السّوق الدّينية في أمريكا - ترجمة: د. عزالدّين عناية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسنصّ: دارن. أ. شِرْكات
وكريستوفر.ج. إلّيسيون*
مدخل
مما يلاحظ أن علم الاجتماع الديني بصدد اجتياز مرحلة تطوّر جوهرية، سواء فيما يتعلّق بالجانب المنهجي أو الفهمي. فقد عاينت الهيئات العلمية المنشغلة بدراسة الدين تطوّرا غير معهود للمشاركات في الملتقيات والتعاون الدراسي، وما رافقه حديثا من إلحاق وحدة علم الاجتماع الديني بالجمعية السوسيولوجية الأمريكية. وقد أعطت الكتابات النظرية والتطبيقية الأخيرة في علم الاجتماع الديني، التي بلغ صداها أعمدة عديد الصحف الجادة، دفعًا لإنعاش الحوار ولإثارة النقاشات المختلفة. فللمرّة الأولى منذ الستّينيات، ينحو باحثون مختصّون في حقول مغايرة، للتوّجه بأبحاثهم نحو مشاغل علم الاجتماع الديني، وكذلك للسعي لبلورة نظريات لها صلة بهذا العلم. فقد مثّل هذا التطوّر مفاجأة حقّة لعديد علماء الاجتماع، الذين حافظوا على مقولات نظريات العلمنة، التي تقدّر تقهقر دور الدين من الحياة الاجتماعية، وتراجع قوة التكتّلات الدينية، وكذلك تقلّص الالتزام الديني الفردي. وبالفعل، فقد أجْلت الأحداث الجارية في العالم، منذ انقضاء السبعينيات وحتى منتهى القرن العشرين، حضور الدين القوي والفاعل. وبحسب البعض، يعدّ ظهور الرؤى الدينية الأصولية في الولايات المتّحدة وغيرها من الفضاءات، إضافة إلى تأجّج النقاشات العامة بشأن الشعائر والحركات الدينية الجديدة، تقريبا الأحداث الأوغل أثرا التي قادت لمراجعة التفكّر في الدين. كما كان للحوارات النظرية والاختبارية بين علم الاجتماع الديني وقطاعات علم الاجتماع الأخرى، خصوصا ما تعلّق منها بالعائلة وعلم الاجتماع الطبّي والحركات الاجتماعية، الدور الهام للدفع المستجدّ للانشغال بعلم الاجتماع الديني. فعديد مظاهر الحوار القائمة اليوم، ناشئة أصلا عن جدل بين الدارسين المرتبطين بنظريات العلمنة وأولئك الذين يفسّرون السلوكات والتوجّهات الدينية بحسب رؤى مغايرة.
فلنظرية العلمنة تاريخ هام في العلوم الاجتماعية، بما لعبته من دور أساسي في تطوّر علم الاجتماع الديني. فهي تمثّل دافعا إيديولوجيا يضرب بجذوره حتى عصر الإستنارة الغربي، بما كان لها من صدى في بلورة الوعي الشائع لدى عديد ممثلي النخبة الغربية. ومما يتّفق عليه منظّرو العَلمنة عموما، أن مظاهر الإختلاف في المجتمع تشكّل الدعامة الأساسية للعلمنة. بيْد أن التنظيرات تختلف بشأن التفاعلات وبشأن مخلّفات بعض السياقات. فتشانان مثلا، في تحليله لسبع رؤى لمنظِّري العلمنة، استطاع أن يحدّد من خلالها تجلّي اثني عشر بعدا، نذكر منها: التمايز، والتعدّدية، والعقلنة، والعلمية واللاّإعتقاد. ويساند دوبيلار القول بوجود معيارين مختلفين للعلمنة، بأربعة مستويات متنوعة من التحليل. وقد أعاد الأنصار الجدد تشكيل نظريات العلمنة مولين اهتماما في ذلك للسلطة المغايرة للدين. التنوّع الثري لسياقات تأويل العلمنة، والذي يقابله نقصا في الفرضيات العملية العينية، قاد بعض المعلّقين المنتقدين، للتصريح أن بعض تلك السياقات لا تشكّل نظرية. ولذلك أيّا كان الإطار النظري، فإن عديد الدارسين ما فتئوا بصدد البحث في الظاهرة الدينية بحسب السياقات المعتادة للعلمنة، وأن النقاشات حولها -العلمنة- لا تزال حامية.


لقد بدأت الإنتقادات تتسرّب لنظرية العلمنة، لما فقدت أطروحات الوظيفية التطوّرية شيئا من بريقها في السبعينيات. فقد شرع علماء الاجتماع في نقد المفاهيم الرومانسية عن وجود وعي جمعي موحّد، وكذلك في انتقاد املاءات أوروبا الغربية لتوجّهاتها الإقتصادية والثقافية على بقية العالم. ولاحظ علماء الاجتماع والمؤرّخون والإِناسيون، أن العالم في الفترة التي سبقت العصور الحديثة، كان طافحا بالممارسات والإعتقادات الدينية غير الأرثوذكسية، وبمظاهر اللاّإعتقاد أيضا. كما يذهب منظّرون آخرون إلى أن الإختلاف والانعتاق عادة ما يعوّضان بظواهر اللا-إختلاف والانعتاق المستجد، وأن الإختلاف الوظيفي للمؤسّسات الدينية لا يحدّ من حصول أثر على السياسة والإقتصاد والثقافة، وعلى مظاهر أخرى من الحياة الاجتماعية.
إنّ تعقّد الظاهرة الدينية، إضافة إلى الخاصية الاستبطانية للتجارب الفردية، يولّد صعوبة لبلورة فهم، من وجهة نظر نظريات العلمنة. وفي الوقت الذي لا يزال فيه بعض الدارسين يعملون بكدّ، لغرض المحافظة على تلك النظرة للعالم، فإن منظّرا لامع للعلمنة، مثل بيتر برجر رفضها. وبالتالي لم تبدأ سياقات أخرى مختلفة في الظهور إلاّ في أعقاب السبعينيات، عندما بدأ رودناي ستارك وويليام سيمس باينبريدج بعمل بلغا منتهاه في مؤلّفاتهما النظرية القيّمة، وكذلك لما شرع الدارسون المنشغلون بمتابعة الحركات الاجتماعية في التحوّل باهتماماتهم شطر الحركات الدينية. فقد قادت السياقات النظرية المستحدَثة، والتقدّم المتطوّر للصّرامة المنهجية، العديدَ لإعلان انبلاج "معيار مستجدّ"، على تجذّر في نظرية الإختيار العقلي وفي التحليل التجريبي.
نبدأ عرضنا بمختارات من أبحاث متنوّعة في الإعتقادات والإلتزامات الدينية، مركّزين الإهتمام أساسا، على الأبحاث الجارية في الولايات المتحدة. ثم في جانب آخر، نعالج تأثير الدين على: السياسة، والأسرة، والصحّة، والرفاهية، والفضاء الحر، والرأسمال الاجتماعي.
1_ الاعتقادات والالتزامات الدينية في الولايات المتحدة
تركّزت الأبحاث في مسائل الإعتقادات الدينية والمشاركة والإنتماء على ثلاثة محاور:
أ-توزّع الاعتقادات والإلتزامات الدينية. ب-توجّهات الإعتقادات والتمظهرات ذات الصلة. ج-الرؤى المستقبلية لأنماط التديّن.
تحوز الإعتقادات الدينية أهمية عالية في الولايات المتحدة، إذ تكشف متابعات الرقابة الاجتماعية العامة -General Social Survey- أن:
-ما يقارب 63% من الأمريكيين ليس لهم في الله شكّ، في حين 2،2% فقط لايؤمنون بالله.
-ما يقارب ثلث الأمريكيين يعتقدون أن الكتاب المقدّس هو كلام الله الحق، وأكثر من 80% يرون كونه إلهاما إلهيا.
-كما يؤمن 77% بالجنّة و63% بالجحيم و58% بوجود الشيطان.
ليس ضبط هذه الإعتقادات هيّنا اثباته، بسبب تنوّع الإستمارات، ونظرا لمختلف إجراءات الانتقاء. وكيفما كان، فإن تحليلات أرقام معهد غالوب تبدو كاشفة عن إهمال طفيف لبعض المعايير المتعلّقة بالأرثوذكسية الدينية، خصوصا ما له صلة بعصمة الكتاب المقدّس، وإن لم تستعمل الإستطلاعات الأولى منتقيات للمقارنة أو إجراءات للإثبات. على خلاف ذلك فإن الإعتقادات في الله والآخرة ثابتة بجلاء.
يبقى مستوى المشاركة والإنتماء للمنظّمات الدينية عاليا مقارنة بدول أخرى، ومقارنة كذلك بأصناف أخرى من الأنشطة التطوّعيّة. فتقديرات الرقابة الاجتماعية العامة تبيّن أن 61% من الأمريكيين يصرّحون بانتمائهم لجمعيات دينية، و29% يكشفون عن ارتياد الكنيسة أسبوعيا، وبشكل عام يعلن 45% عن ذهابهم للكنيسة مرّة في الشهر على الأقل. يوجد حوار موسّع بشأن الضبط لنسب المشاركة في الولايات المتحدة، التي تنبني على مدى مصداقية التقارير المجموعة من طرف الكنائس نفسها، عبر الرصد الآلي. يساند بعض الباحثين القول، إن الأمريكيين يُعلون من تقديرات نسب الإرتياد على الكنيسة، وأن الأعداد الصحيحة تقارب نصف ما يصرّح به الناس عبر الاستقصاءات، مقترحين أن قرابة 22% من الأمريكيين يشاركون في الخدمات الدينية أسبوعيا. كيفما كان، فإن هذا التقديرات الإتفاقية للمشاركة، عالية جدّا من حيث مقارنتها بأعداد الأنشطة الأسبوعية في الجمعيات التطوّعية الأخرى. تشير انتقادات الأرقام المبالغ فيها لوجود مشاكل متعلّقة بتحديد أعداد المنضوين تحت الكنائس، وكذلك حول صحّة الأعداد بشأن التردّد ومظاهر الخلل الناتجة عن نسبة الإستجابة المنخفضة للحاسب الآلي، جرّاء أن الموازنة ليست شيئا معتادا. من جانب آخر لا تسجّل معظم الأبحاث تنوّعات جليّة في المشاركة الدينية، سوى تقلّص طفيف بفعل تراجع الكاثوليكية في الستّينيات. فالأمريكيون يقَضّون جانبا هاما من أوقاتهم في خدمة المنظّمات الدينية، كما ينفِقون نسبة معتبرة من أموالهم عليها، بمعدّل 440 دولارا سنويا للعائلة، بحسب احصاءات الرقابة الاجتماعية العامة. فقد تجاوزت المدفوعات للمنظّمات الخمس عشرة الكبرى -التي كشفت عن أرقام وارداتها- 18 مليار دولار في سنة 1996، في حين أن ستّ من بين المنظّمات العشر الكبرى لم تقدّم تقارير بشأن المدفوعات إليها. إذ تجعل المدفوعات، مضافا إليها مجموع مصاريف الأنشطة والمقتنيات الأخرى (مثل ما يتعلّق منها بالمطبوعات والموسيقى والأزياء) الدينَ صناعة هامة في الولايات المتّحدة الأمريكية، ومكوّنا أساسيا للقطاع غير الربحي في الإقتصاد.
