- مدخل:
من الحدود ما وضع كأنما ليخرق. كالفاصل المعروف الذي يفصل، في خوارزمية صوسير، الدال عن المدلول، والذي سيستأثر بمعظم اهتمامنا، هو الذي أصبح، في هذه الأيام، ينطوي عليه من التباسات، ويعرف من خلخلة. وليس مفهوم الفضاء، يقينا، هو آخر مفهوم تنعكس عليه آثار هذا الاضطراب الدائم، الذي يطال المعجم والفكر على حد سواء.
لذلك نرى من اللازم، قبل الشروع في تحليل ملموس لـ"فضاء" أثر أدبي، أن نحدد، بوضوح، مستوى الدال في النص الذي نروم دراسته. ويطيب لنا أن نؤكد أننا نسعى، بغاية نريدها تدميرية، أن نعود بمفهوم "الفضاء" إلى دلالته الأولى: سيكون فضاء النص، عندنا، هو البيت، والمزرعة، والعمق، والدائرية-الموصوفة والمسرودة والمشخصة لفظيا. كما نؤكد، فضلا عن ذلك، أن هذا المستوى من المعنى، المعتبر بمثابة كنه منطقي، ملتحم ودال، يبدو لنا ذا أولوية، ولو في نطاق شكل أدبي بعينه على الأقل.
وهذا أمر لا يبدو أن الجميع قد استوعبه. فنحن نرى أن غالبية الأعمال المكرسة لدراسة "الفضاء الأدبي" يمكن تصنيفها إلى فئتين: تجهد الفئة الأولى في إعطاء مفهوم الفضاء ألف دلالة ودلالة، ما عدا دلالته البدهية. ويغيب عن الفئة الثانية أننا لا ندرك الفضاء إلا من خلال نص، من جمل وكلمات، مع كل ما يكون لهذا الأمر من استتباعات على صعيد بنية هذا الفضاء وفهمه.
وعليه، فإن مقاربة الفضاء الأدبي تشكو من نقص يلزم تداركه. وسوف نسعى إلى تدارك بعض من ذلك النقص، من خلال دراسة ما نسميه فضاء المحكي. وكما لاحظنا توا، فإن هذا الأمر يستدعي تفسيرا تمهيديا: إلى أي عالم ينتمي هذا "المنزل في المزرعة"؟ وكيف نفهم دلالته، من دون أن يغيب عن بالنا أن الأمر لا يتعلق بغير كلمات ثلاث، مكتوبة على صفحة؟ ثم كيف نبرز خصوصية هذه الكلمات داخل الخطاب؛ من حيث هو شكل تشخيصي خاص، بالمقارنة إلى خصوصية الصورة التشكيلية، على سبيل التمثيل؟
1.1 - الخطاب ومرجعه:
يبدو أن خير ما نفتتح به بحثنا هذا هو مؤلف جون فرونسوا ليوطار الخطاب والصورة. فالمؤلف يطمح إلى التدليل على اشتمال الخطاب على العنصر الصوري؛ أي تلك التجربة التي تعيشها الذات وتتعذر عن التعبير. ولقد شرع، على نحو منطقي تماما، في تحديد علاقات الخطاب بما هو بصري.
ويرى ليوطار أن هذه العلاقات تكون إرجاعية بالأساس. فهو يقول في ذلك: "يفسح الخطاب مسافة يصطنع له منها مرجعا، يدخلنا تجربة الرؤية". والحال أن هذه المسافة هي، في أساسها، مسافة نافية. فبينما تحتاج الرؤية إلى هذه المسافة للإمساك بما هو مختلف عنها، يكرس الخطاب، في تناميه، موت الشيء. ومعنى ذلك أن الخطاب؛ ذلك النظام الذي يتبدى تاما وكليانيا، يشكو من فراغ ويعاني من نقص.
وهذا النقص يتمثل في التجسيد الذي لا يتأتى للغة: تجسيد الشيء المحسوس. فالمؤكد أن هذا الشيء لا يوجد داخل فضاء "موضوعي"، أو "واقعي"، بل في عالم مختلف عن عالم اللغة.
