الثابت و المتحول في التاريخ ـ د. محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ANFالتاريخ هو مجموع الأحداث و الوقائع الماضية التي أنتجها الإنسان و هو يمارس حياته الاجتماعية، و السياسية و الاقتصادية و الفكرية، بدون ادراك منه أن أنشطته الآنية ستتحول مع مر الزمن إلى تاريخ . إنه الثابت أو القاعدة التي تحكم الإنسان في كل مجتمع من المجتمعات الادمية ، لتمثل بذلك ثابتا كونيا. و من هذا المنطلق يمكن القول أن الإنسان كائن تاريخي، ينتج التاريخ و يصنعه، و يستهلكه في نفس الآن .
و مما لا ريب فيه، فإن كلا من الاستهلاك و الانتاج عمليتان دقيقتان، تعدان قوام و عماد بناء الشخصية الثقافية و الحضارية للأمم . و كي يكون البناء ناجعا و ناجحا ينبغي أو يتعين الاقتناع بنسقين متقابلين متلازمي الحضور و الوجود في الجسد التاريخي، و هما :
1-    النسق الثابت: و يقصد به الشق التاريخي المتميز بالقوة و الحامل لخصوصيات:
-    الأصالة
-    القداسة
-    القدرة على الصمود
-    الاستمرارية


و بمعنى أدق، يحمل طاقات كامنة مكنونة تتجدد بتجدد الحقب و الأزمنة. اذ كلما ازدادت استهلاكا، إلا و ازدادت تجددا، على اعتبار أنها عوامل قوة موضوعية لا غنى للأمة عنها لبناء الشخصية القوية، المتحضرة الفاعلة، و المتفاعلة، الأمر الذي يلزمها التقيد بهذا النسق و قراءته للكشف عن مكامنه و أسراره، و ذلك من خلال ركوب صهوة الاجتهاد الآمن المبني على آليات : 
-    النظر العقلي
-    اعادة القراءة الفاحصة، الحصيفة
-    التأويل القائم على منهج علمي صحيح القادر على المساءلة و الكشف عن أسرار المشاكل و المسائل التي لا توجد الا متلابسة و متداخلة على حد التعبير التوحيدي
و الجدير بالذكر في هذا المقام  أن قراءة التاريخ في بعده الثابت باليات عقلانية، و مرونة فكرية، لابد أن تكون لها نتائج ايجابية على الفرد و الأمة على المستوى:
-    العقدي
-    الفكري
-    الاجتماعي
باعتبارها الاقانيم الثلاثة المتحكمة في بناء شخصية المجتمع و تحديد هويته، ليحتل مكانه داخل سلم الترتيب الحضاري الاممي و لا يفهم من الاجتهاد في هذا السياق، أنه الوسيلة أو الآلية لتغيير الثوابت و تجاوز حدودها، و لكنه سيعمل عبر منطق الاستقراء و الكشف على ابراز قوتها، بغية طمأنة النفوس الجامحة و الأبصار الشاخصة عبر اثبات قدراتها و طاقاتها القادرة على تحقيق المراد و الوصول إلى الهدف المنشود. و ذلك لأن الاجتهاد المبني على منطق العقل لا ينافي الحق و لا يخاصمه و لا يبطله كما يقول الفقهاء، بل يقويه و يدعمه و يناصره. كما هو الشأن بالنسبة للتأويل. الابن الشرعي للاجتهاد. الذي لا يعني البحث عن معاني جديدة و لكن الكشف عن المعنى الحقيقي الصارم الباطن العميق التاوي خلق أسوار الظاهر، بقوة العقل المأزر بالحجة و البرهان و الدليل.
