توطئة :
ما الترجمة؟
سؤال تتضاعف أهميته وتتعدد مستويات طرحه عندما ننتقل من ميدان اللغة الأبجدية على اختلاف ألسنها، إلى الترجمة من وإلى اللغتين: الأبجدية العقلانية، لغة غتبرغ Goteberg من جهة، واللغة السمعية البصرية سينمائية كانت أو تلفزيونية، في ارتباطهما باللغتين البصرية مفردة والسمعية منفردة من جهة ثانية. وإذا كان هذا الموضوع من المواضيع العلمية المعاصرة التي استقطبت اهتمامات الباحثين، وخاصة في علم النفس وعلم الاجتماع و اللسانيات والسيميائيات وعلوم التربية إلخ، فإن ذلك راجع بالأساس إلى تعاظم التأثير الذي لهذه اللغة الجديدة على السير العام للأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمعات المعاصرة بصفة عامة، وعلى التواصل بين الأفراد والجماعات والمجتمعات في العالم المعاصر.
الترجمة "تفسير الكلام بلسان آخر" [ "المنجد في اللغة"، دار المشرق، الطبعة الثالثة والثلاثون، بيروت لبنان 1986، ص، 60. ]. و هي كذلك: "نقل الكلام من لسان إلى آخر مع استهداف المعادلة بين المقول الأصلي والمقول المحصل عليه." [Dictionnaire HACHETTE 1994. Edition HACHETTE. Paris. ]. أما القاموس / القرص المضغوط الفرنسي [H.F.H. Hachette multimédia H. livre 1998] فيعرف الترجمة باعتبارها: "التعبير بشكل غير مباشر عن فكرة أو مشاعر بواسطة الفن بصفة خاصة".
وقبل الانتقال لفحص مفهوم التأويل، نتوقف عند دلالة الترجمة في السبرنطيقا CYBERNETIQUE حيث تعني: "نقل ضخامة وفخامة وصفاء إشارة فيزيائية ـ صوتية أو بصرية أو سمعية بصرية ـ إلى مستوى ضخامة وتفخيم وصفاء فيزيائي أهم عند خروجها من جهاز قراءة القرص أو الشريط". هكذا يكون المترجم le traducteur ، هو العنصر المترجم للإشارات المستَقبَلة إلى تفخيم وصفاء ملائم أكثر للجودة المطلوبة عند خروجها من جهاز البث والعرض. [ D.F.H. 1994. P, 1892]
هكذا وبناء على ما سبق نخلص إلى التعريف الإجرائي التالي للترجمة: الترجمة في نظرنا نقل للمعاني من لغة إلى لغة أخرى، ومن ثقافة إلى ثقافة أخرى. يتعلق الأمر "بقراءة" نص مكتوب في سياق ثقافي واجتماعي وتاريخي محدد، قصد "إعادة كتابته" في سياق ثقافي واجتماعي وتاريخي آخر مغاير ومختلف. اللغتان هنا وسياقهما منقولان عبر ذاتين مختلفتين هما: ذات الكاتب الأصلي للنص، وذات المترجم لهذا النص. وتتوقف ملائمة الترجمة هنا على التأهيل اللغوي و المعرفي للمترجم، كما أن هذه الترجمة تتأثر بالمهارة وبالحذق والتخصص المعرفي للمترجم. هكذا تكون هذه الترجمة: إما تشويها للنص الأصلي ولأفكاره ومعانيه إذا نقصت شروط التأهيل السابق ذكرها، أو أنها تكون إبداعا إذا توفر الحد الأدنى من تلك الشروط. و تشكل هذه الشروط في نهاية المطاف حساسية ذاتية وتجربة مستوعبة ومتذوقة للنص المترجَم، وقدرة على قراءته والتعبير عن معانيه بيسر وبتدفق.
تنطبق هذه الحالة في رأينا على الترجمة من وإلى لغات من نفس الصنف. ونحن نقصد في هذا السياق اللغات الأبجدية مهما اختلفت مرجعياتها الثقافية والحضارية وبنياتها التركيبية وجذورها التاريخية. فهل ينطبق نفس الأمر على الترجمة بين لغتين مختلفتي الطبيعة؟
ما التأويل؟ التأويل هو تفسير الغامض "تفسير الأحلام" مثلا. ومن الناحية القانونية هو: "تفسير حكم القاضي غير القابل للاستئناف". وهو أيضا من منظور التحليل النفسي: "تفسير وإضاءة المحلل النفسي للدلالات الكامنة وراء كلمات وسلوكيات الشخصية موضوع التحليل". [ ibid.]. وقد عرفه الجرجاني بأنه في الشرع "صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا للكتاب والسنة مثل قوله تعالى يخرج الحي من الميت، وإن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد به إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا." ( التعريفات ) أما "التأويل عند ليبنتز فمرادف للاستقراء، وهو البحث عن علل الأشياء للارتقاء منها إلى العلة الأولى، وهي الله. و ما يسميه الفيلسوف استقراء يسميه اللاهوتي تأويلا، والغرض من الطريقتين معرفة بواطن الأشياء"[ أورده الدكتور جميل صليبا في "المعجم الفلسفي" بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، بدون تاريخ، ص، 234. ] وقال ابن رشد الفيلسوف الذي مارس التأويل باعتباره فن وعلم لتجاوز إعادة إنتاج آراء ومواقف الفقهاء وعقليتهم المحافظة بأن التأويل هو: "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي." [ أبو الوليد بن رشد "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، القاهرة 1910، ص، 8. ]. أما عن الفرق بين التأويل والتفسير وهو النقطة الأساسية في ما سنركز عليه من ضرورة العلاقة بين التأويل من جهة والترجمة من وإلى السمعي البصري من جهة ثانية، فيقول عنه الدكتور جميل صليبا: "والفرق بين التأويل والتفسير أن أكثر استعمال التفسير في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني للتوفيق بين ظاهر النص وباطنه، أو لصرف النظر عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله..." [ مرجع سبق ذكره، ص، 314 ].
