لماذا يجد نيتشه في الرقصَ مجازا لازما للفكر؟ لأنّ الرقص يتعارض مع ألدّ أعداء زارادشت – نيتشه ، عدوّا يشير إليه بوصفه " روح الثقالة" esprit de pesanteur". إنّ الرقص هو قبل كلّ شيء صورة لفكر تخلّص من كل روح ثقالة. من المهمّ رصد الصور الأخرى لهذا التحرّر، ذلك أنّها تُدرِج الرقص ضمن شبكة مجازية متماسكة. هناك مجاز العصفور مثلا. يعلن زارادشت :" لأنّني أكره روح الثقالة التي ينبئني بها العصفور." هذا رابط مجازي أول بين الرقص والعصفور.أو لنقل ثمّة تولّد، ولادة راقصة لما يمكن أن نسمّيه العصفور الكامن في الجسد. وعلى العموم هناك صورة الطّيران. يقول زارادشت :" إنّ من يتعلّم الطيران يمنح الأرض اسما جديدا .فقد يسمّيها المجنّحة ". فعلا، قد يكون هذا تعريفا جميلا جدّا وذكيّا للرقص، فضلا عن كونه تسمية جديدة للأرض. هناك أيضا مجاز الطفل. إنّ الطفل يعني " براءة ونسيان و بداية جديدة، لعب، عجلة تتحرك ذاتيا، أول دافع و إثبات بسيط". يتعلّق الأمر في بداية زارادشت، بالتحوّل الثالث، فبعد الجمل المقابل للرّقص، والأسد الذي يشير إلى العنف ممّا لا يسمح بموجبه تسمية الأرض مجنّحة. وبالفعل علينا القول بأنّ الرقص، بوصفه عصفورا وطيرانا، هو أيضا كلّ ما يشير إلى الطفل. الرقص براءة لأنه جسد قبل الجسد. إنّه نسيان، لأنّه جسد ينسى إكراهه ووزنه. إنّه بداية جديدة، لأنّ الحركة الراقصة يجب أن تكون دوما كما لو أنّها ابتكرت بدايتها الخاصّة. وهو لعب بالتأكيد لأنّ الرقص يحرّر الجسد من كلّ محاكاة اجتماعية، من كلّ ما هو جدّي، ومن كلّ تلاؤم.وهو عجلة تتحرّك ذاتيا: وهذا تعريف جميل جدّا وممكن للرقص. ذلك أن الرقص هو بمثابة دائرة في الفضاء، ولكن دائرة لها مبدأها الخاصّ، دائرة لم ترسم من خارج، بل دائرة ترسم نفسها.
والرقص محركّ أوّل، لأنّ كلّ حركة ، وكلّ تخطيط للرقص يجب أن يَمْثٌل، لا بما هو نتيجة، بل بما هو منبع للحركة بالذات. و هو، أي الرقص، إثبات بسيط لأنّه يُغيّب بتألّق الجسد السلبي، الجسد المخجل. ثمّ إنّ نيتشه يتكلّم أيضا عن الينابيع، ودائما في اتجاه الصور التي تذيب روح الثقالة." إنّ روحي ينبوع متدفّق"، وبالتأكيد، فإنّ الجسد الراقص هو بالضبط في حالة تدفّق خارج الأرض، خارج نفسه. وفي نهاية الأمر، فهناك الهواء كعامل جوّي يلخّص كل شيء. إنّ الرّقص هو ما يسمح بأن نسمّي الأرض ذاتها "هوائية". ففي الرقص، يُنظر إلى الأرض دوما بوصفها تملك تَهْوِية ثابتة، فالرقص يقتضي هبوب الهواء، وتنفّس الأرض. ذلك أنّ السؤال المركزي للّرقص هو العلاقة بين العموديّة verticalitéو الجاذبيّة attraction، عمودية وجاذبية عابرة للجسد الراقص، سانحة له بإظهار مفارقة ممكنة: أن يتبادل الأرض والهواء موقعهما، وأن يمرّ الواحد عبر الآخر. لأجل هذه العوامل كلّها، يجد الفكر مجازه في الرقص الذي يختزل سلسلة العصفور والينبوع والطفل والهواء غير المحسوس. وقد تبدو هذه السلسلة من غير شكّ بريئة، وتقريبا متكلّفة، إنّها بمثابة حكاية صبيانية لاشيء فيها وازن أو من قبيل الإدّعاء. ولكن علينا أن نفهم أنّها سلسلة مرّ عبرها نيتشه، ومرّ عبرها الرقص متّصلا بقوّة وغضب شديد. إنّ الرّقص هو في ذات الوقت أحد عبارات هذه السلسلة والمرور العنيف عبرها. يقول زاردشت عن نفسه بأنّ له " أقدام راقص غاضب". يمثّل الرقص البراءة عابرة بالقوّة . إنّه يكشف عن الحدّة الكامنة لما يبدو ينبوعا وعصفورا وطفولة. وفي الواقع، فإنّ ما يؤسّس كون الرقص مجازا للفكر هو قناعة نيتشه بأنّ الفكر تكثيف. وهي قناعة تناقض بالأساس الأطروحة التي ترى في الفكر مبدأ يتحقّق خارجيّا. بيد أنّ الفكر بالنسبة إلى نيتشه، لا يتحقّق فعليّا إلا حيث يجهد نفسه، فيكون الفكر فعليّا " في مكانه"، إنّه،إن جاز القول، ما يتكاثف على ذاته، أو هو أيضا حركة كثافته الذاتية. غير أنّ صورة الرقص طبيعيّة. إنها تَنْقُل في الظاهر معنى الفكر بوصفه تكثيفا ملازما. بل لنقل ، هي رؤية معيّنة للرقص. فلا قيمة للمجاز بالفعل إلاّ إذا ما استبعدنا كل تمثّل للرقص بما هو مانع خارجي مفروض على جسم مرن، وكجمناز للجسد الراقص منظّم من خارج. يقابل نيتشه بين ما يسمّيه رقصا وهذا الجمناز. بإمكاننا أن نتخيّل قبل كلّ شيء، أن الرقص يعرض علينا جسدا مطيعا قويّ العضلات، جسدا قادرا وخاضعا في ذات الوقت. أو لنقل إنّ الرقص نظام جسد مدرّب على الخضوع للكوريغرافيا.لكن، بالنسبة إلى نيتشه فإنّ جسدا كهذا هو مقابل للجسد الراقص، للجسد الذي يتبادل داخليا الهواء والأرض.
