أجرى آلان براكونييه Alain Braconnier حوارا مطولا مع جوليا كريستيفا Julia Kristeva لفائدة الموقع الاكاديمي cairn.info الذي نشره يوم فاتح يناير 2010. قبل الاطلاع على فحوى هذا الحوار، يستحسن التعريف بضيفة الموقع في سطور.
ولدت الكاتبة واللغوية والمحللة النفسية الفرنسية جوليا كريستيفا في بلغاريا. هاجرت إلى باريس للحصول على الدكتوراه، وانضمت إلى مجموعة تيل كيل (Tel Quel) بقيادة فيليب سولرز، وتابعت دروس جاك لاكان. بصفتها مُنظِّرة لغوية، درست اللسانييات والأدب في جامعة باريس 7 - دينيس ديدرو Dénis-Diderot وفي جامعة كولومبيا في نيويورك. في الوقت نفسه، عملت كمحللة نفسية وكاتبة. وهي مؤلفة لنحو ثلاثين كتابا كلها مترجمة إلى حوالي ثلاثين لغة، بما في ذلك "سيميوتيكي. بحث من تحليل سيمنطيقي" (1969)، "قوى الرعب. مقالة عن الحقارة" (1980)، "قصص حب" (1983)، "في البدء كان الحب. التحليل النفسي والإيمان" (1985)، "شمس سوداء. الاكتئاب والحزن" (1987)، "غرباء عن أنفسنا" (1988)، "الساموراي" (1990)، "أمراض الروح الجديدة" (1993)، "المؤنث والمقدس" (1998، مع كاثرين كليمان)، "الزمن المحسوس. بروست والتجربة الأدبية" (1994)، "المعنى والامعنى في التمرد" (1996)، "التمرد الحميمي" (1997)، "رؤى أساسية" (1998)، "العبقرية الأنثوية" (3 مجلدات: حنة أرندت، 1999؛ ميلاني كلاين ، 2000؛ كوليت 2002)، "جريمة قتل في بيزنطة" (2004)، "الكراهية والصفح" (2005). تعمل جوليا كريستيفا حاليا أستاذة في المعهد الجامعي الفرنسي وحصلت على جائزة هولبرغ (التي تعادل جائزة نوبل في العلوم الإنسانية) في عام 2004.آلان براكونييه: كتابك الأخير، "الكراهية والصفح"، يستعرض ويكمل المواضيع الأربعة الرئيسية التي سبرت غورها منذ أولى أعمالك في التحليل النفسي: دور اللغة، والسرد والكتابة، ومسألة المؤنث، إلى حد كبير لم تكتمل من قبل فرويد وحتى تلميذاته من المحللات النفسيات، الأسئلة التي يثيرها الدين وظاهرة الإيمان، وأخيرا المساهمة المعاصرة للتحليل النفسي. هل يمكنك إنشاء خط شخصي يسمح لقرائنا بفهم الروابط التي سمحت لك بالاعتكاف على مواضيع بحث مختلفة بشكل متتابع ومشترك؟
جوليا كريستيفا: طموح فرويد هو، في الأصل وبشكل أساسي، علاجي: عبقريته النظرية، وثقافته الواسعة كيهودي التي جعلت أفكار التنوير (Aufklärung) في حوزته، ساهم غالبا في نسيان ذلك. في مواجهة هذيان الكائنات الناطقة التي نكونها، يكتشف أن الرغبة هي الموجة الحاملة، وأن في هذا التذاوت الغرامي الذي سيكون هو التحويل، تبقى اللغة هي أفضل وسيلة والوسيلة المثلى (الوحيدة؟ ) التي تسمح لكل واحد منا بإعادة بناء هوياتنا الهشة والمهددة دوما. إذا لخصت التشاؤم الفرويدي والتزامه العلاجي بهذه الطريقة، فذلك أيضا من أجل تحديد نطاق وحدود منهجه، منهجنا.
أولا النطاق: التحليل النفسي عيادة، مجال محدود، “إطار” منسجم من النظريات، لكنه أيضا يتوقف بشكل جوهري على ظروف الوجود، والمحللين (بكسر وتشديد اللام الأول)، والمحللين (بفتح وتشديده). وهذا لا يعني فقط أن «خارج الإطار» يهمنا وأنه يُفهم في التحويل والتحويل المضاد. لكن أيضا أن "الوقائع" النفسية التي تهمنا هي على الفور "معطيات" اجتماعية وتاريخية وسياسية. هذا هو الحال مع تعديل الرغبة/الحب، والحاجة إلى الاعتقاد/الوهم، وحتى حدود الاختلاف الجنسي المؤنث/المذكر. من المؤكد أن «المعطى الذي يجب التفكير فيه» في التحليل النفسي هو أمر كوني، لكنه أيضا اقتصادات أو بنيات متحركة، مرنة في تاريخ البشر: لم يتوقف فرويد أبدا عن فهمها على هذا النحو في حفرياته الحضارية. ويجب علينا أن ندرك أننا نعاني من أجل متابعة هذا المنظور وتحيينه.
الآن الحدود: في كتابه "موسى والتوحيد"، يرى فرويد أن “أول فرد في تاريخ البشرية” هو أمنحتب الرابع، فرعون الأسرة الثامنة عشر هذا الذي فرض التوحيد على شعبه، في نفس الوقت الذي كان يعيش فيه موسى. وهكذا يعترف فرويد بأن موضوع التحليل النفسي تابع لموضوع التوحيد: علاوة على ذلك، فإن إرهاصات اكتشاف فرويد ترتكز على مسرحية سوفوكليس "أوديب ملكا"، مع الدور البناء للأب الذي يفترض "حظر زنى المحارم". كونه في مفترق طرق (نتذكر أن أوديب قتل أباه في مفترق طرق على شكل À، غاما اليونانية، التقاطع بين الرغبة والقتل)، عاشق أمه جوكاستا، وقاتل أبيه لايوس، يجب على أوديب، مع ذلك، الاعتراف بهذه الجرائم لتخليص طيبة من الطاعون. من خلال إجراء تحقيقه، من خلال استجواب نفسه، من خلال التفكير، فإن رجل الرغبة والقتل "يضفي طابعا نفسيا"، أو بالأحرى، يجعل المصير الذي توقعته الآلهة ذاتيا، ولا يمكنه، إلا بهذا الثمن، أن يشكل نفسه ذاتا مأساوية منقسمة؛ أي موضوعا للرغبة وموضوعا للمعرفة. في الواقع، فإن رغبته في معرفة الحقيقة من خلال ذكرها لا تتحقق إلا على حساب التخلي عن رغبته، في الشعور بالذنب والعقاب: العديد من معادلات قبول الحقيقة في نفس الوقت مع سلطة الأب و/أو المدينة. نحن نفهم أن الأسطورة اليونانية، التي تم تعديلها في نص سوفوكليس الذي يجب أن نصفه بالملزم، وحتى بالتشريعي تماما، كان من الممكن أن تغوي فرويد، الحريص على التعرف على المتعة، بمباهجها ومخاطرها، ليرمز إليها بوسائل مشتركة بين المحظور. والمعرفة. ولأن "المتعة محرمة على من تكلم كما هو"، "فإنها لا تقال إلا بين السطور بالنسبة إلى من هو خاضع للشرع، لأن الشرع مبني على هذا التحريم بالذات" (لاكان).