نخلص إذن إلى الآتي: التأويل مرحلة تالية للتفسير الذي ينبغي له أن يظل واقفا عند حدود القواعد الصارمة للمعاني اللغوية اصطلاحا في أقصى الحالات. يتعلق الأمر بسلطة اللغة التي تتجلى في قواعدها وقوانين تنظيم تركيب فونيماتها وعلاماتها ورموزها ودلالاتها كما تتحكم فيها البنية الاجتماعية والتاريخية للمجتمع، بمحرماته وبمكبوتاته ومقدساته في ارتباط أساسي بنظامه الثقافي والسياسي العام. في هذا السياق يكون لازما الوقوف عند الحدود التي تمنع الإخلال بالمعاني اللغوية المباشرة للكلمات، أو معانيها المجازية المسموح بتداولها لعدم تعارضها والخطوط الحمراء الممنوع تجاوزها في كل ثقافة. يكون التأويل والحالة هذه تحررا من قواعد وشروط التفسير والتزاما بها في نفس الوقت ولكن، على أساس أنه يتيح حرية أوسع للذات الفردية. تُمارس هذه الحرية تحت شروط عدم الإخلال بقواعد اللغة في استعمالاتها المجازية والكنائية والاستعارية حسب الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد. فخلافا للتفسير إذن يفْتِرضُ التأويل من مُمارِسِهِ امتلاك ذاتية فكرية وفنية:
الذاتية الفكرية: وتدل على امتلاك الرأي المستقل والمتميز المالك لقوة الإقناع بإسناداته وتبريراته.
الذاتية الفنية: وتمثل القدرة على صياغة هذا الرأي المتميز بانسجام وتناغم يمنحانه التماسك والجمالية في بنيته المعمارية.
لكن عندما نكون أمام لغتين مختلفتين نظاما وتركيبا، أدوات وتقنيات وأساليب تعبير مثل اللغة الأبجدية مقابل اللغة السمعية البصرية، فهل يمكن الحديث عن ترجمة من وإلى بعضهما؟ انطلاقا من التحديدات المعجمية والفلسفية السابقة هل يمكن الحديث عن تفسير وتأويل للدلالات قصد ترجمتها وما حدود الملائمة في حالة الإمكان؟
بين ترجمة الصورة وتأويلها:
إن الانتقال من الكتابة الأبجدية إلى الكتابة السمعية البصرية انتقال من مجال العقل وعملياته العليا كالفهم والتجريد والتحليل والتعميم... إلى مجال الجسد والذوق والانفعال والإحساس والتقدير. يقابل هذا الأمر عند الفلاسفة الانتقال من مجال الأحكام التقريرية الموضوعية، إلى مجال الأحكام التقديرية المعيارية الذاتية. إن هذا الانتقال الذي يتطلب ضبطا لأدوات الحكم و التَّعْيِير هو، من جهة أخرى، انتقال من مستوى الحكم المبنى على ماهو كائن في الواقع وقائم فيه، "الأشياء كما هي" حيث يتم تقرير ما يُرى وما يُسمع وما يختبر وما يقاس ويدرك عقليا ومنطقيا، للتمكن من نقله إلى بنيات ذهنية تجريدية مكممة ومحكومة بمعايير القابلية للانطباق على الواقع، أو بمعايير الانسجام والتلاحم الجمالي في البناء النظري، إلى مستوى المعياريات Les Normativités حيث الحكم مبني على وقع العمل على الذات ومدى تواصله معها وغوايته لأحاسيسها ولتربيتها الجمالية والأخلاقية والفكرية مجتمعة. لكن لا بد من التمييز في هذا المجال بين نمطين من الاهتزاز للأعمال الفنية والتجاوب معها:
الاهتزاز الانفعالي الاسقاطي الساذج:
وهو ذلك النوع من التجاوب مع الأعمال الفنية انطلاقا من خزان اللاشعور وطاقاته المكبوتة والكابتة على قاعدة الإسقاط غير الواعي [ "la projection" كما حدده مؤسس التحليل النفسي "سيجموند فرويد" أساسا، باعتباره آلية دفاعية تروم البحث عن نماذج ذرائعية في الواقع المادي أو التخييلي كما تقدمه الفنون عموما على اختلاف أنواعها، للتنفيس عن مكبوتات أو احْتقانات احباطيّة مُعاشة اشتدت وطئتها ]. في هذا النوع من الاهتزاز العامّي إذن ـ والعاميّة هنا لا تتوقف على معايير الثروة أو الشهادات أو النسب...بقدر ما تتوقف على درجة الوعي والتجربة الجمالية للذات ـ يحتل الإسقاط موقعا قويا لأن العمل المعروض يكون ذا بنية نموذجية مبسّطة ومختزلة دراميا. كما أن هذا العمل يكون مُتمحورا على نماذج أصلية اعتيادية ARCHETYPES [ النماذج الأصلية هي "المثل السامية والمطلقة للأشياء" كما تحدث عنها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في نظرية المثل. وهي "أفكار كل الأشياء كما كانت عليه في العقل الإلهي قبل الخلق حسب الفيلسوف المسيحي بيركلي. أما في علم النفس فالنموذج الأصلي "Arketip" حسب عالم النفس الألماني "كارل غوستاف يونغ"، وهو من يهمنا هنا أكثر، فهو شحنة انفعالية و نفسية عميقة، تتعلق بتجارب إنسانية موغلة في القدم ومشتركة في الغالب بين كل الأفراد وبين الثقافات. [ أنظر تحديدنا السابق له ولدوره في الأعمال السمعية البصرية وشعبيتها، مرجع سابق الذكر، ص، 102 ] في محاكاة شديدة لليومي المشترك والعام. يتم تقديم هذا اليومي العام والمشترك مختزلا في ثنائيات مستهلكة وكونية مثل الطيب ضد الخبيث، والخيّر ضد الشرير، والقوي ضد الضعيف، والغني ضد الفقير...الخ. وتعوق هذه الثنائيات أي مجهود فكري ما دامت تخاطب مباشرة النماذج الأصلية المختزنة لدى كل الناس وفي كل المجتمعات والثقافات. هكذا تشكل هذه الثنائيات عائقا دون حصول الوعي لأنها تحول دون توظيف ـ عند التماهي بين المتفرج وشخصية أو وقائع من العمل الفني ـ الخبرات العقلية أو الذوقية الأولية لبناء "وعي نقدي" قابل للتطور لدى المشاهد المنفعل. مثال هذا النوع من الأعمال هو ما ترجمناه سابقا في كتاباتنا بالمسلسلات والأفلام الفقاعية "Soap-opéras" وهي درامات عاميّة وعالمية في نفس الوقت، تتربع على عرش إنتاجها عالميا هوليوود بدون منازع، حيث بلغت نسبة إنتاجها من الإنتاج العالمي سنة 1944 60%، بينما قفزت هذه النسبة في سنة 2000، بفعل عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة بسائر أنواع تعبيرها إلى 80% من الإنتاج العالمي، [ أورده الأستاذ عبد الهادي بوطالب في درسه الافتتاحي بجامعة مدينة سطات المنشور بجريدة "الاتحاد الاشتراكي الأسبوعي" العدد 30، نونبر 2002، ص، 7 ].