ما هو مقابل الرقص في نظر نيتشه؟ إنّ الألماني في أسوء صوره، هو من يقدّم لنا هذا التعريف:" طاعة وسيقان جميلة". ويكمن جوهر هذه الصورة السيئة لألمانيا، في الاستعراض العسكري بما هو الجسد المصطف والمليّن، الجسد المستعبد والرنّان، جسد إيقاع الخطوات . في حين أن الرقص هو الجسد الهوائي والمتمرّس، الجسد العمودي. وليس هو بالمرّة جسدا مٌليّنا كالحديد، إنّما هو جسد قائم " على أطرافه "، الجسد الذي يلامس الأرض، كأنما هو سحابة. و هو فوق هذا كلّه الجسد الصامت، مقابل هذا الجسد الذي يفرضه بعدُ صوته الرعدي وثقل خطواته الخاصّة والذي هو جسد الاستعراض العسكري. ختاما، يشير الجسد عند نيتشه إلى الفكر العمودي، الفكر المشدود إلى علوّه الخاص. وهو ما يرتبط بداهة بموضوع الإثبات، الذي يستمدّه من صورة " الهاجرة" حينما تكون الشمس في أوجها. إنّ الرقص هو الجسد وقد وُهِب إلى أوْجه. بل ربّما وبصورة أعمق، فإنّ ما يراه نيتشه في الرقص بوصفه في آن واحد صورة للفكر والجسد في واقعيته، هو موضوع حركيّة جدّ متعلّقة بذاتها، حركيّة لا تندرج ضمن تحديد خارجي، ولكنّها تتحرك دون أن تنفصل عن مركزها؛ حركيّة غير مفروضة تنثني على ذاتها كما لو كانت امتدادا لمركزها. يتوافق الرقص بالتأكيد مع فهم نيتشوي للفكر بوصفه صيرورة وقوّة فاعلة. لكن هذه الصّيرورة هي كذلك بفعل ما تخلص منها من داخليّة مؤكّدة متفرّدة. فليست الحركة نقلة أو تحوّلا، بل هي رسم تمرّ عبره وتسنده الوحدة الأبدية لإثبات. وإذا ما كان الرقص يشير بوضوح إلى قدرة الاندفاع الجسدي، فليس بالأساس قذفها في المكان خارج ذاتها، إنّما أن تُحْمل في جاذبية مؤكّدة تحتفظ بها. لعلّ أهم ّ ما هنالك: كون الرقص، وبعيدا عن غرابة الحركات وسرعة ما يرسمه خارجيا، هو ما يكشف عن قوة ما هو محفوظ لديه. و لن يُكشف بالتأكيد عن قوّة هذا المحفوظ إلاّ في الحركة ذاتها. غير أن ما يهمّ هو سهولة قراءة هذا المحتفظ به. وفق هذا التصوّر للرقص، تكمن ماهية للحركة فيما لم يحدث بعدُ، فيما ظلّ غير فعلي أو محفوظ داخل الحركة ذاتها. وفيما عدا ذلك سنكون إزاء طريقة مغايرة في تناول الرقص. ذلك أن نيشته يسمّي ابتذالا الاندفاع الغريزي الذي لم يحفظ ، والإغراء الجسدي الذي يُطيع فورا ويتجلّى . فقد كتب أنّ كلّ ابتذال يتأتّى من العجز عن مقاومة إغراء. أو أنّ الابتذال هو أيضا أن نكون مرغمين على التفاعل، و"أن نطيع كلّ اندفاع غريزي". وتبعا لذلك، فقد نعرّف الرقص بوصفه حركة للجسد خلصت من كلّ ابتذال.
ليس الرقص أبدا تحرّر الاندفاع الجسدي، والطاقة المتوحّشة للجسد، بل هو خلافا لذلك توحّش الجسد للتمرّد على الاندفاع الغريزي. يُظهر الجسد كيف يمكن للاندفاع أن يصبح غير فاعل في الحركة، بصورة لا يتعلق الأمر فيها بالطاعة بل بالتحفّظ. فالرقص هو الفكر بوصفه لطف أو لباقة. نحن إذن قبالة كلّ مذهب للرقص يجعل منه انتشاء بدائيا أو تكرارا نسيّا للجسد. يعبّر الرقص مجازيا عن خفّة الفكر ورقّته، لأنّه يظهر تحديدا التحفّظ الكامن في الحركة ويقابل بالتالي الابتذال العفوي للجسد. بإمكاننا التفكير على نحو ملائم فيما يقال عن موضوع الرقص بما هو خِفّة. نعم يقابل الرقص روح الثقالة، نعم إنه ما يمنح الأرض أسمها الجديد ، "الخفيفة" . لكن ما تعني الخفّة في نهاية الأمر؟ لن يفيدنا القول بأنها انعدام الوزن. يجب أن نفهم من الخفّة قدرة الجسد على أن يتمظهر كجسد لا يُكْرهه شيء بما في ذلك ذاته، أي جسد في حالة تمرّد بالنسبة إلى دوافعه.هذا الدافع المتمرّد يعارض القول الألماني (" الّطاعة والسّيقان الجميلة")، ولكنه يقتضي خاصّة مبدأ البطء. للخفّة ماهيتها، التي يمثّل الرقص أفضل صورها، من جهة قدرته على إظهار البطء الخفيّ لما هو سريع. من غير شكّ أن لحركة الرقص سرعتها القصوى، بل إنها ماهرة في السّرعة، غير أنّها ليست كذلك إلا من حيث هي معتادة على بطئها الكامن، بما هو قدرة مؤكِدة لتحفّظها. يصرّح نيتشه بأن:" إنّ ما على الإرادة تعلّمه هو أن تكون متؤدة وحذرة". بل لنقل بأنه يمكن تعريف الرقص نفسه بوصفه اتساع البطء وحذر الجسد- الفكر. يبيّن لنا الرّاقص، في هذا المعنى، ما يمكن للإرادة تعلّمه.
