يدخل هذا العمل الذي نتشرف بعرض أفكاره، محاولين في الوقت ذاته مناقشتها متى أمكن ذلك، ضمن الأعمال التي تسعى إلى كتابة التاريخ الوطني العام انطلاقا من الرغبة في رسم معالمه، و ظواهره، وقضاياه الكبرى، انسجاما مع التراكم الكمي و النوعي الذي أصبح يعرفه المجال التاريخي خدمة للباحثين و المختصين و الأجيال الصاعدة .
هذا الكتاب يأتي ليضيف قيمة مضافة تتسم بالجدة، و تزكي الصور المشرقة التي يتمتع بها البحث التاريخي في المجال الأكاديمي من خلال العديد من الأعمال التي راهن أصحابها على الاستفادة من الثورة المعرفية و المنهجية التي سادت في العقود الأخيرة .
و وفق ما هو مبين في الصفحات الأولى، فإن هذا المؤلف هو عمل جماعي شارك فيه العديد من الأساتذة الباحثين، و ثلة من الشخصيات العلمية المهتمة بالقطاعات المعنية، و التي لها صلة بالموضوع تناقحا و تفاعلا،رغبة في تقديم عمل متكامل من الناحية المعرفية و المنهجية .
نروم في هذا المجهود تقديم وعرض أفكار هذا الكتاب و مناقشتها، و للإشارة فهو يقع في 821 صفحة، و صادر عن منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط سنة 2011.
استهل الباحث في صدر الكتاب بالتذكير بالسياقات المعرفية والمنهجية التي رافقت إخراج هذا العمل، و الوقوف عند الاقتناعات التي حددت مرجعيته وأفقه، و طريقة الاشتغال التي رافقت خطواته حتى أصبح عملا مكتملا .
أفصح المؤلف في مقدمة الكتاب عن الخيط المنهجي الناظم للعمل، القائم على ضبط المحاور و المقاطع، مع تحديد مختلف مواطن التفاعل و محطات الانتقال من مرحلة إلى أخرى، من غير إغفال لعوامل الاستمرارية، و لحظات القطيعة المترتبة عن هذه الحركية،مع مراعاة الجمع بين البعد المجالي و البعد الزمني المعيش، و بالموازاة مع ذلك خضعت هيكلة هذا العمل لإطار مرجعي حددته المصادر المتوفرة وفق ما قدمته من مادة معرفية على الرغم مما تثيره من إشكالات منهجية.
و رغم ذلك أقر العمل بصعوبة المحاولة بحكم الثغرات و أحيانا البياضات الكلية، التي تكتنف العمل بين الفينة و الأخرى،خاصة ما تعلق بالظروف الدقيقة المتصلة بأحوال المعيش أي بكل ما له صلة بالحضارة المادية على وجه العموم، و بفضل ما تجمع من مادة تاريخية متنوعة عمل على تبويب الكتاب إلى عشرة فصول، خصص الثلاثة الأولى منها للفترة التاريخية الممتدة قبل الإسلام، و عالج في الرابع و الخامس ما يسمى بالمغرب الوسيط، في حين تناول في السادس و السابع التاريخ المغربي الخاص بالقرن التاسع و العاشر الهجريين، على أن القرن الثامن عشر الميلادي خصص له الفصل الثامن، أما التاسع فناقش فيه الحماية و الغزو و التحولات المرافقة لها، إلى حين المغرب المستقل الذي عالج قضاياه في الفصل العاشر .
و أثبت في آخر هذا الكتاب معالم كرونولوجية، و معجم تاريخي، و إحالات بيبليوغرافية، و قائمة المرجعيات الإيكونوغرافية، و الفهارس .
ركزنا في هذه المحاولة المتواضعة على عرض الأفكار و التصورات المتعلقة بالفترة التاريخية المسماة العصر الوسيط، و التي تشكل محور الفصلين الرابع و الخامس، اللذان يمتدان من الصفحة 143 و إلى الصفحة 290، بحكم ارتباط اهتمامنا بهذه الفترة من ناحية البحث التاريخي المنظم، و حتى نستطيع تقديم أفكار تساعد على تعميق الرؤية في تاريخنا الوطني، عبر بعض الملاحظات ذات الطابع المعرفي و المنهجي التي عنت لنا أثناء قراءة هذا العمل و تحديدا في الفصلين المشار إليهما أعلاه، دون أن يساورنا اقتناع أننا نحاكم العمل من جهاز مفاهيمي أو نظري معين، أو نطالبه بتجاوز السقف المعرفي الذي صاغ العديد من جوانبه و إشكالاته.
يصبو العمل إلى تحيين التاريخ المغربي حسب الرغبة التي عبر عنها في المقدمة، على اعتبار أن هذا المشروع أصبح يكتسي طابع الاستعجال في مطلع هذا القرن،بعد أن مر على آخر عمل يمكن تشبيهه به ـ و لو على مستوى الإنجاز الجماعي ـ ما يربو على الأربعين سنة وهي آخر محاولة حول تاريخ المغرب (انظر الإحالة رقم 1 من التقديم )، ارتباطا بالتراكم الكمي و النوعي الذي ميز البحث في هذا المجال،و انسجاما مع تجدد القراءة و الكتابة المحتكمة إلى الطفرة المنهجية، و التكامل مع تخصصات أخرى، و التي أفضت إلى تحقيق حصيلة مفيدة في إعادة القراءة و الكتابة .
يتكون الفصل الخاص بالمغرب الوسيط من الفصل الرابع الذي رسم فيه التطور السياسي بالمغرب الوسيط، حيث استعرض الأحداث السياسية و العسكرية المواكبة للفترة التي سماها ببداية الأسلمة و تعدد الكيانات السياسية من خلال الوقوف عند ملامح الأوضاع السياسية بعيد التدخل الإسلامي، و تحديد مصطلح المغرب على مستوى المضمون الجغرافي و السياسي و مكوناته القبلية، و كياناته التي ارتبط ظهورها بما يسمى بولاية المغرب و صولا إلى رصد مميزات المرحلة سياسيا بثورة الخوارج الصفرية و رد الفعل الأموي .
و فيما يتعلق بعصر الإمارات ؛ فقد وقف عند مجريات الأحداث من التأسيس و المؤسسين و معالم القوة و الضعف ، و صولا إلى الانهيار و الأفول سواء الخاصة بالإمارة البورغواطية، أو بإمارة بني مدرار، أو إمارة الأدارسة و انتهاء بالإمارات الزناتية .