الاهتزاز التذوقي العارف:
وهو تجاوب واع مع الإبداع الفني غالبا ما يكون مسبوقا أولا بقصدية. تتمثل هذه القصدية في اختيار المنتوج المشاهد لقيمته الفنية التي سبق اختبارها بمرجعية فكرية وجمالية ما. قد تتجسد هذه المرجعية في أداء أستاذي لممثل كبير، كما قد تتجسد في القوة والشجاعة الفلسفية والتمكن الفني لمخرج "مفكر"... بحيث تكون للعمل في هذه الحالة القدرة على تحريك خبرات وذاكرة ومعرفة وتجارب إبداعية متقاطعة، اكتسبت كرصيد عبر تربية الإحساس والذوق والذهن. وتستطيع الذات التي تهتز بهذا الشكل تجنب ما يحدث حتما للذات المرتبطة بصمام أمان الإسقاط، أقصد يقظة الواقع المريرة التي ينتهي بها الاهتزاز الاسقاطي الساذج.
من جهة أخرى يمكننا القول بأن هذا الاهتزاز يترافق فيه نوع من التزاوج بين التلذذ والمتعة التي غالبا ما تنتهي بالفهم والإدراك المتعدد المستويات "لرسالة" العمل الفني. يمكن هذا الفهم من القدرة على ترجمة العمل الفني، مرة ثانية بعد أن "ترجمه" صاحبه، من اللغة السمعية البصرية السينمائية أو التلفزيونية، إلى اللغة الأبجدية ترجمة مبدعة. تستطيع هذه الترجمة إن كانت مبدعة بالفعل، أن تنقل تلك المتعة وذلك الفهم النقدي المُقدر لقيمة العمل الفني.
يتبين لنا إذن بأن الفرق الأساسي بين اللغة الأبجدية واللغة السمعية البصرية يكمن في أسبقية تحريك العقل وعملياته العليا ومهاراته التجريدية بالنسبة للأبجدي من جهة، و بأسبقية الجسد والانفعال والإحساس والوجدان بالنسبة للسمعي البصري، فكيف يمكن الحديث عن ترجمة بينهما علما بأن الأدوات والوسائل وآليات بناء التعبير والتصورات والدلالات تختلف جذريا بينهما؟ ثم ماذا لو كان العمل المراد ترجمته من السمعي البصري إلى الأبجدي منتوجا فنيا عالي القيمة أي، ذا تعبير خاص ومستحدثُ "العلامات" و "الرموز" حسب اللسانيين؟
يبدو لنا أن تعريف الفن في هذه الحالة سيجنبنا بعضا من الغموض والخلط السائدان في هذا الميدان فما الفن وما أهم تعريفاته؟
باختصار نقول بأن الفن بعد التزيين والتجميل للمعروض بمهارة هو:
أ/ "مجموعة من القواعد المستخدمة لبلوغ غاية معينة جمالا أو خيرا أو منفعة كانت. وهو بذلك متعارض: 1/ مع العلم كمعرفة خالصة مستقلة عن التطبيقات. 2/ ومع الطبيعة كقوة منتجة بالفطرة. بهذا المعنى ترتبط تعابير مثل الفنون الميكانيكية بمهن مثل فن النجارة وفن الهندسة... والفن هو أيضا: الفنون الجميلة التي يكون الهدف الرئيسي فيها هو إنتاج الجميل، والجميل تشكيليا على وجه الخصوص مثل الرسم والنحت والنقش والمعمار وفن الديكور...إلخ.
ب/ الفن هو الإستطيقا...حيث يدل على كل إنتاج للجميل من خلال أعمال إنسان واع. وينطبق هذا التعبير بصيغة الجمع خاصة على وسائل التنفيذ. أما بصيغة المفرد فينطبق على الخصائص المشتركة للأعمال الفنية. بهذا المعنى يتعارض الفن مرة أخرى مع العلم كما تتعارض الفنون مع العلوم، ولكن من منظور آخر: الفنون تنتمي للغاية الإستيطيقية، بينما العلوم تنتسب للغاية المنطقية." [ André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie volume 1. 3iéme éd PUF 1993 p 79/80 ].
والفرق في الفنون الجميلة بين الفنون التشكيلية والفنون الإيقاعية هو "أن جوهر الأولى هو المكان والسكون، على حين أن جوهر الثانية هو الزمان والحركة"، [ المعجم الفلسفي، سبق ذكره، ص، 165. ].
وعلى العموم واعتمادا بالأساس على ما سقناه من تحديدات سابقة على هذا الجزء من الكتاب، نخلص إلى التعريف التركيبي والإجرائي التالي للفن:
هو معرفة وإتقان حِرفيّ أولا، ثم قدرة فائقة على التخييل ثانيا، ثم تمكُّنُ ُ من التعبير عن ما يدور في العقل والسريرة ثالثا، وتنتج هذه القدرات الثلاثة صيغا وأشكالا غير مألوفة مهما كان نوع وحجم الموضوع المعالج، اعتياديا أو سبق طرقه مرارا.
ينتج عن ما سبق أن الفن ليس لا نقلا حرفيا للواقع، ولا تشويها له. بل هو كما يقول الفيلسوف الألماني "ف. ج. هيغل" تجاوز للطبيعة ووعي بعدم إمكانية محاكاتها.