وبالنتيجة فإنّ ماهية الرقص هي حركة إفتراضية أكثر منها حركة راهنة؛ بل لنقل : حركة افتراضية بما هي بطء ضمني للحركة الراهنة. أو بتعبير أدقّ : إن الرّقص، في أقصى سرعته الماهرة ، يكشف عن هذا البطء المخفيّ حيث يكون ما فيه غير قابل للتحديد لتحفّظه بالذات. وزيادة على سمة الفنّ، قد يكشف الرقص عن التكافىء الغريب لا بين السرعة والبطء فحسب، بل بين الحركة واللاحركة. وقد يكشف، أي الرقص، أنه بالرغم من أن الحركة حدثت، فإنّ هذا "الذي حدث"avoir- lieu غير قابل للتمييز عن "لم يحدث" non- lieu افتراضي. فالرقص يتكوّن من حركة تبقى نوعا ما متردّدة لكونها مسكونة بالتحفّظ. ومن منظور فكري الخاص أو قل مذهبي، يقترح هذا التأويل النيتشوي للرقص ما يلي: يكون الرقص مجازَ كلّ فكر حقيقيّ تعلّق بحدث. ذلك أن حدثا ما هو بالتحديد ما يتبقى متردّدا بين "ما حدث" و"مالم - حدث" non-lieu، هوانبثاق، غيابه غير قابل للتمييز. إنّه ينضاف إلى "اليوجد" il y a ، ولكن بمجرّد ما يتعيّن هذا المضاف، يستعيد هذا " اليوجد" كلّ حقوقه ويتصرّف في كلّ شيء. بالطبع، فإنّ الطريقة الوحيدة لتعيين حدث هو أن نعطيه أسما ونرسمه في " اليوجد" بما هو اسم فوق نقدي surnuméraire . وليس هو " بذاته" سوى احتجابه، غير أن رسمه يمكن أن يحفظه عن الضّياع مثل طرف ثوب موشّى. إنّ الاسم هو من يقرّر بشأن "الذي يحدث". يدلّ الرقص إذن على الفكر كحدث ولكن قبل أن يُسمّى، على الحدّ الأقصى لغيابه الحقيقيّ، في تلاشيه، ودون ملاذ الاسم. يحاكي الرقص الفكر المترّدد. فقد يكون الفكر الفطري native أو غير المثبت. نعم قد يوجد في الرقص مجاز اللامثبت L’infixeé.
هكذا يتّضح أنّ للرقص إمكان أن يطلق الزمان في المكان. ذلك أن حدثا ما يقيم زمنا فرديا انطلاقا من تثبيته الاسمي. يرسم الحدث في الوضعية en situationبما هو مخطّط له ومُسَمى ومٌثبت ، في " اليوجد" ، ما قبل وما بعد. إنّ زمنا ما بصدد الوجود.لكن إذا كان الرقص مجازا، للحدث "قبل" الاسم، فإنّه لا يمكن أن يشارك في هذا الزمن إلاّ الاسم، فبقطعه عن الزمن ينشأ كحدث. إنّ الرقص خارج عن القرار الزمني. يوجد في الرقص إذن، شيء من قًبْل الزمن، من القبل زمني. وهذا العنصر القبل زمني سيطلق في المكان.
في كتاب " الروح والرقص" يتّجه فاليري إلى الرّاقصة بالخطاب قائلا:" كم أنتِ رائعة في وشك الوقوع !." فعلا، نستطيع أن نقول إنّ الرقص هو الجسد مرتعا لوشك الوقوع. لكن الذي يوشك أن يقع هو فعلا الزمن قبل الزمن الذي سيوجد.إنّ الرقص، بوصفه احتلال مكان لوشك الوقوع، قد يجعله مجازا لكلّ ما يؤسّسه الفكر وينظّمه. ويمكننا أن نقول أيضا بانّ الرقص يقوم مقام الحدث قبل التسمية، وأنّه تبعا لذلك، يوجد الصمت بدل الاسم. يكشف الرقص إذن عن صمت ما قبل الاسم، تماما مثلما هو مكان ماقبل الزمان.
من البدهي أنّ الاعتراض الذي يطرح مباشرة هو دور الموسيقى. إذ كيف يمكن الحديث عن صمت، إذا ما بدا كلّ رقص خاضعا لسلطة الموسيقى؟ بالتأكيد هناك استثناء للرّقص الذي يصف الموسيقى بما هي الجسد مرتعا للموسيقى وتحديدا مرتعا للإيقاع. لكنّ هذا التصوّر، هو أيضا ما يزال على معنى العبارة " طاعة وسيقان حسنة"، هنا يبدو ثقل النظرة الألمانية بالرغم من الاعتراف بسيادة الموسيقى على الطاعة. بل نقل دون تردّد أنّ الرّقص الذي يخضع للموسيقى يجعل منها موسيقى عسكريّة، سواء تعلّق الأمر بشوبان أو بولاز، في الوقت الذي تتحوّل فيه إلى ألمانيا سيئة الصورة.