و الجدير بالذكر أن هذا المحور تخللته بعض الخرائط و الصور المرافقة و النقود الخاصة ببعض الأمراء، و هي على ما يبدو عناصر قد تسعف في المساعدة على الفهم الأسلم للظواهر المرصودة بما فيها علم الخرائطية و علم الآثار و علم النميات .
وفيما يخص المستوى الثاني من التاريخ السياسي الوسيط و الذي عنونه بمرحلة الهيمنة و التمركز، فقد مهد له بملاحظة جوهرية، تكمن في أن نظام الحكم الخاص بهذه المرحلة تغير شكلا و مضمونا منذرا بتحول مهم،انبرى الدارس لتحديده على مستوى المدلول السياسي و التوطين المحلي و الجهوي الذي ساد لمدة خمسة قرون، تمتد من المرابطين و الموحدين إلى المرينيين و الوطاسيين.
أشار العمل إلى وجاهة التحليل الخلدوني لطبيعة النظام السياسي " المغاربي "، و الذي لا يجب أن ينفي عن المرحلة بعض سمات التطور من ضمنها الدلالة اللفظية و المعنوية، وظهور معجم جديد ـ المخزن مثالا ـ بالإضافة إلى الوحدة المذهبية ممثلة في المالكية، وتشكل المجال الحيوي ـ المغربي ـ انطلاقا من مراقبة شبكات الطرق التجارية بين المتوسط و افريقيا جنوب الصحراء، و رغم ذلك لم تكن هذه القيمة التي اكتساها المجال الحيوي لتدفع عنه صفة الهشاشة و القوة في الآن ذاته، بمعنى أن الأهمية الاقتصادية لم تترجم على قاعدة الواقع التاريخي سواء لنهضة تجارية تشمل مجمل المجال، أو لتغيير طبيعة البنى الإنتاجية خاصة في البادية و المدينة على السواء.
بعد توضيح السمات العامة المميزة لهذه الفترة، انتقل إلى مساءلة المدلول السياسي للتجربة المرابطية و الموحدية في قواسمهما المشتركة كالمجال و المسلسل المفضي إلى الحكم و إقامة الدولة المركزية .
و عرج في مستوى ثاني على مسألة الرواية التاريخية المصاحبة لمرحلة التأسيس، و التي تقاطعتها سمات كبرى أهمها المرجعية المشرقية، وظهور الرجل المصلح و اقتفاء أثر النبي في العديد من مقومات تأسيس الدعوة، إلا أن العمل تحفظ منهجيا على الكتابة المرافقة لمرحلة تأسيس التجربتين، و هو منحى نشاطره فيه الرأي، لأن المصادر بالإضافة إلى علاتها المعروفة تخفي طابعا أكثر عمقا هو مضمونها الثقافي .
بروز هاتين التجربتين أطرهما وجود شبكة الفقهاء التي كانت وراء ميلاد المرابطين، بما يعني من امتداد المد السني المناهض للتيار الشيعي و الذي يفسره تقدم السلاجقة مشرقا، و ظهور الحركة المرابطية مغربا .
أما التجربة الموحدية، فقد صاغ مقومات وجودها إطار " نظري " غذته قيمة المجال و الكثافة السكانية المصمودية، و يتضح من مسارات التدخل العسكري للمرابطين و الموحدين، أنها حاولت الجمع بين البعد المغربي و المغاربي و الأندلسي مع ما يسم التجربتين من فوارق و قواسم مشتركة .
وانسجاما مع هذا المنحى حاول بسط أدوات الحكم المستحدثة و الطقوس المعبرة عنها (خطبة الجمعة، النقود، المراسلات، لباس السلطان )، ولم يكتف بذلك إذ حدد الأدوات و الوسائل الإدارية التي اعتمدها نظام الحكم ( الحاجب، الوزير، البريد، الإدارة ).
أما أنماط الغلبة فناقش العمل فيها مؤشر المجال و الجباية لقياس طبيعة و درجة العلاقة بين المجتمع و الدولة، و تبين اختلاف تمظهراتها على مستوى المجال، لكنها أخذت مسارا واحدا في الجانب الجبائي عبر التكرار و النمطية التي ميزت الدولتين معا (ضرائب شرعية في بداية الحكم و ارتفاعها في عهد الدولة ثم الرجوع إلى الضرائب غير الشرعية في مرحلة الانهيار ) .
وفي إطار استكمال علاقة السلطة بالمجال و المجتمع، انتقل إلى تحديد مجالات المشروع السياسي للمقاومة و المعارضة و التي حصرها في المجال الجبائي و الولاية و الحركات الداعية إلى " الشرعنة " وهي المؤشرات التي صاغت أفق الحركات الاجتماعية و أطرت رد فعلها و جعلتها تعبر عن موقفها من الدولة و أسلوب و فلسفة إدارتها لشؤون المجتمع، سواء تعلق الأمر بتنظيم الجباية و الانتباه إلى تجاوزات الجباة أو الانتباه إلى غياب أسس تنظيمية لمسألة وراثة الحكم .
و على المنوال نفسه حاول تتبع الحركة المرينية في بداياتها المرتبطة باستغلال الظرفية العامة، و استثمار الأسلوب العسكري الصرف القائم على اقتسام وتوزيع المجال، هذا المسعى كان محكوما بالتحرك النفعي الذي حاولت الرواية الرسمية تغطيته، و إضفاء أسلوب التخليق عليه، فجعلت من عبد الحق و ابنيه عثمان و أبي معرف رموزا للسلوك النموذجي، ووصف أبو يحيى برمز الاستقلال و التعبير عن الهوية "المغربية الزناتية " .
و في إطار تفصيل التاريخ المريني، تتبع المسار الخاص بالمحكومين و الحكام، و حسب أن هناك ثوابت صاغت جانبا مهما، و إن لم يكن كبيرا من تاريخ هذه الدولة الفتية، و هي ظرفية غرب المتوسط التي لها ارتباط بنوعية و طبيعة العلاقة التي جمعت الفاعلين على الساحة السياسية بما فيها افريقية التابعة لبني حفص، ومملكة تلمسان و مملكة غرناطة وما وراء الصحراء بافريقيا، هذه الكيانات تجمعها الخاصية نفسها و هي الرغبة في الاستقلال، و رفض كل أشكال القهر الناتجة عن الهيمنة، و من طبيعة هذه الوضعية أن تفضي إلى توفير أرضية و مناخ مناسبين للنزاعات المتفاعلة على المدى القريب أو البعيد، و إن طبعها في أحايين قليلة السعي نحو التفاهم و التحالف و الالتفاف بشكل لا يستقر على حال أو وثيرة، برغبة في الاستقواء و فرض الفهم الخاص و التحرك و حبك الإرادات السياسية التي يحركها التحكم في مضيق البوغاز و مراقبة السواحل النشيطة تجاريا .