إن الفن الرفيع والحالة هذه، يحتاج بالضرورة ذاتا مؤهلة لاكتشافه كما يؤكد على ذلك العديد من المفكرين. في هذا السياق يقول المفكر المغربي عبد الله العروي على لسان ادريس الشخصية الرئيسية في الكتاب/السيرة الذهنية "أوراق": "...ارتقى إدريس من مستوى الاستهلاك إلى مستوى التذوق، أدرك أن أصالة الفن السينمائي تكمن في كونه ملتقى الفنون الأخرى من أدب وموسيقى ورسم وطراز معماري وغناء ومسرح. كل فن لا يعرف إلا بالممارسة..." [ عبد الله العروي، "أوراق"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، طبعة 1989، ص، 181 ].
إن التمتع بالفن الرفيع كما إنتاجه، قدرة على الانخراط والمشاركة في معمعة ثنائية تخلقها ذاتان: ذات مبدعة وذات متذوقة، كلاهما بلغت درجة عالية من التواصلية LA COMMUNICABILITE.
هكذا إذن أعتقد أن ترجمة الأعمال السمعية البصرية تستدعي بالضرورة تجاوز التفسير إلى التأويل، وذلك بالنظر إلى كل ما أفضنا فيه القول حول الاختلاف الكبير بين خصوصيات التعبيرين وما سنعمقه أكثر في ذلك لاحقا.
إن الكتابة السمعية البصرية كتابة متعددة المستويات الدلالية. لذلك فنظرية الباطن والظاهر الموجودة عمليا في كل شيء، وموجودة بالضرورة وفوق العبث عن المعقولية في كل ما هو إنساني فني عميق التواصل مع العالم وإشكالياته الكبرى، تنطبق على الإنتاج الفني الراقي منه على وجه الخصوص أكثر مما تنطبق على غيره. ومن هنا نسوغ لنفسنا الإدعاء بأن التأويل هو الأداة العقلية الأكثر نجاعة ومردودية وملائمة في عملية "ترجمة" السمعي البصري إلى الأبجدي والعكس صحيح.
إن التأويل في نظرنا هو المفهوم الأسلم كأداة للمرور من الأبجدي إلى السمعي البصري، عوض الحديث عن الترجمة بمعناها التفسيري. نقول هذا ونحن نعلم أن الترجمة نفسها قد تستدعي أحيانا الإستعانة بالتأويل. كما يمكن القول ردا على كون السيناريو كتابة أبجدية، باعتباره أساس الفيلم السينمائي والتلفزيوني، بأن السيناريو بمعناه المحترف ليس إلا مشروع صور ومناخات، مخطوطة على الورق بلغة أبجدية صحيح، ولكنها لغة إيحائية بشكل قوي على التخيل والتخييل، تركز على الوقائع والمواقف الدرامية، وتصف أوضاعا وأحداثا وانفعالات تقع في صميم التجربة الإنسانية. يرسم هذا المخطوط –السيناريو - تقاسيم الشخصيات الأساسية والفاعلة في الحكاية ويضع لها سمات مميزة. ويكتب كل هذا في سيناريو الفيلم بأسلوب غير أدبي إن صح التعبير، أي أنه يكتب بأسلوب مُسَنًّنٍ ذا قدرة تبليغية عالية على مستوى التخييل والتصور الذهني المُشخص، وذلك بالنسبة لأصحاب تقنية "تخصيب الأفكار".
نحن إذن في هذه الحالة أمام انتقال من تقليد تعبيري إلى آخر، من عصر اليدوي العقلي إلى عصر الآلي الإلكتروني، والتعارض هنا قائم بين أسلوب تعبير إنساني فردي ويدوي من جهة، وأسلوب تعبير إنساني جسدي انفعالي مزروع فيه الإلكتروني كوسيط بمنطقه الخاص وبتقاليده الجماعية في الإنجاز. يقول "ميشال أورلانديني" وهو مدير الإبداع بوكالة إشهارية: "...على المبدعين أن يفكروا بمشاعرهم أكثر من ذكاءهم، فينبغي للإبداع السمعي البصري أن يوظف الشحنات الانفعالية فكاهية كانت أو درامية أو تعاطفية. فمن الأساسي تخزين الانفعالات اليومية واسترجاعها كاملة في اللحظة المرغوبة، فمعرفة تبليغ الاهتزازات وكيفية المشاهدة والملاحظة مهنة، بل عقيدة حتى". [ بيير بابان "لغة وثقافة وسائل الاتصال"، ترجمة ادريس القري، منشورات الفارابي، 1995، ص، 9 ].
في خصوصية التعبير السمعي البصري:
إن الاختلاف بين اللغتين الأبجدية من جهة، والسمعية البصرية من جهة ثانية أمر سيقت فيه شواهد علمية وأدبية متعددة. فقد أكدت اختبارات نفسية وفيزيولوجية أجريت على مشاهدين للتلفزة وللسينما من جهة، كما أجريت لقراء الأبجدي المكتوب من جهة ثانية، وذلك بواسطة ربطهم بجهاز قياس الإشارات الدالة على نشاط الدماغ عند تلقي اللغتين الأبجدية والسمعية البصرية، دلت على اختلاف درجة تشغيل فصي الدماغ عند استعمال أو تلقي اللغتين. فقد تبين أن الفص الأيمن المسؤول عن الانفعال والعواطف والفهم الكلي للأشياء، يشتغل أكثر مع السمعي البصري من تلفزة وسينما ... في حين أن الفص الأيسر المشرف على وظائف التحليل والتجريد وإدراك التفاصيل والربط المنطقي الاستدلالي يشتغل أكثر كما يحدث منذ قرون، مع اللغة الأبجدية. [ بيير بابان، مذكور سابقا، ص، 25... ] ولا يجب أن يُفهم من هذا الفصل بين اللغتين المقارنتين هنا، وجود انفصال بينهما على غرار الفصل بين المتحضر والمتوحش لدى الأنثروبولوجيين الكولونياليي النزعة، بل ينبغي القول بأن الأمر يتعلق بطريقتين في الفهم، تختلف أولوياتهما الترتيبية مع حدة تميز أكبر كلما تعلق الأمر بفن مسبوك بإبداعية عالية. ومن المؤكد أن هذا الاختلاف في ترتيب الأولويات بين اللغتين له انعكاسات على ما يثيره ويطوره كل منهما أكثر لدى المتلقي من قدرات ذهنية أو أنماط سلوكية من خلال التجارب الانفعالية.
