا شعورية اصطدمت بالواقع لتنزوي إلى اللاشعور وتبرز كحلم لم يتحقق ولن يتحقق ـ على الأقل بالشروط الحالية وفي الظروف الراهنة ـ وأهل الشأن يعرفون ذلك جيدا .
إن العلاقة إذا كان يحكمها مقياس التفوق ـ أو مجرد الإحساس به ـ على المستويين الواقعي والنفسي فإن أنسب اصطلاح لها هو القهر . القهر باعتباره ينطبق ، من حيث الصيغة والمعنى ، على الواقع الراهن ، على أن يتم توظيف التركيب الإضافي لا التركيب النعتي الوصفي . والمقصود بالتركيب الوصفي أن نقول : " القهر الحضاري " على أن لفظ الحضاري نعت للقهر ، إن هذا الاصطلاح كما هو ملاحظ غير مناسب إذ القهر قهر ، ليس فيه ما هو حضاري وما هو بخلاف ذلك ، وبالـتالي فإن أنسب صيغة لهذا الوضع هي : قهر الحضارات حيث يضاف المصدر إلى المفعول به .
4 ـ قراءة تركيبية :
إذا تبينت صعوبة الحوار فهل هذا يعني أنه ينبغي التخلي عنه وصرف النظر إلى أشكال أخرى من التفاعل بين الأمم والشعوب ؟
الواقع أن الحوار أصبح ضرورة حضارية في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى ، فهـو ضروري في تحقيق ما يلي :
1 ـ حل النزاعات الوطنية والإقليمية والدولية .
2 ــ تطوير وإدراك الحقيقة بكل أشكالها.
3 ـ إدراك ما لدى الآخر من أجل احترامه وتجنب الاعتداء عليه .
4 ـ تحقيق عملية التغيير الاجتماعي .
أهمية الحوار :
بناء على الرغبة التي أبدتها بعض الحكومات والأمم والشعوب في صياغة حوار عادل بين الحضارات تم عقد ندوات متعددة على مستوى عالمي ، نشير منها إلى عناوين ما يلي :
ـ الحوار بين الحضارات ، نظمت بـ طهران سنة 1999 .
ـ الحوار بين الحضارات في عالم متغير ، وقد تم عقدها في الرباط سنة 2001 .
ـ الحوار بين الحضارات ، التنظير والتنفيذ ، تم عقدها بتونس سنة 2001 .
ـ الحوار بين الحضارات من أجل التعايش دمشق 2002 .
ـ الحوار بين الحضارات والثقافات ، الفهم والتفاهم لشنشتاين 2002 .
ـ التنوع في إطار التكامل بولاية هيسن بألمانيا 2003 .
كما تم تخصيص سنة 2001 سنة الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات ، ولنا أن نتساءل بعد هذا العدد من الندوات ، أين الحوار في الواقع ؟
يمكن أن نضيف بأنه في هذا السياق يمكن إدراج اجتهادات المفكر السويسري الأصل البروفيسور هانس كينغ الذي يرى ـ على خلاف هنتنغتون ـ أنه لا يمكن التوصل إلى نمط أخلاقي شامل من دون الدين ، مستدلا على ذلك بفشل ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ترسيخ سلام عالمي نظرا لمعاداة الدين ـ في نظره ـ ونحن نطرح عليه السؤال التالي : هل كان من الممكن أو من المنتظر أن تنجح هذه المنظمة بالصيغة التي تأسست بها وعليها منذ البداية ، دول ذات عضوية دائمة ودول على العكس مـن ذلك ؟! دول لها حق النقض ( الفيتو) في مجلس الأمن في مقابل دول ما عليها إلا أن تنفذ هذه القرارات الجائرة ودون نقاش ؟! فضلا عن أن هذه المنظمات تم إفراغها من كل محتوى لتصبح مجرد أدوات في أيدي الدول التي ساهمت في بنائها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ؟!
ما يهمنا من موقف هانس كينغ هو اقتراحه شعارات ثلاثة وهي :
1 ـ لا استمرارية من دون أخلاق كونية .
2 ـ لا سلام عالمي من دون سلام ديني .
3 ـ لا سلام ديني من دون حوار بين الديانات .
شروط الحوار:
يشترط في الحوار الخصائص التالية :
1 ـ الإيمان بالنسبية الفكرية ، وتعني أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ، يقول العلامة ابن خلدون :<< إن الحقيقة لا يملكها طرف واحد>> (3).
ـ تحييد أثقال الماضي .
ـ الاعتراف بالتنوع الثقافي والاختلاف العقائدي .
ـ ضرورة تحديد خصائص الهوية حتى يتم إدراكها من طرف صاحبها ليعتز بها ويعرفها الآخر ليحترمها .