2-    النسق المتحول: و يراد به الجزء المرن لكونه يحمل خصائص تؤهله لقبول التغيير وذلك بحكم قوة شرائط ذاتية و موضوعية فاعلة و مؤثرة صانعة و منتجة للتغيير كضرورة حتمية لا غنى عنها. و هذا شأن بعض القضايا التاريخية التي ينبغي أن تخضع للفحص و التمحيص عبر إعادة القراءة بالاعتماد على الايواليات  المنهجية المذكورة سلفا لمعرفة فيما إذا كانت هذه القضايا أولا و قبل كل شيء جزءا من التاريخ أم أنها نسجت من أحداث دست فيه خطأ، أو قصدا و لعله أمر يساعد ذوي النظر و الشأن و الاختصاص على كشف حقيقتين جوهريتين يقرهما شرف البحث التاريخي، و هما:
-    تحديد ماهية الحدث أو الأحداث.
-    تحديد الصدق التاريخي من عدمه.
و هذا يعني أنه ينبغي طرح أسئلة عميقة من قبيل:
-    ما هي قوة و قدرة هذه القضايا على العطاء ماضيا و آنيا؟ 
-    هل هي خصبة معطاء أم أضحت عاقرا؟
-    هل يمكن  المراهنة عليها كنمودج يمكن ان يعتمد لتحقيق مآرب مأمولة ؟
-    هل هناك حاجة اجتماعية / فكرية/ ثقافية/ وجدانية ...لهذه القضايا؟
-    هل تملك القدرة على التفاعل و معطيات العصر / بكل تحدياته أم هي عاجزة لانطوائها على مفارقة زمنية يصعب تجاوزها؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة و غيرها، هي التي تحدد منطق و استراتيجية التعامل مع النسق المتحول، و الذي يتحدد في ثلاثة مستويات هي:
أ‌-    المستوى الأول: الرفض الكلي أو الإقصاء في حال ثبوت عدم الفاعلية.
ب‌-    المستوى الثاني: القبول و التبني في حال ثبوت الفاعلية و القدرة على المزيد من العطاء
ت‌-    المستوى الثالث: التعديل و التغيير بغية الاستجابة لبيئة العصر و ثقافية.
و على هذا الأساس فان العلاقة بالتاريخ تتحدد من خلال الية الكشف و الاستقراء المتمثلة في احد النمطين من القراءة:
* قراءة استردادية استرجاعية للمنظومة التاريخية معتبرة إياها جسما متكاملا، و بنية متلاحمة لا ينبغي تفكيك حلقاتها. إنها قراءة شمولية، يمنعها التعصب أو الحياء من الكشف عن عورات جسمها ( المنظومة التاريخية) لمعرفة و تحديد مناطق الخلل و العلل فيها، فتكون بذلك مردوديتها سلبية و نتائجها كارثية.
* قراءة فاحصة، حصيفة ، ناقدة. تتعامل بحذر مع التاريخ محتكمة بذلك إلى اليات القراءة العلمية المؤمنة بحقيقة البقاء للأنفع. و تلكم هي القراءة التي ينبغي اعتمادها و العمل على ترسيخها في مناهج البحث و توطيد دعائمها عبر الابحاث الأكاديمية، و وسائل الإعلام و المجلات الثقافية التي لازال أغلبها يصر على أن الثقافة هي الشعر و القصة و الرواية، فحسب و ذلك قصد تنقية المادة التاريخية من الطفيليات المضرة به و اثارة العقول التي تسيطر عليها الأوهام و تثقل كواهلها شوائب الظنون  لتدرك أن التاريخ هو مزيج من القوة و الضعف، و الصواب ، و الخطأ ، و الحق و الباطل.
و لعل الرغبة الصادقة و الملحة في بناء العقول و النفوس و الأوطان و الأمصار تقتضي البحث و بعزم عن :
·    الحق.
·    و الصواب
·    و القوة
و هي كل عناصر مبتوتة  و محصنة داخل النسق الثابت كما تقتضي الرغبة عينها تحديد مواطن الخلل المبثوثة داخل النسق المتحول و منها:
-    الميتة : التي ينبغي دفنها و التخلص منها
-    و المريضة: يتعين معالجتها لتستعيد عافيتها
-    و الهزيلة و ينبغي تقويتها و ذلك بضخ دم جديد في أوصالها حتى تتجدد قوتها و تغدو قادرة على المواكبة.