يستلزم إنتاج واستهلاك السمعي البصري من جهة أخرى، امتلاك القدرة على الانغماس في مناخ "سحري" ينبغي على صانعي هذا المنتوج حيازة الحساسية الكافية لإنتاجه. ويتم إنتاج هذا "السحر" الأخًّاذ في السمعي البصري عند النجاح في خلق "خيمياء" تنسجم فيها كل مكونات الصورة والصوت، مسبوكة في مناخ يكاد يجعلك تلمس الأجساد وتشم الروائح وأنت ترى الصور على الشاشة، عندها تشكل الخطوط والألوان، والظلال والملامح، والحركات المرئية والإيقاعات الصوتية، والحوارات الدالة والأضواء المعبرة أو المانحة للخصوصية التواصلية للأشكال...ويشكل كل ذلك لمقدمة الصورة أو موضوعها هالة روحية هي عبارة عن إطار مُرصَّص، قادر على تحريك الدواخل وجعل المتفرج، حتى اليقظ منه، يسترجع الانفعالات الإنسانية العميقة والكونية في صورها الأكثر استنفارا لكيان الإنسان المعاصر. في هذا السياق أيضا تصبح الجمالية الدالة جمالية المسموع والمرئي في نفس الآن. وخلافا لما يمكن أن يفهم اختزاليا، فإن هذه الجمالية هي نتيجة لانصهار كلا العنصرين أي، الصوت والصورة في بنية لا تمايز بينهما وليست مجرد حصيلة لتجميعهما تعسفا. أفكر في الهالة الروحية التي تغزو المتفرج وهو أمام الحصيلة التأثيرية الساحرة بعمقها الفكري والوجداني لفيلم: "Eyes wide shut" لستانلي كوبريك، على سبيل المثال لا الحصر. والمثال من السينما الأمريكية لأننا نعتقد بأن اكتساحها لشاشات العالم ليس نتيجة فقط لقوة الدولارات التي تدعمها وتصنعها، بل هو نتيجة أيضا لذكائها ولإبداعية عباقرتها الكبار، خاصة عندما يصبحون رموزا لهوليوود نفسها، تتعيش على أسطورتهم بعدما ساهمت في خلقها.
إن المنتوج السمعي البصري السينمائي خاصة والتلفزيوني بدرجة ثانية ومغايرة كما سنبين ذلك في مكان آخر من هذا البحث، يفرض من خلال الانغماس فيه أولا تلقيه جسديا وحواسيا والعيش فيه وضمنه وتحت تأثيره. لذلك يقال عن عمل فكري ما ملائم بأنه مقنع بدقته ووضوحه وتماسك استدلالاته وانسجام عناصرها، بينما يقال عن عمل سمعي بصري سينمائيا كان أو تلفزيونيا، بل حتى مسرحيا ولم لا، بأنه مؤثر يمسك بتلابيب الوجدان ويسافر بالمتفرج بعيدا في عالم خاص بمناخاته وشخصياته الواقعية والذاتية في نفس الوقت. إنه منطق الجذب والانجذاب في الأدرمة la ‘dramatisation’، منطق المفاجئة والإثارة، مقابل الإقناع العقلي والإفحام المنطقي المرتب تجريدا وبرهنة.
التضخيم والتفخيم:
تبدو الترجمة من الكتابة الأبجدية إلى الصورة السمعية البصرية إذن ممكنة. وهي كذلك بمعنى أن كل مشتغل بالسمعي البصري يجد نفسه مضطرا إلى "ترجمة" ـ التعبير عن ـ تصوره لموضوع ما في كليته، فكريا ووجدانيا، بتقنيات خاصة. تستلزم الترجمة في هذه الحالة استخدام أدوات غير الكتابة. إنها الأدوات الإلكترونية للتصوير والتقاط الصوت.
ويستلزم استعمال هذه التقنية الكتابية بالضوء والصوت – من جهة أخرى - تجاوزا لإتقان تشغيل الأجهزة، إلى القدرة على جعلها تمنح أقصى إمكاناتها في الوقت الملائم. ويعني الوقت الملائم استغلال الإمكانات اللامحدودة للإلكتروني ـ بما فيها ما قد يعتبره البعض استعمالا سيئا له ـ لبلورة تصور محدد وعميق فنيا، ربما كان غير مألوف إلى حد بعيد. في هذا الإطار لابد من الحديث عن تقنيتين ومصطلحين أساسيين نعتبر استيعابهما والعمل بهما أكثر من مهم بالنسبة لكل مشتغل بالسمعي البصري على وجه العموم، سواء في التلفزة أو في السينما بل حتى في الفوتوغرافيا والفيديو. هذان المصطلحان والتقنيتان هما التضخيم والتفخيم، Amplification – Modulation.
يعني المصطلحان في معنى أول: تنقية وتطهير الصوت والصورة من كل الشوائب غير المرغوب فيها، قصد تحقيق درجة عالية من الجودة فيهما. أما في معنى ثان وهو الملتصق بالإبداع وإنتاج الجمال بالتالي، فترتبط التقنيتان بالتحكم في مكونات الصورة والصوت عبر التضخيم والتفخيم، حجما وكثافة وتلوينات وطوابع قصد المرور إلى إنتاج ما أسميناه أعلاه بالهالة الروحية. يتوقف التمكُُن مما ذكرناه على مدى قدرة التقني، ومن وراءه في الواقع المخرج أيضا، على "زرع" الآلة في جسده والإحساس بها جزء منه ومن حساسياته المرهفة. كما يتوقف على درجة انسجام تصوره الفني والفكري للعمل الذي هو بصدده. فالتقنية لا يمكنها، مهما كانت درجة التمكن الاحترافي منها، فعل أي شيء إبداعا مع رأس فارغة وقدرة تخييلية ميكانيكية إن لم تكن عقيمة.
يراد بالتضخيم والتفخيم بعد الحذق والمهارة العالية، باستعمال المؤثرات الخاصة الصوتية والبصرية العالية الدقة، ولتحقيق التبريز والتكبير والتمويه وإعادة البناء الأقرب إلى الواقع، يراد بهما تمرير الخفي الكامن وراء الظاهر من دلالات ومواقف وآراء، وهو ما ويرسم بالنور في الصورة وبالطوابع والنظرات في اختلاجات الصوت. ذلك ما يمنح في النهاية للأمكنة والأزمنة والوقائع كما للشخصيات وأشيائها الصغيرة هالة روحية تحييها في جسد المتفرج وانفعالاته.