بهذا الفهم حاول المجهود الجماعي للعمل، أن يصوغ التاريخ السياسي المريني و مجموع الكيانات المحيطة به إقليميا، خاصة و أن فاعلا سياسيا آخر أصبح حضوره في المتوسط يكتسي طابع التهديد الحقيقي إن سياسيا أو تجاريا، و هو ما يفسره التغاضي عن مقوم الجهاد في الأندلس، رغم محاولات أبي يوسف الأربعة و التي كللت بهزيمة 684هـ / 1285م، الأمر نفسه ينطبق على العلاقة مع تلمسان التي حكمتها الرغبة في المنافذ المتوسطية و تنحية منافس حال دون المخطط المريني، يفسره الحصار الطويل الذي امتد لثماني سنوات ابتداء من سنة 698هـ / 1299م، بالرغم من فترات السلم التي لم تعمر طويلا بفعل الصراع الذي استعر بين العاصمتين، انطلاقا من الرغبة في السيطرة على محاور التجارة إلى أن تمكن أبو الحسن المريني و تأسيسا على المصاهرة من فاطمة بنت الأمير الحفصي، و أمام تنامي الطموحات الاستراتيجية لإمارة تلمسان في احتلال المنافذ الحفصية كبجاية و تونس،مستفيدة من الوضعية المتأزمة لبلاد الحفصيين،(بعد الانكسار على الجبهة الأندلسية الذي كان فادحا ) من التحرك على الواجهة المغاربية بعد وفاة صهره ليتدخل في افريقية في منتصف القرن الثامن الهجري، ويدشن بذلك تدخلا مباشرا على الصعيد المغاربي جمع فيه بين الأسلوب الحربي و الأسلوب الثقافي بمساندة جم من الفقهاء و العلماء و الزهاد في العملية، بهدف " شرعنة " هذا التدخل الذي لم يدم طويلا بفعل تحالف الأعراب مع النخب المحلية، بعد أن جردها من امتيازاتها بفعل الإصلاح الجبائي الحسني المعروفة تفاصيله في المسند الصحيح الحسن لابن مرزوق، و رغم المحاولات المتعددة لإحياء التنظيم و المركزة لم يعرف الحكم المريني بعد أبي الحسن سوى التصدع و الانحسار بفعل القلاقل و الهزاهز الداخلية و الخارجية .
بعد ذلك تم الانتقال إلى الحديث عن بنية الدولة سياسيا، و حسبها من الدول التي افتقرت إلى منظومة ايديولوجية متكاملة، هذا العوز رهن الدولة ووجه سلوكها، وذلك على الأقل حتى عهد أبي يحيى، و يبدو أن سياسة التخليق و البحث عن المشروعية، لاحت معالمها مع أبي سعيد و ابنه أبي الحسن ثم أبي عنان و أبي فارس، و رغم ذلك لم تستطع النفاذ إلى عمق المجتمع، إذ ظل السلوك القبلي الأصيل ممتنعا عن التحول بفعل الهيكلة الهشة التي كرسها الاحتكام إلى الأسلوب الرعوي ـ تقسيم المجال ـ في البداية، و في المرحلة المتأخرة من عهد الدولة بزعامة الوزراء و الأشياخ بعد استيلائهم على السلطة، لذلك كان النظام السياسي في بنيته العامة نظاما توافقيا باستثناء عهد أبي الحسن و أبي عنان ثم محاولة أبي فارس، والذين حاولوا فرض نظام الدولة حتى يبدو " مؤسساتيا " و مقبولا لدى فئات عريضة من المجتمع، و هي هيكلة طبعت الحياة السياسية الحفصية كذلك،بالرغم من طابع التنظيم و توزيع المهام الذي يلوح في الظاهر، و رغم ذلك ظلت السلطة محتكرة من طرف الأسر المتغلبة .
و على المستوى الاجتماعي ؛ يرى الدارس أن المد الديموغرافي قد تراجع بفعل الحروب و الكوارث التي طبعت منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وكذلك بفعل التدخل المسيحي الذي أصبح حقيقة تهدد المجال المغاربي برمته .
أما رد فعل المجتمع فاتخذ أشكالا تفاعل فيها المعطى القبلي مع بنى الطوائف الصوفية، وأسس لمرجعية بديلة تكاد تكون ترجمة للقوى الفاعلة آنذاك، و فيما يتعلق بالمتغلبون فالذي ساد هو ظاهرة الغلبة المشاعة، أي أن الشركاء الرئيسون هما مجموعتا العرب و مجموعة زناتة في إطار ما سمي عند دارس آخر بالتوزيع و الإشراك المنفعي (مصطفى نشاط :التجارة في العصر المريني الأول ).
أما المغلبون فيشير الأستاذ إلى أصنافهم و طبيعة وضعيتهم، ميزتها على وجه الخصوص وضعية الفلاحين التي اتسمت بالضنك و الحيف و الوعاء الضريبي الذي لا ينضب مهما كانت الظرفية ( المجتمع باعتباره وعاء ضريبيا على حد تعبير محمد فتحة ) .
ليخلص أن العصر الوسيط " المغربي " زاوج في بنيته بين الضعف و القوة، إذ انتقل سياسيا من مرحلة التبعية للمشرق، إلى مرحلة تعدد الكيانات ثم مرحلة الدولة المركزية منذ المرابطين إلى الانسحاب الفعلي من الأندلس و بداية خضوع مجاله للاحتلال، و لازمه كذلك مستويان متعارضان ؛ مستوى إرساء معالم الدولة المركزية، و الاعتماد على إطار ايديولوجي يكاد يكون واضحا، و مستوى غابت فيه قاعدة محددة لوراثة الحكم، وخضوع الجباية لمسار دوري انتفت عنه المشروعية و التوافق و الاستقرار، و ظلت الخريطة البشرية مهزوزة و متحركة لا تسمح بإرساء العمل " المؤسساتي " و التنظيمي القادر على بناء دولة مهيكلة و خاضعة لتنظيم اجتماعي و إداري محكم .