ثمة مظهر جليّ يميز التدّين الأمريكي، حيث يتنوّع الإلتزام الذاتي بحسب الجماعة الدينية. ولكون اختلاف القطاعات الدينية بشتّى التمايزات بينها، من الأمور المعتادة في مختلف أرجاء العالم، فقد دفع ذلك غالبا إلى اعتبار التعدّدية الدينية مقوّما أساسيا للدّين في الولايات المتحدة. فهناك ما يزيد عن 2100 جماعة دينيّة في أمريكا، حاوية لتنوّعات شتّى من الطقوس والنحل الدينية الجديدة، وفي هذا المركّب هناك 133 جماعة تحفل بـ 55 مليون عضو منخرط و 137 مليونا من الموالين. وتبيّن أرقام الرقابة الاجتماعية العامة، خلال سنوات 1989-1996، أن 25% من الأمريكيين يعرّفون ذواتهم بكونهم من الكاثوليك، وتقريبا 26% هم ممن ينضوون في تجمّعات المعمدانيين والبروتستانت المحافظين (مثل تجمّع الربّ، وكنائس المسيح، وكنيسة الربّ المسيح، والناصرية، والبندكستيين) والبروتستانت المعتدلين والتحرّريين (مثل الكنائس الأسقفية، والقسّيسية، والميتوديين واللّوثريين) الذين يمثّلون 29%؛ وأن أكثر من 9% ليسوا متديّنين، و2،5% من اليهود، وما يقارب 2% يصرّحون بانتمائهم لتكتّلات غير مسيحية. فالهوية الدينية تتنوّع جليا بين الأقلّيات والإثنيات. فمثلا بين الأمريكيين من أصل إفريقي: يصرّح 54% بانضوائهم تحت تكتّل المعمدانيين و11% تحت نِحل محافظة مثل كنيسة الربّ المسيح، و11% منهم تحت تجمّع الميتوديين، وهناك 7% فقط منهم ممن يعدّون من الكاثوليك، كما أن أقلّ من 2% ينضوون تحت جماعات غير مسيحية، مثل مختلف الجماعات المسلمة. تؤثّر التنوّعات الإثنية على التعدّدية الدينية بشكل خفيّ، وقد بدأ البحث في ديانات الأقليات المهاجرة، بفعل ما تفرضه الحاجة من دراسات في المجال. ومن اللاّزم أيضا إبراز، أن الإنتماءات الدينية تتركّز في أنحاء محدّدة من البلاد. فالكاثوليك يتواجدون في الشمال الشرقي وفي الجنوب الغربي، في حين يحضر اللّوثريون أساسا في المناطق العليا للميدويست. ويسيطر المعمدانيون على الجنوب وأمّا المرمونيون فيتوزّعون على الجبال الداخلية الغربية. ويلاحظ أن ما يناهز ثلث الأمريكيين يبدّلون انتماءاتهم الدينية، وما يقارب الثلث من هؤلاء المبدّلين يقوم بأكثر من تحوّل. وتبيِّن سواء أرقام الحاسب الآلي أو إحصائيات مختلف التجمّعات، أن نِحل البروتستانية المحافظة وشهود يهوه والمرمونيين وغير المتديّنين، كان لها "تناميا هامشيا" بسبب تغييرات الإنتماء ناهيك عن مسبّبات أخرى. في حين تتّجه الكنائس البروتستانية المعتدِلة والتحرّرية نحو خسران بعض المواقع في الميدان. وبخلاف الرأي الشائع، فإن أرقام التحوّلات الدينية لا تشهد أيّ تنام.
تبيّن الأبحاث بشكل جلي أن الإعتقادات والسلوكات الدينية ناشطة جرّاء عوامل:
أ_الإحتضان العائلي والديني. ب_الجنس. ج_الحالة الاجتماعية. د_أحداث الحياة والتقدّم في السنّ.
يؤثّر الأولياء على معتقدات الأبناء والتزاماتهم، سواء بطريقة مباشرة، عبر التشارك في الإعتقادات والإلتزامات، أو كذلك عبر سياق العلاقات الاجتماعية. ويميل الأولياء أكثر نحو توريث نوعية التدّين والانتماء، حين تغمرهم التزامات دينية مشتركة. ويوفّق الأزواج الكاثوليك والبروتستانت المحافظون في نقل الدين للأبناء حتى عند الإفتراق. وتدفع النحل البروتستانية المحافظة أفرادها، لاعتناق كمّ أوفر من الإعتقادات الدينية التقليدية، وكذلك للمشاركة في أنشطة دينية دائمة. وبالنتيجة، فإن أفراد التجمّعات المحافظة هم أقلّ ميلا للتملّص من الدين، كما أنهم يُقضّون وقتا أكثر وينفقون مالا أوفر على تلك التجمّعات.
تشارك النسوة بنسب عالية في الجمعيات الدينية، بل ويملن بشكل أقل لنبذ الدين، كما أنهن يتمسّكن باعتقادات دينية أكثر أرثوذكسية مقارنة بالرجال. وبرغم التعاليم والأحكام النابذة للنّساء ظاهريا، فإن المنظّمات الدينية تفتح فضاءاتها الاجتماعية وتقدّم دعمها لتشجيع مشاركات النساء، مانحة إياهن فرصا عديدة لتقلّد المسؤولية. ويتبيّن ان النساء الشابات لهن قدرة اندماج اجتماعية أكبر وبشكل موفّق، مع الإعتقادات والالتزامات الدينية، فمهامهنّ الأساسية في المنزل تسهّل دفعهنّ لتدعيم وتقلّد هذه الدور. ويفترض منظّرون، كون النساء عرضة لمخاطر أوفر، فإن ذلك يقودهنّ  ليصرن أكثر تديّنا.
تخلِّف الوقائع الاجتماعية آثارا متنوّعة على الإعتقادات والإلتزامات الدينية. فنجد المستويات التعليمية العليا لها تأثير سلبي على الولاء للإعتقادات الدينية التقليدية؛ بأي شكل، فالتعليم يدفع في العموم بالمشاركة في المنظّمات الدينية. ونجد الأفراد الذين لديهم دخل أعلى يقدّمون مالا أوفر للجمعيات الدينية، ولو أن مساهماتهم تعدّ أقلّ، مقدَّرة بنسبة مئوية من المحصول. كما يسعى الأشخاص ذوو الدخل المرتفع لتحويل التبرّعات للجمعيات الدينية. وتنمّي متابعة مستوى تعليمي معيّن فرص مغادرة الإنتماء للجمعيات الدينية، وأمّا تجاوز المستوى التعليمي المتوسّط في التجمّعات الدينية فإنه يشجّع على الإرتداد والتحوّل الديني. ويكشف أثر التداخل المتين، بين الالتزامات الدينية وتكوين العائلة وتربية الأبناء بشكل جلي، على السلوك الديني أثناء مشوار الحياة. فغالبا ما يشجّع الزواج أو إنجاب الأبناء على المشاركة الدينية، في حين أن الطلاق والمعاشرة غير الشرعية غالبا ما يحدّان منها. فآثار تلك الأحداث في الحياة، ذات أهمية، على السلوكات الدينية. فعندما يتزوّج فردان ويكون لهما بنين في سن ما فهما غالبا ما يتمتّعان بالمساعدة الاجتماعية التي تمنح للأولياء من الجمعيات الدينية. يبيّن البحث أن الأفراد الذين لديهم أبناء، وهم يشارفون العشرين أو في بداية الثلاثين، تعلو نسبة مشاركتهم الدينية. كما يضاعف الزواج بين أفراد مختلفي الديانة نسبة التحوّل الديني، حيث نجد الزوجين غالبا ما يتحاوران في مسائل الإلتزامات الدينية. ويشجّع التقدّم في السنّ على المشاركة الدينية، حيث يبدو الأمر عائدا لأسباب الإندماج المتطوّر، وللرغبة في المساندة الاجتماعية، أو كذلك لحاجة كبيرة لتفسير معنى الحياة.
لقد حلّل الدارسون تأثير الحراك الجهوي والجغرافي على التديّن وأولوهما اهتماما خاصا. فمثلا ساهمت بعض التمركزات الجهوية لبعض التجمّعات الدينية في الولايات المتّحدة، في إضفاء نعوتات مميّزة، حيث عدّ الجنوب أكثر "تقوى" والغرب نسبيا غير متديّن. وتبيّن بعض الأبحاث أن الهجرة نحو المناطق الأقلّ التزاما تقلّل من التقى الديني، في حين التحوّل نحو فضاءات أكثر ورعا ينمّي المشاركة الدينية ويولي الإيمان أهمية. أما الأمريكيون من أصل إفريقي، القاطنون في الجنوب وخصوصا في الجنوب الريفي، فيسجّلون نسبة عالية من المشاركة الدينية، كما ليست لديهم استعدادات لهجران الدين. إضافة إلى هذا، نجد أن الحراك الجغرافي غالبا ما يفكّك الروابط الاجتماعية ويقود لتغيير الانتماء الديني، دون استبعاد الإهتداء لحركات دينية جديدة.