هكذا يحدد مؤسس التحليل النفسي في آن واحد مفهومه للذاتية المأساوية التي تشكل الذات المتكلمة كخاضعة للقانون، وأخلاقيات التحليل النفسي، وتشاؤمها النشط، اللذين تقوم عليهما التجربة التحليلية. من الضروري أن نتذكر ذلك، لأن "أمراض الروح الجديدة" التي تكشف اليوم عن أسس هذه الذاتية - والتي غالبا ما تظل غير قابلة لأن تختزل فيها - تظهر صعوبات، إن لم تكن استحالة، التفردن في بعض الحالات النكوصية، وتستحضر بالتالي تجارب إنسانية من نوع آخر، تنتدب شرعية الإطار التحليلي، من خلال التشكيك في كونية أوديب ذاتها. مثلا، مسرحية أوريستيا لإسخيلوس ألا تفتح في الواقع على "ذاتية" مختلفة تماما، تتمرد على القانون الأبيسي، وفي نوع من بقاء النظام الأميسي الأسطوري، تتطلب خيال قتل الأم كحالة نفسية متحررة؟ هذا ما تذكره ميلاني كلاين. وبالمثل، هل ينبغي لنا أن ننسى يوربيدس ومسرحيته "الباكوسيات"، ومبارزة بينثيوس/ديونيسوس، التي تقدم طريقين على الأقل في عبور الأميسي: النسخة الأم من بينثيوس والتسامي الديونيسي، الذي سوف ترمز "ولادته المزدوجة" إلى قيامة المسيح؟ ولا تزال القائمة طويلة من "نساوات" فرويد، التي لم تفشل في إثارة الابتكارات في الممارسة السريرية الحديثة، في ما يتعلق بالروابط المبكرة بين الأم والطفل، وكذلك الذهان والتوحد. والإغراء كبير لتغيير المواضيع الفرويدية نفسها، لصالح "الطريق الثالث"، أو بطريقة أقل "قتل الأب"، للتغطية على المشكلة الأوديبية المتمثلة في نماذج التجزئة النفسية والحالات الحدودية.
استكشافي للتجارب الجمالية للحداثة (الأدب والفنون التشكيلية)، في محيط الذهان، وكذلك تجربتي مع النظام الشمولي الذي يقمع الإمكانات الإبداعية للأفراد، من خلال فرض تهديد الأتمتة المشددة عليهم في إطار سياسي وثقافي فصامي بارانويدي، أقنعتني بأنه كان من الضروري فتح الاستماع التحليلنفسي على إعدادات نفسية جديدة، وتفرض بالتالي مواقف تأويلية جديدة ذاتها في إجراء العلاجات، أسفل أوديب وبجانبه.
أزمة مذهب "التوحيد" (إذا استخدمنا لغة نيتشه) رغم تفشي "عودة الإيمان" وغيرها من النهضات الروحية، مزيج الأصولية والعدمية الناتج عن العولمة، زيادة "أمراض الروح الجديدة" (إدمان المخدرات، أمراض بدنية نفسية، انفصام الشخصية، اكتئابات سوداوية، ميول تخريبية، الانحرافات المرضية التي تخفي الاكتئاب الخطير في تمجيد الهوس بالاستمتاع حتى الموت، إلخ..)، كل هذه المظاهر التي تهيمن على عصر ما بعد الحداثة تتطلب بوضوح إعادة النظر في السوابق والإخفاقات في الذات الأوديبية (الرغبة - الشعور بالذنب - عمل الاستيعاب - التسامي).
غير أنني على قناعة بأن «موضوعات الانقسام» بين الذات الحقيقية والذات الزائفة، والتي تفرض نفسها في راهنية التحليل النفسي، اللاعقلنة أو اللاشعور البدائي خارج التمثيل المؤسسان على الاستيهامات الأصلية وظواهر التماهي الإسقاطي من النمط العاطفي وليس المعرفي، لا تتمتع باستقلالية محددة، ولكنها ترتبط بأعراض أو أمراض ذاتية يمكن فهمها وعلاجها فقط في أفق التكامل الأوديبي العصابي. لا يتعلق الأمر باختزالها في هذه المقاربة، بل بأن نتذكر، بوضوح تام، أنه في إطارها يجب على المحلل أن يضع نفسه بشكل حتمي إذا كان لا يريد أن يصبح متواطئا مع "الطاعون": طاعون الرضا عن النفس، الغامض إلى حد ما، مع الانحدار، التجزئة، الجنون.
هكذا، بانتباه للروابط ما قبل الأوديبية، لدى المرضى الذين يعانون من الحدية أو في علاج الأطفال والمراهقين، اهتديت إلى إعادة التفكير في "العلاقة بالموضوع". في مواجهة اضطرابات الفصل بين "الذات" و"الموضوع"، ودون افتراض وجود تشابه مع الانقسام الفصامي، أقترح أن تكون الأم والرضع، في الفترات الأولى من وجود الطفل، مثل "ab-jects" لا ذوات لا أشياء، بل أقطاب جذب ورفض، تدشن الانفصال االاحق في المثلث الأوديبي؛ قريبا من ذلك أن في جهة التذوتن المعني، السابقة منطقيا وكرونولوجيا على أوديب، التفاعل بين "ab-jects" تتأسس على "التماهي الأولي"، "المباشر والفوري"، مع أب ما قبل التاريخ الفردي، و تتجسد في التبادلات ما قبل اللفظية، والتي أسميها "السيميائية" (النبضات التي تتخذ الطريق الحسي، ويتم التعبير عن اللغة السابقة بتوترات وإيقاعات وتنغيمات).