لعل من الملاحظات التي يمكن إبداءها في هذا الفصل المخصص للتاريخ السياسي، مسألة التحقيب المسمى العصر الوسيط، فاستعماله مع إبداء تحفظات بشأنه يثير العديد من الإشكالات على الرغم من التبريرات التي سيقت في هذا السياق، من أن الفترة و إن اتسمت فيها أوضاع أوربا بالتفكك السياسي و تراجع المدن و سيطرة ثقافة الكنيسة، فإنها لا تخلو من إنجازات مهدت للنهوض اللاحق،ـ ص 143 ـ و لا ندري بأي معنى تم إدراج هذه الفترة في سياق العصر الوسيط ؟، فحتى لو سلمنا بذلك فإن الأمر يفتقر إلى ضمانة معرفية و منهجية مادام التفاوت قائما، و التنميط غير مبرر مهما كانت دواعي التوظيف التي لا تميز بين السياقات التاريخية، كل ما هنالك أن الاختلاف سمة حضارية مهما قويت معالم التشابه و اشتد عود التمازج، فهل بإقحام التواريخ دون فرز في قالب عام معناه حل إشكالية التحقيب ؟، كما أن البنية المنهجية التي خضعت لها عملية التبويب، خاضعة لمقياس الترتيب و التصنيف الزمني، و هو أسلوب يساير التقطيع المتداول، و من ضمن الإشكالات التي يثيرها، هل ندرس الإنسان بحضارته المادية و الرمزية ؟ أم ندرس الإنسان في التاريخ ؟ مع العلم أن التقسيم السالف لا يقوم على أساس ابستمولوجي معروف ؛ إذ يقيم القطيعة بين الأزمنة، و يرديها نمطية قابلة للاختزال، تعنى أساسا بالانتقال القسري من مرحلة إلى أخرى، في تغييب لمفهوم الزمن الطويل و الحضارة المادية، أو استمرار الظواهر و تغير الأزمنة فقط، و التي تكاد تكون ثابتة في هذا القسم من العالم الإسلامي على الأقل، و لا نخص الحضارة المادية فقط، و إنما الحضارة الرمزية و التقاليد و الأعراف المصاحبة لها .
اللافت هو أن العمل في حديثه عن الخصائص السياسية للدول المركزية، ظل وفيا في وعيه و لاوعيه للقواعد الخلدونية المعروفة، دون المساس بحجيتها أو التساؤل بشأنها، و هل هي قادرة مثلا على تفسير التاريخ المريني، الذي يبقى في تقديرنا و في تقدير علي أومليل غير خاضع لمقومات الملك، بحكم افتقاره للمثل الأعلى الديني، مما قد يؤشر على " عطب " منهجي، عابه ابن خلدون على سابقيه و سقط فيه عن غير وعي أو وعي، مع العلم أنه عاش ردحا من الزمن في كنف بني مرين، و هذا المبدأ هو ما سماه تبدل الأحوال .
معلوم أن الغرض من هذا العمل ليس هو مناقشة هذا الأمر، و إن صرنا أمام صدع لا يمكن رأبه من خلال إطلاق تحقيب " أبدي و لاهوتي "، و لكن الإشكال يظل قائما ما دام العمل قد ركن للجواب و أسس لمصالحة إجرائية، عمقت الإشكال عوض أن تسهم في تبديد معالمه، بشكل لا نستطيع معه أن ننفلت من عقال التاريخ الشمولي، فما وافق التاريخ الأوربي قد غدا مقاسا و معيارا، و ما عداه قد يصنف ضمن مقولات قد تفسر أحيانا باللاتاريخ و اللاوسيط منه، فالمقام الذي أسس مشروعية إعادة كتابة تاريخ المغرب، لا يسمح من الناحية المعرفية و المنهجية الانخراط في سياقات تحقيب أصبحت مثار قلق منهجي يستدعي التغيير في النظر و التصور و الرؤية، انطلاقا من قانون التغير الذي يتغير فيه كل شيء إلا قانون التغير كما قال ماركس .
يسجل المجهود في الصفحة 144 أن هناك تفاوتا كبيرا في طبيعة المقاربة الخاصة بهذه الفترة الزمنية استنادا إلى العوز الذي يميز بعض المراحل في المعطيات المحددة لتاريخ الأحداث و الوقائع، و هو ما يؤدي إلى غياب الدقة الكرونولوجية لعدة مستويات بما فيها المستوى السياسي .
يضاف إلى ذلك قضية المصادر التي يسمها التأخر الزمني الذي يفسر عملية الإسقاط و إعادة التركيب المحكومة برهانات جيوسياسية قائمة على التنقيح و تنقية لحظات البداية كما قال السبتي، بالإضافة إلى معضلة التباعد بين لغة المصادر و لغة الواقع الموصوف، مما يحكم على الجميع بنسبية التعرف على الحدث و محدودية ضبط الإطار و المغزى . هذا التصدير المنهجي لم يبز عن العمل عطبا منهجيا لازمه طيلة المدة الزمنية المسماة العصر الوسيط و في شقه السياسي تحديدا، إذ إن التفاوت بين فترتين ظل قائما ليس على مستوى الطبيعة المصدرية فقط، بل الرؤية و التحليل و المناقشة مما قد يفيد بتغليب فترة على أخرى، و إنتاج تاريخي تراتبي تعطى فيه الامتيازات المنهجية و المعرفية لفترة على حساب أخرى ارتباطا بعوامل موضوعية، هذا "الخلل" لا يبطل عن المؤلف صيغة التفاوت و فلسفة الكتابة بحيث جاءت فترة الهيمنة و التمركز أكثر ثراء و أغنى رؤية من الفترة السابقة، أي تعدد الكيانات السياسية الممتدة على أربعة قرون، مع العلم أن الروافد المرجعية في كلا الفترتين يطالها التقصير و عوارض الفتور في الكتابة و أسلوب المعالجة في رصد التاريخ السياسي، بالإضافة إلى التشيع للآراء الرسمية و المغالاة في الإسقاط بحكم البعد الزمني .