ولذلك يعارض فرونسوا ليوطار بين فضاء الدلالة، الذي هو فضاء اللغة، وفضاء الإشارة، الذي هو فضاء الرؤية. ففضاء الرؤية هو "التجسيد العميق الذي يقوم على هامش الخطاب"، وينتمي "إلى تجربة لا مكان لها داخل النظام، بل هي تجربة المخاطب". إن هذا الفضاء "ينشأ عن شق، أو عن فصل، هو الشرط لكي يصير نظام اللغة قابلا للاستعمال". وهو الأمر الذي اصطلح عليه جاك لاكان، في موضع آخر، بـ"مأساة الذات"، وقال فيه: "تكمن مأساة الذات في اللفظ في كونه يمثل اختبارا لعدم وجودها".
وأما فضاء الدلالة فهو، على العكس، ذلك الفضاء؛ حيث يجري "الجدل السطحي والثابت، إذا صح التعبير، للفكر، في اختراقه للمفاهيم وتنظيمه للحقول الدلالية". إنه فضاء مغلق، ومفهومي، ومحروم، على هذا الصعيد، من العمق الذي يميز المحسوس: "يمكن أن نقول إن الشجرة خضراء، من دون أن نجعل لعبارتنا لونا". وفي هذا مكمن الصعوبة في الإمساك بالشيء المرجعي، المحسوس، الذي لا مناص للخطاب، في تجسيده، من اللجوء إلى مبدإ المطابقة. ومؤدى هذا المبدإ "أن الممكن التعبير عنه يعني بالنسبة للمخاطب اكتشافا للمدلول (الذي) يمكنه أن يبعث لديه على الشعور بالغيرية. لكنها غيرية تبقى مغلقة داخل العنصر الخطابي".
- 2.1الصُّوَري داخل الخطاب:
لهذه الأفكار صلة، إذن، بانشغالاتنا. ومن الأهمية الكبيرة أن يطرح فيلسوف مثل جون فرونسوا ليوطار المشكلة بهذه الكيفية البسيطة والواضحة: كيف يمكن أن تقوم صلة بين الخطاب الذي يصدر، في المستوى الدلالي، عن فضاء مفهومي دلالي، وموضوع هذا الخطاب نفسه؛ موضوع التجربة الحسية، الذي يدخل ضمن فضاء الإشارة؟. وبتعبير آخر: ما السبيل إلى الحقيقة؟ من البديهي أننا أثناء الكلام، نقول شيئا، لكن هل ندركه؟ هل يشتمل ما نقول على شيء مما نعيش؟
نعم، يجيب ج.ف.ليوطار: "لفضاء الإشارة بالطبع، مكانه في الخطاب، لكن في عبارته، وليس في دلالته". وبتعبير آخر: "لا تشترك اللغة مع المحسوس(…) بـ"مادتها"، بل بصورتها، التي تؤهلها لأن تضاهيه". وسيعرف ليوطار هذه الصورة بكونها خرقا، أو نقضا، أو هدما، أو غموضا – وسيفسرها باعتبارها ظهور الرغبة داخل الخطاب.
وعليه، فالعنصر "الصوري" المخترق للخطاب هو الذي سيسمح لهذا الخطاب بتشخيص ما هو مرئي، ومحسوس، ويتعذر التعبير عنه. ولذا سيكون في الإمكان دائما إدراك هذا التشخيص إدراكا غير مباشر، في ثنايا جملة، أو قلب فجائي للمعنى؛ حين يطالعنا، فجأة، ذلك الغموض الذي يجهد الخطاب العقلي كثيرا لإزاحته، ولذلك يكون الخطاب الشعري أفضل محقق لهذا الخروج الحيوي عن قوانين النظام. ففي الخطاب الشعري يكون صعيد العبارة، عادة، مجالا لتجلي المتعذر التعبير عنه.
- 3.1وضع المدلول: العبارة
قلنا: صعيد العبارة. والحال أن هذه الموضع من استدلال جون فرونسوا ليوطار هو مكمن المعضلة الجوهرية التي ستوجه عملنا كله. فهل يكون صعيد العبارة هذا، متماثلا في جميع أشكال الأدب؟ هنا مكمن الخطورة : إن ذلك يعني اختزال مجال العبارة في الدليل اللغوي وحده، مما سيقود إلى قصر اصطلاح "الخطاب الشعري" على القصيدة… وحدها! وذلك بالفعل، ما يحدث في كتاب الخطاب والصورة.
