المسؤولية... والحاكم الذي لا يعرف - غسان الكشوري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاستناقلت وسائل الإعلام بشكل متسارع خبر إبعاد والي المدينة الاقتصادية للمغرب إلى مدينة زاكورة إحدى المدن الصحراوية، بعدما نزلت عليه صاعقة ما يعرف بالغضبة الملكية. السبب كما رجحت بعض المصادر إلى سوء التسيير الأمني الذي شهدته الشوارع البيضاوية في الأشهر الماضية وخصوصا ما تزامن مع الزيارة الملكية الأخيرة للمدينة. الغرض من ذكر هذا الحدث، ونحن في ضوء بعض المتغيرات وتحت ادعاءات الديمقراطية، ان نلامس صورا واقعية، في شكلها العمومي، لمسالة تحمل الأخطاء على حساب المسؤولية المركزية. اي كيف يتم عتاب الكبير بناء على أخطاء الصغير. ومثل هذه المناصب تعرف بحساسيتها الأمنية ووجوب التعامل يقتضي الصرامة واليقظة الأمنية في تحمل الخطوات السابقة لأجل الصالح العام.ما الذي يستفاد من هذه الواقعة..؟ ليس القصد هنا ان نقف وراء الأسباب الحقيقية لقرار الإبعاد بقدر ما هو تساءل نظري للعملية الاقصائية للمواقع ذات الحساسية والمسؤولية الأمنية، كمثال على مسالة الوهم الافتراضي لقضية المعرفة في مثل هذه المواقع، أي المسؤول الذي لا يعرف. كيف ذلك...؟؟

في الشهور الأخيرة من حكم شاه إيران عرفت بلاده مظاهرات عارمة تزعمتها الثورة الخمينية. لم يكن يصدق الشاه ما كان يجري في بلاده عندما سمع بوجود معارضة قوية فأرسل يستطلع ما يجري في الشوارع، بعد أن شكك في التقارير التي ترفعها إليه منظمة المخابرات والأمن القومي " السافاك "، قام بجولة بطائرته الخاصة فوجد من منظره العلوي على الشوارع مظاهرات عارمة، فسأل طياره بدهشة : " هل كل هؤلاء الناس يتظاهرون ضدي؟ ".

في الآونة الأخيرة تربعت مسألة الحكم والحاكم ،في جل الأنظمة العربية، على قمة القضايا التي تنبض بها الساحة السياسية في المجال الإعلامي وفي الميدان الحركي، إذ لم تعد مسألة حياة الرئيس أو الملك أو القائد من الطابوهات أو المحرمات في النقاشات العمومية، فامتد ذلك إلى الشق الشخصي (العائلة والتاريخ) وإلى الشق التنظيمي التحكمي (السلطة والأعوان)، والاهم إلى العلاقة بينهما ومدى ترابط وصلة القرابة للتسلسل التقاربي من الحاكم والحكم. وما ينجم عن الفساد والاستبداد الحاصل في البلاد، فتكثر مع هذه النقاشات مخاوف تبقى الرؤية تجاه أصلها ضبابية. فلا يعرف من هو المتحكم الحقيقي ؟ ومن هو المفسد المتستر ؟ لكن بالمقابل تظهر أقاويل وأساطير في أحايين كثيرة مفادها أن الحاكم لا يعرف وان من يحيطون به من الأعوان هم أصل كل بلاء وداء، في الوقت الذي تلمع فيه صورة الحاكم المسؤول. وهذا يفضي إما إلى أن الحاكم لا يعرف حقيقة ما يحدث من فساد ونهب لثروات شعبه ، وإما انه يعرف ويغض الطرف لمصلحة خاصة أو عامة في نظره.

لنفرض جدلا أن الحاكم لا يعرف، وان أعوانه والمقربين منه صداقة ونسبا يحجبون عنه ما يجب معرفته. فهل هذا يعفيه من المسؤولية ؟ الجواب بالإيجاب يضع التفكير السياسي للأمور في قالبه الساذج، إذ حقيقة الأمر أن الحاكم مسؤول بموجب مبادئ الحكم عن عدم معرفته، وما يترتب على ذلك فهو من مسؤوليته.