ـ القضاء على الجهل بالآخر . وفي هذا السياق ينبغي توظيف كل الإمكانات والوسائل من نظم تربوية وإعلام وغيرها في التعريف بالآخر . لأن معرفة الآخر تجنب الإساءة إليه وبالتالي الإساءة إلى النفس ، وذلك مصداقا لقوله تعالى : << ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون >> (4).
ـ احترام الكرامة الإنسانية وتجنب التمييز بكل أشكاله .
ـ ترسيخ قيم التسامح والقبول بالآخر .
ـ تقوية عناصر الاتفاق وتحييد عناصر الاختلاف .
ـ أساس الحوار الاختلاف وليس التشابه ، ونتيجته إدراك الحقيقة وليس الإقناع بالضرورة .
من أجل حضارة عالمية :
يمر الحوار عبر قنوات ووسائل متعددة متنوعة لعل اللغة أن تكون أكثرها دقة واستعمالا ، فإذا كانت اللغة هي هذه الوسيلة التي تتبوأ رأس قائمة الأدوات الناقلة أو الوسيطة في الحوار فإن سوء استعمالها قد يؤدي إلى النفور وسوء الفهم وربما إلى النزاع والصراع . وقد علمنا أن كثيرا من الحروب ـ الكلامية خـاصة ـ إنما نشأت إما بسبب سوء استعمال في لغة الحوار أو ربما سوء نية فـي توظيفها ، وذلك باستعمال عبارات تحمل إيحاءات السخرية والتهكم وربما الاحتقار ، فينتقل النزاع من مستوى الحرب الكلامية إلى مستوى الحرب الساخنة ، وذلك في حال توفر الطرفين على ما يكفي من القوة للانخراط في الحرب ، أو قد ينتج عنها إحساس بالمهانة والذل لدى الطرف الأضعف في حال غياب المساواة .
ولو أننا ذهبنا نستقصي هذه المصطلحات لطال بنا المقام ، لذا نكتفي بإعطاء أمثلة توضيحية لذلك .
وقد أحصينا مجموعة من أشكال سوء استعمال الألفاظ ـ علما أن منها ما هو قصدي ومنها ما هو عفوي غير مقصود ـ ونريد أن نمثل لها بما يلي :
ـ ألفاظ ذات حمولة قدحية يتم استخدامها أحيانا عمدا .
ـ ألفاظ محايدة يتم توظيفها في سياقات تدل فيها على المعاني السلبية .
ـ ألفاظ تمتلك قدسية في لغة معينة ولا تمتلكها في لغة أخرى (جبريل ـ الملائكة…).
ـ اختلاف السياقات الثقافية والمعرفية ( التنزيه الإلهي مثلا…) .
من بين أشكال التوظيف السيئ للغة ذلك التقابل الظالم بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة أو العالم الأول والعالم الثالث أو إذا تم تلطيفها تعوض بالدول السائرة في طريق النمو أو حوار الشمال والجنوب .
ومن قبيل الإهانة اللفظية تقسيم العالم إلى محورين : محور الخير ومحور الشر، أو قد تكون الإهانة بالمس بدين معين على شاكلة ( الإسلام دين الإرهاب والانغلاق…) ، كـما أنه قد يتم بصيغ أخرى لعل منها توظيف ألفاظ ذات طبيعة قدسية في لغة في سياقات مادية في لغة أخرى .
من هذا النوع ما يتم استعمال الألفاظ فيه للدلالة على معان لم تكن تدل عليها صيغها الاشتقاقية أصلا على غرار : ما نسمعه من الأمريكيين مؤخرا مما يسمونه : الحرب العادلة .
ونحن نلح ـ في هذا الإطار ـ على ضرورة تحييد المصطلحات ذات الحمولة العنصرية والقهرية ، مثلا حينما يتم الحديث عن أوربا أو أمريكا يتم اعتماد علم الجغرافيا : فنسمع : القارة الأوربية والقارة الأمريكية ، في حين أنه حينما يتعلق الأمر بالآخر يتم استعمال مصطلح من علم الألوان ( إن صح وجود علم من هذا النوع ) ، فيقال : القارة السوداء أو تهذيبا القارة السمراء.
إن ما نسعى إليه هو صيغة حوار عادل وشامل يعتمد التوزيع العادل للخيرات والتحمل العادل للمسؤوليات ، وهذا ما تثبت الوقائع غيابه .
هنا نقف عند نقطة سبقت الإشارة إليها وهي ما يمكن أن نسميه بالحضارة العالمية .
إن رغبة الغرب في فرض تصوره للحضارة على الآخرـ سواء كان الأمر تحت مسمى العولمة أو تحت غيره من المصطلحات ـ يخفي رغبة تحمل من المكر ما تحمل .