2_ تأثير الدين على الحياة الاجتماعية
كان الانشغال المستجدّ لعلم الاجتماع الديني مدفوعا نحو التنبّه لآثار الإعتقادات والإلتزامات الفردية، وكذلك لأثر المؤسّسات الدينية على قطاعات الحياة الاجتماعية الأخرى. فلا يرفض الدين التواري فحسب، بل يواصل تأثيره على: أ-الإنتماءات والإلتزامات السياسية. ب-العلاقات الأسرية. ج-الصحّة والرفاهية. د-الفضاء الاجتماعي الحرّ والرأسمال الاجتماعي.
الدين والحركات الاجتماعية والسياسية
لاقت دراسة التماس بين الدين والسياسة دفعا مستجدّا منذ ظهور "المسيحيّة المسيّسة" بأغلبية محافظة في السبعينيات، وكذلك منذ ظهور الحركات الإسلامية الثورية في الشرق الأوسط. فلفترة طويلة أهمل الدارسون الدور النافذ للدّين في العالم السياسي، برغم نشوب صراعات سياسية في إيرلندا والهند وسيريلانكا وفلسطين والبوسنة، وفي عدّة بقاع أخرى، كانت فيها المسبّبات الدينية جلية. فللإعتقادات الدينية والالتزامات والأصول، جانب هام في تشكيل الهويات العرقية والمحافظة عليها، بما توفّره من مصادر إيديولوجية ووسائل توظّف في تأجيج الصراعات العرقية: من معركة الحقوق المدنية للزّنوج في الولايات المتّحدة، إلى المطالبة بالعدالة الاجتماعية في أمريكا اللاتينية، إلى الحركات الإسلامية والصهيونية في الشرق الأوسط. فعلى مدى فترات طويلة من السبعينيات والثمانينيات، تغافل دارسو الحركات السياسية عن التأثيرات الثقافية لأنشطة بعض الحركات، وتحدّث منظرو الحركية النشاطية على الأهمية العالية للدّين في النضال من أجل الاعتراف بالحقوق المدنية للأمريكيين من أصل إفريقي، بما وفّر لهم من دعامات تنظيمية ورمزية: تسيير، قوة حاضرة ومتوفّرة، منحشرة في شبكة اجتماعية كثيفة، ومصدر محلي للأصول. وقد ساعدت هذه التحاليل على لفت الإنتباه للصّلة الرابطة بين الدين والحركات الاجتماعية. وبالغت التطوّرات الجديدة للنظرية في إبراز أهمية دور المؤسّسات الثقافية بالنسبة للحركات الاجتماعية، مما دفع بهذا المنعرج الثقافي نحو إعادة اختبار الشكل، الذي يمكن أن تلعبه الإيديولوجيات والمؤسّسات الدينية في:
أ-توفير منطلق عملي يحدّد متطلّبات الحركة.
ب- أثرُ مختلف مواقف الحركة.
ج-خلق مشروعية اجتماعية لدفع الحراك وتجنّب الكبت.
د-منح صوت للحركات الاجتماعية، بمساعدتها لإحداث الحراك العقلاني للعمل، ولتأسيس الهويات الجماعية وصياغة التكتّلات المتضامنة.
وقد تجلّى من الإكتشافات الحديثة، الجارية في مجال الدراسات المتعلّقة بالصلة بين الدين والحركات الاجتماعية، أن الإيديولوجيات، التي تؤكّد على "الهوية" و"الاختلاف" المسيحي مع إمكانية مصادر تنظيمية، حاوية عناصر من اليمين الأشدّ عنفا، وظّفها ناشطو الجماعات الليبرالية البروتستانية والكاثوليكية للاعتراف بمشروعية الإجهاض، أين توفّر المسيحية المحافظة، بشكل بارز، مصادر رمزية ومادية للجماعات المضادة للإجهاض مثل -Operation Rescue-، فقد مثّل منتمون كاثوليك وبروتستانت ليبراليون دافعا للحركات المناهضة للتدخّلات العسكرية للولايات المتحّدة في أمريكا الوسطى. وتؤثّر في الولايات المتحدّة الإنتماءات والإلتزامات الدينية بشكل جوهري على التوجّهات السياسية التي تتعلّق بمسائل خلقية مثل: الدعارة والإجهاض واللّواط. فالهوة، الفاصلة بين أتباع ديانات "محافظة"، يستمدّون التزاماتهم من استلهام سلطة نصوص مقدّسة، وبين أتباع ديانات "تقدّمية" يجعلون الأخلاق نسبية داخل السياقات الاجتماعية الحديثة، حملت البعض على الإقرار بأن المسائل الأخلاقية تكون دائما متمحورة بين حقلين منتظمين، في شكل "حرب ثقافية". لم توفّق الأبحاث الجديدة في العثور على اتجاهات تمحوِر ضمنها سلسلة القيم السياسية والخلقية، داخل وعبر الجماعات الدينية، إذ تغذّي عديد الدراسات شكوك حادّة بشأن الأرثوذكسية الدينية في مقابل الهويات السياسية. مع ذلك وجد لايمان أن عناصر التجمّعات المحافظة البروتستانية باتوا أكثر ميلا نحو الحزب الجمهوري بداية من 1980، وأن الإلتزام الديني كان يستند دائما إلى صوت الناخبين الجمهوريين، وبالتالي، فعلى الرغم من المبالغات المتضمّنة في مفهوم "حرب الثقافات"، فقد بيّن البحث المعاصر تأثير الدين المتواصل على الإلتزام الاجتماعي والسياسي في الولايات المتّحدة، ونجد في المجال قسما معتبرا من الكتابات يوثّق لغزو الإعتقادات والإلتزامات الدينية للقيم السياسية والسلوكيات.
*_ الدين والمسائل الأسرية
شهد العقد الماضي عناية ملحوظة بإبراز أهمّية الصلات الرابطة بين الدين والعائلة. فقد سعى الجيل السابق من الباحثين للتركيز على أوجه الإختلاف بين الكاثوليك والبروتستانت فيما يتعلّق بالقيم الأسرية والخلقية، لكن اليوم نجد العديد من تلك الإختلافات تندثر بفعل الحراك المتنامي، وبفعل اندماج الجماعات العرقية الكاثوليكية، وتنوّع التكتلات البروتستانية، وكذلك جرّاء الزيجات بين مختلف أتباع الديانات، وما جرى من تحوّلات في الكاثوليكية مع بداية الستّينيات. وقد عالجت الأبحاث الجديدة المنشغلة بتدارس الصلات بين العائلة والدين: أ- المنكحية لدى المراهقين. ب- الزواج والخصوبة. ج- تربية الأبناء. د- دور الأولياء.
تؤثّر العوامل الدينية بجلاء على العادات الجنسية للمراهقين وعلى سلوك الإنجاب. فالنساء الشابات اللائي يرتدن الوظائف بانتظام، ويراعين الدين في حياتهن ويحافظن على صِلاتهن مع الكنيسة، هن أقلّ أهبة من غيرهن للممارسة الجنسية قبل الزواج أو لاستعمال موانع الحمل. كما نجد أن عناصر بعض التجمّعات حرّرت مواقفها فيما له صلة بالجنس السابق للزّواج، في حين لم يبلغ البروتستانت المحافظون ذلك بعد. ومن المهم ملاحظة، أنّ الثمانينيات شهدت توازي تطوّر انتماءات المراهقات البيض لتجمّعات بروتستانية محافظة مع احتمالات المحافظة على العذرية، ولعلّ الأمر عائد لأنشطة جماعات مسيحية مثل: -True Love Waits- .
يتزوّج البروتستانت المحافظون قبل أعضاء الجماعات الدينية الأخرى، بما فيهم الكاثوليك. ويترافق الارتياد للكنيسة والتقى الديني من جانب الزيجات مع سعادة دينية عالية وانسجام، وكذلك بفرص قليلة للتصادم، بما فيه العنف الأسَري وتفكّك الأواصر. لذلك يمكن أن يضفي الإنتماء إلى جماعة دينية قيمة على الإلتزامات الحياتية للزيجة، وتشجيعا لقيم المحبّة والرعاية وحصرا لرغبات الأنانية. ويلاحظ أن الزواج بين أفراد من نفس العقيدة يوفّر فرص سعادة أوفر لهم ويجعلهم أقلّ عرضة، من ذوي الإعتقادات المختلفة، لإنهاء زواجهما بالطلاق. وعادة ما يرتبط مستوى المسافة اللاّهوتية الفاصلة بين طرفي الزيجة بعدم الإقتناع بالزواج لما يخلّفه من صراع، بما في ذلك العنف المنزلي. كما تكون الزيجة الحاوية لفرد أصولي أو فئوي عرضة للمخاطر، جرّاء عدم التوافق، وجرّاء تهديدات التفكّك.
يخفّض التمايز الديني أيضا معدّلات الخصوبة بين الكاثوليك وأتباع مرمون. وتعدّ الخصوبة بين البروتستانت المحافظين مرتفعة مقارنة بغيرهم، ويعود ذلك للّهاويت ما قبل الإنجاب، ولمستويات الإلتزام الديني العليا، وكذلك بفعل الزواج المبكّر، أو لأثر واقع اجتماعي اقتصادي بائس. كان للكاثوليك معدّل إنجاب أكثر خصوبة مما عليه البروتستانت على مدى القرن العشرين، بيد أن ذلك النمو عرف تبدّلا جذريا. يعدّ معدل الخصوبة بين البيض غير الإسبان، أقل لدى الكاثوليك منه لدى البروتستانت، خصوصا وأن الكاثوليك يقبِلون على الزواج متأخّرا وبصفة أقل. يحوز المرمونيون أعلى معدّل خصوبة بين كافة الجماعات الدينية الكبرى، في حين يحصد غير المتديّنين نسبة خصوبة أقل، وأيضا نسبة عليا في افتقادهم الأبناء.