على حدود الكبت الأصلي، تسمح كلمتا "دنيء" (abject) و"الدناءة" (abjection) للمحلل بتحسين استماعه، من خلال تسجيل التحويل السلبي في التواصل "السيميائي" العابر للغة، وبمتابعة محلله (بفتح وتشديد اللام الأول) عن كثب قدر الإمكان، والبقاء في وضع الأم الدنيئة (المرغوبة والمكروهة كما هو الحال في التمثيل الأنثوي تحت فرشاة بيكاسو أو دي كونينج) وكذلك في وضع “أب ما قبل التاريخ الفردي”، قطب "التماهي الأولي" وليس بعد "الحظر الأوديبي". ها أنت ترى كيف أن هذا النوع من الاستماع، المؤقت أو المتقطع في عملية المعالجة الطويلة، يستوعب الأوديب بدلاً من استبعاده، وفي رأيي يوفر الشروط النفسية لإعادة بناء المحلل كموضوع للرغبة وبالتالي للإبداع، من خلال دمجه في التحويل/التحويل المضاد انطلاقا من دفائن ما قبل أوديبية؛ لأنه منذ المرحلة "القديمة" لاحتياجاته الناقصة، يتم الاستماع إليه وتأويله ضمن تناقض وجداني للرابطة الموضوعية المبكرة على طريق التشكيل والرفض. هذا ما اقترحته، لا سيما في كتابي "قوى الرعب"، التي قادتني إلى "معالجة" هذه الطرائق المبكرة للتذوتن، تحت مظهر طقوس التطهير من الدنس، في مختلف الأديان (اليهودية، المسيحية، الهندوسية)، أو إخفاقاتها التصعيدية، في هذيان سيلين المعادي للسامية، مثلا.
آلان براكونييه: كيف تمكنت من تجاوز أولئك الذين يصورون أحيانا مساهمات فرويد ولاكان بشكل كاريكاتيري؟ هل هذا هو تكوينك الأولي كخبيرة لغوية؟
جوليا كريستيفا: لم يكن تكويني كعالمة في اللسانيات كافيا لو لم أقم بإضافة السيميولوجيا: سوسير، بنفينيست، جريماس، بارت. لقد أتيحت لي الفرصة، وأنا صغيرة للمشاركة في هذا الانفتاح لدراسات المعنى، عبر موضوع "اللغة" لدى اللغويين، على "الممارسات الهادفة" العابرة للغة: الأدب أولاً، ولكن أيضا الصورة، مع الرسم، السينما، والموسيقى، الإيماءة، الخ.. هذه الفترة وهذه الدراسات، التي من السهل جدا نسيانها أو شجبها اليوم، والتي غالبا ما حبست نفسها في باطنية تقنوية، ظهرت لي وما زالت تظهر كأمكنة عليا في (قارة) الفكر المعاصر. لقد اعتبرت المعنى عملية دينامية، دلالة، تعبئ – مع اللغة – وسائل أخرى للدلالة، وساهمت، فيما يتجاوز البنيوية، في فتح موضوع التلفظ في التاريخ للتحقيق: اشتغالي على باختين، مع الجسد والخطاب الكرنفالي، كان افتتاحيا في هذا المنظور. لكن كان من الضروري أيضا مساءلة اللسانيات في ضوء الفينومينولوجيا: هذا ما حاولت القيام به في أطروحتي حول "ثورة اللغة الشعرية: مالارميه ولوتريمون". من خلال الانعطاف نحو الأنا المتعالية عند هوسرل، أردت الهروب من ديكارتية تشومسكي، التي تميل إلى حصر اللغة في القواعد النحوية، وإدخال مقاييس المادة "هيولى" و"الآخر" في دراسات المعنى. عندها اتجهت نحو إعادة تأهيل الدافع والرغبة في تأويل القول الشعري. وقد عنيت ب "الثورة" أولاً عودة المكبوت، وبعد ذلك فقط تأثيرها المفاجئ، وحتى الانتقالي على القانون المتعب للتبادلات الاجتماعية المعيارية. وهكذا، بعد إعادة النظر فيها، لم تعد "اللغة" أو بالأحرى "نظام اللغة" لدى اللغويين هدفي: كان الأمر يتعلق بتأويل النص، الكتابة، مع ذاتهما المتأزمة التي يعاد بناؤها، في سياق سيرذاتي وتاريخي محدد. لم يعد لدى فرويد ولاكان أي سبب لمعارضة بعضهما البعض: لقد شاركا بطبيعة الحال في عملية إعادة الصياغة هذه.
