لقد تم إلغاء الصمت من حياتنا بشكل كامل. وتمت عملية الإلغاء هذه بشكل تدريجي، بحيث لم يستطع أحد الانتباه إلى خطورة هذه العملية وما أدت إليه من فقدان وخسارة، إلا في وقت متأخر جداً. وكانت إمكانيات التأمل، القدرة على التمييز، الهدوء وإمكانية الإحساس العميق بالجهات، أول ضحايا الضجيج الذي اقتحم وسيطر على مشهد حياتنا المعاصرة. ولكن من أكثر الخسارات فداحة في هذا المشهد غياب الموسيقى من عالمنا. نعم، غابت الموسيقى، رغم ما قد يظهر في هذا الحكم من تناقض مع واقع حياتنا اليومية والثقافية. كيف يمكن لنا القول إن الموسيقى غابت بينما هي موجودة في كل مكان، متوافرة بكل الأنماط والأشكال الممكنة ومتاحة للجميع بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسانية! يكفي اليوم أن تدخل إلى موقع ما على الإنترنت لتحصل على أشكال وأنماط موسيقية متنوعة من كل أنحاء العالم وثقافاته لم يكن بإمكانك أن تحلم بالحصول عليها أو الاستماع لها بهذه السهولة من قبل.
هل هذا التوافر الكثيف والمتواصل للموسيقى في كل زمان ومكان أمر جيد؟ لم يعد هناك فسحة صامتة واحدة في فضاء حياتنا بلا موسيقى! لقد تحول الفضاء الذي نعيش فيه إلى ما يشبه السجن الصوتي حيث تنتهك الأصوات الموسيقية بشكل عشوائي كل نشاطاتنا وفعالياتنا اليومية. علينا أن نستمع لأشكال موسيقية لم نخترها في كل مكان ومناسبة، في كل محل للتسوق، في المصعد، عند استخدام الهاتف، من كل سيارة عابرة، في كل ما نستخدمه من وسائط النقل،
من كل بيت في جوارنا، في أي مطعم أو مقهى، أثناء المشي أو النوم أو العمل وفي كل ما نختار وما لا نختار من لحظات وجودنا الفردي أو الاجتماعي. لقد فقدنا الموسيقى في هذا المناخ لأن وجودها تحول إلى نوع من الانتهاك النفسي والحميمية القسرية المفروضة على الإنسان من قبل المصادر الصوتية المجاورة له بشكل دائم. عندما تكون الموسيقى في كل مكان تصبح غير موجودة في أي مكان، وعندما يصبح كل شيء موسيقى نفقد القدرة على تمييزها وتذوقها. إن الصمت شرط جوهري لتحقق التجربة الموسيقية، ولا يقل أهمية وجوهرية عن أي عنصر من عناصرها الصوتية. إنه ليس مجرد فراغ صوتي حيادي. الصمت في التجربة الموسيقية ليس عدماً صوتياً. إن الصمت يلد ويغذي ويكتسب في النهاية شكل الأصوات الموسيقية، وهو بذلك يرسم تفاصيل هذه الأصوات ومسار وجودها وتطورها في الزمن. ولأن الصمت هنا ليس مطلقاً أو عدمياً، فإن حضوره وتعبيراته تمكننا من تمييز ما هو موسيقي أو غير موسيقي من الأصوات. لهذا فإن فرادة التجربة الموسيقية وروعتها الغامضة تنتقل إلينا صوتياً عبر الصمت الذي يحاول دائماً أن يقول لنا شيئاً ما. إن ما يمكن للصمت أن يقوله لنا في تجربة موسيقية راقية له دلالات عميقة ووظائف تعبيرية يمكن قراءتها وتقصيها، ليس في خصائص وبنية العمل الموسيقي فقط، بل أيضاً في عملية تحقق تجربة التذوق الموسيقي في الزمان والمكان.
