التدريس.. اللغات.. البكائيات وأشياء أخرى - هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لنسمِّ الأسماء بمسمياتها أو فلنلتزم الصمت على الأقل، وذلك بخصوص قضية التدريس باللغة العربية من عدمها.. لكن قبل الخوض في هذا الشأن أدعو القراء إلى ربط حوار مع تجربة تكاد تشبه ما نعيشه وإن حدثت في زمن بعيد ومكان أبعد. لقد كان الأمر عاديا جدا عند الأوربيين وهم يترجمون ما أبدع فيه العرب أو ما نقلوه هؤلاء عن اليونان، من طب وهندسة وجبر وبصريات وفلسفة وموسيقى.. كانت اللغة العربية حينها لغة منتجة للعلوم وسائر المعارف. صحيح أن أوربا لم تكن تعيش أي سبات يذكر كما يسوقه لنا البعض، لكنها كانت في أمس حاجة إلى النهل من المعرفة وإن كانت بلغة غريبة عنها.
ولنعرج إلى بعض كتابات فرجيل ثم غاليليو بعده، والتي شكلت استثناء شق القاعدة، إذ بدل الكتابة باللغة اللاتينية التي كانت حينئذ لغة المعارف، بدل الكتابة بها استعمل هذان العالمان اللغة الإيطالية التي تكلمت لأول مرة بلسان الأدب عن طريق الأول، ولسان الفيزياء عن طريق الثاني، أما في الفلسفة لا يمكن إلا أن نشير إلى تجربة ديكارت في هذا الشأن عندما قرر صياغة كتابه الموسوم ب مقال في المنهج باللغة الفرنسية وإن كان في الأصل يكتب باللاتينية.. لم تكن اللغة عائقا لدى الشعوب التي تعي أولا تأخرها، لكنها في مقابل ذلك تريد التخلص منه، كما لم تكن في أي حال من الأحوال مجرد رأي متناثر متغير ومتردد..

أعتقد أن أبناءنا سيسخرون منا في المستقبل عندما سيتحول حاضرنا إلى أرشيف في رفوف مراجع التاريخ، سيتعجبون من شعب فاقد للبوصلة بسبب سياسة سياسييه المقصودة، سيتفاجؤون من "رجال سياسة" ليسوا من السياسة بشيء، وسيصيبهم الدوار عندما يجدون في كتاب ما، أن من الناس من يدافع على التعليم بلغة أجنبية إرضاءً للوبي اقتصادي معلوم، بينما أرغد آخرون وأزبدوا وهم يذكروننا بأنه لا عيب في تدريس المواد العلمية باللغة العربية، متناسين بقصد طبعا أن أبناءهم يجدون صعوبة كبيرة في الحديث بهذه اللغة، لأنهم بكل بساطة تعلموا في مدارس ومعاهد آخر ما تفكر فيه هو استعمال اللغة العربية.. حينها سيلتزم أبناؤنا الصمت وإذا تكلم أحدهم فإنه سيقول بكل حسرة: "لقد فوتوا علينا وعلى أنفسهم فرصة مواكبة التاريخ بنقاشاتهم البيزنطية هذه." سيقلب الصفحات بحثا عن شيء آخر، سيتحسر ثم سيتمنى لو لم يتواجد في هذه البقعة من الأرض بالذات، لأن مؤشرات حاضرنا تقول أن لا مستقبل لنا، ومن لا حاضر له، لا مستقبل له أيضا.
مشكلتنا ليست في اللغة التي سنعتمدها للتدريس، مشكلتنا في هؤلاء الذين يقررون في مصير أمة دون أن يملكوا نصيبا من رجاحة العقل، ولا زادا معرفيا يعينهم على بعد النظر، وعلى القول الفاعل لا الارتكاسي. مشكلتنا ليست في تفضيل لغة على أخرى، مشكلتنا تكمن في أننا فقدنا البوصلة تماما ولم نعد نعرف ما نحن فاعلون، ولا ما سنفعل.. عندما خرجت فرنسا من الثورة ومخاضاتها وجدت نفسها أمام ضرورة البناء، حيث أن أول شيء قامت به هو ضرورة إعادة بناء جسد التعليم، إذ بواسطته نُكَوِّنُ القاضي والتقني ورجل الاقتصاد والمحامي والطبيب والمهندس والدبلوماسي.. بواسطته نُكَوِّنُ الأمة والمستقبل.. هكذا منحت السلطة بشكل رسمي الضوء الأخضر إلى فيلسوف كبير من طراز كوندورسي والذي تولى هندسة البرامج التعليمية وإعداد صورة شاملة وعامة للسياسة التعليمية بفرنسا..
هل تبدع اللغة العربية اليوم؟ بطبيعة الحال، هل تمكنت اللغة الفرنسية من مسايرة ركب المعارف العلمية الدقيقة؟ بطبيعة الحال، من يتحكم في ذلك إذن؟ إنها إرادة التغيير لا إرادة التمني، الأولى تتأتى بالعمل وليس بلغة الخشب، بينما الثانية نراها متاحة للجميع لأنها عقيمة بالطبع. لذا أكاد أقول أن اللغة لم ولن تكون هدفا، إنها تمثل إرادة أمة وقد شمرت على ساعديها لبناء الوطن، إنها تمثل حزم البطون والتقشف الذي يرافقه العمل المتواصل والدؤوب، لهذا توجب علينا الاعتراف ثم التشخيص فالاشتغال.. فإما أن يدرس الجميع بنفس اللغة التي نراها قادرة على ممارسة التفكير، أو فلنواصل جدالنا العقيم الذي يتداخل فيه السياسوي بالانتخابوي بالحزبوي بالشعبوي.. أخيرا لا يسعني في هذا المقام إلا استعادة قولة شهيرة لهايدغر حينما قال أن لا تفلسف خارج اللغة الألمانية، والحال أن الرجل عندما أقر ذلك لم تحكمه نزعة شوفينية وهو الذي يتقن لغات عدة قراءة وكتابة من بينها الفرنسية والإغريقية القديمة إضافة إلى اللاتينية، وإنما رأى أن الفلسفة المعاصرة بنيت بتفكير ألماني محض، إنها بمثابة قدر يجبرك إما على تعلم الألمانية لفهم ما يجب أن يفهم، أو فإنك ستعدو حاطب ليل لا يفرق بين روث البهائم والحجارة.. فليساعدني شخص مثلا على شرح كلمة da sein أو  Geist أو Wille zur macht بلغة غير الألمانية، أو عبارة la transcendantalisation  بلغة غير الفرنسية والانجليزية..
      

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