يبحث الكتاب في العلاقة بين العالم والسلطان وما يترتب عن هذه العلاقة من مهادنة ومنافسة تارة، وموالاة وصراع تارة أخرى. وذلك كله من خلال تواردهما على المصادر الأصولية والمقاصدية.
فالعالم والسلطان كل منهما يتوارد على النص قصد تحليله وتأويله1. والعالم من جهته وبحرصه على المعرفة الإسلامية لا يملك الابتعاد عن السياسة، وذلك لحضور البعد السياسي في المادة الإسلامية2.
ورغم اختصاص المادة الإسلامية بهذه الخاصية، فإن الفقيه كثيرا ما كان يبتعد عن المجال السياسي:
-إما لأن السلطان أراد إبعاده.
-أو لتخوف العالم من السقوط في حبال السلطة واستدراجه .
-أو لتخوفه من ضياع علمه بعد احتضانه من طرف السلطان3.
إن اعتماد "الأصول والمقاصد" لهذه الدراسة ترجع لما لهذين العلمين من تأثير على السياسة الفعلية، ولما له من مشروعية وسلطة داخل المجتمع الإسلامي عبر تاريخه، هذا مع عدم إقصاء "الكلام" لما له هو بدوره من تأثير منهجي على الأصول. فالكلام ولا شك كان نتيجة التقعيد الاجتماعي والسياسي، غير أن أصحاب الملل ساهموا في إخفاء الظهور السياسي والاجتماعي لهذا العلم-وربما بوحي من السلطان – الذي نشأ نشأة سياسية.
نشط بعض علماء الكلام في نشر فكرة الجبر وأثقلوا المصطلحات الكلامية بالأفكار السياسية، وتعرضوا لمشكل الكبيرة، ومسألة المنزلة بين المنزلين، وتكلموا بإسهاب في العدل الإلهي متخذين له صورا من الأبعاد السياسية4، وقالوا بتعليل أفعال الله مع بعض الاختلاف بين المعتزلة والاشاعرة حول بعض القضايا، الأمر الذي ترتب عنه انزلاق سياسي لدى الاشاعرة، يقول أبو الحسن الأشعري : "ومن ديننا أن نصلي خلف كل بر وفاجر ولا ننكر أن علماء الكلام تحولوا عن الكتابة السياسية كالبحث في مرتكب الكبيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى البحث في دقيق العلم كالحركة والسكون واللون والصوت والرطوبات واليبوسات5... وهذا كله كان من إيحاء السلطة القائمة آنذاك.
بخلاف علماء الأصول ورغم اختلاف المظاهر السياسية والاجتماعية استمر الأصولي إذن في علاقته بالسياسة داخل السلطة، وإن كانت هذه العلاقة ستتخذ صورا مختلفة عبر التاريخ السياسي للإسلام، الأمر الذي تأثر معه الأصول والمقاصد بالمظاهر السياسية القائمة آنذاك. ولعل وقفة قصيرة مع هذا التقسيم الذي ارتأينا عرضه ستتضح العلاقة بين السلطان والعالم من جهة، وعلاقتهما بالأصول والمقاصد من جهة أخرى.
فترة الشافعي : مرحلة البيان لضبط السلطان
عزوف الإمام مالك والشافعي عن علم الكلام تعبير واضح عن هروبهما من العالم السياسي. غير أن عزوفهما6 هذا لم يمنعهما من حين لآخر من طرق أبواب هذا العالم، فبحكم واقعيتهما وتأليفهما في أصول التشريع يكونان قد دخلا السياسية من بابها الواسع، لا أدل على هذا من أن م. مالكا7 اشتهر بمواقفه السياسية تجاه السلطة القائمة، فقد أفتى بأن بيعة المكره غير جائزة قياسا على عدم جواز طلاق المكره، ومثل هذا وغيره كثير لدى الفقهاء8 ...
وأما الإمام الشافعي فقد ألف "الرسالة" لضبط البيان من جهة، وضبط السلطان من جهة أخرى9، ولعل هذا إذا أنضاف إلى ما أثاره في رسالته من تحديدات اصطلاحية توضح إلى أي حد كان يهدف إلى ضبط تأويلات السلطان، فقد حدد مصطلح "الأمر والإجماع" وغيرهما... وذلك لما لهذه المصطلحات من وظائف سياسية ولما يمارس عليها من تأويلات. ولم يكتف الشافعي بهذا التحديد بل رفض اعتبار "الاستحسان والمصالح" واعتبرهما من الاستبداد وبذلك سد ذريعة من ذرائع السلطان. وحاول كذلك أن يثير بعض القواعد الأصولية قصد الإشارة إلى المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي ويعني به الشورى، وحديثه عن الدلالة والأمر بالشيء نهي عن ضده10 المقصود به إثارة موضوع الشورى المسكوت عنها11.