إنّ ما يجب أن نسنده، أيّ كانت المفارقة هو ما يلي: ليس للموسيقى من وظيفة، من منظور الرقص، سوى أن ترسم الصمت.إنّها إذن ضرورية، لأنّه يجب رسم الصمت حتّى يظهر كصمت. ولكن صمت ماذا؟ إنهّ صمت الاسم. وإذا ما صحّ أنّ الرقص يلعب دور تسمية الحدث في حال صمت الاسم، فإنّ الموسيقى هي التي تشير إلى موقع هذا الصمت. إنّه لأمر جدّ طبيعي: لا يمكنك تحديد الصمت المؤسس للرقص إلاّ بفضل تركيز أقصى للصوت والذي هو الموسيقى. علينا إذن أن نرى، وبغض النظر عن كل المظاهر، تلك التي تريد خضوع " السيقان الحسنة" للرقص لتعليمات الموسيقى من حيث أنّها، أي الموسيقى، ترسم الصمت المؤسس حيث يُقدِّم الرقصُ الفكرَ الفطري، في الاقتصاد الصدفوي والمتخفّي للاسم. إنّ فهم الرقص بوصفه مجازا للبعد الحدثي لكلّ فكر، يجعله سابقا للموسيقى التي تعتمد عليه.
نستخلص من هذه المقدمات التي هي بمثابة نتائج، ما أسمّيه مبادئ الرقص. لكن، لا بما هي مبادئ الرقص مفكّرا فيه انطلاقا من ذاته، من تقنيته وتاريخه، ولكن الرّقص كما تؤويه الفلسفة وتستقبله.
إنّ هذه المبادئ واضحة تماما في كلا النّصين اللذين خصّصهما مالارمي للرّقص، نصّان عميقان بقدر إيجازهما، وفي تقديري نصّان نهائيان.
أميّز ضمن هذين النّصين ستّة مبادئ، جميعها متّصلة بالرّقص والفكر، وتحتكم إلى مقارنة ضمنيّة بين الرّقص والمسرح: هذه قائمة الستة مبادئ :
1- لزوم الفضاء
2- الجسد بلا هوية
3- الحضور الكلّي المطموس للجنس
4- طرح الذات أوانسحابها
5- العُرْي
6- النظرة المطلقة
لنقم بالتعليق تباعا على كلّ مبدإ
إذا صحّ أنّ الرقص يطلق الزمان في المكان، وأنّه يفترض فضاء وشك الوقوع، يقع الرقص إذن تحت لزوم الفضاء. هكذا يشير مالارمي:" يبدو لي أن الرقص وحده يتطلّب فضاء واقعيّا" . لاحظوا جيّدا عبارة الرقص وحده. فمن بين سائر الفنون، وحده الرّقص مرغم بالفضاء. وليس هذا حال المسرح بالخصوص. فالرّقص هو، كما قلت، الحدث قبل التسمية. أّمّا المسرح فليس هو في المقابل، إلاّ نتيجة تسميةٍ حاجز. ومنذ اللحظة التي يوجد فيها نصّ، ويسند فيها الاسم، يكون الاقتضاء، اقتضاء الزّمان وليس اقتضاء المكان. فمن يقرأ من وراء طاولة يمكن له الاشتغال بالمسرح. يمكن أن نوفّر له علاوة على ذلك ركحا وديكورا، غير أن ذلك كلّه يظلّ أمرا غير أساسيّ في تقدير مالارمي. فالفضاء ليس إلزاما ضمنيّا للمسرح. وفي المقابل، يدمج الرقص الفضاء في ماهيته. إنّ الفضاء هو الشكل الوحيد الذي يصنعه الفكر، على نحو يسمح لنا بالإقرار بوجاهة اعتبار الرقص تعبيرا رمزيا عن مسافات الفكر. ما الذي يجب أن نفهم من هذا؟ علينا أن نعود من جديد على الأصل الحدثاني événementielle لكلّ فكر. يتحدّد موقع كلّ حدث في الوضعيّة، إنّه لا يؤثّر أبدا فيها " كلّها" : يوجد ما أسميته موقعا حدثيّا. إذ قبل أن تؤسّس التّسمية الزمان حيث " يُشغّل" الحدثٌ الوضعية بما هي حقيقته، يوجد الموقع site. وبما أنّ الرقص هو تضخيمmonstration لماقبل الاسم، وجب عليه أن يتّسع كمسافة لموقع. لموقع خالص. هناك الرقص، إنّها عبارة مالارمي " طهارة موقع." ويضيف :" طهارة موقع لم يخطر بالبال". ولكن ما معنى " لم يخطر بالبال" ؟ إنّه يعني أنه ليس للموقع الحدثي سوى أن يتخيّل أشكالا لديكور. لكن الديكور للمسرح لا للرقص. فالرقص هو الموقع كما هو دون زخرفة تمثيليّة. إنّه يتطلّب الفضاء والمسافة ولاشيء غير ذلك. هذا ما يمكن قوله بالنّسبة إلى المبدأ الأول.