إن حصر المجال السياسي ـ العسكري في أفكار و تصورات تمتح من تصورات عامة و أفكار متعارف عليها من شأنه أن يفضي إلى ثقافة تاريخية " متصالحة " مع الأنساق العامة، مع محاولة إما تبريرها أو الدفاع عنها،أو التساؤل الإشكالي البارد حيالها، فجاءت حجية المتن موسومة بقراءة غير مشاكسة،من ذلك أنه طيلة هذا العمل و في الفترة الوسيطية بالذات لاحظنا غياب تاريخ المعارضة السياسي و مقوماته و خصائصه، و طبيعة أفقه السياسي إلا من إشارات تمني العين و لا تطفئ عطشا، و هو ما يعكس فعلا أن تاريخ الاعتراض على السلطة قد لاقى محنا عدة منها محاصرته نظريا من خلال مصطلح الفتنة و مصطلحات أخرى تعج بها المصادر التي تتحدث عن ثورة أو تمرد، و حوصرت المعارضة في الفعل و الممارسة التاريخية عبر الصفات التي ألصقت بها، و أنواع التعذيب التي طالت رموزها كالصلب، و تشويه الجثث، و غيرها من الصيغ التي تحفل بها المصادر تحقيرا و ازدراء، لدرجة قد تدفعنا إلى اعتبار الكتابة التاريخية في بنيتها و خطابها منتوجا سلطويا في الكثير من الملامح و السمات، و لا أدل على ذلك من أن غالبيتها ألفت تزلفا للسلطة و تقربا منها، و غدا بذلك تاريخ الكتابة عن البغي و المعارضة ممزوجا بنزعة التغاضي و الإهمال في البحث في هذا الإشكال التاريخي العويص طبعا من خلال ندرة إن لم نقل غياب دراسات تاريخية تعنى بهذا الإشكال، الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من تاريخ العالم الإسلامي، فالمعارض السياسي إذا نجح عدا زعيما، و إن كان مآله الفشل فهو بغي و زنديق و صانع فتنة، و هي مفارقة تستحق إعادة النظر في آلية النظر إلى فعل المعارضة من حيث الأسطوغرافيا التاريخية على علاتها، و زاوية البحث التاريخي المنظم و صمته حيالها .
هذا المنحى يمكن تصويب بعض ملامحه في تساؤلا تبدو جوهرية من قبيل بأي معنى صيغت الأنظمة السياسية قبل فترة الهيمنة و التمركز بالشكل الذي صيغت عليه ؟ و هل للأمر علاقة بذهنية المجتمع حتى لا يتقبل الأفكار السياسية المشاكسة ؟ و ما معنى أن يكون المغاربة ذوي أفكار سياسية و دينية محافظة ؟ و هل التاريخ المكتوب هو بالضرورة المرجعية الوحيدة للقراءة و التصويب و الحديث عن المهمش و الرمزي و العجيب و الغريب و اليومي في تجلياته الدقيقة، و المحرم و الجنس و المكبوتات النفسية و الطابو؟ .
و على الجانب العسكري يلاحظ غياب الحديث عن الثقافة العسكرية المميزة لهذه الكيانات من خلال افتقار العمل إلى تصور عام أو محدد للأنماط أو النمط العسكري المتبع في التنظيم و الهيكلة، و إذا كان الحديث قد جرى عن البنية القبلية باعتبارها نواة المؤسسة العسكرية، فإن تقنيات و أساليب إدارة المعارك و الخطط العسكرية، ظل خارج الاهتمام إلا من إشارات و شذرات متناثرة و متباعدة، تفتقر إلى خيط ناظم، و هنا يلوح لنا سؤال نحسبه مركزيا، كيف يعقل أن تكون جميع الدول التي سادت في العصر الوسيط عسكرية الطابع و الوسيلة دون أن تستطيع تطوير ذاتها عسكريا و تقنيا ؟، و بالأسلوب ذاته جرى الحديث عن المجال السياسي التي بدت فيها الأفكار السياسية المعبرة عن الدولة باستثناء المرابطين و الموحدين شاحبة، و جاءت الأفكار حولها ضامرة لم تشفع لنا في تبين طبيعة هذه الأنظمة بالرغم من أنها كانت خارجية (الخوارج الصفرية و الأباضية و المدرارية ) أو ذات مشارب أخرى كالبورغواطيين و الأدارسة و المغراويين و اليفرانيين، إذ جاءت القيمة العلمية لهذه الكيانات هزيلة، لم تتجاوز في الكثير من الأحيان ما قدمته المصادر التاريخية على اختلاف مشاربها، و كأن الإجماع حول إغماطها حقها التاريخي قد دبر بليل بين القدامى و المحدثين .
لم يستطع المؤلف أن يجيبنا عن غير ما هو معروف عن الأنظمة المعروفة في العصر الوسيط، بل لم تكن المحاولة سوى تركيب مختلف الرؤى و التصورات، التي راكمها التأليف التاريخي الخاص بهذه المراحل بتحليل رصين جنب نفسه الدخول في كتابة تاريخ " مشاكس " أو تاريخ المهمشين و الهامش في كل تعبيراته الجذرية و الشاذة ، و تاريخ الرمز و الثقافة و العادات و التقاليد، قوامه تجديد القراءة و الكتابة من خلال تجديد التساؤل بالمعنى الإشكالي، بل انتحى مكانا قصيا عندما جانب الحديث عن المحرم في السياسة و كأن ما كتب في هذا السياق تجميع لاجتهادات لها قيمتها المعرفية و التاريخية، ولكنها فقيرة في إشباع الفضول المعرفي لإعادة النظر في العديد من القضايا و الظواهر .
لم يقف الأمر عند متابعة التاريخ السياسي فحسب، إذ انصب الاهتمام في هذا الفصل كذلك على مقاربة الحياة الاجتماعية من زاوية الاقتصاد و الحضارة، فبعد أن سجل أن المجال المغربي عرف تنقلات بشرية،و عد مسرحا لصراع مرير أفضى إلى انخراط القبائل في تحالفات مع قبائل مجاورة أو مع السلطة الحاكمة أو هما معا، انتقل إلى تتبع الأصول الإثنية و طبيعة علاقة القبائل بالمجال و فلسفتها في التعامل مع القوى السياسية السائدة، كما أفرد للحياة الاجتماعية جانبا اهتم فيه بأهل الذمة يهودا و نصارى و أقليات أخرى، و على المستوى السكاني أسهمت الأمراض و الأوبئة الفتاكة في معاناة سكان الحواضر و البوادي سواء بسواء، وحصرها في الحروب و الفتن و توالي المجاعات و اجتياح الجراد .