فترة ما بعد الشافعي : فترة المنافسة والتراجع
ابتدأت هذه المرحلة بمحاولة احتواء السلطان للعالم، وسادها التوتر في مرحلتها الأولى، فقد رفض "سعيد بن المسيب" مصاهرة الخليفة "عبد الملك بن مروان"12، ورفض غير واحد من الفقهاء هذا التقرب (رغم مضايقة السلطان للعلماء مثل استحداثه لبعض المناصب التي تحد من سلطة العالم)، بل ومن الفقهاء وخاصة فقهاء المعتزلة من صرح بضرورة إقامة السلطة على البيعة والاختيار. والأدهى من هذا أن الأصم رأى عدم الحاجة للسلطان لأجل تحويلها عنه إلى السلطة الجماعية.
غير أن اتجاه الرفض والاستقلال لم ينجح. فقد تكررت محاولات الاحتضان والاستيعاب والإخضاع، وانتهى الأمر بالفقهاء إلى التراجع عن مواقفهم ومن ثم التراجع عن "حكم النص إلى حكمة النص ومن ثم سهل على السلطان التدخل في تأويل النصوص الشرعية وما تحتاجه السياسة الشرعية. وقد برر الفقهاء ذلك بضرورة التحالف مع السلطان في مواجهة العدو الخارجي من جهة ، واتقاء للفتنة13 من جهة أخرى، وهكذا سيكثر الفقهاء من القواعد الأصولية التبريرية المنسجمة مع ظروف الاستبداد كـ :
1-رفع الحرج14
2-المصلحة15
3-نسخ الشرائع16.
4-الضرورات تبيح المحظورات17.
5-قاعدة أخف الضررين18.
6-جواز الإقدام على المحرمات الشرعية. اتقاء لما هو أكثر19.
7-الأخذ بالممكن في مقابل تعذر الواجب (الخروج على الإمام)20.
8-الأخذ بالمفضول، في مقابل الفاضل21.
9- درء المفاسد22.
10-مراعاة الضرورة23.
إن هذا التساهل في القواعد واستغلالها من طرف رجل السلطة، قلصت من دور العالم وأفرزت ولاء مزيفا بل خلقت ازدواجية في الفكر، فالقاضي عبد الجبار، العائش في كنف "البويهيين" والصاحب بن عباد وزيرهم، يقول بضرورة الخروج على الإمام الجائر ويدعي أن الإمارة البويهية قائمة على الاستبداد ونظام الوراثة24. هذه بعض خصائص العالم إبان ظروف الانحطاط، أما السلطة ففشا فيها اللهو والمجون والاستبداد والتحالف مع الأعداء.
وبصفة عامة فشت الثقافة الفرعية القائمة على الاكتفاء بالعبادات والأحوال الشخصية، والمواريث، قتلا للحياة الاجتماعية والسياسية، وإحياء للفردية25.
فترة الإصلاح : إعمال المقاصد
إعمال المقاصد الشرعية وفصلها عن الأصول، والدعوة إلى قطعيتها هي البداية لإصلاح ما أفسده بعض الفقهاء بمعية السلطان. وهذه البداية لم تكن مع "الشاطبي" بل بدأت مع "الجويني"، فقد توقع الإمام فساد القرون اللاحقة بدء بالقرن الخامس الهجري. وكتب افتراضا عن الإمكانات التي ينبغي أن تتخذ عند فساد الأمراء والعلماء. أي ما العمل عند فسادهما؟ كتاب "غياث الأمم" أجاب عن ذلك بإناطة الأمر كله بالأمة جلبا للمصلحة ودفعا للمفسدة26، مع ضرورة الدعوة لقطيعة القواعد والمقاصد الشرعية، ورفض فكرة قصور الشريعة عن الإحاطة بكل الأحكام، وضبط الإجماع ورفعه إلى مستوى القطع، مع الدعوة كذلك إلى شمول المقاصد للحاجيات، والتحسينيات، والتقليل من الفروع اهتماما بالأصول27.