و الظاهر و كما يؤكد أهل النظر المهتمين بالشأن التاريخي. أن التاريخ :
1-    قوة: طاقتها الأحداث الفعالة الفاعلة التابعة من الأفكار النيرة القادرة على بناء الإنسان و إعمار المكان و تقديس الزمان.
2-    و قدرة: و ذلك لما تحويه من عبر أنتجتها مخاضات المهارات الفكرية المنبثقة و المنبجسة من شدة قوة أفكار الرجال المهتمين بتعمق أسرار الوجود البشري، و خبرات تجارب الأبطال و صلابة سواعدهم، المنازلين لليالي، الراغبين في قهر جبروتها و كشف أسرارها لتكون تلكم العبر هاديا و صراطا مرشدا و قبلة يتقى بها الزيغ و الضلال .
و الظاهر أن التاريخ يكون كذلك حينما يتم الاقتناع بالنسقين معا، الثابت و المتحول، فكريا و وجدانيا و اعتمادهما كاستراتيجية معرفية منطقية عقلانية في قراءة المنظومة التاريخية، حينئذ تكون القراءة موضوعية، و متوازنة، و صحيحة. و ذلك لأن البنية الثابتة داخل النسق الثابت من الناحية المنطقية لا يقبل الاجتهاد الضال، و يستعصي على التأويل الفاسد. في حين يستسلم النسق المتحول للتأويل المشروع، و يرضخ للإجتهاد، و قبول النقد، و إبداء الرأي. هذا و تجدر الإشارة إلى إلى أن الإحتكام إلى هذه الاستراتيجية المعرفية ذات المغزى الفكري العميق، و البعد المنهجي الدقيق ستعمل و بقوة على تجاوز الاشكالية الازمة التي اتعبت الفكر العربي و لازالت، حين من الدهر، ألا و هي اشكالية الاصالة و المعاصرة التي أسالت كثيرا من الحبرمن لدن قطبين فكريين متناظرين
- قطب فكري مرجعية تراثية تاريخية تحكمها رؤية بعثية، إحيائية اتباعية
-قطب فكري مرجعية غير تراثية، تحكمه رؤية تقدمية حداثية. و لعله تباين أسس لفلسفة سجالية حولت الصراع و السجال إلى ثقافة إقصائية. بمعنى أن كل قطب يجتهد لإقصاء الاخر بجدوى عدم فاعليته، و ذلك لكون التراثي منغلق متخلف ،ى خارج سياق العصر ، وفق الرؤية الحداثية التي تنادي بقطع الصلة مع الماضي كتاريخ لأن التحديث و التطور لا يمكن أن يتحققان بالإنكفاء نحو الماضي كما أن الانفتاح على قيم الحداثة الغربية لا يجدر بها أن تحقق للامة طموحاتها المنتظرة، ما دامت متعارضة و قيم الأصالة، و خطها الثقافي و توجهها الفكري، وفق الرؤية التراثية الاتباعية.
و الواضح أن هذا السلوك الصدامي بين القطبين قد خلق توترا على الساحة الفكرية مما انعكس سلبا على باقي المجالات لا سيما الضرر الذي لحق بقيم الفكر المؤمنة بالحوار الهادئ الصانع للحضارة الانسانية القائمة على التعايش بين الأفراد، و الجماعات و الأمم و الشعوب. فما أعظم التاريخ بأحداثه و ما أجمله بحركته حين تعانق دورته الممتدة عبر الماضي الطويل، الحاضر، فتضمه بقوة لتبث فيه روح القوة المستمدة من عمق الاصالة و عبقها، و صدق التجربة لتفتح عينيه على نور الحقيقة الساطع المبدد للظلمات الجاثمة على الأوعاء و ما أجملها حينما تشرئب إلى الاتي و تتفاعل معه لترسم خرائط جديدة على طريقه اللاحب تسير الخطى نحو الأفق البعيد. و الغد الأبعد...

الدكتور محمد الصفاح

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