وفي المستور الاقتصادي عملت دول العصر الوسيط خاصة الإمبراطورية منها على بذل جهود كبيرة من أجل تقوية نفوذها بالمنافذ القارية و البحرية، و على طول طرق المبادلات الداخلية منها و البعيدة المدى، إلا أن ذلك لم يغير من ازدهار المدن و بنياتها، وظلت الفلاحة في البادية قاصرة عن تحقيق قفزة نوعية في الإنتاج و الأساليب ( اقتصاد الندرة عند محمد فتحة )، و يتضح أن هذا التصور مستقى من تتبع الزراعة في البوادي من خلال تقنياتها و طرق الاستغلال المتبعة، و خصائص المنتوجات الكمية و النوعية، و رصد مميزات قطاع الماشية و طبيعة وضعيته في ظل الأوضاع السياسية و المناخية، و بالأسلوب نفسه رصد خصائص اقتصاد المدينة، فتتبع في البداية وضعية الحرف، و مسالك و سبل التجارة الدولية التي ميز فيها بين المسالك الداخلية و المسالك الرابطة بين المغرب و السودان، واصفا الأخطار المحدقة بها، و سلع المبادلات على مستوى الاستيراد و التصدير، و تم الوقوف عند العملة و المكاييل و الجباية التي أخذت منحى دوريا في جل التجارب السياسية الوسيطية.
هذه الصورة المرصودة عن الحياة الاجتماعية و الاقتصادية ـ حسب المؤلف ص 216 ـ مستمدة من المعطيات المصدرية و الدراسات التي لا تسمح بمعرفة التطورات التقنية و التحولات البنيوية التي طرأت على مختلف أوجه النشاط الاقتصادي، و في الجانب الضريبي يتضح أن العناصر المصدرية المحدودة على مستوى المقادير المحصلة ووجوه صرفها و طبيعة العلاقة بين القائمين عليها، كانت وراء غياب تصور واضح و متكامل عن هذا المجال .
و فيما يتعلق بالبعد الديني و الفكري ؛ انطلق من بدايات " الأسلمة " ليعالج ظرفيتها العامة التي دفعت المغاربة للاحتماء بالمذهب الخارجي الداعي للمساواة جراء سيرة ولاة بني أمية، و انطلاقا من ثورة البربر سنة 122هـ /740م، انفصل المغرب عن المشرق و سعى نحو تأسيس كيانه الديني الذي توزع مابين النحلة البورغواطية و المذهب الصفري (إمارة بني مدرار )، و إمارة صالح بن نكور و من بعدهم مغراوة و بني يفرن ذات المشرب السني، مع تسجيل مناحي وثنية في بعض الجهات كعبادة الكبش في الجنوب و الكهانة و الرقادين، و ادعاء النبوة كما حصل مع صالح بن طريف البورغواطي و حركة حاميم بن من الله الغماري، هذه التعبيرات الوثنية كانت حسب المؤلف محدودة التأثير .
أما المذهب الخارجي و الاعتزال، فكان عابرا لم ينخرط فيه المغاربة بشكل فعلي إلا التشيع الذي كان مساره مختلفا، و تجسده التجربة الفاطمية التي سخرت بعض قبائلها لمناوئة و مدافعة أمويي الأندلس بعد أن انتقلت إلى افريقية، دون إغفال التجربة البجلية التي سادت لفترة في منطقة السوس إلى أن قضي عليها سنة 451هـ / 1059م، ليخلص أن التنوع العقدي لم يمنع العقيدة السنية من الانتشار و السيادة بدءا من العصر المرابطي الذي كرس التصور الفقهي السني، ونحا الموحدون نحو" ترسيم " العقيدة الأشعرية، وسعى المرينيون نحو تنحية التومرتية و ترسيخ الأشعرية من خلال الفقهاء و المتصوفة و إحياء الأشراف دينيا و سياسيا، و ارتباطا بهذه الاختيارات فحص المؤلف المبررات التي رسخت الاختيار الفقهي المالكي، و سيادة النزوع الصوفي الذي غدا قوة اجتماعية طاغية في الحياة السياسية المركزية من خلال مجالات تدخلهم، وأنواع رباطاتهم و طوائفهم، وخصوصياتهم الدينية .
و في المجال العلمي و الفكري و التعليمي،رنا المؤلف نحو رسم تجليات و مظاهر الحركة العلمية و الفكرية في المغرب الوسيط من خلال أعلامها و مساهماتهم في المجالات ذات الصلة .
و في مجال العمران تظل الحصيلة المصدرية هزيلة في تتبع خصائصه و مميزاته، إلا ما تعلق بصور متناثرة تهم الارتفاق بالمباني و فن العمارة، الذي يعد مؤشرا دالا على خصائص الصرح الحضاري، و إبراز مدى تلاقح المغرب مع محيطه بغرب الأبيض المتوسط و تأثره به و تأثيره فيه، على أن السمة التي ميزت هذا المجال ـ حسب المؤلف ـ هي تأكيد و ترسيخ مبدأ البساطة و الصرامة و التماثل و التفنن بعيدا عن الأسلوب المشرقي و الأندلسي .
بهذه الصيغة و هذا الأسلوب حاول المؤلف ترتيب الخطوط العامة المميزة لتاريخ المغرب سياسيا و حضاريا و اجتماعيا في الفترة المسماة العصر الوسيط، غير أن ذلك المسعى شابته بعض الثغرات، التي حسبنا أن العمل تجاوزها ولم يعرها ما يكفي من الاهتمام، و إن كان ذلك لا يسقط عنه طابع الجدة و الأصالة و التميز .