أما "الشاطبي" المعاصر للأزمة والانحطاط والفساد السلطوي والعلمي، فإنه لم يجد بدا من الاهتمام بالمقاصد لأجل إصلاح الجمود الذي كرسه علم الأصول28 - والظنية التي نادى بها كل من الفقهاء والسلاطين لتمرير مواقفهم السياسية. وانصب الاهتمام كذلك على ضبط المصطلحات الأصولية، فالأمر والنهي والطاعة لا ينبغي أن تناط مرجعيتها بفرد معين، بل المرجعية في الشرع والمقاصد، وهذا كله يجعل الشريعة وخاصة المقاصد برهانية لا يتطرق إليها أدنى شك في قضاياها، ولم يقتصر "الشاطبي" على ذلك بل نادى بجعل المقاصد والشريعة عملية فهو يرفض أن تبقى الأصول حبيسة الكراريس والمدارس بل ينبغي أن تنظر في مصالح المجتمع وسياسته29.
وبصفة عامة فمشروع "الشاطبي" يركز على :
إعادة النظر في الأمر والطاعة، وقراءتهما على ضوء المقاصد الشرعية30.
الاهتمام بالمباح قصد توسيع الاجتهاد الفقهي31.
مراعاة الفتوى للواقع، ورفض الأجوبة الفقهية الجاهزة.
رفض اقتصار الفقه على ما هو ضروري في الشريعة32.
رفض الأحكام التكليفية المجردة33.
رفض الوسائط والبدع التي ساهمت في تهميش النص34.
وفي إطار هذه المحددات رفض "الشاطبي" بعض الممارسات السلطانية كرفضه أن يفصل رجل السلطة بين الممارسة السياسية والمقاصد، وكذا رفض استحلال السلطان القتل بعلية الوازع، ولم يفت "الشاطبي" -كذلك- أن يشير لإصلاح الوقائع إلى بعض النماذج التي مارسها رجل السلطة كفتوى "المهدي ابن تومرت" بالقتل بمحض الكذب وغيرها كثير 35...
إن عزوف الفقهاء عن السياسة فتح المجال للسلطة القائمة للتصرف في النصوص الشرعية، وتأويلها تأويلا ينسجم مع أهدافها بل وفتح المجال أمام القول بإيقاف الاجتهاد الجماعي. (متوهمين عدم كفاية قواعد الشرع ومقاصده لجلب المصالح المتغيرة المستجدة ودرء المفاسد الطارئة، وهم في حقيقة الأمر مقصرون في فهم تلك القواعد ومعاندون –في آن واحد-في إدراك هذا الواقع المعيش، وغير مدركين لأبعاد السياسات الشرعية36.
* - نشر بمجلة فضاءات مستقبلية العدد 4-1997 ونشر بمجلة الإجتهاد اللبنانية العدد 57-58 شتاء ربيع 2003.
1– الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، د.عبد المجيد الصغير، دار المنتخب بيروت، الطبعة الأولى 1415-1994، ص 9-10.
2– نفسه 9-13.
3– نفسه 15.
4 – نفسه 42-58-217.
5 – نفسه 71.
6 – نفسه 155.
7 – نفسه 235. أخذ الإمام مالك بعمل اهل المدينة لأجل التقليل من المصالح والاستحسان.
8 – نفسه 234 ( فترة أبي جعفر المنصور).
9 – نفسه 157.
10 – نفسه 180-181.
11 – نفسه 180: "إن المعتزلة وابن حزم سارا في هذا الاتجاه الذي سار فيه الشافعي فالمعتزلة جردت الأصول لأجل إبعاده عن رجل السلطة، ص 187. اما ابن حزم فقد عمل على تحديد المصطلحات السياسية المرتبة بالأصول بواسطة النص مع رفض كامل للاستحسان والاستصلاح وكل ما من شأنه يتخذ ذريعة لتلاعب السلطان، ص 209-219.
12 – نفسه 220-221.
13 – الخوف من الفتنة جعل الفقيه السني الأصولي يخرج عن المنطق الأصولي، ص293 -343.
14 – نفسه 255.
15 – نفسه 256.
16 – نفسه 257
17 – نفسه 259-264، 265.
18 – نفسه 259-287، 288.
19 – نفسه 275-276، 265.
20 – نفسه 268.
21 – نفسه 268-269.
22 – نفسه 255.
23 – نفسه 258-259.
24 – نفسه 292.
25 – نفسه 327.
26 – نفسه 371-372.
27 – نفسه 372-373.
28 – نفسه 465.
29 – نفسه 520-521.
30 – نفسه 506.
31 – نفسه 535.
32 – نفسه 549.
33 – نفسه 567.
34 - نفسه 579
35 - نفسه 587-588.
36 – نفسه 618.