إن الحضارة الغربية كغيرها من الحضارات تحمل من القيم ما هو إيجابي وما هـو سلبي ، وهذه مسألة لا تحتاج إلى توضيح ، فقيم العلم و التقنية واحترام العمل والتنافس تتعايش مع قيم الاستهلاك والغربة واستلاب الإنسان …
فعن أي شق أو نوع يتعلق الأمر حينما يتم الحديث عن فرض حضارة الغرب ؟ هل يسمح الغرب للآخر ـ الذي هو نحن ـ بأن يقتبس من الحضارة الغربية ما يفيده ويرقيه ، أم أنه يمارس تدخله في كل شيء ؟ فضلا عن أن الفرق بين الاقتباس وبين الفرض شاسع جدا . وحتى على مستوى الفرض يتم فرض نمط اقتصادي استهلاكي لا نمط ثقافي وشتان ما بين الاثنين .
حينما نسعى نحن الطرف الأضعف إلى الأخذ من الغرب ، فما يسمح لنا به وما لا يسمح به يحدده الآخر/ الغرب ولنا على ذلك أمثلة كثيرة :
ـ في لحظة توهج الحضارة العربية الإسلامية لم تمارس الاحتكار للمعرفة العلمية ولم تغلق الأبواب أمام طلبة العلم من أبناء الحضارات الأخرى . في حين أن الغرب الآن يمارس احتكارا شنيعا بحيث إنه لا يسمح من العلم إلا بما لا يهدد تفوقه ، وحتى في حال سعي الدول الأخرى ـ العربية والإسلامية تحديدا ـ إلى تنمية قدراتها العلمية معتمدة على طاقاتها الذاتية وقدراتها الفردية ، فإن الغرب يتدخل بكل الوسائل لقمع هذه النهضة العلمية في هذا البلد أو ذاك .
ـ رغبة الغرب في أن يبقى هو المحتكر الوحيد للتكنولوجيا الحيوية ( الأسلحة المتطورة ـ تقنيات الاتصال ـ غزو الفضاء ـ …) .
ـ لماذا يتم التكتم على الأبحاث العلمية في مجالات الاستنساخ وعلوم البيولوجيا … مثلا ؟
ـ فرضه نمط المجتمع الاستهلاكي الذي يخدم مصالحه .
ـ انسحاب أكثر دوله تطورا من المؤتمرات العلمية التي تمس بمصالحها ولو كانت في مصلحة الكرة الأرضية ( مؤتمرات حماية البيئة…) .
لقد آن الأوان لنعيد التفكير في علاقاتنا بأنفسنا وبغيرنا ، آن الأوان لنعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ، لنتصالح مع ذواتنا ، ونعترف بأننا نتحمل قسطا لا يستهان به من المسؤولية في ما حل بنا من الضعف والهوان .
فإلى متى ننتظر من الغرب أن يعترف بنا ونحن لم نقدر أنفسنا بما فيه الكفاية ؟ إلى متى نظل نحلم بحضارة عالمية يعمها الاحترام والتعدد والإيمان بقيم المغايرة والاختلاف ؟ حضارة تؤمن بقيم الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن اللون والجنس واللغة والدين ، حضارة المدينة الفاضلة التي لم تتحقق يوما وما كان لها أن تتحقق طالـما أن الإنسان يحمل في كيانه قيم الخير وقيم الشر ، فمتى نستفيق من غفوتنا ؟!
يمكن أن نضيف أخيرا وليس آخرا أنه تم إصدار وثيقة قيم عالمية ، تم تدشينها في مؤتمر سنة 1993 لبرلمان ديانات العالم في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية .
وقد بنيت هذه الوثيقة العالمية للقيم والأخلاق على مطلبين تشترك فيهما كل الديانات ، وهما :
1 ـ " كل إنسان يجب أن يعامل بإنسانية " .
2 ـ " ما لا ترغب أن يعاملك به الناس لا تعامل به الآخرين " .
وهذان المبدآن يقودان إلى أربع موجهات أخلاقية هي :
أ ـ التزام بثقافة اللاعنف واحترام الحياة .
ـ التزام بثقافة التضامن والتكامل ونظام اقتصادي عادل .
ـ التزام بثقافة المساواة في الحقوق والشراكة بين الرجال والنساء.
فأين هذا مما نراه ونسمعه وندركه من أحوال عالمنا المعاصر؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه المعطيات مستقاة من كتاب محمد مصطفى القباج:حوار الثقافات وحقوق الإنسان في زمن العولمة ، الصفحة 19 وما بعدها . سلسلة المعرفة للجميع عدد 30 . وقد اقتبسنا من هذا الكتيب القيم بعض المعطيات لذا وجب التنبيه.
(2) نشير إلى أن هنتنغتون أجرى مراجعة لموقفه حول صراعات الحضارات.
(3) المقدمة ، دار الجيل ، بيروت ، ص 457 ، 458 .
(4) سورة الأنعام الآية 108.