لم يكن الفصل الخاص بالمجتمع و الحضارة لينأى بنفسه و ينبو عن العطب الذي وسم الفصل الرابع الخاص بالمجال السياسي، فقد ظل التفاوت متجدرا على مستوى الرؤية و التحليل، ولم تكن القضايا و الظواهر التي أثيرت في ثنايا هذا الفصل بمعزل عن نسق التفكير و الكتابة الرامية إلى ترسيخ نزعة " الاستقواء " التي تؤكدها فترة الهيمنة و التمركز على حساب فترة تعدد الكيانات، فإذا كان هاجس الحصيلة المصدرية المفيدة في رصد الظواهر و تتبعها حاضرا طيلة العمل، فلا معنى في تقديرنا لإقامة هذا التفاوت مهما قويت المبررات في الدفاع عنه، وظل ذلك قائما وملازما للعمل بشكل أخل ببناءه بين فترة أريد لها "الاكتمال" ، و فترة أريد لها أن تسهم في العصر الوسيط بشكل عابر تنتفي عنه صفة الإضافة الحضارية، و ذلك ما يدفعنا إلى تسجيل ملاحظة تبدو لنا و جيهة ؛ مفادها أن فترة ما قبل المركزيات لا تكتسي ذلك الطابع المشوش و الغموض الذي يلف قضاياها،بل لها مقوماتها الخاصة التي تجعل منها ندا حضاريا، فالفاعل السياسي الوسيط و المركزي منه بالخصوص دمغ الاختلاف و سيد الوحدة السياسية و الدينية باسم القوة و السيف، و أنتج حضارة القوة التي كانت إنجازاتها العلمية و الفكرية ضحلة على المستوى النوعي إلا ما ندر، في وقت كانت فترة الكيانات السياسية المتعددة و في الجانب الأندلسي تشيد حضارة من نوع خاص مثالها التأليف الموسيقي و التأليف الفلاحي المعروفة أعلامهما على سبيل المثال لا الحصر .
قد لا نغالي إذا حسبنا أن العمل الخاص بفترة التمركز و الهيمنة يستصدر من القارئ إحساسا بقوة نماذجه السياسية و الحضارية و يروم تسويق طابع "العبقرية " و الأصالة و تأصل الدولة في المغرب الضاربة جذورها في تاريخ الأسر الحاكمة، من خلال " الإغراق " في قراءة المؤشرات المرصودة و استنطاقها بشكل يتماشى مع قالب الاحتفال و الوطنية، التي تحتفي بالتاريخ و توغل في تقوية المؤشرات القليلة و النادرة كمن يهدد النار بالدمع الضرير.
و في سياق آخر و أمام الطبيعة الإشكالية التي يثيرها استثمار معطيات و مؤشرات المصادر، يؤكد المؤلف ـ ص 144 ـ أنه يتحتم علينا اللجوء إلى التنقيب الأثري و توظيف مصادر متنوعة ككتب الجغرافيا و الرحلات و المجاميع الفقهية و أدبيات النوازل و الأحكام و الوثائق و مصنفات الفلاحة و الطب و الصيدلة، و هنا تبدو مسايرة المؤلف بديهية، غير أنها تقفز على إشكال أكثر استعصاء و هو مسألة قراءتها و توظيفها، و بأي منطق تأويلي يمكن صياغة مضامينها ؟، و هو أمر غاب عن هذا العمل لأنه لم يقف عند الطبيعة المصدرية و إشكالية الكتابة و طبيعة الإضافة النوعية، لذا في تقديرنا كان لزاما الوقوف عند رصد الروافد المرجعية المؤسسة لهذا العمل بنقدها، و فك ارتباطاتها السياسية الملتبسة فيما يمكن أن يسمى بالتنصيص السياسي، أي تشكيل نص تاريخي، جغرافي، و نوازلي، بحدة أقل، مواكب و مساير للسلطة السياسية ينهل من منطقها في القالب و القلب، لذلك يبقى هذا المطلب عاما و يفتقر إلى التعيين و التحديد، إذ الانفتاح على المصادر المختلفة قد يكون له أثر نوعي في إضاءة الظاهرة التاريخية، غير أنه قد يرتد بنا إلى بناء نسق منهك و هش، ينهل من معطيات لا يربطها خيط زمني واضح، و تقود هذه العملية إلى بناء متن يتصيد المؤشرات الدالة على ظاهرة أو واقعة و إقحامها في سياقات متباينة .
يبدو لنا أن هذا العمل تجاوز العديد من القضايا التاريخية التي لها ارتباط وثيق بطبيعة الفترة الزمنية، إذ إن الرغبة في تقديم صورة عامة عن تاريخ المغرب أفقر العمل توازنه الداخلي و أرداه سلسا مريحا، لا يعاكس التصورات و الآراء السائدة،و لكنه يجافي فلسفة الكتابة التاريخية المعاصرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم يستطع المؤلف أن يفك قيد المعارضة و يزيل عنها التعتيم الذي صاغ تاريخها على مستوى الذهنية التي كتبت عنها، و بالقدر نفسه تغاضى عن النبش في إشكالية الثورات الاجتماعية و احتكم إلى " منطق " النصوص في تأويل إشاراتها و مبررات وجودها، و لم ينفذ إلى تحريك القول " الآسن " حولها، بمعنى طبيعة الثورة و إطارها السياسي و أفقها الاجتماعي و طبيعة الأطر الاجتماعية التي مهدت لها سبل النجاح و الفشل معا، هذا التغاضي حتم على الدارس مسايرة المتعارف عليه فلم تشمل الدراسة الوقوف المتأني عند مسألة التطرف المناخي و إشكالية الكوارث الطبيعية و البشرية على السواء، كما أن الطبقات أو الفئات الاجتماعية جاءت باهتة الحضور شاحبة التجلي إن على مستوى الطفل أو المرأة أو تاريخ المحرم (البغاء، المسكرات، القتل، الجريمة، ادعاء النبوة، اللصوصية، الرموز، المستضعفون، التقاليد، الأعراف، الذهنيات، النقل و التنقل، و حتى التاريخ السياسي من حيث إعادة قراءة أنظمة الحكم و الصراع على السلطة بين الأسر الحاكمة فيما يمكن أن نسميه الفتنة الموازية التي سكت عنها الأدب السلطاني و الفقه سكوتا مطبقا )، هذه المستويات جعلت من تاريخ الذهنيات غائبا بشكل مهول، و هو ما أثر على العديد من القضايا التي جاءت دون المبتغى من قبيل علاقة الذهنيات بالمؤسسات السياسية و الدينية و القبلية في إنتاج قيم مادية و رمزية، ترفل في المحافظة و تعيد الإنتاج نفسه، ذلك ما يؤكده الموت المميت للاجتهادات النظرية في المجال الفلاحي و الصناعي و التجاري و السياسي، و تعبر عنه الأنظمة السياسية النفعية المغرقة في الواقعية و دلالة الفعل، و ما قد يدل على ذلك التنظيم الإداري الذي يمكن أن يعد الصخرة التي تحطمت عليها الأنظمة السياسية موضوع الدراسة، و دور البداوة الراسخة في إفراغ الدول من الأفق السياسي، ما دامت التجارب السياسية في هذا المجال استنساخا لا " جديد " فيه إلا في الأسماء و الأمكنة و بعض التدابير و الإجراءات الشكلية .