بعد عقود من الإهمال سلّطت دراسات حديثة الضوء على تأثير الدين على الأبناء والأولياء. مثلا في التحليل، الذي يربط بشكل إيجابي بين تديّن الأمّهات والجدّات من ناحية الأمّ بصلات الأم-الابن، وذلك حتى فترة الطفولة المتأخرة. كذلك ثمة وفرة للنّصوص التي تركّز على فلسفات مغايرة في تربية أبناء البروتستانت المحافظين. وفي الكتيّبات الموجّهة للأولياء بصفة مكثّفة، نجد كتّابا أصوليين وإنجيليين يعبّرون عن خيارات محدّدة في أدوار الأولياء بشكل جلي، وعن علاقات تراتبية خالية من أي تساو، فيما يخص علاقة الوالد-الابن. كما يجلو من خلال الأبحاث استعداد البروتستانت المحافظين لاعتماد واستعمال عقوبات جسدية، برغم ارتفاع أصوات نقد منشغلة بالحالة، ومتذمّرة مما في أساليب الأنجلة الشرعية في تربية الأبناء من ممارسات سلطوية متعسّفة، ولكن لفت الانتباه يمكن أن يكون مبالغا. توفّر كتيّبات تربية الأبناء تعليمات ذات أثر بشأن كيفية تسليط عقوبات جسدية، لكن تقريبا دائما "خفيفة أو معتدلة". ونجد الأولياء البروتستانت المحافظين يصرخون في وجوه أبنائهم بحدّة أقلّ، كما يظهرون عطفا جسديا وقوليا تجاههم أكثر من غيرهم من الأولياء. ويقضي الآباء الإنجيليون، وعموما الأكثر تديّنا، وقتا أوفر مع أطفالهم كما يرعونهم بعناية مقارنة بغيرهم من الآباء. ولعلّه لتلك الأسباب، تنفي دراسة حديثة العثور على أي نتيجة سلبية للعقوبات الجسدية المسلّطة على الأبناء البروتستانت.
تعدّ الإعتقادات والإلتزامات الدينية أساسية لتدعيم وتقوية أدوار من هذا النوع. يجد الدارسون أن الإعتقادات الدينية التقليدية، والارتياد الديني المنتظم، وكذلك صلات البروتستانت المحافظين وصلات المرمونيين، كلّها تؤكد أدوارا من النوع الأبوي. وفي نفس الوقت يحضر تمايز واسع في العادات المميزة بين البروتستانت المحافظين. فالنساء البروتستانيات المحافظات مثلا، واللّواتي لهن أبناء صغار يبدين تعلّقا أقل بالشغل، كما تعمل أعداد متطوّرة من النساء البروتستانيات المحافظات خارج المنزل، مثيرات بشكل ما إعادة نظر وتحوير إيديولوجي في الإكليروس وفي السلطات الكنسية. يبدو التمييز الجنسي في نوعية العمل المنزلي أكثر جلاء بين الزيجات الإنجيلية، ولكن يبقى هذا الإختلاف متواضع النسبة. تبيّن الدراسات الإثنوغرافية أن اتخاذ القرارات داخل العائلات الإنجيلية يجري ضمن نطاق موسّع وبحسب مفاوضات بين الشريكين، وبقلّص فرص السيطرة الذكورية. ويبدو تقسيم الأدوار في الجماعات الدينية معقّدا، حتى وإن بدت الإعتقادات والثقافات المنظّمة مهمِّشة للنّساء. وتضبط دراسات مختلفة وسائل عدّة، تجد النساء فيها رضا وتجد عبرها سلطة، داخل الشرائح المحافظة البروتستانية واليهودية.
*_ الدين والصحّة والرفاهية
شهدت الأبحاث المتنوّعة، بشأن العلاقة بين الدين والصحّة والرفاهية، في السنوات الأخيرة تطوّرا لافتا. حيث وظّفت الدراسات معدّلات إحصاء، وتقنيات تحليل متطوّرة. كما سجِّلت مراقبة متنوّعة للآثار الجوهرية والإيجابية للدّيني على الصحّة الجسدية والعقلية، وعلى معدّلات الوفيات. وبالاعتماد على المفاهيم الدركهايمية للدّين، كقوة اجتماعية تنظيمية واندماجية، بدأ الدارسون في تحديد السياقات التي يؤثّر الدين من خلالها على الصحّة والرفاهية، والتي من بينها: أ-السلوكات المرتبطة بالصحّة وعوائد الحياة الشخصية. ب-الإندماج والمساندة الاجتماعية. ج-الدعامات النفسيّة. د-الوفاق بين السلوكات والأصول. هـ-المثيرات الإيجابية والإعتقادات الصحّية.
ويمكن أن يؤثّر العامل الديني على السلامة الجسدية والعقلية، بضبط السلوكات الشخصية بشكل يقلّل من مخاطر الإصابة. فمن خلال مثال موثّق بشكل دقيق، يتبيّن أن الإرتياد والإنتماء لجماعات محافظة أو فئوية، يلتقي بتضاد مع الكحول والتدخين، وباستعمال المواد المخدرة أو الإدمان عليها، والتي تخلّف أمراضا مزمنة. كما نجد أن أغلب الجماعات الدينية لها تعاليم غير مشجّعة على السلوكات الشاذة (مثل الممارسات الجنسية الخطرة والعلاقات غير الشرعية)، وتوفّر في الأثناء إرشادات على المسائل الأسرية، كما تسعى لتوجيه خيارات وأنماط الحياة بشكل يمكّن من تقليل التعرّض للمكاره أو لحالات الضيق القاهرة.
توفّر التجمّعات الدينية فرصا منتظمة للأنشطة الاجتماعية والتعامل الجماعي، وهكذا تهيّء مجالا خصبا لربط الصداقات. فالجماعات مصادر بالغة الأهمية لتحفيز مشاعر التآزر ولتنمية التعاضد الاجتماعي الطوعي، بما تقدّمه من فرص عون للمحتاجين عبر التضامن، أو المساندة للأفراد الذين يمرّون بلحظات حرجة في حياتهم. وتموّل عديد التجمّعات برامج تكوين موجّهة لمساعدة الأفراد المحتاجين، منها ما يتعلّق بمقاومة الفقر، وبالإرشاد بشأن الصحّة والخدمات العائلية. وتشجّع الجماعات الدينية اللّحمة، التي تشعِر الأفراد بالتحابب والتقدير والاحتذاء. فللسّند الديني جدوى، بما يترتّب عنه من تشارك في قيم الإيثار، وإيمان برؤى مشتركة حول المعاناة وعن أساليب المساعدة.
وتبيّن دراسات حديثة أثر العامل الديني في دعم الصحّة العقلية والبدنيّة، بما يساهم فيه من إعلاء التثمين الذاتي والنجاعة الشخصية، خصوصا لدى فئات شعبية معيّنة، مثل كبار السنّ والأمريكيين من أصل إفريقي. فيمكن للأفراد أن يعلوا من إحساسهم بالمراقبة الذّاتية والتثمين الذاتي، مستغلّين علاقتهم الشخصية مع "ألوهية أخرى" مشفقة وناشطة، تُترجّى عبر الصلاة أو التأمّل، ضمن بحث شخصي للمواجهة والقيادة. كما يمكن أن تساهم طبيعة الولاء النابعة من الإنتماءات الدينية في تأكيد التعالي الذاتي الإيجابي، عبر ترسيخ الهويات والالتزام بالدور أو التشجيع النابع من التثمين الإيجابي. ويبدو واضحا، ما للسلوكات الدينية من آثار ناجعة وبشكل جيد، على الأفراد الذين يعانون من أعراض مختلفة للقلق الحاد والمزمن، والمتأتّية خصوصا من توتّرات عائلية ومشاكل صحيّة، نفسية منها أيضا. وبشكل ملحّ، تؤكّد عديد النصوص على أهمّية الوعي الديني في بلورة مختلف الأشكال التي يؤوِّل بها الأفراد الأحداث والوقائع السيّئة ويعطونها معنى، وبذلك يسيطرون على التهديدات المتولّدة عن تلك المشاكل، مستغلّين ما لديهم من إمكانيات لتخطّيها.
ويلحّ الباحثون أيضا على مجموعة واسعة من الأوَاليات المضافة الجامعة بين الدين والصحة، كالعواطف الإيجابية: مثل المحبة، والغبطة، والصفح، والرجاء، والأمل، والتي غالبا ما تتأتّى من الإيمان الشخصي. ويمكن لبعض الطقوس أو بعض التجارب النسكية، خصوصا منها الحفلات الوجدية أو التطهرية، أن تولّد منافع ذات صلة بالصحّة العقلية والجسدية. وفي نفس الوقت، بدأ الباحثون، في هذا القطاع الخصب، في اكتشاف آثار أخرى للجماعات الدينية، من نوع: "الإيمان السام الخانق"، العلاقة غير المنسجمة مع الدين، صراعات الكنائس فيما بينها، والتي يمكن أن تضع موضع اختبار صحّة ورفاهية أعضائها.