ومن المؤكد أن أمر ذلك ليس بالبسيط، وجون فرونسوا ليوطار أول من يدركه. فهو في طرحه لعلاقة الدال بالمدلول، يتصدى للتصور الوضعي السائد، والذي جعله تفنيده للوهم التشييئي للغة ينكر وجود المدلول في ذاته: لن يكون هذا المدلول، في نظر الوضعيين، سوى "العمليات الكامنة التي تغلف الدال عند ظهوره في السلسلة الكلامية". وبتسليم المؤلف، من وجه من الوجوه، بوجود "خداع" في الممارسة اللغوية، يؤكد على كون هذا الخداع خاصية أصلية حقا، في هذه الممارسة، وهو، لذلك، ظاهرة لا ينبغي إغفالها تحت ذريعة الوضوح، بل يتحتم، على العكس من ذلك، تجليتها وتعليلها: "إن هذه المباشرة (التي تربط الدال بالمدلول–يـ إ) تعود، حتما، إلى ممارستنا الكلامية: والنزوع إلى "نقضها" يماثل في لا منطقيته إهمال المحلل النفسي للوعي بدعوى أن اللاوعي يضلله". ونحن نرى هذا الإقرار كافيا لإثبات قيمة وأصالة حقل كامل للبحث والتحليل: حقل العالم المتخيل (للنص) المعتبر بمثابة كيان أصلي، ومتماسك ودال. وعليه، يخيب ظن المرء حين يرى أن جـ.ف.ليوطار قد كرس الصفحات الأربعمائة –المكونة لهذا المؤلف الهام- لدراسة اختراق العنصر الصوري للعنصر الخطابي في كل أشكاله الممكنة: الصعيد اللغوي، وصعيد التشخيص في فن الرسم وحتى المجال الخطي الخالص – ما عدا شكل واحد: إنه المتخيل داخل النص. ورغم إقرار المرء بأهمية هذا المؤلف، إلا أنه، بموجب هذه الأهمية نفسها، يأسف لكونه لا يجد فيه إشارة إلى ما يغيب عنه.
ذلك أن لهذا النقص خطورة بالغة؛ سواء في ما يجره على تعريف الخطاب الشعري، أو للأساس النظري الذي ينطوي عليه.
اختزال جون فرونسوا ليوطار دور العنصر الصوري داخل اللغة، أو –بالأحرى- داخل الخطاب، إلى تقويض للدال وحده يسقطه في الفخ الذي يروم فضحه: إنه يغيب المدلول من ثلاثية الدال –المدلول- المشير. لكن بينما كان التيار الوضعي –الذي يتصدى له- يلحق هذا المدلول بالدال، ويطابقه معه، يبدو أن مؤلف الخطاب والصورة يغفله باستمرار، في لهاثه وراء الشيء المحسوس. إلا أن الأمر يؤول، للغرابة، إلى النتيجة نفسها في الحالين: الانتقال مباشرة، من الدال إلى المشير فالمتعذر التعبير عنه.
وبتعبير آخر: فباختزال ليوطار للعبارة كلها في الدال اللغوي وحده، فإنه يختزل المدلول كله في الوظيفة الإرجاعية، وذلك يعني العودة إلى المعارضة ما بين الشكل والمحتوى، وإلى كل ما يترتب عن تلك المعارضة. ولا جدوى من التذكير بعبثية هذا النحو في النظر – ولنكرر، فوق ذلك، بأن ج.ف.ليوطار هو أول من تحول عنه.. لكن نظريا فحسب: ذلك أن المرء يبحث عن تحليل، أو مؤشر عن هذا التحليل، للمدلول –ذلك "الأفق الرؤيوي للفكر"، بتعبير ليوطار نفسه- داخل النص، في كتاب الخطاب والصورة، لكن دون جدوى.