تخصيب الأفكار:
لن نلجأ إلى استلهام Jean METRY. في استبعاد التقابلات غير المقنعة لأغلب علماء اللسانيات بين الكتابة الأبجدية والكتابة السمعية البصرية. عوض ذلك، سنفحص تقنية أخرى للعمل على السمعي البصري أفرزتها خصوصيته. ونشير في هذا السياق إلى أن هذه التقنية التي سنتحدث عنها استلهمت من تقاليد قديمة للعمل في ميدان الصحافة أساسا.
يتعلق الأمر بتقنية "تخصيب الأفكار" Brainstorming [للتفصيل أنظر بيير بابان، سبق ذكره.]. تقوم هذه التقنية على "عَصْرٍ" للدماغ يطبعه التداعي الحر الجماعي، يكون مطلوب فيه من الجميع التعبير "بتلقائية" ووضوح وبساطة عن كل ما يخطر بالبال فيما يخص الموضوع المطروح للتخصيب والترصيص. على أن تتلو هذا العمل تصفية وتنقية وتنسيق ما استقر عليه الرأي من الحصيلة وفقا لما يتصور للعمل من شكل. ويعتبر شرطا التلقائية والبساطة أساسيين لإتيان هذا النوع من التقنية أكلها. فبالتلقائية والبساطة يُضمن رفع الرقابة المنمطة للوعي وللذوق في حد أدنى، يمنح الحرية لتصور الجديد والجريء من الأفكار والتصورات، وذلك ما يجعل الانتقال من الأبجدي إلى السمعي البصري صعبا وذا خصوصية تعبيرية ما فتئنا نوضحها ونسطر عليها. فالتلقائية تتيح مرور العاطفي والإنفعالي مع المنطقي والعقلاني وإلى جانبه، بينما البساطة تمكن من وضع أسس الصياغة السمعية البصرية من أدرمة وحكي لا تقوم إلا على البساطة والوضوح في الرؤية والمسار.
خلاصة القول أن هذه التقنية تمنح مستعملها إمكانية التعبير الشامل إن استطاع ذلك. وبكلمة أخرى فهذه التقنية تمنح الجسد والحواس فرصة المشاركة في التفكير والتعبير، مما يجعل هذا الجسد حاضرا بقوة في المنتوج النهائي وقبله في الكتابة التخطيطية الأولى ( السيناريو).
وعلى العموم فإن تقنية تخصيب الأفكار تستعمل أساسا حتى يكون للفن معنى وحجة ليسمى كذلك، وهو ما يتمثل أيضا في تحدى الفهم لدى المتفرج، ذلك أن "فهم عمل فني يعني الوعي بأنه إبداع حقيقي، وبأنه يتضمن اعتراضا ورفضا للمعايير السائدة، كما يحمل طموحا لأشياء مختلفة" كما قال Jean Casseau.
إن الحديث عن البساطة والتلقائية حديث عن الجمالية والصدق والمتعة والتذوق بالتالي. فليس الجميل والصادق والحقيقي هو الصعب على الفهم إلا بقدر اغتراب الذات عن جسدها في ميدان الفنون. كما أن خلط الواقعية بالاستنساخ المشوه للواقع والمختزل والمسطح لغناه وتعدده ليس فنا إلا بمقدار اغتراب العقل عن الفكر، واغتراب الإحساس عن خصوبة الحياة في الجسد الواحد. فالمستعصي على الفهم يعبر عن خلل في البناء وعن عدم اتساق فيه. وقد قال عالم الفيزياء والموسيقار الشهير "Richard Feynman": "يمكن للمرء أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها" [العلم في منظوره الجديد، ترجمة د. كمال خلايكي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 134، 1989، الكويت ]، كما أعلن "هيزنبرغ" عالم الرياضيات وصاحب نظرية المجموعات Théorie des ensembles، بأن " الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء أهم مصدر للاستنارة والوضوح". ومع ذلك فإن الجمال حصيلة، وهذه هي المفارقة التي تدخل في صلب تكوين الفن ووجوده، للجهد والتعب والبحث والتنقيب والنقد واليقظة الفكرية دون التنميط وأحادية اتجاه الوعي والذوق. يقول الموسيقار العبقري "موزارت" في هذا السياق: "مخطئ من يظن أني نلت فني بمثل هذه السهولة، فما من أحد كرس من وقته وتفكيره مثل ما كرسته للتأليف. فليس ثمة أستاذ كبير لم أعكف على دراسة موسيقاه مرارا وتكرارا." [p, 46 ibid.]
واضح إذن أن اللغة السمعية البصرية لغة خاصة من حيث علاماتها ووحداتها ورموزها ومقاطعها إن نحن تبعنا المكونات اللسانية للغة الأبجدية. من هذا المنطلق إذن نقول ونعيد بأن لا إبداع في السينما والتلفزيون من دون فهم عميق ل"منطق" لغة وثقافة السمعي البصري في تميزه، كما نؤكد على أن الكتابة للسمعي البصري تحتاج ترجمة وتأويل الأفكار المجردة والتصورات والمقولات والمواقف المتفلسفة، إلى صورة وصوت جسديين ملموسين وحسيين، تمكن الإقامة فيهما والانغماس في هالتهما الروحية وبالتالي الاهتزاز لهما ومعهما.
التراص والترصيص:
يتميز السمعي البصري من جهة أخرى عن آلية انبناء الأبجدي، الذي يرتبط تقليديا بالاستدلالي العمودي والتجريدي من افتراض واستنباط، بكونه أفقي أكثر منه عمودي. فنقطة انطلاقه بؤرة متكاملة وممغنطة ينتظم حولها كل المعمار السمعي البصري الفني للحكاية سينمائية كانت أو تلفزيونية. تشكل هذه البؤرة الغاوية للعناصر التي ستكمل بناءها قطب الرحى الذي يخلق "سُرًّة" تجميع وتراص بقية العناصر حولها، وذلك حسب شكل هذه العناصر وصلاحيتها في اقتصاد السرد وجرعة الانفعالات المراد إثارتها لدى المشاهد. تحكم منطق هذا التراص تلقائية الوقع على الجسد وإن كان التصور مبيتا أي، مفكرا فيه ومصمما عقليا كاختيار وكرؤية.