*- الفضاء الاجتماعي الحرّ والرأسمال الاجتماعي
تقدّر عديد النصوص أن الجماعات الدينية بإمكانها تعبئة دور "الفضاء الاجتماعي الحر" لدى بعض الجماعات المهمَّشة، بما توفّره للأفراد من "رأسمال اجتماعي" يتيسّر توظيفه في مآرب عملية. يمكن للرأسمال الاجتماعي أن يساهم في تحقيق نتائج إيجابية: أ-موفّرا قيَمًا وخاصيات تأطير للسّلوكات بحسب توجّهات محدّدة، ومانعًا عن غيرها. ب- ودافعا سيولة الأخبار. ج- مشجّعا الإستثمار على المدى الطويل سواء للوقت أو للطّاقة، ومرسّخا العلاقات داخل سياقات محكومة بتبادل الثقة والإلتزام. وفي مسرح التاريخ الأمريكي ردّت عديد الجماعات على ظروف التهميش الثقافي والمؤسّسي ببعث تنظيمات دينيّة، منمّية فيها أوجها جديدة من التعبير الروحي، ومعلِية حصونا شبه مستقلة، داخل المؤسّسات الدينيّة القارة. بشكل موسّع، حفلت هذه "الفضاءات الحرّة" بالأنشطة التالية، أو بالبعض منها: أ- معانقة الإشباع الروحي والرضا النفسي. ب- منح الفرصة لدعم الثقافات والهويات العرقية للجماعات الأخرى. ج- صياغة وتوجيه المطالب الخاصة بالجماعات المنسية، في الفضاءات الأخرى. د- الحثّ على الوعي بالمصالح المشتركة وتشجيع الحراك الجماعي. فمن بين عديد النماذج المعاصرة لهذه الظواهر المختلفة، هناك المنظّمات التي تركّز اهتماماتها على الحاجات الروحية وعلى المصالح الاجتماعية، للّوطيين والسحاقيات، مثل:-Metropolitan Community Church- وعديد الرابطات والجمعيات داخل التجمّعات التقليدية، والتي تحوي عديد الجمعيات النسوية الروحية من ضمنها قائمة من الجماعات الوثنية، والجماعات الدينية التي تمّ بعثها من طرف الأقليات العرقية والإثنية. لعلّ النموذج الأكثر جلاء للدين كـ"فضاء حرّ" يوجد في التقليد النشيط لكنيسة الأمريكيين من أصل إفريقي. فعلى مدى أجيال احتلّت المؤسّسات الدينية مواقع مركزية رمزية داخل الجالية الأمريكية من أصل إفريقي، مشكّلة مصادر حيوية للمساعدة الجماعية الذاتية، وللتطوّر الجماعي، وللإصلاح الأخلاقي، ولإسداء خدمات اجتماعية، مع توجيه الجالية وتنشيطها سياسيا. بيّن البحث المجرى الدورَ المركّب لمختلف التجمّعات الجديدة للمهاجرين، في إعادة خلق وإحياء التقاليد الدينية للجماعات الإثنية في أغلب المدن الأمريكية. بشكل عام تبيّن هذه الدراسات أن تجمّعات المهاجرين تمثّل مختلف التقاليد الإيمانية، وعادة ما تكون شبكات اجتماعية وإخبارية، علاوة على ما توفّره من إمكانيات ومصادر تسهّل التكيّف النفسي والتحوّل باتجاه الأرقى للوافدين الجدد.
لقد تم اعتبار الدين لزمن بؤرة للجريمة والعنف، لعديد الأسباب، منها: أ- الاستبطان لخاصيات ورؤى دينية مميزة. ب- الخشية من العقاب الإلهي. ج- التهديد بعقوبات اجتماعية بين المدِينِين بنفس الديانة. د- رغبة الاستحسان في الجماعات المرجعية داخل التكتّلات هـ- قلة التعرّض لمظاهر الانحراف الحادثة بسبب الأنشطة المتولدة عن شبكات لها صلات دينية. ومهما يكن من أمر فإن الدراسات في هذا القطاع تميّز بين الكيفية والغرض، إذا ما كان الدين يصدّ عن اقتراف الجريمة أو الانحراف. وفي الحين الذي يقرّ فيه بعض الباحثين، أن الصلة يمكن أن تكون زائفة، يدعم آخرون القول بأن آثار الدين تخضع لنوعية الإساءة وجدّيتها، أو لاختلاف الخاصيات الدينية المغايرة لما هو عَلماني. فالذين يساندون افتراض جدوى "التجمّعات الأخلاقية" يدعمون الرأي أن سلطة الدين تنهى عن الانحراف، جرّاء التمركز في سياقات مثل: المدارس والتنظيمات والتجمّعات، المتميّزة بمستويات تديّن مركّبة وعالية وبتجانس ديني.
وقد سلّطت دراسات حديثة الضوء على اختلاف تفسيرات الجريمة والانحراف. بمعدّل، يدين فيه البروتستانت المحافظون، وبشكل صارم أكثر أنواع الجرائم مقارنة بغيرهم، كما يساندون في نفس الوقت تسليط العقوبات المتشدّدة ضدّ مقترفيها. وتقترح بعض الدراسات، أن البرامج الدينية للسّجون يمكن أن تخفّض المشاكل الحادثة بين المساجين وتحدّ من سلوكاتهم الآثمة. لهذا يعدّ اكتساب تفهّم أحسن لطبيعة تعقّد الصلّة بين الدين والجريمة، مما ينبغي أن تكون له الأولوية في المستقبل.
كان التعريض على أهمية دور الدين في ضبط السلوكيات من الأمور الشاغلة في السنوات الأخيرة، ويعود التنبّه بشكل كبير لتأثير الجماعة الإيمانية على المجتمع. ومع أن  تجارب مخبرية على القطاع أفادت ان للدّين دور محدود في التأثير على سلوكات المساعدة العفوية أو الإيثار الفردي، فإن عديد الدراسات تبيّن أن المدروسين الذين يصرّحون بالأداء المنتظم للصّلوات غالبا ما ينعتون من المحاورين بالأكثر صداقة والأكثر تعاونا. فأغلب الجماعات الدينية تحثّ على العمل التطوّعي والخيري، لأسباب عدة، سواء نفعية أو لاهوتية. وتكشف النصوص الصادرة أن الدين والمنظّمات المتشكّلة جرّاء الدين تحتل مكانا مركزيا داخل القطاع التطوّعي الشاسع، وتبيِّن حديثا بعض الدراسات كيف أن الجماعات تسوق الأفراد باتجاه أغراض اجتماعية. كما ألمحت دراسات أجريت على مستوى فردي أن المتردّدين على الكنيسة بانتظام يقضّون وقتا أطول من غيرهم في الأنشطة التطوعية، باعتبارهم مكوّنات متّصلة بالكنيسة وبالجماعة بشكل أوسع.
إضافة إلى ذلك، وتحت قيادة مرشدين تربويين ورجال دين، فإنه غالبا ما تدفع الأعمال التطوّعية المموّلة من طرف الكنيسة، والناتجة عن تبرّعات خيرية، الشبابَ للتبرّع بالدم ومساعدة المشرَّدين، وإرساء البرامج التي تعتني بالفقراء وكبار السنّ، إلخ. موعزة بذلك دروسا بليغة بشأن التضامن المدني والعناية بالآخرين. وغالبا ما يكون الأثر الديني موجّها نحو مسائل ذات نفع موسَّع. كما يمكن للجماعات الدينية أن تدفع بالشبّان للتركيز على أهداف بعيدة المدى، وعلى المثابرة وعلى مراعاة الانضباط. كما يمكن أيضا أن تحثّ الكهول على الإستثمار في أشياء ذات مردود بعيد المدى عبر حياة الشباب. في الواقع المؤسّسات الدينية هي من ضمن فضاءات اجتماعية قليلة توفّق في جمع الشباب والكهول معا بانتظام، يحضر فيها الكهول نماذج مرجعية جادة، رغم أنهم لا تربطهم صلات قرابة بهؤلاء الشبّان. فيمكن أن تكون لبعض المؤثّرات أهمية أثناء المراهقة وأثناء المرحلة المتقدّمة من فترة النضج، لما يتراجع تأثير الوالدين.
ومنذ الستّينيات ومع مطلع السبعينيات، عالج جمع كبير من الباحثين مسألة تأثير الإلتزام الديني على فرص الحياة، مركّزين على مساعي الكاثوليك للتآلف وبأشكال متضاربة مع التربية المدرسية. بأي شكل، فمنذ الثمانينيات تراجعت الإختلافات بين الكاثوليك والبروتستانت، مما قلّص النظريات التي تفسّر بقايا المؤثرات الدينية على التوفيق الدراسي. لقد جدّد البحث الجاري الإهتمام بالتواصل بين الدين والتربية المتركّزة على قيم تدفع وترسّخ الأهداف التربوية. فقد كشفت دراسة جديدة متعلّقة بطالب فائز على المستوى الوطني في المعاهد العليا، أن الذين يقبلون بانتظام على الأنشطة الدينية لهم ميل لقضاء وقت أوفر في العمل الدراسي، وهم قليلا ما يتخلّون عن الدروس كما أنّهم أمْيل للحصول على شهاداتهم الدراسية مقارنة بأقرانهم غير المتديّنين. ويولي جهاز هام من الباحثين اختبار أشكال مختلفة من الرأسمال الاجتماعي داخل التجمّعات المدرسية الكاثوليكية، موثّقين أثرها الإيجابي بسلسلة من النتائج التربوية والاجتماعية. كما نجد رصدا متطوّرا يكشف أن التحوّل الديني يشجّع التمدرس بين الأمريكيين من أصل إفريقي، القاطنين في الضواحي، وبين الشبيبة المهاجرة، مما يساهم في إثنائهم عن الإنتماء لثقافات شبابية متعارضة.
تكون أحيانا خاصيات الأقليات الثقافية وقيمها في تضارب مع ما يعود للتربية العمومية، وغالبا ما تستغلّ الجماعات غير الراغبة في السائد الفضاءَ الاجتماعيَ الحرّ للتحصّن ضدّ عوامل التذويب والتربية العَلمانية. لقد كان للمدارس الكاثوليكية في الماضي مثل هذا الدور، أمّا في الوقت الحالي فنجد عاملا فاعلا في الصراع الثقافي يتلخّص في انتشار المعارضة بين البروتستانت الأصوليين والإنجيليين للمدارس العمومية، التي تعدّ مؤسّسات مغتربة معادية ومستبطنة لـ"الإنسانوية العَلمانية". حيث ردّ بعض المحافظين البروتستانت، باتّباع استراتيجيات تربوية بديلة مختلفة، حاوية للتدريس المنزلي والمدارس المسيحية. كما أن بعض الدراسات بالغت في اضفاء التميّز والصرامة على المدارس الأصولية، وسجّلت نتائج أخرى دمجا انتقائيا لأنماط واستراتيجيات الثقافة التربوية الرسمية. ولم تحمل المعارضة الثقافية للمدارس العمومية، داخل القسم الأكبر من البروتستانت المحافظين، على هجران التربية العمومية. بل خلافا لذلك، فالمحافظون والناشطون المسيحيون اليمينيون انتقدوا بشدّة المدارس المحلّية وأثاروا جدلا بشأن التكوين، وكتب التدريس، والرقابة، ومسائل أخرى متعلّقة بالسياسة على مستوى الدولة وعلى مستوى الولايات، في كافة أنحاء البلاد. في بعض الحالات، وبما أن المسيحيين المحافظين يشجّعون أبناءهم على تجنّب مؤسّسات التعليم العالي العَلمانية، يبدو ان الأولياء والشبّان، من المسيحيين الأصوليين، يولون بعض الإهتمام تحذيرات الناشطين المتشدّدين، كما هو جلي فإن الشبان الأصوليين الذين يرتادون المعهد أقل عددا، لعدم امتثالهم للانضباط المطلوب في المعاهد العليا، وكذلك للتأثير السلبي للأولياء الأصوليين على النتائج التعليمية لأبنائهم بعد المرحلة الثانوية. يمكن أن تواصل الدراسة البحث مستقبلا في أهمية خاصيات التجمّعات الثقافية على ظروف وتغيّرات حياة أعضائها.