فمما سلف يتضح أن مؤلف هذا الكتاب، بقصره لاختراق العنصر الصوري للخطاب على صعيد العبارة –أو، بالأدق، على صعيد الدال؛ مما لا يجعل للعبارة، في نظره، وجودا إلا على صعيد هذا الأخير- فإنه يؤول، من ذلك، إلى إقصاء كل ما ليس "شعرا"، بالمعنى الأكثر كلاسية للكلمة، من مجال تحليله. "القصيدة هي الخطابي المتشبع صوريا"، كما يؤكد جون فرونسوا ليوطار. فهل معنى ذلك، على النقيض، أن النص الأدبي الذي ليس "قصيدة"، والذي تكون سلسلته الدالة أقل التباسا، وقوانينه أقل انخراقا، محروم كليا من العنصر الصوري؟ ألن يكون هذا النص، في حالته تلك، من قبيل "النثر البارد" الذي أصاب المؤلف بقوله أنه "يكاد يكون منعدما"؟
وعليه فإن تحليل ج.ف.ليوطار يعاني من نقص خطير، يقتضينا منظورنا أن نتداركه. إن النص الأدبي عبارة برمته. وكيفما كان الباعث على إنكار المدلول –أو فصله فصلا كليا، عن الدال (وذلك يؤول، كما رأينا، إلى النتيجة نفسها)- فيلزم أن يشمله التحليل عند مقاربة النص الأدبي؛ لا باعتباره نتيجة للدال، حتمية ومؤسفة، أو معنى يحد من الإتقان الشكلي للأسلوب، بل على العكس، باعتباره مكونا لصعيد العبارة نفسه، لامتلاكه منطقه الخاص، وقواعده اللعبية المميزة، والتي لا تماثل، بالضرورة، قواعد الدال.
ويمكننا التأكيد، منذ الآن، ومن دون أن نستبق الأمور كثيرا، أنه إذا كان الصوري يلحق القصيدة على صعيد الدال، أساسا، فإنما يلحق المحكي على صعيد المدلول.
- 4.1وضع المدلول: مجموع متماسك
لقد رأينا أن كل خطاب يتضمن رؤية معينة، أو بتعبير أدق: يدل عن غياب رؤية معينة. والحال أن تلك هي نقطة الضعف، ففي استدلال جون فرونسوا ليوطار لا يمكن رفض هذه الرؤية أو إقصاؤها و"قتل" ذلك "الشيء" إلا بشرط تشخيصه، أو الدلالة عنه، بتعبير فلسفي. لكن ليوطار يمر على هذه الضرورة المنطقية مرور الكرام. أو يفوته، بالأحرى، -في سعيه إلى التدليل على أن كل خطاب يتضمن رؤية معينة، وأن كل خطابي متشبع صوريا بالضرورة- أن يستنتج من ذلك، ضرورة وجود الخطاب "المجرم" لكي يتسنى "قتل" الشيء المحسوس. فلا يمكن "تحييد" المنزل أو –بالأحرى- "الشيء" المدرك حقا، إلا إذا "قيل"؛ أي عندما يقع التلفظ بكلمة "منزل". وليس مفارقة من جانب اللغة في شيء إذا كانت لا تقدم تجربة من التجارب في صورة المتعذر التعبير عنه إلا عند محاولة التعبير عنها.
تتضح لنا، بصورة جيدة، أهمية هذه العلاقة المنطقية. فمن خلالها يتجلى الدور الذي يضطلع به المدلول؛ في كل سعته.
فليس الدال، في حد ذاته، هو الذي يحيد و"يسطح" الشيء المحسوس، أو المشار إليه. إن مدلول الدليل "منزل" هو الذي يطمح إلى –ويخفق في- تعيين منزل "حقيقي"، مرئي وخارجي عن المخاطب. فمدلول الخطاب، في المقام الأول، هو الذي يطمح، بوجه من الوجوه، إلى تشخيص التجربة. والقول بعكس هذا معناه إنكار تلك المقصدية، وذلك البعد المرجعي المميزين للخطاب. إن المدلول هو الخالق، بالدرجة الأولى، للنفي الذي يعد أمرا أساسيا في الخطاب.
وليس هذا المدلول حقا، سوى الوجه الآخر للدال. ومن البدهي أن يعكس، على طريقته، وجود المتعذر التعبير عنه.
ومما لا جدال فيه أن تعارض الدال والمدلول داخل كل خطاب، يكون بدرجات متفاوتة. وهو ما يمكن، من جهة أخرى، لتمايز النثر عن الشعر. وتلك قضية سنعود إليها لاحقا. إلا أن ما نريد التصدي له، بالدرجة الأولى هنا، هو النزوع إلى الاقتصار في تحليل اختراق الصوري للخطابي على الدال وحده، فيما يكمن مبدأ الفصل نفسه بين الصوري والخطابي في المدلول.