و من القضايا التي كان بالإمكان الانفتاح عليها لتوسيع الرؤية التاريخية الخاصة بهذه الفترة مسألة البادية باعتبارها منتجا سياسيا مهما، فتفكيك أسسها و مكوناتها و تاريخها الخاص باعتبارها المنتج و القاتل السياسي لجل الأنظمة كان كفيلا بتبديد اللبس عنها، كما غاب الحديث عن إشكالية الأرض و الأعراف و طرق التعامل اليومي مع الصراعات حول الماء و المرعى .
لم تنل إشكالية أخرى حقها من التعامل العلمي و هي مسألة الإقطاع باعتباره سياسة متكاملة الخصائص اخترقت الفضاء الزمني و السياسي لمختلف السلط، و حددت بشكل ما التوازنات السياسية و خريطة الولاءات و الارتباطات بين السلطة و القبائل، و إسهام ذلك في هندسة الخريطة البشرية و تهديمها معا، حيث كانت السلطة فاعلا رئيسا في " بناء " القبائل زمن التحالف و تهديمها في فترة الضعف، إضافة إلى سياسة التهجير مع المرابطين و الموحدين و المرينيين، و " الاستئصال " الذي مس القبائل التي ظلت عصية على الولاء السياسي، أو امتنعت عنه .
غير أن التاريخ الغائب في هذا العمل هو التاريخ الجديد القائم على الأفكار والرموز و الخيال و الرسومات و هو ما قد ينبئ بقلة البحث الأثري الوسيط من جهة، و يؤسس لتاريخ تطبعه المادة و يموت فيه التاريخ الشفهي الذي يمكن أن يصدح بحقائق عجزت عنها الكتابة المادية، و بالمقابل انتفى الحديث عن المخيال الاجتماعي المؤسس لمختلف السلوكات و التصرفات الصادرة عن الإنسان الوسيطي، و كيف تمثل محيطه و صاغ فهمه للإشكالات و الطموحات الخاصة به، و لم يقتصر الأمر على هذه القضايا فحسب ، بل جاء الحديث عن البحر باهتا بالرغم من أنه شكل جانبا مهما من أحداث وصراعات العصر الوسيط الإسلامي، من خلال التنازع مع القوى التي سادت هذا المجال من جمهوريات إيطالية، و ممالك إسبانية،مما قد يوحي بغياب ثقافة بحرية لها علاقة بذهنية إنسان هذا المجال الذي مجد الصحراء و تاه في كنفها، لدرجة أنها أفقرته إمكانية منافسته للقوى الصاعدة و المتوثبة في المتوسط، إذ يسجل التاريخ المابعد المريني أنه كلما تنامى الضغط الخارجي على بلاد المغرب، كلما توغل الساسة في الصحراء و أمعنوا في الارتداد شعوريا و لا شعوريا لهذا الفضاء .
فهل نحن أمام إعادة كتابة تاريخ منقح من الشوائب و المعاطب، حتى يبدو تاريخا نقيا يخدم وطنية مزعومة و مؤطرة بايديولجيا الكفاح على حد تعبير محمد أركون ؟، هاجسها كتابة تاريخ نموذجي خالي من البياضات و الفراغات و إن صدح بها الكتاب في التمهيد،و غيب بقصد أو عن غير قصد الهواجس المعرفية و المنهجية للتاريخ المغربي في جميع العصور، و تقديمه في حلة أقرب إلى الموضوعية و الشمولية المطلوبة .
أما من حيث الشكل، فقد استرعت انتباهنا بعض الملاحظات الخاصة بالهوامش و الإحالات منها مثالا لا حصرا ما ورد في الصفحة 149 هامش 4 في إطار تفسير الفرق بين أرض العنوة و الصلح و الأرض التي أسلم عليها أهلها اعتمد على دائرة المعارف الإسلامية و هو ما يثير قلقا منهجيا مفاده الإحالة على مرجعيات ليست لها حجية معرفية و توثيقية دامغة، الأمر نفسه يخص هامش 5 ص 150 حيث اعتمد كذلك على دائرة المعارف الإسلامية في إطار تعريف فرق الخوارج " المغاربية " كالصفرية و الإباضية، و كان بالأحرى الاعتماد مثلا على دراسة الأستاذ محمود إسماعيل في كتابه المعروف الخوارج في بلاد المغرب، أو عمل الأستاذ هاشم العلوي القاسمي في كتابه مجتمع المغرب الأقصى حتى القرن الرابع الهجري، و قد سار على الخطوة ذاتها في الهامش 6 صفحة 153 حيث أحال على دائرة المعارف الإسلامية في إطار التعريف بالمنصور بن أبي عامر .
أما في الصفحة 162 هامش 8 و 9، الخاصين بالدولة الزيرية و مصطلح حرب الاسترداد، فلم يذكر المؤلف مرجعه و سنده في هذين التعريفين، الشيء نفسه في الصفحة 165 أثناء تعريف عملية التمييز الموحدية، يكتسي الإصرار على ذكر الإحالة و المرجعية حجية علمية، قد تجنبنا الكلام العام و المرسل ذلك ما تداركه في الصفحات 167ـ 171 ـ 174 ـ 177 ـ 178 ـ 180 ـ 181 ـ 206 على سبيل المثال .
إن مشرعية الكتابة في تاريخ المغرب لم ترق إلى " شرعية " علمية أثناء الرصد و التتبع، إذ تغاضى المؤلف عن قضايا و ظواهر لها قيمتها في توجيه و صياغة العديد من الظواهر التاريخية التي ميزت تاريخ المغرب، و إن كان هذا لا ينقص من الطابع العلمي الجاد و المسئول لهذه المحاولة التي تبقى رغم ذلك محاولة تفضل المستحيل الشبه الحقيقي على الممكن الذي لا يصدق، بل من الخطل نكران قيمتها التي رتب ما تهدل من أعمال سابقة، و أسدت خدمة وطنية للجيل و الأجيال القادمة الراغبة في توسيع مجالات البحث التاريخي و إثراءها بحثا و تمحيصا و نقدا .
هذه النسخة مزيدة و منقحة ، مقارنة مع النسخة المنشورة بمجلة الكلمة الالكترونية