شارك إدغار موران، عالم الاجتماع المشهور عالميًا، في جميع المعارك لمدة ستين عامًا. كلماته السريعة والمختصرة تناقض فكرة عودة معاداة السامية. هذا المصطلح يُستخدم، على حد قوله، لإخفاء القمع الإسرائيلي، و لإضفاء طابع"إسرائيل" على اليهود، ولتقديم مبررات لإسرائيل تشرعن سياساتها. مواقفه المؤيدة للفلسطينيين المقموعين والمهانين جرت على إدغار موران التشهير والقذف. من الحوار الذي أجرته معه سيلفيا كاتوري والمنشور في الإنترنت يوم 17 يونيو 2005، نحتفظ بانطباع عن رجل كبير يتحلى بالبساطة والنزاهة.
- لقد تعرضتم لتهمة “القذف العرقي" بسبب انتقادكم لإسرائيل. فهل يمكن أن تكشفوا لنا عما يدفعكم إلى الإدلاء بدلوكم في هذا النزاع.
+ في البداية هناك شيء لا يفهمه المدافعون، بدون شرط، عن إسرائيل، وهو أن هناك من يمكن أن تحفزه الشفقة على شعب يتحمل الآلام. هذه الآلام المتصلة للفلسطينيين، المعرضين للإذلال، والإهانات وهدم بيوتهم واقتلاع أشجارهم، هي ما يحفزني. وبديهي أن المقالات التي أحررها ليست مقالات عاطفية. إنني أحاول القيام بتشخيص.
إن المقال “إسرائيل ـ فلسطين: السرطان”4، الذي جُرِّمْتُ بسببه قد تم تصوره بهذه الروح.
وقبل هذا، كتبت مقالاً بعنوان “الرؤية المزدوجة”، حيث حاولت أن أفهم الحجج التي يقدمها الإسرائيليون من جهة، والحجج التي يقدمها الفلسطينيون من الجهة الأخرى. إن التباين صارخ بشكل لا يصدق. كما سبق لي أيضاً أن بَسَطْتُ هذه الفكرة في نص بعنوان “البسيط والمركب، حيث حاولت رؤية مظهري هذا النزاع. لقد قلت بأن هناك مضطهِداً ومضطهَداً؛ وأن المضطهِد الإسرائيلي يمتلك قوة كبيرة، وأن المضطهَد الفلسطيني لا يكاد يملك أية قوة.
- هل يمكنكم أن توضحوا قصدكم بـ “المركب"؟
+ إن “المركب” ناتج عن كون اليهود يحتفظون بذكرى الاضطهادات التي تحملوها في الماضي؛ وهي الذكرى التي يذكيها بطبيعة الحال الاستحضار الدائم لأُوشْفِيتْزْ، التي تسمى شُووَا. وواضح أيضاً أنه ما دامت عزلة إسرائيل في الشرق الأوسط متواصلة، وما لم توجد سياسة تسمح باندماجها، فإن تهديداً مدمراً، لا تقل حدته عن التهديد الذي تعرضت له المملكة الحرة، أي مملكة عَكَّا، سيظل قائماً.
- إنتم تدْعون إذن إسرائيل إلى مزيد من العقل؟
+ لقد كتبت هذه المقالة في واحدة من اللحظات الأكثر توتراً والأشد عنفاً. كنا في سنة 2002 غداة الهجوم العسكري لشارون. كانت تلك لحظة جِنِينْ. لحظة مطبوعة بقمع رهيب. هذا يستدعي التدخل والإدلاء بشهادة.
بنيت مقالتي على أساس العديد من الشهود المعاينين. ولقد حرصت على أن يوقِّعه معي سَامِي نَائِيرْ، وهو صديق فرنسي من أصول مغاربية، ودَانْيِيلْ سَالُنَابْ التي سبق لها أن زارت فلسطين. من البديهي أنني كنت أرغب، بهذا النص، أن أقيم تشخيصاً وإصدار إنذار.