وتماما كما يكون تجلي العنصر الصوري، أو الغموض الداخلي للخطاب، في الدال، يكون، بالتالي، في المدلول، الذي ليس الدال سوى بنيته، أو شكله الخاص (متوالية حدثية، أو منطق عاملي، أو فضاء متخيل، الخ). ومن المؤكد أن هذا الغموض لن يعود، في هذه الحالة، فاصلا للدال عن المدلول –بل غموضا فاعلا و"انحرافا" داخل نظام المدلول نفسه. ذلك أن للمدلول منطقه الخاص، بل وشكله التعبيري المميز إذا صح التعبير. وليست قوانينه ولا قواعده السياقية بمماثلة لقوانين الدال ولا لقواعده، وعليه فإن المقام يقتضي منحى في النظر إليه مختلفا، ومقاربة تحليلية أصيلة.
لا سبيل إلى إنكار التعالق الوثيق لمستويات المدلول مع البنية الخاصة للدال، داخل النص: يتعذر، بالضرورة، التعبير عن مدلول المحكي داخل القصيدة. بل على العكس: نرمي، من اعتبارنا للمتخيل بمثابة لغة ومحكيه بمثابة خطاب، إلى التدليل على وجود ترابط وثيق لشكل هذا الخطاب (سواء أكان محكيا أو رواية أو قصيدة) بالشكل الخاص الذي يتخذه العنصر الصوري لخرق بعض ثوابت المدلول. كما نعتقد أن لهذا الترابط دلالة تاريخية محددة. لكن يبقى التأكيد على أن هذه العلاقة، أعني "تقييم" الدال، لا يمكن تبينها إلا باعتماد تحليل ملموس ومتماسك، يتطرق، بالأساس، لمستوى بعينه من المدلول، معتبر بمثابة كيان دال.
- 5.1مدلول متميز: الفضاء.
نريد التدليل على أن النص النثري يشتمل على مجال دلالي يحقق، بطبيعته، مفارقة العنصر الصوري وفرادته. ونعني بقولنا هذا الصورة، أو بتعبير أدق: الفضاء المتخيل.
والحال أنه إذا كانت تأليفية المحكي السردية، وبنيته العاملية، الخ، قد حظيت بالدراسة ضمن بحوث ومحاولات تحليلية قريبة إلى ما ندعو إليه –بداية من بروب ووصولا إلى كريماص- فليس الأمر كذلك فيما يتعلق ببنيات الفضاء المتخيل المشخص داخل النص.
فعلى الرغم من أن المنزل يستعمل ملجأ محتملا لبطل المحكي (فيندرج، من ثم، ضمن منطق عاملي أو وظيفي خالص، الخ)، فهو لا يكون دائما كذلك، في غير المحكي. فضلا عن أن المنزل لا يحتاج إلى أن يوصف لكي يتسنى استعماله ملجأ. وهذا الوصف "عديم الجدوى" هو ما يهمنا تحديدا. لذا تطرح ضرورة توفر منطق يحكم مجموع الـ"صور" التي يشتمل عليها النص. ينبغي للفضاء المتخيل للنص الأدبي أن يشكل، بالضرورة، نظاما دالا ومتماسكا يستدعي تحليلا مغايرا وخاصا.
ولذلك سنعتمد سلسلة الصور المشخصة داخل المحكي في استجلاء الشكل الذي يتخذه الصوري، أو تجربة تاريخية واقعية معينة. وسنبين فيما بعد، دافعنا إلى اعتبار الفضاء المتخيل المجال الأثير لمثل هذا البحث.
لكن يلزمنا، قبل ذلك، أن نجيب عن هذا السؤال: ألا يمكننا تفسير "الوصف" أو التشخيص الفضائي، الذي يرد ضمن النص بالتوسل برمزية خارجية أثبتت بحوث إناسية وسلالية صحتها؟
إنه سؤال مهم، ويقتضي الجواب عنه تصورا للصورة والنص ولمنهاج في التحليل.