آلان براكونييه: ما رأيك، انطلاقا من المعرفة المعاصرة حول اللغة وصورها الرمزية ومن عملك الخاص في هذا المجال، في صيغة لاكان الشهيرة والتي لا تزال غامضة جزئيا: "اللاشعور ينبني مثل اللغة"، مع التشديد، في ما أعتقد وتعتقدين، على "مثل"؟
جوليا كريستيفا: تم إعداد عملي كعالمة سيميولوجية ومنظرة أدبية وإرفاقه بتحقيق تجريبي وملموس للغاية "في الميدان". حتى قبل أن أبدأ تحليلي الخاص، كرست نفسي للملاحظة الدقيقة لكلا الجانبين من اللغة: تعلم الأطفال للغة [(تسجيلات وتحليلات المصادات، والفونيمات الأولى، والمورفيمات، والتركيب، في حضانة سينسييه Censier)، واضطرابات الكلام، بل تلك الخاصة بالقدرة اللغوية نفسها في حالة ذهان (في مستشفى لابورد La Borde). في صيغة لاكان، أشدد بالفعل على "مثل". تحدث لاكان نفسه عن "lalangue" بالإشارة إلى "lallation"، أو المصادات، أو ما قبل- عبر اللغة. يخضع الكائن المتكلم لتأثير الشيفرة اللغوية العائلية، وكل لغة أم تنطبع على تنظيم "الخاص"، بما في ذلك الجسد الخاص. إن اللاشعور لدى مرضاي الروس أو الإنجليز ليس هو نفسه عندما يتحدثون معي باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الروسية. ومع ذلك، فإن موقف فرويد، الذي يرى أن اللاشعور يتكون من دوافع، هو موقف معقد لا يزال يتعين علينا دعمه ببيانات جديدة من السيميولوجيا وعلم الأحياء: اللاشعور ليس إلا لغة. إن التأثيرات، الدوافع، المحسوسات-المدراكات، مكونات الدلالة هاته لا يمكن اختزالها في اللغة، التي تشكل بطانتها غير المتجانسة. وعلى هذا المستوى، اتفقت مع مواقف أندريه جرين، وقمت بتطوير لاتجانس اللغة/الدافع في "ثورة اللغة الشعرية". في ممارستي التحليلية، أدركت هذه الكيانات باعتبارها واجهات غير متجانسة للتذوتن: في لحظات معينة من العلاج، عاينتها في خصوصيتها الإدراكية، الجسدية، الذاتية- الرضائية، المؤلمة، المهلوسة. جذبت انتباه المحلل إلى هذه "التجارب" الجسدية، سميتها استعارات، أشكال قصص، لتأويل تأثيرها اللاواعي على التحويل/التحويل المضاد. بشكل حتمي وضروري، مررت عبر اللغة لفتح الفضاء النفسي الخارجي والداخلي على لما "ليس لغة"، على التجربة اللاواعية غير المتجانسة مع اللغة. كنت أعرف شخصا مثقفا جدا، كان يحب أن يردد أن "اللاشعور مبنين مثل اللغة"، واعترف لي بأنه فخور لأنه أجرى، وفق هذا المنظور، "تحليلًا على مستوى الأنا الأعلى!" ليس هناك ما يمكن أن نفتخر به في طريق لغوي مسدود.
آلان براكونييه: هل يمكنك أن تتذكري التمييز الذي قمت به بين "الرمزي" و"السيميائي" من وجهة نظر التحليل النفسي؟
جوليا كريستيفا: على خلاف البنيوية، التي تعتبر المعنى كبنية، اقترحت منذ "ثورة اللغة الشعرية" أن نفهم في اللغة عند حافتها "الدلالة"، عملية دينامية من الذوتن/اللاتذوتن تتشكل في تفاعل جهتين (أو نمطين) للمعنى. السيميوطيقي هو ترميز أولي للدوافع تحت تأثير اللغة الأم، في إيقاعات، ألحان وحدات، ثم في مصادات الحروف شبه الصامتة والحروف شبه الصائتة؛ قبل مرحلة المرآة، عبر لسانية، عوض قبل لساني،
السيميوطيقي يجلب (كما قال راكامير) التعايش أم-رضيع. السيميوطيقي حامل معنى تفاعليا، وجدانيا وحسيا: بلا معنى. يحدث هذا الأخير مع تكوين الأطروحة الإسنادية وإتقان التركيب، الذي هو بالفعل حامل “مظارسف سردية” (ستيرن) ويبدأ في تحديد الذات في أوديب. لقد سمح لي التمييز السيميائي/الرمزي بتحليل تعدد الأصوات في اللغة الشعرية، والذي، على وجه التحديد، يضيف إلى "الرسالة" الصريحة للنص (في الشعر أو النثر) كل تعدد الأصوات غير القابل للتقرير لما نسميه "موسيقى" الأسلوب. لكن هذا التمييز يجعل من الممكن أيضا تحديد طبقات مهمة من الخضوع لما نعتبره عادةً اضطرابات الكلام الذهانية.
مثلا، أتيحت لي الفرصة مؤخرا للقيام ب" تقديم مريض" في سانت آن Sainte-Anne. كان كان الأمر يتعلق بمريض بالفصام، هاربا، قادرا على تشويه نفسه، وقام بمحاولة انتحار خطيرة عن طريق الارتماء من النافذة. بسرعة كبيرة، ب، "قدم نفسه" من خلال تقديم... والدته. كان يتحدث كأنه "في مكان" أمه، مقتبسا منها على نطاق واسع، معيدا بناء قصة درامية كنت أعرف أنها قصته، لكنه افترضها وصاغها على أنها قصة والدته: عي ضحت بجسد لأجل نفسها، هي انتحرت، هي اشتكت من أنها كانت "الخروف الأسود" للأسرة في طفولتها، هي طالبت ابنها "بالإشراف" عليها، الشيء الذي شعر ب. بأنه لا سستطيع "هضمه"، بسبب القوى غير المرئية "التي وجهته" دون أن يكون قادرا على معارضتها. كما حاول تفسير حالة اندماجه مع «الخروف الأسود»: من خلال التأكيد على غياب والده، والصراعات بين الأشقاء، وتطفل والدته. سمعت خطابا باردا ومتعلما، تكرارا لكلمات المعالجين المختلفين الذين شرحوا له "حالته" منذ الطفولة، مرددين القراءات "النفسية" التي كان بإمكانه القيام بها. ب. كان طالبا للفلسفة. وسمعت أيضا أنه كان يتحدث الفرنسية كلغة ثانية: هل كان بلجيكيا، أو سويسريا، أم يتعلق الأمر بنوع من الهروب، محاولة لكسر "إطار" الأمومة، "للإلقاء" بنفسه اتقاء تأثير الدنيء (abject)؟ ب. درس لمدة عام في إنجلترا. في لحظة مكثفة بشكل خاص من مقابلتنا، أشار إلى نفسه بتصغير اللغة الإنجليزية. قررت مواصلة تبادلنا باللغة الإنجليزية. حدثت ولادة جديدة. أصبح ب. مفعما بالحيوية، وجهه الجامد في السابق أصبح معبرا ومبتسما، وجد الشجاعة ليكشف لي عن صراعاته مع أخيه، مع معلميه، ورغبته في "التخلص من الانزعاج"، وكتابة أطروحة حول "الخير المطلق". من الواضح أنه تأسف لانتهاء المقابلة وسأل إذا كان ينبغي لنا أن نلتقي مرة أخرى.
إن المحلل النفسي الذي "يتظاهر بالموت" ليس له مكان في علاج الفصام السوداوي. إن الانفصال، الطويل، وربما المستحيل، مع تجميد الأمومة المذلة في آخر-أنا مصاب بالذهان، لا يمكن أن يحدث دون إعادة تأهيل "التواصل السيميائي" بين نفسيتين: نفسية المريض ونفسية المحلل. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة "لهضم" الأم "الوالدة"، التي تطفلت على ب.، والتي اختلط عليها الأمر في صورة "الخروف الأسود"؛ "الوحش الأسود" الذي لم يستطع أن يفكر معه، لكنه لم يستطع إلا أن يستمر في الفرار أو التدمير، من خلال تدمير نفسه.