كان هذا النص موضوع تأملي وتقديري من زاوية تركيبه. كانت هناك مسألة حرصت على طرحها. كيف يعقل أن ألفَيْ سنة من الاضطهاد والإذلال لم تُعْتمَدْ كتجربة للإحجام عن إذلال الآخرين؟
كيف أمكن لإسرائيل وهي نفسها وريثة اليهود المضطهَدين والمهانين أن يضطهدوا ويهينوا الفلسطينيين؟
هذه المفارقة التاريخية هي ما طرحت بصدده الأسئلة. وهذا ـ إضافة إلى أشياء أخرىـ ما كان موضوع انتقاد في المعسكر الموالي لإسرائيل. وهكذا فقد أثارت هذه الفقرة غيظ مفكرين من قبيل فِينْكْيِيلْكْرَاوْتْ.
- ماذا كان في النص مما يستدعي الإدانة؟
+ ينصب الاتهام على فقرتين. هاتان الفقرتان، باقتلاعهما من سياقهما، جعلتا محكمة الاستئناف تعتبرهما شتيمة عرقية؛ وجعلتا قضاة ووزارة عمومية تدينان كُتَّابَ المقال والصحيفة التي نشرته.
والحال أنه لمن الواضح جداً أن المقال المقصود ليس معادياً للسَامِية وليس عِرْقِياً ولا ذا نزوع عرقي. ولقد تم التوضيح بدقة في مقالي أن المقصود هم يهود إسرائيل، وليس يهود شارع أشجار الورد أو بْرُوكْلِينْ من يضطهدون الفلسطينيين. كما تم التدقيق أن المحتل الإسرائيلي ليس هو وحده من يُقْدِمُ على مثل هذا الابتزاز، بل كل محتل غيرَ مرحبٍ به، لأراضي الغير.
ومع ذلك فإن المحكمة لم توافق على اعتبار الفقرة التي أدعو فيها إلى محاولة فهم سبب اللجوء إلى القنابل الإنسانية المدعوة الكَامِيكَازْ “دعوةً إلى الإرهاب”.
لقد حاولت تقديم الأسباب السيكولوجية والتاريخية، ومنها التدخل السياسي لحماس؛ وبعبارة واضحة فقد قمت بمجرد محاولة فهم ما يجول في نفس وذهن هؤلاء المقاومين وفهم شروط الإحباط والكراهية التي تحفزهم.
وحتى وإن لم توافق المحكمة على مزاعمهم بصدد هذه الفقرة، فإن هذه التساؤلات اعتبرها المتهِمون “تمجيداً للإرهاب”. بل ويرفضون محاولة فهم دواعي لجوء أشخاص للتضحية بحياتهم بهذه الطريقة!
- كل ما يحدث بصدد هذا الموضوع لا يفهمه أغلب الناس!
+ الواقع أن هناك جزءاً كبيراً من الإسرائيليين، وربما جزءاً كبيراً من اليهود في فرنسا، واقعون بين يدي كري وهي المنظمات المدعوة مجتمعية ـ يرون أن هناك ضرباً من المركزية اليهودية، ونوعاً من هستيريا الحرب: لقد تم تعيين العدو من الزاوية الشيطانية، ويعتبرون أنفسهم أنهم على حق دائماً.
ويحدث أنه على الرغم من أن فرنسا ليست في حالة حرب، فإنها تعرف حالة نفسية تجعلهم يرون معاداة السَامِيَّة في كل نقد يُوَجَّهُ إلى إسرائيل. ومن البديهي والحالة، أنه يمكن، اعتماداً على حجج شاذة، الإيحاء بأن كل من ينتقدون إسرائيل ـ وهي دولة تعلن صراحة أنها يهودية، تريد أن تكون يهودية، وتزعم أنها تمثل كل اليهود ـ يصبحون معادين للسامية. إننا أمام حلقة مفرغة. أعتقد أن إثارة نزعة معاداة السامية الخيالية تقوي المركزية الإسرائيلية.