6.1 - ليست الصورة رمزا:
يؤكد ما سلف الطابع البنيوي للصورة داخل النص، فهي، من جهة، لا تدل إلا داخل شبكة أو سلسلة محددة جدا من الأحداث، والصور، الخ، وهي، من جهة أخرى، تختلف طبيعتها بحسب الشكل الخاص للسلسلة الدالة التي يكون فيها ورودها.
ذلك يعني، بالدرجة الأولى، أن مقاربة نص بعينه، من منظورنا، ينبغي أن تكون ملائمة لهذا النص ذاته، ومقصورة عليه.
لكن ما نثبته، أو ما نريد إثباته، ليس وضع الصورة التي ترد في النص وحدها، وإنما وضع جميع الصور الممكنة، متوسلين إلى ذلك بمنهاج جلبير دوران، كما يحدده في مؤلفه الهام بنيات المتخيل الإناسية، هذا الكتاب الذي طرح أسئلة محيرة على النقد الأدبي.
ومع أننا نأخذ بنمذجة دوران للصورة ونقده للنظرية "التشييئية" للمتخيل، فضلا عن معارضته للنظرية -السارترية في أساسها- المعتبرة للصورة بمثابة واقع مستنفذ، فإننا نرفض التضييق الذي يفرضه على الصورة، باعتباره إياها رمزا.
فجيلبير دوران في تناوله للصورة، يجعلها نقيضا للدليل اللغوي؛ آخذا، في ذلك، بالتمييز الهيكلي بين الدليل والرمز: "في الرمز المتكون كصورة، يتجانس الدال والمدلول داخل دينامية منظمة و(…) في ذلك تختلف الصورة اختلافا كليا عن الدليل". أو كما يقول جون فرونسوا ليوطار، ملخصا فكرة هيغل: "في الدليل يكون الدال اعتباطيا في علاقته بالفكرة، وأما في الرمز فتكون الفكرة ملائمة للدال".
بيد أن هذا التأكيد، الصائب في ذاته، يستتبع لبسا في ما يخص منهاج التحليل، و-أساسا- في ما يتعلق بموضوع هذا المنهاج. ذلك أن تعريف الرمز بكونه تلاؤم الفكرة مع الدال لا يزيد عن تحديد موضوع للتحليل: هو الرمز – الذي يلزم، بعدئذ، تمييزه ضمن صور أخرى. والحال أن هذا التعريف، من وجهة نظر جيلبير دوران، ينسحب على كل الصور الممكنة: ينبغي لكل صورة أن تكون رمزا بالضرورة.
وباعتبار ملاءمة المعنى للدال قاعدة كل الصور، فإن المنطق الناظم لاستدلال دوران يؤول إلى تأكيد "الأسبقية الزمنية، وكذلك الأنطولوجية، للدلالة الرمزية على كل دلالة سمعية بصرية". وهي أسبقية تؤدي بنا، لزوما، إلى تصنيف مسبق للصور الماضية والحاضرة والمقبلة: إنها نمذجة جامعة.
إلا أن كل تدقيقات ج.دوران –التي تشرفه وتجعلنا، بالنتيجة، نثمن مؤلفه- لم تمنعه، برأينا، من السقوط في الخطإ عينه الذي يؤاخذ عليه الآخرين: أعني تركيز الصورة في معنى واحد، أو في دلالة خارجية عنها.
ذلك أن الأمر يتعلق بخطإ أصلي في المنهاج. وهو الأساسي برأينا. وإن كانت مؤخذاتنا لا تقف عند المنهاج الذي يعرضه جلبير دوران في المقدمة، بل تتعداه إلى نتائجه التي تشكل جسد هذا المؤلف.
يتمثل هذا الخطأ المنهاجي في اعتبار الصورة بمثابة لحظة معزولة، وخارجة عن كل سياق.
7.1 - لا ترد الصورة إلا داخل سياق دال، ومن خلاله:
ذلك أننا لا نكاد نعرف صورا تظهر في لحظات معزولة ومفصولة، باعتبارها وحدة دالة في ذاتها. فلا وجود للصورة حقا، إلا داخل سياق: أكان أسطورة، أو محكيا، الخ. وهذا السياق يكون دائما، مركبا. ومن المنطقي اعتبار دلالة الصورة التي ترد ضمن هذا السياق متوقفة عليه.