ويمكن توضيح ذلك من خلال عدة أمثلة من التراث الموسيقي الكلاسيكي. في أغاني وبرن الأوركسترالية الثلاث التي كتبها عامي 1913-1914، تلعب المساحات الصامتة التي تتخلل العبارات الأخيرة من الأغاني دوراً دلالياً وتعبيرياً لا يقل أهمية عن كل ما تحتويه هذه الأعمال من تعبيرات صوتية تتشكل بواسطة الآلات أو الغناء. وفي تنويعات وبرن، نرى أن مساحات الصمت تفصل وتميز بين الأفعال التي تعبر عنها الأغاني بحيث يتماهى كل مستوى أو نوع من الفعل مع فترة زمنية صامتة تطول أو تقصر بحسب الفعل وسياقه. وهكذا فإن ذاكرتنا تعمل بنشاط أثناء الاستماع على تمييز ومقارنة طول الفترات الصامتة التي تفصل بين فعل وآخر. ومع مرور الزمن في استماعنا إلى موسيقى وبرن هذه، يتشكل لدينا إحساس بالترقب لفترات الصمت هذه، مما يفضي إلى تشكل إيقاع نحس به ونتواصل مع العمل وفقه. هذا الشكل من الإيقاع الذي يتولد من الاحتمالات الممكنة لفترات الصمت، أو ما يمكن تسميته بالذاكرة الفعالة للصمت، يشكل خاصية جوهرية في موسيقى وبرن. و بالطبع لا يمكن حصر هذا التوظيف التعبيري للصمت في موسيقى وبرن فقط. إن دلالات الصمت موجودة لدى الكثير من الموسيقيين الآخرين على اختلاف مدارسهم وثقافاتهم وعصورهم، بل نستطيع القول إن هذا موجود في كل أشكال وأنماط الموسيقى دون استثناء، رغم وجود الفوارق في مستوى وأهمية حضور الصمت بين شكل موسيقي وآخر. وهكذا يمكننا القول إنه بدون صمت يمكن فيه للموسيقى أن تتحقق في الزمن ويمكن فيه للمستمع أن يتخذ موقعاً ما، لا يمكن للموسيقى كتجربة أن توجد. إن هذا يتضح في أقصى حالاته وضوحاً في موسيقى وبرن، لكنه موجود بشكل تعبيري واضح في أعمال موسيقيين آخرين مثل مورتون فلدمان . في أعمال فلدمان الأخيرة نرى نوعاً مختلفاً من الصمت لا يقل ديناميكية عن صمت وبرن. فعلى سبيل المثال، في عمله الموسيقي "من أجل صموئيل بيكيت" هناك كم هائل من التفاصيل والتنويعات الدقيقة التي تتتابع ببطء، بشكل غير متوقع في مقاطع صوتية تتمدد رويداً رويداً. وتتغير العلاقات بين تلك المقاطع من خلال عملية مستمرة من التبادل بين فترات الصمت وطولها بين كل مقطع وآخر. كيف يمكن إذاً النظر إلى واقعنا المعاصر من خلال هذه المقاربة لجماليات الصمت وضرورته؟ كيف يمكننا إستعادة الموسيقى كتجربة جمالية في عصر صاخب إحتل فيه ضجيج التبادل المعلوماتي كل مساحات حياتنا؟ وكيف يمكننا التعامل مع شرط حداثتنا الذي أفضى إلى ثقافة الضجيج التي تجعل من الإصغاء والتأمل والتذوق تجارب صعبة، إن لم نقل متعذرة؟ إننا في واقع ثقافي نجد فيه أنفسنا عاجزين عن معالجة الإحساس بالوحدة إلا في الانغماس في ضجيج الحياة اليومية. في عالم كهذا، يصبح أي فعل مثل شراء كتاب أو أسطوانة موسيقية أو قميص ليس مجرد تلبية حاجة مباشرة، بل هو تعبير عن الحاجة للمشاركة في نمط الحياة المفروض علينا من قبل المنظومات التجارية العملاقة التي تخبرنا عبر وسائل تعبيرها كيف نعيش، كيف نحب، ماذا نأكل، بماذا نحلم وكيف نموت أيضاً. في عالم كهذا، يصبح إحساسنا بالزمن مشوهاً وزائفاً ونحن محكومون بحياة مليئة بالضجيج تفتقر إلى أي أيقاع حقيقي تتخلله مساحات من الصمت. إن فقدان الصمت، وما يمكن له أن يمنحنا إياه من تجارب الإصغاء، يؤدي بنا إلى أن نفقد أنفسنا وإحساسنا الأصلي بالحركة في الحياة والزمن. هذا ما تعلمنا إياه الموسيقى من خلال طبيعة علاقتها مع الزمن التي لا تتحقق ولا يمكن إدراكها إلا بوجود الصمت. وفي هذا الواقع، لا يمكن بالطبع اقتراح حلول سحرية لتحقيق التوازن بين الضجيج وبين ضرورة الصمت في ثقافتنا المعاصرة. إن أي حل لا بد أن يكون نابعاً من الإحساس الحقيقي بالحاجة إلى مساحات كافية من الصمت، التي تمكن من توفير إمكانية التفاعل مع البيئة المعاصرة المحيطة بالإنسان، والتي تتميز بشكل رئيس بكثافة التبادل المعلوماتي صوتياً وبصرياً. لقد حافظت بعض ثقافات العالم على أمكنة صامتة في الفضاء الإجتماعي، أمكنة للتأمل أو للعبادة أو للتفاعل مع الأوساط الطبيعية أو لبعض الأشكال البدائية للعمل الاقتصادي، لكن هذه الأنماط من الأمكنة تضمحل مساحتها بشكل مطرد في عصر العولمة الثقافية، لذلك فهي غير قادرة على تقديم نماذج يمكن ملاءمتها مع الواقع الكوني للحياة الثقافية كأمكنة للصمت. وعلى النقيض من ذلك، نرى أن ثقافة المجتمع الأمريكي على سبيل المثال قد فقدت كل مساحات الصمت، وأصبح التدفق الصوتي الدائم والكثيف سمة جوهرية من الحياة الأمريكية. هذا واقع ينطبق طبعاً على معظم المساحات المأهولة مدنياً من كوكبنا. لذلك أعتقد أن ثقافات العالم مدعوة لتطوير وسائلها الإبداعية الخاصة لتحقيق ذلك التوازن المطلوب بين الضجيج والصمت. و لا بد من القول أخيراً إن التجربة الموسيقية بكل أبعادها الإبداعية والتذوقية-الاجتماعية هي أكثر الظواهر قدرة على منحنا القدرة على وعي أهمية الصمت في علاقتنا بأنفسنا وبالعالم. إن تعذر تحقق التجربة الموسيقية دون صمت هو أول الدلائل على تعذر وجود إحساس حقيقي بالحياة دون صمت. فهل يتمكن الإنسان المعاصر من مواجهة واحد من أكبر التحديات التي تواجهه، وهو كيف يبدع الصمت في ثقافة الضجيج؟