في النظام الديمقراطي يفترض في الحاكم أن يعرف وان يكون مطلعا على مجريات الأمور والأحداث لا سيما التي تمس هموم المواطن اليومية من سلامة أمنية وحرية فكرية. فلم نسمع يومًا أن شعبا ما في دولة ديمقراطية اقتنع باعتذار حاكمه عن أخطاء وقعت في حكمه على أساس أنه لم يكن يعرف ؟ و "ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد" (طبائع الاستبداد ص 7). من الممكن أن نقبل إن حصل هذا في الأمس البعيد، حيث لم تكن -آنذاك- وسائل تقنية كما في العصر الحالي، تبعد ما يَحُول بين الحاكم وشعبه، بيد أن المشكل لا يكمن في الوسائل بقدر ما يكمن ضمن الإطار العام للحق في المعرفة على اعتبار القانون الضامن للحرية وحق توصيل المعلومة، الشيء الذي يضمن للحاكم معرفة طبيعية منظمة لما يجول حوله من إيجابيات وسلبيات، ويزداد الأمر سوءا إذا تبين يومًا أن تقصيره في معرفة ما يحدث نتج عنه عواقب خطيرة، وجب عليه، حينها، أن يحاسب ويعاقب لتقصيره في معرفة ذلك الأمر.


تتجلى خرافة الحكم، خصوصا في العالم العربي، في كون الحاكم بريء ولا يعرف شيئا إذا ما وقع انتهاك لا إنساني او قمع جماعي... ويعزى ذلك الأمر إلى المحيطين به من أعوان ومقربين، لتكون قولة "الحاكم الذي لا يعرف" ذريعة يتخذها النظام لصد ادعاءات تطالب بنفض الغبار عن ذلك الأمر.

الحاكم في النظام العربي لا يختار من معاونيه إلا من يرتاح بالعمل معهم ويعتمد عليهم من سياسيين وخبراء أمنيين واقتصاديين... تحت إشرافه واطلاعه على كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، وان كانوا من سلالته. كما انه يُـكوّن معهم آلة تحكـُّمية تتمثل في كونه الصورة والمظهر وهم يمثلون له العين والأذن في المدينة والحي. بعد هذا تقسم السلطة على الشعب بين الحاكم والأعوان كرقيب على الشعب لا كأمين عليه، وكضمان لاستمرارية الحكم لا كأمانة للحكم. يبرز هذا أيضا بشكل بسيط عندما يستمر الأعوان والمقربون في مراكز سلطتهم رغم انتهاء مدة خدمتهم أو تورطهم بشكل علني في انتهاكات إنسانية أو خروقات اقتصادية. مما يعيق تحقيق الانتقال الحقيقي لعملية الإصلاح أو التغيير الجذري للخروج بالأمة من أزمة الديكتاتورية.
لكن... ماذا لو كان الحاكم يعرف...؟ ان ما يجعلنا نرجح هذا الافتراض مقولة أن "العالم قرية صغيرة". فإذا كان هذا العالم قرية، فما كون البلد إلا بيتا صغيرا داخلها...!  في الزمن الراهن، يعرف الحاكم عن الحياة الشخصية للمعارضين له أكثر من معرفة المعارض نفسه. ويساعده في ذلك احدث التقنيات والوسائل الجد المتطورة، وكذلك أعينه المتنقلة بين ظهرانيهم. بيد انه يصب جل اهتمامه ومجهوده لأتفه الأسباب. فلو انه وظـّف كل وسائله، حسب ما يقتضيه عليه واجبه، لسبر غور ما يعيشه شعبه من جوع وفقر وإحباط وقلة إبداع وتسلط أعوانه.. لما كان لذلك المعارض، في اعتقاده، وجودٌ أو بالغ تأثير. أما إذا كانت سلطته المطلقة تحتم عليه أن يكمم حتى أصوات الصارخين في وجه الفساد والاستبداد بكل أشكاله على اعتبارها تهديدا وخطرا لمنصبه، فلن يشكل ذلك إلا تراكما لأحلام وتطلعات ستسحب البساط من تحته عاجلا أم آجلا.

إن إبعاد احد المسؤولين لمجرد انه لم يقم بواجبه بشكل غير مباشر، يضعنا أمام حقيقة العلاقة  بين السلطة والمسؤولية بالواجب للمهنة المزاولة. أي ان صاحب المسؤولية لا يجب ان يدعي ان الذين له الحق في مراقبتهم لا يعرف عنهم شيئا، وان كان لا يعرف عن أخطاءهم فانه يتحمل مسؤوليتهم لأنه لم يكن يعرف حقيقة عملهم بالشكل المطلوب، ولأنه انه صدرت الأخطاء تحت إشرافه.

نختم بكلام شهيد الرأي مالكوم اكس : "أولئك الذين يحتلون مراكز السلطة أساؤوا استخدامها، والآن لا بد من أن يحدث تغيير وأن يصبح هذا العالم أفضل حالاً، والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو باللجوء إلى وسائل صارمة، وأنا سأقف مع أي إنسان - لا يهمني أياً كان لون بشرته - مادام يسعى إلى تغيير هذا الواقع البائس على الأرض".

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