أمّا بالنسبة إلى المبدأ الثاني – الجسد المجهول، فإنّنا نلمس فيه غياب كلّ منطوق، القبل ـ اسم. فالجسد الرّاقص، مثلما يحدث في الموقع، ومثلما يحتلّ مساحة في وشك الوقوع، هو جسد ـ فكر، وليس هو مطلقا أحدهم. يصرّح مالارمي في شأن هذه الأجساد:" ليست سوى رمزا، وليست مطلقا أحدهم". يتعارض الرمز أوّلا مع المحاكاة. فالجسد الراقص لا دور يقيّده فهو رمز انبثاق خالص. لكن كونه رمزا يتعارض أيضا مع كلّ شكل من أشكال التعبير. فالجسد الراقص لا يعبّر عن أي داخليّة أو جوّانية، إنّه على السّطح كثافة مرئية التحفّظ ، كثافة هي الداخليّة. وليس الجسد الراقص محاكاة ولا تعبيرا إنّما هو رمز للكشف عن طهارة موقع؛ يكشف فيه تحديدا أنّ الفكر، الفكر الحقيقيّ متوقّف على الغياب الحدثي، هو استقراء لذات لاشخصية . impersonnel .وتنتج لاشخصية الذات لفكر ( أو لحقيقة) من أنّ كذا ذات لا توجد قبل الحدث الذي يسمح لها بالوجود. فليس هناك من إمكان لتصوّرها بما هي " أحدهم" . هذا ما به قد يأخذ الجسد الراقص معنى كونه افتتاحي، كونه جسدا أوّل. وبالمثل، فإنّ ذاتَ معرفة لن تكون مسبقا، أيّ كانت أسبقيتها، "أحدهم" الذي هو عليه أو بما هو كذلك le quelqu’un qu’il est .
أمّا فيما يتعلق بالمبدأ الثالث – الحضور الكلّي المطموس للجنس، فيمكن استخلاصه من التصريحات المتناقضة ظاهريا لمالارمي. هذا التناقض الذي يعبّر عن نفسه في التقابل الذي أقيمه بين " حضور كلّي" و" مطموس". بل لنقل إنّ الرقص يكشف كونيا عن وجود موقفين جنسيين (يمثل " الرجل" و"المرأة" تسمية لهما )، وأنه في ذات الوقت يجرّد أو يمحو هذه الثنائية. يصرّح مالارمي من جهة " ليس الرقص كلّه سوى التأويل الغامض المقدس للقبلة". يوجد إذن، في مركز الرقص اتّصال بين الجنسين، وهذا ما يجب تسميته بالحضوري الكلّي. يتكوّن الرقص تماما من اتصال وانفصال المواقف الجنسيّة . فكلّ الحركات تحتفظ بكثافتها في مسارات، جاذبيّتها الرئيسيّة توحّد ثمّ تفصل المواقف "رجل" و" امرأة". غير أن مالارمي يلاحظ أيضا من جهة أخرى أنّ " الراقصة ليست امرأة". ولكن كيف يمكن أن يكون الرقص كلّه تأويلا للقبلة، واتصالا بين الجنسين أو لنقل تأويلا للإتّصال الجنسي، وأن لا تسمّى الراقصة بما هي كذلك "امرأة"، ولا يمكن أيضا أن تكون كذلك من خلال" رجل" هو الراقص؟ ذلك أن الرقص لا يحتفظ من الجنسنةsexuation والرغبة والحبّ سوى شكلا خالصا: ذلك الذي ينظّم ثلاثيّة اللقاء والاحتضان والانفصال. يرمّز الرقص هذه العبارات تقنيّا ( تتمايز الرموز تمايزا شديدا، لكنها دائما للتجسيدà l’œuvre ). وتنظّم منها الكوريغرافيا عقدة الفضاء. لكن يصل أخيرا ثلاثيّ اللقاء والاحتضان والانفصال إلى نقاوة تحفّظ مكثّف لوجهته. وفي الواقع، فإنّ الحضور الكلّي لاختلاف الراقص والراقصة، ومن خلاله الحضور الكلّي " المثالي" لاختلاف الجنسين، لا يُستخدم إلاّ بما هو أرغانون العلاقة بين تقارب وانفصال، على نحو لا يكون فيه الزوج راقص/ راقصة قابلا إسميا أن يحمل على زوج رجل/امرأة. إنّ ما هو موضوع رهان في الإشارة الحاضرة كليا في الجنسين هو في نهاية الأمر التشابك بين الكائن الذي يجب أن يختفي وبين الذي حصل وبين الإلغاء، الذي يوفّر له اللقاء والاحتضان والانفصال ترميزا جسديا قابل للتعرف عليه. لقد جُعلت طاقة الفصل التي تمثلّ الجنسيّة رمزها، في خدمة مجاز الحدث كما هو، أي ما يحتفظ به الكائن في كليّته في التخفّي. لأجل ذلك يمّحي الحضور الكلّي لاختلاف الجنسين، أو يلغى، وليس ذلك غاية الرقص النموذجية ، بل تجريدا شكليا لطاقة يستدعي خطّها في الفضاء القوّة الإبداعية للاختفاء.
أمّا بالنسبة إلى المبدأ الرابع – طرح الذات، فمن المناسب الاعتماد على تعبير غريب تماما لمالارمي :" الراقصة لا ترقص". لقد تبيّنا أنها ليست امرأة، لكنّها أيضا ليست حتّى "راقصة "، إذا كنّا نعني بذلك شخصا يقوم برقصة. ولنقرّب بين هذا التعبير وبين آخر: يقول مالارمي" الرقص قصيدة متحرّرة كليا من آلة كاتب". إنّ هذا التعبير الثاني أكثر مفارقة من الأوّل.("الراقصة لا ترقص"). ذلك أن ّ القصيدة بالخصوص في التصوّر المالارمي، هي بالأساس أثر، تسجيل. وبالتّالي، فإنّ القصيدة منسحبة عن ذاتها، تماما مثل الراقصة التي لا ترقص، هي الرقص منفلت عن الرقص. إنّ الرقص مثل قصيدة غير مدوّنة أو بلا خطّية . والرقص أيضا هو مثل رقص دون رقص ، رقص لارقصية فيه. إنّ ما يعبّر عن ذاته هنا هو البعد الإخراجي أو الطّرحي للفكر. إنّ كلّ فكر حقيقي يخرج عن المعرفة التي ينشئ فيها.إنّ الرقص مجاز للفكر، وبالتحديد في كونه يشير بفضل أدوات الجسد إلى أن فكرا في شكل انبثاقه الحدثي خارج عن كلّ وجود سابق للمعرفة.