- ألا تغدو قوية بهذه الكيفية؟
+ إسرائيل لا تتمتع بالوجود إلا بوجود معاداة السامية التي تُعتَبَرُ معاداةُ السامية النازيةُ درجتَهَا الأوجية. وعلى الرغم من تنافرها فإن إسرائيل كانت تحس، خلال مراحلها الأولى أنها مُعَرَّضَة لتهديد حيوي من قبل جيرانها العرب. إلا أنها، بعد 1967 حيث أصبحت تتمتع بموقع الدولة الأقوى، كانت بحاجة إلى إخفاء وضع الهيمنة هذا بوضع الضحية.
من هنا العودة إلى أوشْفِيتْزْ والتذكير دوماً بأنها كانت في الماضي ضحية. وتبعاً لذلك فإن إسرائيل انساقت إلى إحياء فكرة أنه في البلدان حيث يوجد عديد من اليهود، فإن”اللطفاء” أي غير اليهود هم بالجوهر أو بالقوة معادون للسَامِية. وهذا يعني القول لليهود “إنكم في فرنسا لستم في وطنكم وإن وطنكم هو إسرائيل”. وبعبارة أخرى، إن معاداة السامية تغذي بكيفية ما سياسة تبحث عن الحل في إلحاق مزيد من الأراضي، ولا تبحث عن الحل في التفاهم الحسن والسلام.
هذا باختصار هو السياق الذي ينبغي أن توضع فيه ظاهرة “معاداة السامية” واستخداماتها الانتفاعية.
- إذن، أنتم تقولون، إذا فهمت جيداً، أن هناك أشخاصاً يسمِّمون الحوار ويدافعون عما لا ينبغي الدفاع عنه؟
+ كان هناك بطبيعة الحال، بعد نشر مقالي، كثير من رسائل التفهم والاعتراف من قبل أولئك الذين فهموا الرؤية المركبة؛ إلا أنه تسبب، إلى جانب ذلك، في تعريضي للشتائم وللسباب. لقد خاطبتني امرأة على قدر عال من التربية، مهندسة: “سيدي، ماذا تحكون! إن القدس هي لنا منذ ثلاثة آلاف سنة!” وكأن من البدائه التاريخية أن القدس قد كانت بكيفية أبدية يهودية.
- هذه الاستماتة لإسكات كل نقد يحرج إسرائيل، ألن تبعث شروخا مؤْذِيةً؟
+ إن فكرة أولئك الذين يلطخونني هي تمرير رسالة تفيد أنني على الرغم من أصولي اليهودية يمكن أن أكون معادياً للسامية. إنهم يدلون بحجة “كراهية الذات”.
بالفعل إننا نجد بعض اليهود، خصوصاً في ألمانيا ما قبل الحرب العالمية الثانية، متضايقين، رغم أنهم كانوا في وضع مريح في الثقافة الألمانية، من اتصافهم بهذا الشيء المختلط والنافر الذي هو أصلهم. إلا أن اللجوء إلى اتهامي بـ”كراهية الذات”، هو شيء مضحك تماماً! كل هذا فض تماماً.
هذه المنظمات اليهودية التي تتابعني قضائياً ـ محامون بدون حدود، فرنسا ـ إسرائيل ـ سبق لهم مرات كثيرة أن تابعوا قضائياً غيري.
إن الدعوة التي لم يخسروها هي محكمة الاستئناف التي أحاكم فيها وحيث تناول الكلمة المدعي العام خلال المحاكمة ـ الشيء الذي لا يقدم عليه أبداً في مثل هذه المحاكمات ـ لكي يقول بأن هناك فقرتين يمكن اعتبارهما تعبيراً عن قذف عنصري. أعتقد أن كل هذا تم بأمر من وزير العدل، وفي إطار هدا المراقبة القصوى لمعاداة السامية. هذا هو السياق.