إن التراص والترصيص كتقنية للحفاظ للكتابة السمعية البصرية على هالتها وإدهاشها وجسديتها، إنما يتم بهندسة النقطة بجانب نقطة ولون بجانب لون وتصميم بجانب تصميم، ولقطة بجانب لقطة ومشهد بجانب مشهد، لتنبثق عن ذلك في النهاية الحكاية، والصورة النهائية للعمل الفني. ومعلوم أن عملا بهذه الكيفية ينبغي له منذ البداية أي منذ اللقطة والحركة والكلمة الأولى، أن يوضع على سكة المناخ الماسك بالتلابيب الانفعالية والتخييلية للمشاهد. وإذا حدست حساسية الفنان ذلك وأصابت، وجد ذلك المناخ الذي قال عنه الكاتب والروائي التشيكي الشهير "ميلان كونديرا" بأنه يجعل الوقائع والشخصيات تتتالى وفق منطقها الخاص الذي يجعل الكاتب في النهاية مجرد تابع يدون ما تمليه عليه.
إذا تمت عملية الكتابة بالتراص والترصيص، سهلت إلى حد كبير اللحظة الأخيرة في انجاز العمل السمعي البصري وهي العملية التي تتم وفقا لمخطط وحساسية التراص والترصيص: إنها عمليتا التركيب والمزج. ذلك أن الإيقاع والتدفق الدرامي يكونا متوفرين في المادة السابقة الفائضة روحا وديناميكية، لأن بؤرة التراص تكون قد فرضت خط الاستمرار وطابعه العام.
ومهما يكن من أمر، فينبغي أن لا ننسى بأن حديثا متقنا بلغة الكلام عن السمعي البصري ليس في نهاية المطاف إلا ترجمة لحديث كان من المفروض أن يكون باللغة السمعية البصرية. ومع ذلك فقد برهن كبار النقاد السينمائيين وكبار الكتاب للسينما كما المخرجون المبدعون، أنه بالإمكان إبداع نص أبجدي يضاهي متعة عملا فيلميا جميلا. إلا أن إبداع نص نقدي مكتوب عن فيلم أو إلى جانبه على طريقة تقنية التراص والترصيص، ستتطلب بالضرورة أن يكون الفيلم نفسه إبداعا حقيقيا، إذ لا يخرج الحي من الميت إلا العلي القدير، أما الإنسان الذي يعتدي على السمعي البصري كما يحدث في الغالب الأعم ليس بالمغرب فحسب، بل وفي أغلب البلاد العربية حيث لا فرق لدى "الكلاميين" بين السينما والتلفزيون من جهة، وبينهما الاثنان واليومي الاعتيادي بل الرديء في الغالب الأعم، فلن يحدث له إلا ما حدث "لبروس جيمس" عندما عرض على تركي رسما لسمكة فقال له التركي: "لو انتصبت هذه السمكة يوم القيامة في وجهك لتتهمك بأنك صنعتها دون أن تمنحها روحا فكيف ستدافع عن نفسك؟".
تنطبق هذه الحالة في رأينا على الترجمة من وإلى لغات من نفس الصنف. ونحن نقصد في هذا السياق اللغات الأبجدية مهما اختلفت مرجعياتها الثقافية والحضارية وبنياتها التركيبية وجذورها التاريخية. فهل ينطبق نفس الأمر على الترجمة بين لغتين مختلفتي الطبيعة؟
ما التأويل؟ التأويل هو تفسير الغامض "تفسير الأحلام" مثلا. ومن الناحية القانونية هو: "تفسير حكم القاضي غير القابل للاستئناف". وهو أيضا من منظور التحليل النفسي: "تفسير وإضاءة المحلل النفسي للدلالات الكامنة وراء كلمات وسلوكيات الشخصية موضوع التحليل". [ ibid.]. وقد عرفه الجرجاني بأنه في الشرع "صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا للكتاب والسنة مثل قوله تعالى يخرج الحي من الميت، وإن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد به إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا." ( التعريفات ) أما "التأويل عند ليبنتز فمرادف للاستقراء، وهو البحث عن علل الأشياء للارتقاء منها إلى العلة الأولى، وهي الله. و ما يسميه الفيلسوف استقراء يسميه اللاهوتي تأويلا، والغرض من الطريقتين معرفة بواطن الأشياء"[ أورده الدكتور جميل صليبا في "المعجم الفلسفي" بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، بدون تاريخ، ص، 234. ] وقال ابن رشد الفيلسوف الذي مارس التأويل باعتباره فن وعلم لتجاوز إعادة إنتاج آراء ومواقف الفقهاء وعقليتهم المحافظة بأن التأويل هو: "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي." [ أبو الوليد بن رشد "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، القاهرة 1910، ص، 8. ]. أما عن الفرق بين التأويل والتفسير وهو النقطة الأساسية في ما سنركز عليه من ضرورة العلاقة بين التأويل من جهة والترجمة من وإلى السمعي البصري من جهة ثانية، فيقول عنه الدكتور جميل صليبا: "والفرق بين التأويل والتفسير أن أكثر استعمال التفسير في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني للتوفيق بين ظاهر النص وباطنه، أو لصرف النظر عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله..." [ مرجع سبق ذكره، ص، 314 ].