كيف يشير الرقص إلى هذا الانسحاب؟ بالتّحديد لأنّ الرّاقصة "الحقيقية" لا يجب أن تظهر أبدا كراقصة تعرف الرقص الذي ترقصه. إنّ معرفتها (وهي تقنية متّسعة اكتسابها مؤلم) يشقّها، كما لم يكن، الانبثاق الخالص لحركتها. إنّ عبارة "الراقصة لا ترقص" تعني أنّ ما نراه ليس، في أي لحظة كانت، إنجاز معرفة، بالرغم من أن هذه المعرفة من جهة إلى أخرى قد تكون مادّة ما نراه، أو سنده. إنّ الراقصة هي نسيان إعجازي لكلّ معرفتها بالرقص، إنّها هذه الكثافة المتحفّظة التي تكشف عن المتردّد للحركة. وفي الحقيقة، تلغي الراقصة كلّ رقص معلوم لأنّها تتصرّف في جسدها كما لو كان مبتكرا؛ على نحو يكون فيه مشهد الرقص هو الجسد منفلتا عن كلّ معرفة بجسد، الجسد كتجلّي.
نقول بالضرورة عن مثل هذا الجسد – وهذا هو المبدأ الخامس- إنّه جسد عار. ليس من المهمّ بالطبع أن يكون عار حسيّا، إنّه عارِ بالأساس. وبمثل الرقص الذي يزور الموقع الخالص، ولا شأن له بالديكور(إن وجد أم لا)، فإنّ الجسد الراقص، بما هو جسد- فكر في نمط الحدث، لا شأن له بثوب ( إن كان له تنانير أولا ). إنّ هذا العري أساسيّ. ماذا يقول مالارمي ؟ إنّه يقول بأنّ الرّقص "يمنحك عري مفاهيمك". ويضيف " وقد يكتب بصمت حياتك". يُفهم " العري" إذن هكذا: إنّ الرقص كمجاز للفكر يقدّم لنا العري ليس له علاقة بشيء غير ذاته، في عراء انبثاقه. إنّ الرقص هو الفكر دون علاقة، الفكر الذي لا يحمل شيئا، ولا يجعل شيئا في علاقة. وقد نقول أيضا بأن الرقص إتلافconsumation خالص للفكر، لأنّه يتخلّى فيه عن كلّ زخرفة ممكنة. من هنا فأنّ الرّقص نزعويّا هوتضخيم العري الطّاهر، العري قبل أيّ زينة، العري الذي لا ينتج عن نزعنا الزينة، بل خلافا لذلك، العري كما يمْثُل قبل كلّ زينة، مثل الحدث يمثل قبل" الاسم".
المبدأ السادس والأخير، لا يخصّ الراقصة ولا حتى الرّقص ولكن المتفرّج. ولكن ماذا يعني متفرّج على الرّقص ؟ يجيب مالارمي عن هذا السؤال بطريقة جدّ صارمة. إذ مثلما أنّ الراقص بوصفه رمزا، ليس أبدا أحدهم، يجب أن يكون المتفرّج على الرقص لاشخصيا . فعلى أيّ حال، لا يمكن للمتفرج على الرّقص أن يمثّل خصوصية من ينظر.
وبالفعل، إذا نظر أحدهم إلى الرقص، كان بالضّرورة متلصّصا. هذه نقطة ناتجة عن مبادئ الرّقص، عن ماهيته (حضور كلي ومطموس للجنس، العري، أجساد مجهولة الخ..). ولا يمكن لهذه المبادئ أن تصير فعليّة إلاّ إذا تخلّص المتفرّج من كلّ ما يمكن أن تحتمله نظرته كفرد أو راغب. يتطلّب كلّ مشهد آخر ( المشهد المسرحي أوّلا) أن تحيط رغبة المتفرّج الخاصّة بالرّكح. إنّ الرقص من هذا الجانب ليس مشهدا. وهو كذلك لأنّه لا يتسامح مع النظرة المشتهية، التي، حالما يكون هناك رقص، لا يمكن أن تكون إلاّ نظرة متلصّصة حيث تختفي ذاتيا كلّ الاختلاسات الرّاقصة.إذن لابد ممّا يسمّيه مالارمي " نظرة مطلقة لاشخصية أو خاطفة". إنّه إلزام قاس، أليس كذلك؟ ، ذاك الذي يفرضه حينئذ العري الأساسيّ للرّاقصين والرّاقصات.
نقول " لاشخصيّ"، لقد كنّا بصدد الحديث عن ذلك. فإذا كان الرّقص يرمز إلى الفكر في ولادته، فإنّه ليس باستطاعته أن يرمز إليه إلاّ وفق عنوان كونيّ. إنّ الرقص لا يتوجّه نحو فرديّة رغبة، هي فوق ذلك لم تملك بعدُ مُنشأ الزمن. إنّه ما يقدّم عري المفاهيم. إذن، هل على نظرة المتفرّج أن تكفّ عن البحث في جسد الراقصين عن موضوعات رغبتها، التي تحيل إلى العري الزخرفي أو التمائمي؟. يقتضي الوصول إلى عري المفاهيم نظرة مخفّفة من كلّ تقصّي راغب للموضوعات التي يمثّل الجسد " الوضيع" ( بعبارة نيتشه)حاملها، نظرة تصل إلى الجسد- الفكر البريء والأوليّ، إلى الجسد المبتكر أو المنبثق. لكنّ هكذا نظرة ليست نظرة شخص "مبرق.»fulgurant: يجب على متفرج الرّقص أن يخشى علاقة الوجود بالمختفي، فلن يشفي غلّته من مشهد. وفضلا عن ذلك، فإنّ الرّقص هو دائما شموليّة مزيّفة. فليس هناك ديمومة مغلقة لمشهد، بل هناك تضخيم دائم للحدثيّة événementialité في هروبها، وفي التكافؤ غير المحسوم لوجود الحدث وعدمه. فلا يتكافأ معه إلاّ بريق النّظر، لا انتباهه الشديد comblée .