- هل تنوون الرد على الإساءة؟
+ أنا عازم على نشر مجموع المقالات التي حررتها في هذه المسألة تحت عنوان مرتقب هو: “كتابات عنصرية ومعادية للسامية”، وذلك على الأقل حتى يتمكن القراء من معرفة موضوع الحديث. إذ إنه من الصعب جداً فهم ما يجري في إسرائيل فلسطين.
- وهذا يعني أنه ما دام حق الأقوى يخفي حق الأضعف، فإن هذه الرؤية الأحادية البعد هي التي ستسود.
+ لقد شاهدنا عبر التلفزيون بيوتا مهدمة، وشاهدنا الدبابات تطلق النار على الأطفال؛ إلا أن ما لا نستطيع رؤيته عبر التلفزيون هو الإهانة اليومية المُسَلَّطة على الفلسطينيين الذين يحضرون إلى مراكز المراقبة، وهؤلاء الشيوخ الذين يتم تجريدهم من ملابسهم أمام أطفالهم.
هذا الازدراء الرهيب هو ما أردت الكشف عنه أمام الأنظار؛ هذا الازدراء المرعب، الذي يعبر عنه بالخصوص هؤلاء الشبان من جنود تْسَاحِلْ ـ من الممكن أن هذا لا ينطبق عليهم جميعاًـ ومع ذلك هناك أقلية صغيرة تساعد الفلسطينيين لإعادة بناء بيوتهم التي تم هدمها. هذه الإهانة لا تشاهد في الخارج: إن الذين يحضرون إلى عين المكان هم من يؤكدون هذا. لهذا السبب لا يفهم كثير من الناس الوضع اليومي للفلسطينيين. من جهة أخرى فمن الواضح بالنسبة إلي أن كل هذه المحاكمات كان يقصد من ورائها جعل الرأي العام الإسرائيلي والأمريكي يعتقد أن فرنسا هي معادية للسامية. وبعد ذلك وحين تخسر هذه المنظمات المحاكمات، يعمدون إلى نشر فكرة كون القضاة هم أيضاً لاساميون. وإذن، فهم من هذه الزاوية يكسبون القضية. ومن هنا فهم يسببون الخوف، إنهم يخيفون. والحال أنه إذا كان هناك اندفاع للعنصرية فهي مُسَلَّطَة على الفلسطينيين.
- ولكن متى ستتوقف عمليات التخويف هذه ؟
+ يقول لي كثير من الناس “ولكن أنت تستطيع أن تكتب هذه الأشياء، لأن أصلك يهودي، أما نحن فلا نستطيع ذلك. إننا نخاف، سنتعرض على الفور لتهمة معاداة السامية”. والحال أن هذا الخوف من تهمة معاداة السامية، في كل لحظة نرغب فيها في ممارسة فعل نقدي، يخلق مناخاً مسمُوماً. ولهذا السبب أعتقد أن الحكم الصادر عن محكمة ذلك اليوم ـ وهو الحكم الذي أدانني ـ سيجعل المناخ أسوء، ونقدَ إسرائيل وحرية التعبير أشد صعوبة. هذا كله، دون أن نأخذ بالحسبان كون هذا الجنس من الاستخفاف والإهانة لأشخاص ـ وأنا منهم ـ قاوموا خلال حياتهم كلها كل أصناف الميز، هو سلوك ظالم بقدر ما هو فض.
- هل جعلتكم هذه التجربة الأليمة تكتشفون واقعاً كنتم تجهلونه؟ وأن هناك في فرنسا طريقة للمراقبة قائمة على التخويف والتجريم التي تدمر حياة كثير من الناس؟
+ هل تتحدثين عن أناس خسروا المحاكمة؟
- أنا أشير إلى حالات حيث المحاكمات تم كسبها، إلا أنها ظلت متبوعة باستئنافات على استئنافات.