اللغة الإنجليزية، اللغة الأجنبية، كانت هي "أخذه مسافة" من "الخروف الأسود" الذي كانته، الذي كانه: مساحة لعب قريبة أخيرا - معي، هروبا من اللغة الأم، أصبحت متاحة لأفكاره، في ثنائينا الخاص. تحويل لغوي للأمل يسمح لنفسه من خلاله باستعادة تعلم كيفية التحدث والتفكير مع أم أخرى، باستفزازي، بصياغة خططه من أجل "الخير المطلق"، وحتى اقتراح صعوبة هذا الأمل التعويضي: ابتسامته توحي بذلك ربما كان سيخبرني عن "سخافة" هذا الإصلاح، لو استمرت المقابلة. ومن المفارقة أن اللغة الأجنبية هي التي سمحت له بإعادة تأسيس رابط سيميائي لا يوصف، ولم يكن أقل انتقالية، وعبره، شعر من خلاله بأنه موجود، وقادر على المناقشة، والمناقضة، والتفكير، والضحك. لأنه "حدث" ولكن تم منعه بسبب إصابة أوديب شديد العدوانية بسبب طلاق الوالدين؟ أو لأن "ذلك" لم يحدث، وأعطته اللغة الأجنبية، الإنجليزية، الفرصة لـ "طعم" من الطمأنينة النرجسية، والتي من خلالها فقط يمكنه مقابلتي دون قلق كارثي، ولكن من خلال إعادة اختراع استراتيجيات "قتل الأم الوهمي"، بدء بما هو أكثر ضررا وغدرا: السخرية، الضحك، الإغواء؟ قدمت اللغة الأجنبية لـ ي. قاعدة سيميائية صلبة، وكاد أن يعيد اكتشاف المرونة النرجسية للعصابي.
آلان براكونييه: كتبت في كتابك الأخير: "نحن لا نعرف الكثير عن الأنوثة التي يمكن أن تكون نتاج المتخيل الأنثوي وحده"، وأنت تتحدثين بالتأكيد عن ندرة الرسامات. ماذا يمكنك أن تقولي لنا عن هذا الخيال الأنثوي الذي، ربما على نحو متناقض، نال إعجاب فرويد؟
جوليا كريستيفا: سوف آخذ من سؤالك لغز "المؤنث" العنيد دوما. أنا أؤكد، مع آخرين، وبطريقتي الخاصة، أنه لا يمكننا التحرك نحو تعقيد "المؤنث" دون الأخذ بعين الاعتبار الأوديبين (الاثنين) اللذين يبنينان الذات الأنثوية.
أنا أسمي "أوديب الأولي" الاستثارة المشتركة الأولي ابنة-أم، حيث تكون التجربة الحسية قبل اللغوية حاسمة: اقتحام وتخميل الجسم المجوف، بما في ذلك المهبل، من قبل الآخر الأمومي؛ اعتداء واستحواذ فموي، شرجي، وبظري من قبل الآخر؛ وأخيرا، كبت الاستثارة والتعويض من خلال الاستثمار النفسي والحسي المفرط للموضوع، والذي يخلق في وقت مبكر استدماجا نفسيا والذي سيتطور في شكل هذه الداخلية "الغامضة" للمرأة، المعتمدة على الموضوع، في "أوأن مستطرقة"معه، الرائعة والملتهمة. رغم أن الموضوع الأمومي ينقل الرابطة إلى الأب على الفور، فإن هذا الاعتماد المبكر للأم أساسي ومختلف لدى الفتاة، مقارنة بالفتى: لأن والدتها نصبتها أقل كمقوم قضيبي (كالحال الذي عليه الصبي) بحيث أنها لا تعكس استيهاماتها النرجسية ودفائنها السادومازوشية والاكتئابية، في تصاد مع الملذات الفموية والحسية للفتاة الصغيرة. وهذا يعني أن الواقع الحسي للموضوع، والحضور الحقيقي للأم (ولاحقاً للحبيب) مطلوبان - من قبل الفتاة الصغيرة - كتعويض عن اقتحام الجسد المجوف والاستدماج النفسي المشتغل باستمرار.
كما ترى، لا أعتقد أن هناك "كائنًا" مبكرا، قبل-موضوعيا وهادئا، سابقا على "الفعل الغريزي"، في الرابطة المبكرة أم-طفل، لا مع الفتاة ولا مع الصبي. ربما يكون المؤنث "الخالص" و"المقطر" عند وينيكوت استيهاما تحويليا مضادا. علاوة على ذلك، فحتى الفيلسوف الأكثر انتباها لـ "صفاء الوجود" الذي كانه هيدجر، لا يعتقد أنه خالٍ من "السلبية"، ولكنه "مضمن" حتماً في "العدم"، عندما لا يصر على "خبث الوجود".
أما "أوديب مكررا"، فهو يواجه الفتاة الصغيرة بما أسميه تعقيد "اللقاء القضيبي": التماهي مع المحظورات الأبوية، تكامل القانون، القواعد الاجتماعية، بناء الأنا الأعلى؛ وفي الوقت نفسه، استبدال الموضوع الأمومي بالأب باعتباره موضوعا شهوانيا. إن التلاعب بالقضيب وتقبل الموضوع (بدلاً من السلبية) يشكلان المرأة من الآن فصاعداً كموضوع للقانون القضيبي بالتأكيد، ولكنها "غريبة" في جوهرها عن النظام القضيبي للقانون، لأنها مدينة لأوديب الأولي، في "القارة المينوية الميسينية" حسب فرويد، وبعبارة أخرى، البصمة الحسية “السيميائية”. والتي تتحكم جاذبيتها اللاواعية في "الازدواجية النفسية الأكثر حدة" لدى النساء، مع نتيجتين: الكمون الاكتئابي من ناحية، وعدم الرضا الهستيري من ناحية أخرى (وهو ما كان يخشاه هيجل، أو يرحب به، عندما يلاحظ في المؤنث "السخرية الأبدية" للجماعة). سوف تتطور الأنوثة كمحاولة لسد هذا التفكك التأسيسي للمؤنث بين أوديب الأولي وأوديب مكرر، على إطلاق "أعرف جيدا لكن على كل حال": إغواء، تنكر، انتصاب جسد الفتاة (عندما لا يكون ثنائي الجنس)، كقضيب يخفي الإخصاء، المكر، الخداع، وحتى "الذوات الزائفة" التي تأخذ الهستيري كخط حدود؛ الفخ الذي يبدو أن الممارسة السريرية الحديثة قد وقعت فيه، متناسية الهستيريا على حساب "الحالات الحدودية". يمكن أن تكون الأمومة مناسبة للقاء الحقيقي، الذي يصلح أوديب مكررا وخاصة أوديب الأولي، ويمنح المرأة الاستيهام المتجسد (بمعنى التخيلات الكلينية) للوجود أخيرا.