نقول " المطلق": إذ يجب أن نأخذ الفكر المعبّر عنه مجازيا في الرّقص مأخذ ملكية أبديّة. فلأن الرّقص تحديدا، وعلى وجه الإطلاق هو فنّ سريع الزّوال، بما أنّه يختفي بمجرّد ما يوجد، فإنّه يحتفظ بأقوى ثقل أبدي. فلا تتمثّل الأبديّة في "البقاء هكذا"، ولا في الديمومة، بل هي بالتحديد ما يحتفظ بالاختفاء. حينما تستولي نظرة " خاطفة" على إغماء، فلا يمكن أن تحتفظ به إلاّ بما هو إغماء خالص، بمعزل عن كلّ ذاكرة خبريّة. ما من وسيلة أخرى للاحتفاظ بما يختفي إلاّ الاحتفاظ به أبديّا. يمكنك الاحتفاظ بما لا يختفي، بعرضه على إنهاك هذا الاحتفاظ . لكن الرّقص لا يمكن أن يَبْلى حينما يمسك به متفرّج حقيقيّ، لأنه بالتحديد ليس شيئا آخر غير مطلق للرقص سريع الزوال. في هذا المعنى توجد إطلاقيّة النظرة إلى الرّقص.
إذا ما فحصنا الآن المبادئ الستة للرقص، يمكن أن نقرّ بانّ المسرح هو نقيضه الحقيقيّ. هناك بالتأكيد الاستعراض العسكري، غير أنّه نقيض سلبيّ. أما المسرح فهو نقيض إيجابي للرقص.
ليخالف المسرح هذه المبادئ الستّة، فقد اقترحناه بعدُ مخالفا لبعضها. فأشرنا في الأثناء أنّه ليس ثمّة في المسرح شيء منها، باعتبار أن النصّ فيه تسمية، وإكراه الموقع الخالص، وأن الممثّل هو كلّ شيء ما عدا كونه جسدا مجهولا. وسنبيّن دون عناء أنّه لا يوجد في المسرح حضورا كليّا مطموسا للجنسين، بل يتعلّق الأمر بخلاف ذلك بلعب دور مفرط للجنسنة. sexuation وأنّ اللعبة المسرحيّة، أبعد عن أن تكون انسحابا للذات، هي إفراط في الذات: فإذا كانت الراقصة لا ترقص، فإنّ الممثّل عليه أن يمثّل، وأن يلعب الفصل التمثيلي والفصول الخمسة للمسرحية. وليس هناك أبدا عري في المسرح، بل إنّ اللباس إلزامي، والعري نفسه ثوب، والنّاظرين أكثر. أمّا المتفرّج على المسرح، فلن نظفر منه أبدا بنظرة غير شخصية مطلقة ولامعة، ذلك أن ما هو مناسب هو إثارة ذكاء مرتبك في زمن الرغبة.
هناك إذن تضادّ أساسي بين الرقص والمسرح، تضادّ يتناوله نيتشه بأبسط طريقة ممكنة: بواسطة إستيتيقا لامسرحية.antithéatral من أوامر الفنّ المعاصر، وبشكل مخصوص لدى نيشته في آخر مراحل حياته، وفي إطار انفصاله التامّ عن "فاقنر"Wagner ، هوالطرح جانبا ( لصالح مجاز الرّقص، كاسم جديد يطلق على الأرض) للسيطرة الكريهة والمنحطّة للمسرحياتيةthéâtralité . يسمّي نيتشه خضوع الفنون للتأثير المسرحياتي "بالبلهوانية" .histrionisme حيث نجد فيها ما يتعارض مع الرقص، والذي هو " الخشونة". على أنّ التخلّص نهائيّا من بلهوانية فاقنر، هو مقابلة خفّة الرقص بالخشونة الكاذبة للمسرح.يستخدم بيزاتBizet تسمية المثل الأعلى لموسيقي " راقصة" ضدّ الموسيقى المُمَسرحة لفاقنر، موسيقى محقّرة من حيث أنّها بدل أن تكون رسما لصمت الرقص ، هي خطّاّ لأثقال اللّعب. إنّ الفكرة التي بموجبها تكون المسرحياتية théâtralitéمبدأ فساد كلّ الفنون بالذات ليست فكرتي. فستعترضنا كثيرا في بقيّة هذا الكتاب . وليست كذلك فكرة مالارمي . فقد عبّر، عن عكس ذلك تماما حينما كتب بأنّ المسرح" فنّ سام". يرى مالارمي أنّ هناك تناقضا بين مبادئ الرقص ومبادئ المسرح. لكنّه كان أبعد ما يكون عن استنتاج الوضاعة البلهوانية للمسرح، بل إنّه شدّد على تفوّقه الفنّي، دون أن يحطّ مع ذلك، من قيمة النّقاء المفاهيمي للرّقص.
ولكن، كيف يكون ذلك ممكنا؟ لعلّه من الضروري ، حتى نفهم موقف نيتشه، أن نقدّم تعبيرا مثيرا ولكنّه ضروري :ليس الرقص فنّا. إنّ خطأ نيتشه هو الاعتقاد بوجود مساحةmesureمشتركة بين الرقص والمسرح ، مساحة قد تكون كثافتهما الفنية. يستمرّ نيتشه على طريقته، في ترتيب المسرح والرقص ضمن تصنيف للفنون. أمّا مالارمي فهو في المقابل لا يقصد بموقفه من المسرح أبدا إقرار تفوّق على الرقص. فهو لا يقول بالتأكيد أن الرقص ليس فنّا، لكنّنا يمكن أن نقول ذلك بدلا عنه إذا ما أوغلنا في فهم الدلالة الحقيقيّة للمبادئ الستّة للرقص. فالرقص ليس فنّا لأنّه علامة لإمكانية الفنّ كما يرتسم في الجسد.