+ هذه الواقعة أعرفها جيداً. أعرف الصحافي دَانْيٍلْ مِيرْمِي الذي كان هو بدوره موضع متابعة. إلى حدود الآن أعرف أنهم قد خسروا كل المحاكمات التي دَعَوْا إليها. الحالة الوحيدة التي ربحوها هي التي تتعلق بمقالي.
- يمكن أن نفهم أن شخصيات سيئة الاطلاع قد تأثرت بحجاجكم. وحينما يكون شخص نبيه مثل أَلَانْ فَانْكْيِيلْكْرَاوْتْ مثلاً، يؤكد أن “الرعب” قد تمكن منه وهو يقرأ ما كتبتم، فماذا نقول؟
+ هذه ظاهرة معروفة جداً. هناك انغلاقية بمجرد ما يتكون انطباع عند الموالين لإسرائيل بأن إسرائيل هي الضحية، وأن الفلسطينيين هم الجناة الذين يريدون موت إسرائيل، وهذا ما يبرر كل القمع المسلط عليهم.
انطلاقاً من اللحظة التي يتكون لديهم الانطباع، حينما تكشف الصحافة عن صور حيث تشاهد دبابات إسرائيلية، بأننا بصدد صحافة أحادية النظرة، موالية للفلسطينيين، وأن كل الأخبار التي تتحدث عن معاناة الفلسطينيين هي موالية للفلسطينيين، إذن هي متحيزة، ندخل في تصور منغلق تماماً. حينما نكون بصدد مجموعة منغلقة ومقتنعة بأنها صاحبة الحق، فإنها تبيح لنفسها بأن تفعل أي شيء.
نفس الشيء عن المجموعات “الإرهابية” التي تحاربها إسرائيل. الواقع هو أننا هنا، ومع هذا النزاع، تكونت نزعة قومية وشوفينية يهودية تجد دوماً تبريراً ذاتياً؛
وفي ما تبقى من الرأي العام يُخْشَى من تهمة معاداة السامية بسبب قرون معاداة السامية الماضية. إن جناية معاداة السامية الحقة تشل النقد المحق لإسرائيل.
- هل يمكن أن أستنتج بأن مساندة إسرائيل هي من قبيل خطأ اختيار مجال المقاومة؟ وأن العدل يقتضي من كل الإسرائيليين وكل يهود العالم التوحد لكي يُرْغِمُوا حكومة إسرائيل على الكف عن الشطط واحترام القانون الدولي؟
+ هناك أقلية من اليهود الذين يناضلون في هذا الاتجاه. وأستطيع أن أقول لكم بأنه يمكن أن تُنْشَرَ في إسرائيل أشياء قد تُعَرِّضُنَا هنا للمحاكمات. إن الحاخام لِيبُوبِيتْزْ Leibowitz كان يقول إن إسرائيل هي “دولة يهودية ـ نازية”. إلا أن توقيع هذا القول في فرنسا، لو حمل هذا الكلام توقيعي، قد يقودني إلى المحاكمة. لقد خلقوا في أذهان البعض حالة من الخوف والرعب السيكولوجي.
- إن المثقفين المتدينين باليهودية، والمناضلين اليهود قد كانوا على وجه العموم في طليعة المقاومين من أجل الحريات. والحال أن عديداً من المناضلين ـ وهم منحدرون من التروتسكية أو الشيوعية ـ يمارسون اليوم نوعاً من المَكَارْثِيَّة. إنهم يبادرون بسرعة إلى إلصاق تهمة “معاداة السامية”10 بطريقة تعسفية تماماً وهم يتكلمون، في الأخير، بنفس صوت هذه المؤسسات اليهودية التي تنظم لكم محاكمات. أليس هذا انقلاباً غريباً؟
+ إن هؤلاء الذين تتحدثين عنهم لم يكونوا من أتباع اليهودية. لم يكونوا متدينين. كانوا من أصول يهودية إلا أنهم أصبحوا أمميين، عالميين.