نظريات الاختيار العقلاني للدّين
منذ ما يزيد عن عشر سنوات أكّد ووثناو بيقين أن علم الاجتماع الديني "... قد تطوّر بشكل سريع في البحث الاستقرائي التجريبي وفي التخصّصات الفرعية، أكثر من محاولات إنتاج نظريات ومفاهيم تكاملية". اليوم يبدو هذا التأكيد أقل صدقا، فقد فسح ثراء الإكتشافات الإختبارية -من نوع المعتقدات الدينية والإلتزامات والمؤسّسات ونتائجها- الحقلَ على رؤى نظرية مستجدة. وتحوّلت الومضات المتفرّقة للنباهة النظرية المنطلقة مع منتهى السبعينيات إلى سيل نشيط في بداية التسعينيات. لقد تولّدت التطوّرات الأكثر أهمية في علم الاجتماع الديني من سياقات الخيار العقلاني. ثمة مدرستان فكريتان عن الإختيار العقلي فيما يتعلق بالدين. حيث يعلي أصحاب نظريات العرض من أثر العوامل التكوينية والفرص الموضوعية الحاضرة في الحقل الديني في إنتاج القيم الدينية، معتبرين أن التفضيل الذّاتي للبضائع الدينية يبقى ثابتا. أما أصحاب نظريات الطلب فيذهبون بخلاف ذلك، حيث يؤكّدون على تنوّع أشكال التفضيل وتأثير مكوّنات اجتماعية أخرى غير دينية على الخيارات الفردية. ففي قلب سياقات الإختيارات العقلانية، يحضر القياس مع السوق مطبّقا على الدين، وتعدّ المسلّمات التالية معتادة بالنسبة لدراسات من هذا النوع:
أن الأسواق الدينية تحوي مجموع المبادلات للمكافأة الماورائية عموما (وعود مكافأة مستقبلية، تفسيرات وشروحات ماورائية لأحداث الحياة).
كما الأمر مع منتوجات أخرى يتمّ إنتاج البضائع الدينية واختيارها واستهلاكها.
ج-  لا يمكن تصديق أو تكذيب الجزاء الأخروي والتفسيرات المتّصلة به، ولذلك تعدّ البضاعة الدينية بضاعة ذات خطورة.
د- تعتبر العلاقات الاجتماعية مصادر الاعتماد الأساسية للإستعلام عن البضائع الدينية، بما تساهم به من طمأنة للمستهلكين على قيمتها.
هـ- عدم التيقّن من قيمة المكافأة ومن صحّة التفسيرات، يخفّض من قيمتها ويعلي من فرص الأفراد لتمييز الإستثمارات الدينية .
و- المنظّمات الدينية هي شركات معهود إليها إنتاج القيم الدينية، في حين التجّمعات هي"وكالات" مسيّرة من طرف أعراف "رجال دين" يخلقون قيما للزبائن.
ز- تتخصّص الشركات بأنشطتها وبنوعية منتوجاتها التي يمكن أن توفّرها، وفقط تلك التي لا تتضمن تراتبية تنظيمية -مثل المعمدانيين- أو تلك التي تقبل بالتعدّدية -مثل الكاثوليك الرومان- يمكن أن تدعم كثيرا من تنوعات العرض.
*- الرأسمال البشري الديني
كانت نظرية الرأسمال البشري الديني لإياناكوني مصدرا للإستلهام وكذلك للمعارضة. فحسب هذه النظرية، تشكّل المشاركة الدينية حماية فردية للرأسمال الديني، سواء في شكل المعرفة أو الإستئناس بالعقائد أو بالطقوس أو بالترانيم وما شابهها، وهكذا استعملت في إنتاج قيم دينية ذات فاعلية جماعية مستقبلية. وتسهّل الفضاءات الدينية العائلية الإستثمار الفعلي للرأسمال الديني كما تعلي من الإنتاج الديني. وتختزل الطقوس والرموز والجماعات الدينية المتغايرة الإنتاجَ الجماعيَ للقيم الدينية، لأن في تلك الحالات لا يتيسّر استعمال الرأسمال البشري الديني بشكل موفّق. وبمثل قدرة طهاة مهرة على تحضير أطعمة ذات قيمة بمكوّنات متقاربة، فإن التجمّعات الدينية المرسملة قادرة على توليد تجارب دينية قيّمة. وكما الأمر في شتى نظريات العرض، تعد الخيارات الفردية ثابتة، وتتبدّل فقط قدرة الإنتاج للقيم الدينية المتنوّعة. وعلاوة على الحدود الرئيسية للإنتاج الديني هناك مستويات الرأسمال البشري المستحوذ عليه من طرف أفراد أو تجمّعات. فيعدّ الأفراد أحرارا في اختياراتهم، إذا ما رغبوا في كماليات دينية، في حين تعدّ الوجوه السلبية المرتبطة بالإستهلاك الديني "كلْفةً".
وظّف إياناكوني هذه النظرية لتفسير سلسلة من الظواهر الدينية. فهو يرتئي أن احتياطات الرأسمال البشري تحدّد المقدرة في تغيير الإنتماء الديني، بالتالي إذا ما حصل تحوير، يجري البحث عن تجمّع مشابه، يمكن فيه استعمال الرأسمال البشري المكتسب سلفا. بحسب هذه النظرية، يسعى الميتوديون مثلا للتحوّل نحو الجماعات المشابهة مثل البرسبتاريين والمعمدانيين، وليس باتجاه تقاليد أقل اعتياد، مثل الكاثوليك أو الهندوس. والشبان الراشدون نزّاعون لتغيير انتماءاتهم لأنهم راكموا رأسمال ديني أقل. وتكون الزيجات المتغايرة أقل أهبة للإنتاج الجماعي للقيم الدينية، وقد ينحون نحو تقليص المشاركة الدينية. وعليه يُرتأى مشاركة النساء بقسط أوفر في إنتاج القيم الدينية مقارنة بالرجال، لحيازتهن تخصّصات ذات صلة بالواجبات الدينية. وفسّرت المساهمة النسبية بالوقت والمال بالجمعيات الدينية، من خلال استعمال هذا الإطار العام. في النهاية وظّف ستارك نظرية الرأسمال البشري لتفسير الجذب النسبي لليهود نحو المسيحية أثناء حقبة الإمبراطورية الرومانية: فلم تؤسّس المسيحية كنيسة مستقلّة، إلى حين لم يطوّر فيه اليهود احتياطات ذات رأسمال ديني مستجدة كليا. وبجلاء، الحركات الدينية الجديدة المتولدة من تراث ديني معروف، لها نجاح أوفر من تلك التي تنشئ فلسفات دينية مستجدّة كليا، أو تلك التي تنشط في فضاءات مغتربة.
*- الميولات والخيارات الدينية
في الوقت الذي تعتبِر فيه مقاربة رأس المال البشري، الأنشطةَ الدينيةَ السابقة عوامل دافعة لمقدرة الأفراد للإنتاج الجماعي للقيم الدينية، فإنّ السياقات الناتجة عن الطلب، تعزّز التجارب الدينية السابقة في التأثير على التلهّف على البضائع الدينية من قبل الناس. ومن الجدير ملاحظة أن وجهة النظر تلك لها جذور ثابتة في النظريات الاقتصادية للتحوّل الباطني للخيارات. فعادة ما تحفّز التجارب الدينية الرغبة نحو البضاعة الدينية المعتادة وتعتبر الخيارات شكلا من التأقلم. ويجعل التكيّف مع التعويضات والتفسيرات والمنظمات، الإعتقاداتَ والإلتزامات المعتادة أكثر قيمة، كما يحدّ من قدرة الأفراد على إنتاج قيم كبرى تصنّف في عداد الثروات الدينية. علاوة، لا يتناسب تحوير الخيارات دائما مع واقع الحال، لقدرة الأفراد على تعلّم خيارات بديلة، حالما يأتي حشر معلومات مستجدّة عبر الروابط الاجتماعية أو عبر تحوّل ظروف الحياة بفعل التربية، أو بفعل التلاقح بين الثقافات، أو التبدّل الجغرافي، أو المشاركة في الحركات أو الحراك الاجتماعي. بالتالي، عادة ما تتشكّل خيارات متضاربة لدى عديد الأفراد أثناء البحث: فيرفضون البضاعة الدينية الشائعة لصالح تعويضات وتفسيرات جديدة ومغايرة.