لنفسّر قليلا هذا المبدأ الأساسي. يقول سبينوزا بأنّنا نسعى إلى معرفة حقيقة الفكر، بينما لا نعرف حتىّ مستطاع الجسد.أقول بأنّ الرّقص تحديدا هو الذي يكشف عمّا يستطيعه الجسد من فنّ، وعن المقدار المحدّد الذي يكون ضمنه وفي لحظة معينة مستطيعا. لكن القول بانّ الجسد قادرعلى ممارسة الفنّ لا يعني إيجاد " فن الجسد". يشير الرقص إلى هذه القدرة الفنيّة للجسد، دون أن يجعل منها مع ذلك فنّا مميّزا. وأن نقول بأنّ الجسد، من حيث هو جسد، قادر على ممارسة الفنّ، فذاك يعني إظهاره كجسد- فكر، لا كفكر يتملّكه الجسد، بل كجسد هو فكر. تلك هي وظيفة الرقص: أن يتجلّى الجسد- الفكر في علامة متلاشية لقدرة فنيّة. إنّ التأثر بالرقص لدى كلّ فرد مردّه أنّ الرقص يجيب بطريقته الخاصّة عن سؤال سبينوزا. ما هو مستطاع الجسد كجسد؟ إنّه قادرعلى الفنّ، أي جدير بأن يُعرض كفكر مولّدّ. native ولكن كيف نسمّي الانفعال الذي يتملّكنا إذن،على ضعف قدرتنا على أن نكون ذوي نظرة خاطفة لاشخصية ومطلقة؟ سأسمّي ذلك دُوارا دقيقا.وهو دوار دقيق، لأنّ اللّانهائي يتجلّى فيه كضمنيّ في نهائية الجسد المرئيّ . وإذا كانت استطاعة الجسد، في نهج القدرة على الفنّ، هو إظهار الفكر المولّْد، فإنّ هذه القدرة على الفنّ نهائيّة، والجسد الراقص هو بذاته نهائيّ؛ نهائيّ في لحظة تانّقه الهوائي. إنّ ما يتعلّق به الأمر هنا، والمُسبّب للدوران، ليست القدرة المحدودة لتمرين جسديّ، بل القدرة اللانهائية للفن، لكلّ فنّ مثلما هو متجذّر في الحدث الذي يفرضه عليه حظّهّ. ومع ذلك، فإنّ هذا الدوران دقيق. إذ، ما يهمّ في نهاية الأمر، هو ما يحتفظ به من دقّة، وما يُظهر اللانهائيّ إنّما هو البطء الخفيّ وليس البراعة الظاهرة. إنّ العلاقة بين الحركة واللاحركة ذات دقّة قصوى، تقاس بالملّيمتر.
هكذا إذن يوجد دُوار اللانهائيّ معطى في دقّته الأكثر ثباتا. ويبدو لي أن تاريخ الفنّ يحكمه التجديد المستمرّ للعلاقة بين الدوار والدقّة. ولكن ما الذي يظلّ افتراضيا، وما الذي سيتحقّق فعلا، وكيف سيحرّر التحفّظ بحقّ اللانهائيّ؟ تلك هي المشكلات التاريخية للرقص. إنّ ابتكاراته هي ابتكارات فكر. لكن بما أنّ الرقص ليس فنّا، بل هو فحسب علامة على قدرة الجسد على الفنّ، فإنه يقتفي عن قرب كلّ تاريخ الحقائق، بما في ذلك الحقائق التي تخبر عنها الفنون بحصر المعنى.
لماذا يوجد تاريخ للرّقص، تاريخ إحكام الدُوار؟ لأنّه لا توجد الحقيقة. إذ لو وجدت الحقيقة، لكان هناك رقص انتشائي نهائيّ، وتعويذة حدثانية صوفيّة. هذا من غير شكّ ما يؤمن به الدّرويش الدوّار. لكن ما يوجد هو حقائق متباينة، وأحداث للفكر متعدّدة وصدفويّة. يتصرّف الرّقص داخل التاريخ في هذا التعدّد. وهذا ما يفترض توزيعا ثابتا للعلاقة بين الدُوار والدقّة. علينا أن ننكر باستمرار أنّ الجسد اليوم قادر على أن يتجلّى كجسد- فكر. إلا أنّ الجسد اليوم، ليس شيئا آخر غير الحقائق الجديدة. سيحتفي الرّقص رقصا بالموضوع الحدثاني المولود لهذه الحقائق. دُوار جديد ودقّة جديدة.
هل علينا إذن العودة إلى بداية حديثنا. نعم إنّ الرقص هو في كلّ مرّة اسم جديد يمنحه الجسد للأرض. ولكن ما من اسم جديد هو آخر الأسماء. إنّ الرقص بوصفه تمثيلا جسديا للأسماء الحقائق، هو الذي لا يكفّ، عن تسمية الأرض. وهو بهذا يمثّل بالفعل المقابل للمسرح، الذي لا علاقة له بالأرض ولا باسمها، ولا حتّى بمستطاع الجسد. ذلك أن المسرح طفل، من جهة الدولة والسياسة، ومن جهة تداول الرغبة بين الجنسين. إنه الابن غير الشرعي لل"بوليس" polis والإيروس Eros كما سنعبّر عن ذلك اكسيوميا.
آلان باديو