والحال أنه انطلاقاً من اللحظة التي فقد فيها كثير من بين هؤلاء المناضلين ـ الذين كانوا تروتسكيين أوماويين أو شيوعين، ـ إيمانهم، عانوا أزمة، ولقد عثروا على عزاء عبر التعلق بإسرائيل.
كانت هذه حال بِينِي لِيفِي المسؤول الماوي القديم؛ كان هذا حال آنِس كرْيِيكَلْ، استالينية السابقة. هناك عودة إلى هذه الهوية التي تغدو منغلقة. إن ما يميز اليهود في الغرب هو أنهم بمجرد ما يقبلون وضعهم كمواطنين فإنهم يشكلون جزءاً من الوطن لا يعودون جزءاً من الشعب اليهودي الذي كان متناثراً؛ ولا يعودون جزءاً من الدولة اليهودية التي لم تكن موجودة. ولم يكن للكثير منهم أي ارتباط مع الدين نفسه، وإن كانوا يؤمون البيعة، فإنما يفعلون ذلك احتراماً لعائلاتهم. إذن لقد اختفت العناصر الثلاثة التي تشكل الهوية اليهودية قبل الشتات، “أمة واحدة وشعب واحد ودين واحد”. إن اليهود الذين ينخرطون، بشكل طبيعي في عالم “الطيبين” كانوا يدركون بشكل جيد المخاطر التي تشكلها القومية الضيقة. كانوا يحتفظون إذن بنوازع أممية. إلا أنهم بمجرد خلق الدولة اليهودية، وعلى الخصوص انطلاقاً من السبعين أحس كثير من يهود العالم بأنهم منعزلون عن إسرائيل، وبارتباطهم بهذه الدولة عبر ولاء مزدوج؛ وهو الأمر الذي يمكن فهمه بشكل جيد.
الشيوعيون أنفسهم كانوا فرنسيين وكانوا في نفس الآن متضامنين مع الاتحاد السوفياتي. أنتم أمام دولة. وأمام شعب. والواقع أن الكثير من تنظيمات الشبيبة اليهودية تقول “شعب واحد في وطنين”. لقد أعيد بناء فكرة الشعب اليهودي. واليهود المتحولون للائكية بدأوا يقرأون التوراة، والتلمود. هناك عودة إلى الدين. إذن لقد انبعثت المكونات القديمة الثلاثة للهوية اليهودية. وحينما نكون في كنف مثل هذه التركيبة، وفي سياق الحرب، نشرع في كراهية العدو وكل من يخلخلون صورتنا الذاتية الجميلة.
- أية صورة؟
+ إنها الصَّبْرَا، أي الرجل الذي كان يستعمر الأرض، إنها أسطورة شعب “عديمو الأرض لأرض بدون شعب”، الشعب الذي يستنبت الزهور في الصحراء. كان شعباً من المحاربين الشجعان؛ هناك ذيوع لهذه الصورة العجائبية لليهودي الذي محى صورة اليهودي الصغير الذي تملكه الخوف في الغِيتُو. وبعد هذا بِرَدَح من الزمن، اسْتَرْعَى النظرَ كونُ هؤلاء الناس أنفسهم الذين يطلقون الصواريخ للقضاء على مناضلي حماس، الحقيقيين أو المفترضين، يدمرون أيضاً التجمعات السكانية ـ مثل ما حدث في جِنِينْ سنة 2002 ـ ويشنون كل هذه الحملات العسكرية القمعية، هذا يمس صورة “الذات”؛ أي صورة كثير من اليهود الذين لا يجدون أنفسهم في هذه الصورة. إن الصورة التي يجدون فيها أنفسهم هي: أنا ضحية أوشْفِيتْزْ، أنا الإسرائيلي الطيب الذي يخصب الأرض. إذن حينما تغيرت هذه الصورة “للذات” بطريقة درامية، بدأوا يصبون كراهيتم على كل من يدمرون، بنقدهم إسرائيل، صورة “الذات”. لماذا أحجموا، خلال زمن طويل، عن تسمية الفلسطينيين فلسطينيين؟ لأنهم كانوا عرباً! غُولْدا مَايِيرْ نفسها كانت تقول عنهم إنهم بهائم. لقد امتنعوا عن اعتبارهم حَملةَ هوية ما.