ومع ذلك، هناك يقين سريع الزوال، والذي يجب الحفاظ عليه في حالة الحمل المتكرر، عندما لا يؤدي عدم وجود الشيء إلى تدمير السيدة التي تنهار مكتئبة، متعبة. إن العمل النفسي المتمثل في عمل الاستيعاب والتسامي يقدم نفسه باعتباره السبيل الوحيد للخروج من هذا التعقيد للمسار الذي يحدد ذات- امراة، ويقدر أن يكن النساء أكثر المحللين (بكسر وتشديد اللام الأول) والمحللين (بفتحه وتشديده) عددا، بل أفضلهم.
ومع ذلك، ليس من المؤكد أن هذه الخصائص النفسية الجنسية الأنثوية ستقود المتخيل الأنثوي إلى التفوق في الرسم. هذا الأخير يتطلب استثمار النظر أكثر من استثمار ما هو غير مرئي، واستثمار الخارج أكثر من الداخل، والعدوانية أكثر من الإصلاح. كان لا بد من هوية قضيبية قوية، مثل هوية أرتميسيا جينتيليسك (Artemisia Gentileschi) أو جورجيا أوكيف (Georgia O’Keefe)، حتى يحصل تطور كل من الثنائية الجنسية النفسية الأنثوية و"أشكال" الفن الحديث.
آلان براكونييه: كرست ثلاثة كتب للعبقرية الأنثوية. ما المعنى الذي تعطيمه لمفهوم العبقرية هذا وبشكل أكثر تحديدًا العبقرية الأنثوية؟ ما الذي حدد اختيار كوليت وحنا أرندت وميلاني كلاين؟
جوليا كريستيفا: أميز، من ناحية، “لقاء العبقرية الأصلي” الذي احتفل به الإغريق والرومان (بتخيل شيطان أو عبقري، روح إلهية تتصدر ولادة كل منا)، ثم تبلور في إكسيتاس، أو التفرد اليهودي والمسيحي، الذي اعتبره التحليل النفسي أخيرا إبداعا محددا لكل موضوع؛ ومن ناحية أخرى، الكناية العلمانية لعبقرية “الرجال العظماء” التي فرضت نفسها منذ عودة النزعة الإنسانية وحتى الرومانسية. إن عدم اليقين في العلمنة في عصرنا يعيد فتح هذه المشكلة المتكررة بطريقة جديدة. أنقاض القارة الوجودية- الإثنولوجية، التي سرعان ما انقرضت، تبدو لنا أقل فأقل مثل “الحروف الميتة”، وأكثر فأكثر مثل مختبرات الخلايا الحية، التي من شأن استكشافها أن يلقي الضوء على المعضلات والمآزق الحالية..
مع التقليل من أهمية الخطاب، انهيار السلطة، التخصص التقني للمعارف الذي يجعل امتيازها غير قابل للنقل، واندفاع الحاجة الملحة للإغواء – الرضا – الإلغاء ، تظل كلمة “العبقري” غلوا يوقظ قدراتنا على الدهشة: هذا المحفز النهائي للفكر. أعدت إذن تناول كلمة “عبقري”، لكني حاولت استخلاصها من تضخمها الرومانسي. ومن خلال وضع فكرة “الرجال العظماء” بين قوسين مؤقتا والتي يتأمل فيها هيجل (سأعود إلى هذا لاحقا)، تناولت أركيولوجياها، ومعناها ما قبل التقديس المبعث. في المجلدات الثلاثة من كتابي "العبقرية الأنثوية: أرندت، كلاين، كوليت"، من المناسب فهم “العبقرية” بدء من التفرد العاطفي الذي اكتشفته المسيحية والذي، منذ ذلك الحين، وجد تطورات غير متوقعة، سواء في ما يسمى بتاريخ الفنون والآداب، أو في اكتشاف فرويد للاشعور. وهو لا زال تحت صدمة عدم الرؤية مع أنه معمول به، في نظري، فإن الاكتشاف الفرويدي لللاشعور، الذي أعاد قراءته لاكان، هو الذي جعل من الممكن إعادة التفكير في هذا التواجد المشترك للطاقة الدالة، للدلالة عبر الحب، في تفرد المغامرة البشرية. ومن ثم فإنه يفتح صفحة جديدة في “فلسفة المحايثة” (التي أود أن أتبعها، مع يوفيل، إلى سبينوزا)، والتي تتيح لنا تحديدا أن نتناول مرة أخرى بطريقة مختلفة المسألة القديمة المتمثلة في التفرد والعبقرية التي تهم محادثتنا اليوم. أليس الهدف من العلاج تحديدا الكشف للمحلل (مفعول) عن تفرده الخاص، وبالتالي تفضيل الإبداع الذي يبدو أنه أحسن معيار لغاية التحليل؟