يبين شركات وولسون أن اعتقادات دينية مميزة في المراهقة -مثل الإيمان بالصدق المطلق للكتاب المقدّس- تستبق خيار التجمّعات المحافظة أكثر مما لدى الجماعات اللّيبرالية أو لدى غير المنتمين. أي مستقلة عن المستويات السابقة للإنتماء الديني، التي تعلي عادة احتمال اختيار الجماعات المحافظة أكثر من تلك الليبرالية وتقلّل من فرص الارتداد. يقود ذلك إلى استنتاج أن الرأسمال البشري والميولات لهما تأثير مشترك على القرارات الدينية. ويحوي التكييف الديني المقدّم من الأولياء ومن التجمّعات تطويرا للميولات نحو بعض الثروات الدينية المميّزة، مؤثّرا ذلك لاحقا على خيارات المشاركة والإنتماء. ويمكن أن يولّد أثر تحوّلات الواقع على التوجّهات الدينية، خيارات جديدة متأتّية جرّاء التبدّل في ظروف الحياة، إتفاقا مع تأكيدات فيبر على وجود رؤى دينية مختلفة في الجماعات عن الوقائع الاجتماعية المغايرة. يبيّن ميلر وهوفمان كيف يمكن للميل أن يحدّد السلوك الديني، ويبيّن الدارسان أن الاندفاعات الخاطئة يمكن أن تقرّر السلوك الديني، كما يوضّحان أن اختلافات نوعية الاندفاعات الخاطئة تساعد على تفسير اختلافات نوعية التديّن: بما أن الإعتقادات والأنشطة الدينية متضمّنة لمخاطر كون الفرد عرضة للخطأ، وبما أن ما يفقده قليل عند الإصرار على اعتقاد ديني، نجد الأفراد الأكثر عرضة النسوة، بما يختزنّه من تقى عوضا عن إمكانيات نتائج الخطأ المطلقة. ربطت تطبيقات حديثة، الطبيعة الحركية للخيارات ودورها الريادي في السلوك المرتبط بالسوق الديني، مع نظريات بنيوية . حيث ينظر للميولات الدينية كسياق يقود الخيارات، في حين تستدعي المشاركة الدينية التفاعل جنب المصادر الدينية. فعادة ما تسند التفاعلات مع المصادر الدينية السياقَ الديني، ويمكن أن تتطوّر نحو اتقان خيارات جديدة. ويسمح التشابك بين الخيارات العقلية والنظريات البنيوية بالمزج بين عناصر مؤسّسية وفردية حاضرة في الأسواق الدينية، كما يسمح أيضا في إطار تركيبي، بدمج آثار العائلة والشغل والتربية والسياسة وغيرها، على الدين وبالعكس.
*- التأثيرات الاجتماعية على الخيارات الدينية الفردية
تعدّ المؤثّرات الاجتماعية على الخيارات الذاتية موضوعا هاما لنقاش النظرية الاقتصادية، فقد فتح علماء الاجتماع الطريق لبعض التحليلات عبر أنماط إكراه معيارية. فكلّ الخيارات تنتظم داخل فضاء علاقات مؤثّر على القرارات، والخيارات الدينية هي بالأساس موضوعات لبعض التأثيرات. فحين تقود المؤثّرات الاجتماعية الخيارات الدينية، تكون دوافع الميل للمكافآت والتفسيرات الماورائية مبتسرة مع نوعية وكمّية البضائع الدينية المختارة، وتتأتّى المؤثرات الاجتماعية على الخيارات من ثلاثة مصادر:
أ-التعاطف، لما يكون الإستهلاك الديني مقودا بالرغبة في إسعاد الغير.
ب-النموذج، لما يكون الدافع للفعل الديني غايته أن يبرز للآخرين ما ينبغي أن يكونوا عليه.
ج-الثواب أو العقاب.
يوفّر التعاطف تفسيرا للتأثيرات المتولّدة من الزوج أو الزوجة على الخيارات الدينية، فعادة ما يرتاد الناس الأنشطة الدينية، أو يختارون التجمّعات الدينية إرضاء لمن يجلّونه، كما تحدّ المحافظة على صلات الرحم مع الأولياء من احتمالات الإرتداد. ويتّخذ الأولياء بانتظام قرارات دينية لإعطاء المثل للأبناء، وحيازتهم لأبناء عادة ما يعلي من نسبة المشاركة الدينية لديهم ويقلّل من احتمالات تخلّي الفرد عن التديّن.
عادة ما ترتبط الخيارات الدينية بمكافآت سلبية أو إيجابية دنيويا، تكون فيها الجماعات الدينية وسائل لمختلف المكافآت الدنيوية، مثل المساعدة الاجتماعية، والولوج لفضاءات مخصّصة، واغتنام أنشطة ذات طابع إقتصادي. وتشكّل العلاقة مع أفراد من نفس الدين حوافز قوية للمشاركة في التنظيمات الدينية. وبالعكس تمثّل الصلات مع أفراد من خارج الجماعة الدينية "تكلفة" معرقلة للإلتزام، خصوصا حين تكون الخيارات الدينية شاذة، مثلما عليه الحال مع الحركات الدينية الجديدة. وفي التجمّعات التي تكون فيها الروابط الاجتماعية متماسكة، عبر الأسرة والعمل وشبكات الصداقة والقرابة وغيرها من الأطر الاجتماعية، يفوز الأفراد بمغانم اجتماعية ذات اعتبار أو ينالون عقوبات جزائية نتيجة رفضهم المشاركة في المؤسّسات الدينية المهيمنة. وهذه العقوبات غير الدينية تقلّص لحدّ ما من حرّية الاختيار الديني. فبين الأمريكيين من أصل إفريقي تخلّف الإمتيازات الدينية أثرا ضعيفا على المشاركة الدينية في الجنوب، خصوصا منه في الجنوب الريفي، مقارنة مع باقي البلاد. ففي الجنوب تعدّ فرص الأمريكيين من أصل إفريقي محدودة، ما عدا الذين تشملهم رعاية الكنائس المعمدانية والميتودية. وتمتّن خاصيات التمييز السكني والمهني الروابط الاجتماعية، وتكون بعض المشاركات الدينية ضرورية للتمتّع بما هو اجتماعي وما شابهه من امتيازات. الحالة جلية ومتّبعة بين المرمونيين، أين تعلو أعداد المشاركة والإلتزام في معاقلهم، في الجبال الداخلية الغربية.
*- تفسيرات دورة الكنيسة-النحلة
تمثّل دورة الكنيسة-النحلة لستارك وباينسبريدج نموذجا نظريا جديرا بالاهتمام لتفهّم سياقات تطوّر الجمعيات الدينية وانكماشها. فنموذجهما يوظّف سواء عناصر طلب أو عناصر عرض، ولذلك يستلزم التعريف والترتيب للمنظّمات الدينية لتفهّم هذا المشهد. تختلف درجة توتّر الجماعات الدينية مع المجتمع الموسّع، فالكنائس لا تدخل عادة في صراعات مع مؤسّسات هذا العالم، التي ترفض التفسيرات الجذرية الأخروية. وعلى خلاف ذلك ، تتطلّع النحل للحصول على الثواب الأخروي القيّم، ولعلّ طبيعة تلك الدعوة تجعلها في علاقة توتّر مع المجتمع المهيمن. وللنّحل جذب للجماعات الاجتماعية المحرومة بما توليه من إعلاء لأهميّة العدول عن المغانم والملذّات في هذا العالم. وبكون المعوِزين هم أوفر عددا، مقارنة بالفئات الموسرة، تمارس الجماعات النحلية جذبا فاعلا وتتطوّر بسرعة حين لا تكون عرضة للقمع.
ليست المنظّمات الدينية –وأيّا كانت عناصرها- كتلا جامدة. فالنحل التي تلاقي نجاحا، تشكّل بيرقراطية ضرورية لمراقبة المصادر وتسييرها ولتحديد أنشطة دعوات التطهّر من الخطايا. وليست العناصر المهنية لتلك البيرقراطيات خاضعة بشكل مباشر لعناصر الحركة، فبعض النخب الدينية تفرض دون شكّ نمطها ومرادها على بقية النحلة، لما بها من ميل للترقّي الاجتماعي نحو الأعلى، وبما ترغب فيه من عدد أوفر من المغانم الدينية متوافقة مع العالم الدنيوي. وبالنتيجة، تنتهي أيضا، حتى العناصر الاجتماعية الأكثر حراكا للنِّحلة، بتفضيل تلك المغانم الدنيوية. بحسب ذلك الشكل، يقود التأثير المصيري لعناصر النخبة إلى تغيير لاحق في البضائع الدينية المنتجة من النحلة. فالندوات وغيرها من الأجهزة المؤسّسية تسمح للنّخبة بمراقبة إنتاج البضائع الدينية، كما تفرض تجانسا للمنتوج عبر الإلزامات، بواسطة تعيين المكلّفين بالشعائر وتنحية للخارجين. تكون النتيجة النهائية التعويضَ المتطوّر للاّهوت الأصلي الأخروي، الموجّه للخلاص الأبدي، بفلسفات أكثر ارتباطا بهذا العالم، متنبّهة للمغانم الدنيوية.
في حين تسعى النحل لتقليص حدّة توتّرها متحوّلة إلى كنائس، كما تواصل عديد العناصر تفضيل الأديان المنعزلة عن العالم، مثل تلك المتفرّعة من النحلة أصلا. وبالتالي تفضّل بعض العناصر الخروج والإنتماء لجماعات تستبطن توتّرا أشدّ وتوفّر مكافآت وتفسيرات ماورائية مميّزة. كما يمكن لغيرها أن تقف ضدّ ذلك التحوّل، فتؤدّي إلى الرفض أو إلى الإنشقاق، مشكّلة بذلك نحلة جديدة. يعدّ الميتوديون النموذج الأمريكي الكلاسيكي في ذلك، فقد تمّ بعث النحلة مع مطلع القرن XIX، متوجّهة في أنشطتها للخلاص الأخروي. ثم بالتدرّج أسّست النحلة منتديات وبدأت في تشغيل مكلّفين دينيين يتقاضون رواتب وبوقت تام، رافضة في ذلك مبادئ الصلاح الفردي ومستعيضة عن جوهرها الداعي للتطهّر من الخطايا بلاهوت معتدل وممنهج. وفي الحين الذي غيّرت فيه بضاعتها الدينية، نجمت حركات فرعية من داخلها، وهكذا ظهر "الميتوديون الأحرار" وغيرهم من النحل التي تبحث عن إرساء "دين السلف". ونجد هؤلاء الباحثين عن الثواب في النحل والفرق الجديدة. فالنحل الإحيائية والفرق الجديدة تملأ ساحة السوق الذي يتطلّب مكافآت ماورائية فعلية، وبشكل ما تحدّ –تلك النحل- من العَلمنة الناتجة عن النموّ المتراخي والفاتر للكنائس.