إن منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تمكنت، مع عرفات، من تعريف العالم بمفهوم الفلسطيني كما تمكنت من فرض الاعتراف بها في الطرف الأقصى من الحكومة الإسرائيلية. ويبقى أن فكرة كون الفلسطينيين كانوا موجودين في أرض دعيت “بدون شعب” هي فكرة تسيء إليهم: لقد اعْتُبِرَ الفلسطينيون مجردَ طفيليات. هذا إذن كله مختلق. ولسوء الحظ فكل هذا ـ وهو أمر مفهوم ـ مؤسف تماماً.
- ألم تسمح السلطات السياسية في أوروبة بازدهار هذا المناخ المسموم بسبب حرصها المفرط على الاستماع إلى المؤسسات التي تهتم بالمصالح الخاصة؟
+ أعتقد أن هذه الحملات، التي قادتها كري، وبعض المنظمات المجتمعية الأخرى، تصرفت وكأن الحكومة والسلطة تكادان ترضخان. يزعم هؤلاء أنهم يقاومون العنصرية والواقع أنهم كانوا يقاومون بالخصوص معاداة السامية. لقد نسوا العنصريات الأخرى، ليس العنصرية ضد العرب وحسب، ولكن ضد الغجر، الخ. أعتقد أن الأهمية السياسة للأقلية اليهودية في فرنسا ـ هناك أقلية مسلمة أهم من الناحية العددية إلا أنها أقل تأثيراً من الناحية السياسية ـ هي التي تدفع الحكومة لكي تستجيب، إن قليلاُ أو كثيراً لرغباتها. إن مسؤولي الكْرِيف قد سمحوا لأنفسهم بنقد السياسة الدولية لفرنسا دون أن يثير ذلك أي رد فعل من جهة الحكومة.
- هذا الخضوع ألا يمكن إلا أن يشجع على طلب المزيد؟
+ نعم. لديهم شعور بأنهم محاطون بالعناية الفائقة. لقد وصلت الأمور إلى حد أنه خلال إحياء ذكرى أوشْفِيتْزْ تم التركيز على اليهود وحدهم، والحال أننا نعرف جيداً ضحايا من غير اليهود. ونعرف أيضاً أن من ضحايا القمع النازي حوالي مليونان ونصف المليون من أسرى الحرب مع السوفيات قد تعرضوا للإبادة في سجون النازية. نعرف أن القمع قد تركز على اليهود بشكل أساسي، إلا أن القمع قد شمل أيضاً الغجر والقاصرين ذهنياً. ونعرف أن هذا القمع كان سيمس بقوة السَّلافيِّينَ لو انتصر هتلر في الحرب.
كل هذا التركيز على اليهود ـ كما لو أن اليهود هم وحدهم ضحايا الإنسانيةـ أثار صدمة بالمقابل.
لقد انتهى المطاف بالزنوج إلى القول “ونحن، وخمسة قرون من العبودية، ومعاملة الزنوج؟” والجزائريون، “وحرب الجزائر، وما اقترفه الفرنسيون ضدنا”؟ أعتقد أن من العدل أن يقول كل الذين تحملوا العذاب مما يمكن أن ندعوه البربرية الأوروبية: “لا ينبغي أن تعرضونا للنسيان! ليس اليهود هم وحدهم من يوجد في العالم!