المجلدات الثلاثة من كتابي "العبقرية الأنثوية" تندرج في السياق الوارد أعلاه، ويجب أن تقرأ أيضا كرد على الحركة النسوية الجماهيرية. ضد “جميع النساء” وضد “مجتمع النساء” – لأنه من أجل القضاء على مسألة “الوجود” أو “عدم الوجود” بأمان الانتماء، أردنا ضغط النساء كما مجتمع البرجوازيين، البروليتاريا، العالم الثالث في الماضي، إلخ..– تمسكت بكلمة “العبقرية” المثيرة لإثبات أنني لست “نسوية” حقًا، بل … “سكوتية”. تساءلت عن التفرد، المذكور أعلاه، وفق صيغة دونس سكوت، وقمت بتحليلها بشكل ملموس لدى أرندت، كلين وكوليت. في العبقرية الأصلية كما في العبقرية الاستثنائية لهؤلاء النساء الثلاث، حددت أولاً بعض السمات المحددة للنفسية الجنسية للإناث بشكل عام. بعيدا عن كونهن نرجسيات كما يقولون، وحتى أقل نرجسية بكثير من الرجال، فإن النساء منذ البداية في علاقة مع الآخرين: العيش هو العيش من أجل الآخر، بما في ذلك وقبل كل شيء عندما يكون ذلك مستحيلًا ومؤلماً. بعيدا عن الانغلاق على أنفسهن في القصور الاستحواذية للفكر الخالص، فإن التفكير بالنسبة لهن لا ينفصل عن الحس الجسدي: الانقسام الميتافيزيقي جسد/روح أمر لا يطاق بالنسبة لهؤلاء النساء ؛ إنهن يصفن الفكر بالنعيم الجسدي ، وبالنسبة لهم فإن الأيروس (éros) لا ينفصل عن المحبة (agapè). بعيدا عن كونه سباقا حتى الموت ، فإن وقتهم يطارده بالضرورة الاهتمام بالحدود، ومع ذلك فهو يهدأ في معجزة معدل المواليد، الفقس. “لم يكن كوني مولودة من جديد أبدا فوق قوتي”، هذا التعجب الفاحش من كوليت لا يستحضر فقط قدرة المرأة على التكيف، بل يستحضر أيضا المرونة النفسية الجسدية للنضج الذي تصل إليه المرأة، بعد أن تجاوزت مآزق الادعاء القضيبي والحسد. ولكن قبل كل شيء الإدراك المحدد لهذه السمات المشتركة هو الذي أثار اهتمامي، لدعوة قارئاتي ليس ليكن“مثل”، ولكن ليسعين إلى أن يكن غير قابلات للمقارنة. لأن هذه العبقرية التي لا تقاس تتحقق فقط في المخاطر التي يمكن لكل فرد تحملها من خلال التشكيك في فكره ولغته ووقته وأي هوية (جنسية، قومية، عرقية، مهنية، دينية، فلسفية …) التي تؤوي هناك.
.
آلان براكونييه: بالانتقال الآن إلى الدين، يبدو أنك تتبعين مسارا مشابها لذلك الذي سلكه فرويد بشكل عام، منطلقا من مسألة الدافع الفردي والعصاب وقيادته في سياق بحثه إلى كتابه "قلق في الحضارة". هل توافقينني على قراءة الفصل الخاص بك عن هذا الموضوع في كتابك الأخير؟
جوليا كريستيفا: تماما. تناولت هذه المشكلة مؤخرا في ندوة مع محللين نفسيين من جامعة كولومبيا والأبْجَدِيّة الصَّوْتِيّة الدَوْلِيّة (نِظام مِنْ الرُّموز لِإظهار كيفية نُطْق الكَلِمات، م) حول الأب الميت. اسمح لي أن أذكرها بإيجاز: أدرك فرويد أن تحريم زنى المحارم، الذي تقوم عليه الثقافة البشرية، يبدأ باكتشاف الإخوة أن الأب حيوان يجب قتله. طوطم، نحتفظ منه فقط بالطابوه، لتحويله إلى قواعد لتبادل النساء، إلى قوانين، إلى أسماء، إلى لغة، إلى معنى. بعد المحرقة، كان الاكتشاف الفرويدي هو الاكتشاف الوحيد الذي أصر على الرغبة السادية المازوخية لقانون الأب الذي يغذي النظام الأخلاقي، على الإيروس الأسود الذي يقوم عليه الأب-النسخة وتسامي الإنسان المتدين.
مع انهيار السلطة الأبوية والسياسية، والعودة الهائلة للحاجة إلى الإيمان، أعطتنا بداية الألفية الثالثة لمحة عن شيء أكثر: الأب الميت، كشرط لوجود التدين البشري، مات على الصليب منذ ألفي عام، ولكن لا يجب السعي وراء الوعد بقيامته لا في العالم الآخر ولا في العالم القذر. فأين؟ بدأ مؤسس التحليل النفسي، وهو رجل عصر التنوير، مدد الحب فوق الديوان. حتى أعود إلى حب الأب والأم، وبالرهان (الذي ليس من قبيل الإيمان، بل من قبيل اللعبة)، أن “أنا” يستطيع أن يحرر نفسي من والديّ، حتى من نفسي ومن محبتي، بشرط أن أكون ثيد التحليل، الانحلال الدائم، في التحويل-ضد-التحويل. ما يفترض أن ليس هناك أب ميت فحسب، بل شخصيات أبوة ومحبة، التي أستمتع بها، والتي أقتلها وأحييها عندما أتحدث، أحب وأفكر. أمام المحللين النفسيين هنا، جادلت بأن الحاجة إلى الإيمان هي مجموعة من الآباء-النسخ التي لا يمكن تجاوزها لدى الكائن المتكلم؛ أن الأمهات-النسخ أنفسهن، المشجعات من النسوية، حبوب منع الحمل ومتغيرات المساعدة على الإنجاب، ليست استثناء؛ وأن “تصادم الأديان” يمكن توضيحه إذا لم يتم توضيحه من خلال استماعنا.