*- الصرامة والقوة
منذ أن شرع كانتر في الاشتغال على الحركات الطائفية، اعترف الدارسون أن الجماعات التي تُلزِم أعضاءها أكثر تتوفر لها فرص نجاح أوفر، وان هذا النجاح له جذور في الخيارات العقلية للأفراد أنفسهم. وليست الحركات الدينية استثناء في ذلك، فقد بلور علماء الاجتماع أخيرا نظريات تفسّر منشأ الصرامة في الحركات الدينية. واعتمادا على عمل كلاي حول تنامي الجماعات الدينية المتشدّدة وقوتها، يفسّر إياناكوني إيجابيات الصرامة التي يعتبرها نتيجة للترقّي، الحادث بفعل الإنتاج الجماعي للقيم الدينية. فالجماعات الدينية المتشدّدة تعزل العناصر غير المنتجة، التي تغنم بشكل مجاني مجهودات الإنتاج الجماعي للعناصر الأكثر التزاما. ويرى إياناكوني، أنه جرّاء ما تمليه الكنائس المتشدّدة على عناصرها من تقديم تضحيات، يختفي على إثر ذلك الإستغلاليون، في حين العناصر الأكثر تقى فبإمكانها خلق مغانم دينية أوفر لكلّ فرد. ويجلو أن العناصر الأكثر التزاما تضحّي ببعض الأمور الدنيوية، ولكنّها تلاقي مكافأة ببضائع دينية قيّمة منتجة بالتعاون مع منتمين آخرين يشاطرونهم الإلتزام نفسه. تلتقي هذه الأطروحة بجلاء مع البحث التاريخي الذي يبيّن كيف أن الجماعات الدينية المنعزلة والمحافظة كان لها نجاح أكبر من غيرها، كما عليه الأمر في التجمّعات المحافظة التي يتخلّلها حراك أكبر للمصادر، بما تجليه من تنوّعات في تحوّلات الأنظمة الدينية الكاثوليكية. يبيّن نموذج إياناكوني أيضا حالات التضحية المرتفعة، التي تدفع نحو ترتيب ضروري باتجاه الحصول على نسبة كبيرة من المنافع الدنيوية. كما تمّ أيضا رصد أن الأفراد الأدنى التزاما في أي جماعة، يسعون للتحوّل نحو الجماعات الليبرالية الأقل مطلبية، في حين الأفراد الأكثر نشاطا عادة ما يختارون الجماعات الأكثر تشدّدا.
لقد تمّ الترحيب كما الانتقاد لأطروحات "الكنيسة المتشدّدة"، سواء على المستوى النظري أو الإختباري. فيمكن أن تكون خيارات التشدّد عاملا وراء المشاركة الدينية. وبذلك نجد أغلب أفراد المنظّمات الدينية المتشدّدة لا يعدّون إلغاء الصلات بالكفرة، أو الإمتناع عن اللّواط أو ممارسة الجنس قبل الزواج تضحيةً، ويستطيع الأفراد اختيار الجماعات الدينية التي تؤكّد هذه المبادئ. ويمكن أن يكون الفضل الأساسي المولّد من الجماعات "المتشدّدة" أنظمة المعنى الخاصة، التي توفّر تفسيرات مقبولة. إذ هذه الإعتقادات والمبادئ ليست مرتبطة بالإنتاج الجماعي للثّروة الدينية، وكثيرا ما تشبه البضائع الخاصّة.
ويعطي بعض الكتّاب، إعتمادا على أبحاث تجريبية، تفسيرات مغايرة عن تنامي الجماعات الدينية ونجاحاتها. حيث يولي برين وموس أهمية أقلّ لدور التضحيات في تنامي الكنائس المترامية والنافذة. في حين لا تتوفّر دراسات أخرى، للتأكيد على كون كلّ الكنائس "المتشدّدة" بصدد التنامي. في النهاية يساند كثير القول، إن التنامي والقوّة، يعودان باحتمال أكبر، لعراقة المؤسّسة، ولتقنيات التسويق، وللموقع الجغرافي، ولمعدّلات الوفيات والولادات.
*- التعدّدية والتديّن
كان أثر التعدّدية الدينية على التديّن موضوع نقاشات حادّة. فمنظّرو العرض يساندون القول إن التعدّدية الدينية تعزّز نشاط السوق الدينيّة، على خلاف النظريات الدوركهايمية التي ترى أن دينا موحَّدا يعزّز التقى ويقوّي المؤسّسات الدينية. واعتمادا على آدم سميث، يساند منظِّرو العرض القول إن التجمّعات الدينية الكبرى تنتج بضائع دينية أقلّ قيمة ومكلفة. فالمعروضات المختلفة تبدو ضرورية في سوق دينية سليمة، لتبدّل الخيارات الدينية بحسب واقع الجماعات، وكذلك لتنوّع الأصول الإثنية والمواقع الطبقية وتجارب الحياة. ويُرى أن التعدّدية، هي الحالة الطبيعية للاقتصاديات الدينية وللتجمّعات الدينية الكبرى، والتي يتيسّر المحافظة عليها فقط عبر ضوابط الدولة. ويضمن الفصل بين الدولة والكنيسة تزاحم المؤسّسات الدينية لاكتساب الموارد الضئيلة التي يضحّي من أجلها الأفراد المتطوّعون، وليس لاكتساب مغانم مباشرة عبر التمويل العام. تنحو الكنائس الرسمية التي تتمتّع بتمويل الدولة لضمان عمل دائم للإكليروس -لا تراعى فيه درجة الكفاءة- لتوفير محلاّت للموظّفين، ولامتلاك أدوات فاخرة وما شابهها. في حين الدعاة غير الدائمين والمتطوّعون فعادة ما يخدمون التجمّعات على وجه أفضل لأنهم يتقاسمون تجارب حياة المنضوين. يجعل التنافسُُ المؤسّسات أكثر فاعلية ويجعل المستثمرين الدينيين أشدّ اندفاعا لترويج منتوجاتهم الدينية، مصنّعينها بحسب رغبات المستهلكين، وليس بحسب اتباع الميولات التراتبية.
تبيّن اختبارات ثابتة في الولايات المتّحدة وغيرها الآثارَ الإيجابية للتنافس والآثار السلبية للإحتكار ولتدخّل الدولة. في الولايات المتّحدة أثناء القرن XIX، ولّدت التعدّدية الدينية التجمّعات ودفعت بحالة الطلب للإكليروس. وبحضور التنافس، كانت الكنائس الكاثوليكية أكثر فاعلية في تنشيط الأفراد الأوفر مقدرة في تسويق البضائع الدينية. يرى ستارك أن العرض في السوق الدينية الحرّة في الولايات المتّحدة يفسّر أسباب الفتور النسبي لتديّن الجيل الأوّل من المهاجرين الألمان، في حين كان الجيل الثالث مماثلا لغيره من الأمريكيين. وتنتشر الحرّية الدينية اليوم تبعا للحضور المتنامي للحركات الدينية الجديدة في أوروبا، فهي تمثل مغنما للجماعات الدينية في الإتحاد السوفياتي سابقا وفي أمريكا اللاّتينية.
خلاصة
جاء الإكتشاف السوسيولوجي المستجدّ للدّين، في فترة تشهد فيها مظاهر أخرى من الثقافة حالات انبعاث أيضا، فقد صارت تفسيرات النظريات الماركسية والبنيوية الوظيفية، التي ربطت العوامل الثقافية بهامش المبدئية، أقل أهمّية في الفضاء المتحوّل لعلم الاجتماع الحديث. إذ تطوّرت، بداية من منتصف الثمانينيات، البنية التحتية النظرية لدراسة الأسواق الدينية بسرعة. وجرّاء هذا النقص ثمة محاولات ساعية لخلق صلة نظرية بين مستويات التحليل، ولذلك تحتاج الدراسات المستقبلية إلى:
أ-تمييز موسّع بين الآثار المتعلّقة بالتحوّلات في الخيارات الفردية والإنتاج الديني العائلي.
ب-تمييز واضح بين القيمة الدينية المنتَجة بشكل جماعي وحينما تكون بضاعة فردية بقيمتها المتخفية.
ج-تحديد جيّد لمصادر ومخلّفات المؤثّرات الاجتماعية على الخيارات الفردية.
د- اختبار تأثير السياقات التنظيمية على نشاط السوق، مثل: أثر الصراعات بين الكنائس، وقوة المنظّمات في توجيه الخيارات الفردية، ومخلفاتهما على المعروضات الملحقة.
هـ-تحديد الأسواق التابعة مع مراعاة الاعتبار للبنى الموجودة "الخيارات/الرأسمال البشري" أو كذلك العوامل التنظيمية.
يجعل تطوّر النماذج الإحصائية بعض الأبحاث ممكنة، حتى وإن كان نقصا في احصاء المشاكل العملية يحدّد ما يمكن فعله الآن. وتشكو الأبحاث بشأن أثر الإعتقادات والإلتزامات الدينية نقص الإحصائيات على المستوى الوطني. حيث تتغاضى مجهودات جمع الأعداد كلّيا عن العوامل الدينية، أو يقدّم آخرون قياسات موجزة للتمييز الديني فحسب، أو تقديرات فردية عن المشاركة الدينية في لحظة محدّدة. هذه النقائص في الأعداد ولّدت مشاكل حقيقية في حقول البحث في علم الاجتماع الديني، خصوصا عند تركّز البحث على جماعات عرقية صغيرة أو تكتّلات دينية ذات خاصيات مميّزة.

* تم نشر البحث في كل من مجلّتي:
(Annual Review of Sociology, 1999 ) الأمريكية و( Inchiesta ) الإيطالية، السنة 32، عدد: 136، أفريل-جوان 2002، ضمن العدد الخاص المعنون بـ"سوق الأديان".
عز الدين عناية : أستاذ تونسي إيطالي يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