- ماذا يمكن أن نترقب منذ الآن؟
+ أعتقد أنها (أي المؤسسات اليهودية) قد بالغت في الأمر. صحيح أنه في بادئ الأمر، حينما كان هناك إخلاء السجون، لم يتم الحديث سوى على المنفيين السياسيين، ولم يحصل الحديث بالخصوص على اليهود.
ينبغي التحديد بأن في فرنسا كان هناك من المنفيين السياسيين أكثر من المنفيين اليهود. هذا يعود إلى كون جزء من الساكنة الفرنسيين كانوا قد أخفوا يهوداً.
إن فرنسا إلى جانب بلغاريا هي البلد حيث كان يشكل اليهود من بين منفييها عدداً أصغر ـ مقارنة مع البلدان الأخرى تراوح عدد الضحايا اليهود بين 60 إلى 80 في المئة ـ في فرنسا وفي نهاية الحرب العالمية الثانية كان الكلام يدور حول المنفيين السياسيين العائدين ولم يكن هناك حديث عن اليهود على وجه الخصوص. والآن انتقلنا إلى الطرف الآخر. كل المنفيين الآخرين هم منسيون. والحال أن كل هذه الإفراطات تمثل جزءاً من رؤية سياسية حيث اليهود لا يمكن أن يكونوا إلا أبطالاً أو ضحايا. وإذا مس أحد بهذه الصورة المزدوجة فهو نَذْلٌ.
- ألا يتملككم الحنين إلى عهد حيث كان اليهود وغير اليهود يعيشون في مأمن من الخصوصيات؟ إننا في أوجها اليوم، حيث يمكن أن تلتصق بكل كُويِيمْ ينتقد إسرائيل تهمةُ “معاداة السامية”.
نعم. هذا يجرنا إلى أن كل يهودي كان خلال قرون عرضةً للشبهة. كان كل يهودي يعاني من هذه الغرابة المقلقة. والآن أصبح كل كُويِيمْ موضع شبهة في عين اليهودي. الأكيد أن هناك انقلاباً ما.
- أن تكونوا في خانة المتهمين؛ ألا يصيبكم هذا بالاضطراب؟
ِ+ لا، أنا مجرد إنسان تعرض للافتراء. لقد سبق أن عانيت من الافتراء وتعرضت للتهميش لأسباب أخرى. إن هذا لا يصيبني بالاضطراب. ومع ذلك سأظل أقاوم هذا. سأنشر كل المقالات التي حررتها في هذا الموضوع. وسأتدخل حيث يُطلب مني التدخل. يبدو أن هذه الأيام قد عرفت نقاشاً في السوربون. السيد رْوَارْ صحفي فِيكَارُو، تساءل: كيف يمكن لي أن أكون “معادياً للسامية” مع أنني كنت يهودياً. وقد أجاب بِرْنَابِي سفير إسرائيل الأسبق بأن مقالي أحادي الجانب، وأنه من المدهش أن يكون مؤلفٌ يدعي أنه فيلسوف التركيب، هو محرر مقال لا يساوي شيئاً؛ إلا أنه لم يكن من دعاة رفع الأمر إلى القضاء.
- هل سبق لك أن حاورت مسؤولي هذه الجمعيات التي هي سبب اتهامكم؟+ لم أحاورهم أبداً؛ أو بعبارة أدق لم يحاوروني أبداً.
دعم إسرائيل، وإرادة معاقبة الناس الكاملي النزاهة. هل يحدث هذا لصالح هذه المؤسسات؟
+ لا، هذا ليس لصالحهم في فرنسا، ولكن هذا مفيد لهم على الصعيد الدولي الأمريكي. إنهم بحاجة إلى التشهير بمعاداة السامية، والقول بأن معاداة السامية آخذة في الانتشار. كل هذا يستعمل لتبرير إسرائيل. إن ما يفعلونه هو، من الناحية الأستراتيجية، محبوك جداً.
nord-palestine.org/deb