لهذا السبب، بلا شك، وجدت نفسي أقترح افتتاح منتدى دائم حول هذه المسألة، يشارك فيه المحللون النفسيون من جامعة كولومبيا، والأطباء في مناقشة مع المتخصصين علماء الأديان واللاهوت. ماذا لو كانت هذه هي العودة الأبدية لفرويد؟ استعارات الأب الميت لا حصر لها... ساد الاعتقاد بأن الأم الكبرى (Big Mother) حلت محل الأب الأوديبي. والحقيقة هي أن المحلل الفرويدي، رجلاً كان أو امرأة، يعمل بنسخة جديدة من "الوظيفة الأبوية". لا حيوان طوطمي، لا لايوس/أوديب، لا إبراهيم/إسحاق، لا يسوع وأباه المهجور والمنبعث. في تحول الحب-الكراهية، لا يُحب الأب ويُكره ويُقتل ويُبعث فحسب، كما يمليه الكتاب المقدس؛ لكنه متناثر حرفيا، ومع ذلك يتم دمجه بواسطة المحلل. وهذا التحلل-إعادة التركيب المستمر، والذي يكفله المحلل، يجعل من الممكن تحليل إدمان المخدرات، الجسدنة، الإجرام، والحدية. يظهر موضوع أمراض الروح الجديدة هذه بهوية متناقضة، تذكرني بالحركة البراونية للوحة بولوك ب"التقطير" بعنوان "واحد".١
أين ذهب الواحد؟ هل ما زلت واحدا عندما أحلل أو عندما أحلل (صيغة المبني للمجهول)؟ نعم، لكنه مزود بهوية غير قابلة للتقرير، دون مركز ثابت أو تكرار مميت؛ بالأحرى موسيقى متسلسلة، ورقصة مرتجلة ومع ذلك مدعومة بنظام أساسي ومفتوح. الجمعيات الحرة، نعم، لكن بالإشارة إلى تاريخ طويل... هذا هو السر المثير للقلق والرائع للثقافة الأوروبية، والإنسانية الأوروبية في تنوعها الذي استحوذت عليه المسيحية ومشتقاتها منذ ألفي عام. ربما يكون التحليل النفسي هو الفكر الأفضل إعدادا اليوم لتقديم تأويل لتأثيرها، مثل تأثير الأديان الأخرى. وبهذا سنكون قادرين على تقديم مجال مستنير حتى يحل التوضيح محل هذه المواجهات القاتلة، حيث يتنافس النكوص مع انفجار غريزة الموت، والتي تهدد اليوم الإنسانية المعولمة.
آلان براكونييه: من هم أعظم شخصيات التحليل النفسي الذين أثروا فيك أكثر؟
جوليا كريستيفا: بعد فرويد، ميلاني كلاين ووينيكوت ولاكان بالطبع. تعلمت الكثير من خلال عملي مع أندريه جرين.
آلان براكونير: تعرض التحليل النفسي لهجوم شديد مؤخرا. ماذا تقولين لمنتقديه في إطار الدفاع عنه؟ ما رأيك في مستقبل التحليل النفسي؟
جوليا كريستيفا: مناقشات مفتوحة مع علماء الأحياء العصبية، مثل تلك التي بدأناها بندوة سالبتريير la) Salpêtrière)مع دانيال ويدلوشير وبيير فيديدا؛ وفي مركز الكائن الحي (Centre du Vivant) بجامعة باريس 7 دينيس ديدرو (Denis-Diderot). تأويلات نشطة، “داخلية” ولكن عامة أيضا حول “قضايا المجتمع”: أبوة، إنجاب بمساعدة، أمومة المرأة العصرية، أديان. وفوق كل شيء، عدم التورط في النقاشات مع المنتقدين الأشرار والمراجعين، ولكن لتسليط الضوء على خطوات تقدمنا.
آلان براكونييه: هل تثير فيك التبادلات الحالية حول المكانة المحترمة للتحليل في علاقة بما يسمى العلاج النفسي التحليلي وجهة نظر ترغبين في تطويرها هنا؟
جوليا كريستيفا: تفرض المادة 52 من قانون استخدام لقب المعالج النفسي الحاجة إلى التكوين النظري والعملي في علم النفس المرضي السريري. لقد وافقت ودعمت أمام هيئات صنع القرار اقتراح جمعية باريس للتحليل النفسي الهادف إلى تعديل نص القانون، لا سيما في صياغة المحتوى المحدد لدروس الماستير في الجامعة. يجب أن تميز هذه الصيغة بشكل حتمي التحليل النفسي باعتباره مقاربة متميزة عن العلاجات النفسية نظامية، معرفية-سلوكية، ومندمجة. وهو يتوافق مع ضرورة التأكيد على مكانة التحليل النفسي في الجامعة، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود علاجات نفسية مختلفة تستجيب للطلب الاجتماعي، وضرورة حجز تكوين لطلبة التحليل النفسي في عيادة التحليل النفسي.
آلان براكونييه: يلقي كتابك ”شمس سوداء” الذي نُشر عام 1987 ضوء أساسيا على الاكتئاب. هل تطورت وجهة نظرك حول هذا الموضوع؟
جوليا كريستيفا: لم أضف شيئا جديدا إلى الوضع النظري للمشكلة، وليس لدي ما أضيفه إلى ملاحظاتي السريرية أو إلى تحليلي لعلاقة الاكتئاب/التسامي.
من ناحية أخرى، من المحتمل أن يتم توجيهي إلى تطوير الخلفية الاكتئابية لبعض الانحرافات، خاصة في الانتقالات المثلية القاتلة إلى الفعل.
آلان براكونييه: بناء على طلب رئيس الجمهورية، قمت بكتابة تقرير حول الإعاقة ونشرت رسالة إلى المواطنين ذوي الإعاقة. هل يمكن أن تخبرينا بالذي حدد هذا الالتزام وما هي الاستنتاجات التي توصلت إليها من هذا التقرير؟
جوليا كريستيفا: بدت كلمة المحللة النفسية، زوجة وأما، أنها مفيدة في القلق الذي عبر عنه “الورش الجمهوري” بشأن استبعاد الأشخاص ذوي الإعاقة، وفي الحاجة إلى “تغيير نظرة” الرأي العام: من أجل اعتبار هؤلاء الرجال والنساء ليس ك“كائنات متأثرة بالحرمان”، ولكن بصفتهم ذواتا قادرات على الإبداع، مهما كانت الحدود، وبالتالي بصفتهم “رعايا سياسيين” ذوي حقوق. بعد هذه المرحلة الأولى من التزامي كرئيسة للمجلس الوطني للإعاقة، قمت بتسليم الرئاسة الفعالة، الاجتماعية والإدارية، وسعيت إلى تطوير خطاب أقل سياسة وأكثر تحليلاً حول الإبداع، على وجه التحديد، للذات الهشة، على مفترق الطرق بين البيولوجيا والمعنى، ولا سيما في مجال الذهان والاضطرابات الحسية. هذا المجال، باختصار، هو مجال أعمالي النظرية والسيميائية المبكرة، ولكنه “موجه” إلى عيادة الإدمان. سيستغرق الأمر الكثير من الوقت والجهد من جانب الجميع – آباء، سلطات عامة، رأي عام – قبل أن نتمكن من استخلاص استنتاجات حول موضوع معقد مثل موضوع “الإعاقة”، الذي يواجهنا، بما يتجاوز محنة النرجسية والإخصاء، إلى القلق أمام الموت مصحوبا بقلق حدود الأنواع.