وهكذا يقصي ج.دوران، بوضوح، خطية الدال من مجال المتخيل، معتمدا في هذا الإقصاء تمايز الدليل اللساني الاعتباطي عن الرمز المحفز في أصله. لكن، وعلى خلاف ج.ف.ليوطار، الذي كان يغفل المدلول لاتجاه اهتمامه بالأساس إلى البحث عن العنصر الصوري داخل الدال، يبدو كأنما يغيب عن بال مؤلف بنيات المتخيل الإناسية أن الصورة في ذاتها غير موجودة، وأن الصورة تحتاج، على الدوام، إلى سند، أو دال بصريح العبارة، وأن هذا الدال –سواء أكان نصا، أو حكاية، أو لوحة، أو حلما، الخ- يشكل إطار هذه الصورة الجامع الذي يحدد منطقه عناصرها ودلالتها.
ولذا، فحينما يؤكد جلبير دوران رغبته في استبدال "خطية الدال" بمفهوم "تضافر من الدلالات"، فهو لا يسوي شيئا، ولا يغير من معطيات المشكلة، لأن من الثابت –وهذا أمر تبرهن عليه الأبحاث التطبيقية لـ ج.دوران نفسه، من ضمن أبحاث لكتاب آخرين –أن عددا محدودا من الأساطير، والقصائد واللوحات، الخ، ينشأ عنه كثير من الموضوعات، والحوافز، والصور التي يكون لتواترها تأثير ودلالة يميزان حضارة بعينها، بل ويحتمل أن يكونا مميزين للبشرية جمعاء. بيد أن الظهور المتواتر لهذه الصورة أو تلك لا يكون كافيا لتحديد معناها: بل على العكس؛ فهذا الأخير –والذي ينشأ دائما، عن وظيفة للصورة مماثلة، داخل مجموعات مختلفة- يتملك الصورة، متيحا لها، في إطار حضارة بعينها، أن تغدو رمزا. حينئذ فقط، يكون في الإمكان الحديث عن "تضافر الدلالات".
ونحن، بطبيعة الحال، لا نقصد، بما أسلفنا، إلى إقصاء تاريخ وثقافة وشكل في التفكير تؤثر فينا. فمن البديهي أنالمشكلة كامنة في القراءة؛ فلا وجود لقراءات خالصة. ومن الثابت، على الصعيد التطبيقي، أن كل قراءة، حتى ولو كانت أولية، تنطوي على رمزية موجودة وجودا قبليا. ولأننا لا نرغب في إقصاء ثقافة أخرى –افتراضية- وشكل آخر للتفكير ممكن، فإننا ندعو هذا الفيلسوف إلى أن تكون مقاربته للموضوع مقاربة ظاهراتية بمعنى الكلمة.
ونحن نعني بما قلنا ضرورة أن تطمح القراءة إلى أن تكون خالصة، ما لم يكن بمقدورها أن تكون كذلك: ينبغي أن ينكشف كل منعطف من منعطفات المحكي، وكل صورة من صوره عن جديد؛ بحيث ينبغي لهذه الصورة، حتى عندما تدرج ضمن صنف آخر، أن تأخذ دلالتها ضمن السياق حيث ترد. وبهذا المعنى، يمكننا أن نسلم بما قاله جون ريكاردو عن النص من أنه "يقنن أثناء القراءة، وبفعل الصرامة الدائمة لحرفيته، المواد التخيلية".
واضح إذن، أننا لا نقبل، من وجهة نظر منهجية، حل شفرة نص ما باعتماد شفرة تتسع لحل شفرات كل النصوص، بما فيها هذا النص.
ليست الأسطورة امتدادا للصورة أو الرمز، كما يقول جلبير دوران، وإنما العكس تماما: ليست الصورة سوى عنصر من مجموع. وكما يقول رولان بارث: "تكمن دينامية الصورة في تنظيمها للأجزاء المتغيرة، أو الاستبدالية، التي ينشأ، عن تنظيمها، معنى، أو، بالأعم، شيء جديد".
لن نعني، إذن، برموز، أو أنماط نموذجية نتوصل إلى دلالتها بالبحث خارج النص، بل سيتجه اهتمامنا إلى سلسلة صور، سندعوها "متخيلة"، نطمح إلى إبراز بنياتها الكامنة، منطقها وقوانينها .