نخلص إذن إلى الآتي: التأويل مرحلة تالية للتفسير الذي ينبغي له أن يظل واقفا عند حدود القواعد الصارمة للمعاني اللغوية اصطلاحا في أقصى الحالات. يتعلق الأمر بسلطة اللغة التي تتجلى في قواعدها وقوانين تنظيم تركيب فونيماتها وعلاماتها ورموزها ودلالاتها كما تتحكم فيها البنية الاجتماعية والتاريخية للمجتمع، بمحرماته وبمكبوتاته ومقدساته في ارتباط أساسي بنظامه الثقافي والسياسي العام. في هذا السياق يكون لازما الوقوف عند الحدود التي تمنع الإخلال بالمعاني اللغوية المباشرة للكلمات، أو معانيها المجازية المسموح بتداولها لعدم تعارضها والخطوط الحمراء الممنوع تجاوزها في كل ثقافة. يكون التأويل والحالة هذه تحررا من قواعد وشروط التفسير والتزاما بها في نفس الوقت ولكن، على أساس أنه يتيح حرية أوسع للذات الفردية. تُمارس هذه الحرية تحت شروط عدم الإخلال بقواعد اللغة في استعمالاتها المجازية والكنائية والاستعارية حسب الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد. فخلافا للتفسير إذن يفْتِرضُ التأويل من مُمارِسِهِ امتلاك ذاتية فكرية وفنية:
الذاتية الفكرية: وتدل على امتلاك الرأي المستقل والمتميز المالك لقوة الإقناع بإسناداته وتبريراته.
الذاتية الفنية: وتمثل القدرة على صياغة هذا الرأي المتميز بانسجام وتناغم يمنحانه التماسك والجمالية في بنيته المعمارية.
لكن عندما نكون أمام لغتين مختلفتين نظاما وتركيبا، أدوات وتقنيات وأساليب تعبير مثل اللغة الأبجدية مقابل اللغة السمعية البصرية، فهل يمكن الحديث عن ترجمة من وإلى بعضهما؟ انطلاقا من التحديدات المعجمية والفلسفية السابقة هل يمكن الحديث عن تفسير وتأويل للدلالات قصد ترجمتها وما حدود الملائمة في حالة الإمكان؟
بين ترجمة الصورة وتأويلها:
إن الانتقال من الكتابة الأبجدية إلى الكتابة السمعية البصرية انتقال من مجال العقل وعملياته العليا كالفهم والتجريد والتحليل والتعميم... إلى مجال الجسد والذوق والانفعال والإحساس والتقدير. يقابل هذا الأمر عند الفلاسفة الانتقال من مجال الأحكام التقريرية الموضوعية، إلى مجال الأحكام التقديرية المعيارية الذاتية. إن هذا الانتقال الذي يتطلب ضبطا لأدوات الحكم و التَّعْيِير هو، من جهة أخرى، انتقال من مستوى الحكم المبنى على ماهو كائن في الواقع وقائم فيه، "الأشياء كما هي" حيث يتم تقرير ما يُرى وما يُسمع وما يختبر وما يقاس ويدرك عقليا ومنطقيا، للتمكن من نقله إلى بنيات ذهنية تجريدية مكممة ومحكومة بمعايير القابلية للانطباق على الواقع، أو بمعايير الانسجام والتلاحم الجمالي في البناء النظري، إلى مستوى المعياريات Les Normativités حيث الحكم مبني على وقع العمل على الذات ومدى تواصله معها وغوايته لأحاسيسها ولتربيتها الجمالية والأخلاقية والفكرية مجتمعة. لكن لا بد من التمييز في هذا المجال بين نمطين من الاهتزاز للأعمال الفنية والتجاوب معها:
الاهتزاز الانفعالي الاسقاطي الساذج:
وهو ذلك النوع من التجاوب مع الأعمال الفنية انطلاقا من خزان اللاشعور وطاقاته المكبوتة والكابتة على قاعدة الإسقاط غير الواعي [ "la projection" كما حدده مؤسس التحليل النفسي "سيجموند فرويد" أساسا، باعتباره آلية دفاعية تروم البحث عن نماذج ذرائعية في الواقع المادي أو التخييلي كما تقدمه الفنون عموما على اختلاف أنواعها، للتنفيس عن مكبوتات أو احْتقانات احباطيّة مُعاشة اشتدت وطئتها ]. في هذا النوع من الاهتزاز العامّي إذن ـ والعاميّة هنا لا تتوقف على معايير الثروة أو الشهادات أو النسب...بقدر ما تتوقف على درجة الوعي والتجربة الجمالية للذات ـ يحتل الإسقاط موقعا قويا لأن العمل المعروض يكون ذا بنية نموذجية مبسّطة ومختزلة دراميا. كما أن هذا العمل يكون مُتمحورا على نماذج أصلية اعتيادية ARCHETYPES [ النماذج الأصلية هي "المثل السامية والمطلقة للأشياء" كما تحدث عنها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في نظرية المثل. وهي "أفكار كل الأشياء كما كانت عليه في العقل الإلهي قبل الخلق حسب الفيلسوف المسيحي بيركلي. أما في علم النفس فالنموذج الأصلي "Arketip" حسب عالم النفس الألماني "كارل غوستاف يونغ"، وهو من يهمنا هنا أكثر، فهو شحنة انفعالية و نفسية عميقة، تتعلق بتجارب إنسانية موغلة في القدم ومشتركة في الغالب بين كل الأفراد وبين الثقافات. [ أنظر تحديدنا السابق له ولدوره في الأعمال السمعية البصرية وشعبيتها، مرجع سابق الذكر، ص، 102 ] في محاكاة شديدة لليومي المشترك والعام. يتم تقديم هذا اليومي العام والمشترك مختزلا في ثنائيات مستهلكة وكونية مثل الطيب ضد الخبيث، والخيّر ضد الشرير، والقوي ضد الضعيف، والغني ضد الفقير...الخ. وتعوق هذه الثنائيات أي مجهود فكري ما دامت تخاطب مباشرة النماذج الأصلية المختزنة لدى كل الناس وفي كل المجتمعات والثقافات. هكذا تشكل هذه الثنائيات عائقا دون حصول الوعي لأنها تحول دون توظيف ـ عند التماهي بين المتفرج وشخصية أو وقائع من العمل الفني ـ الخبرات العقلية أو الذوقية الأولية لبناء "وعي نقدي" قابل للتطور لدى المشاهد المنفعل. مثال هذا النوع من الأعمال هو ما ترجمناه سابقا في كتاباتنا بالمسلسلات والأفلام الفقاعية "Soap-opéras" وهي درامات عاميّة وعالمية في نفس الوقت، تتربع على عرش إنتاجها عالميا هوليوود بدون منازع، حيث بلغت نسبة إنتاجها من الإنتاج العالمي سنة 1944 60%، بينما قفزت هذه النسبة في سنة 2000، بفعل عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة بسائر أنواع تعبيرها إلى 80% من الإنتاج العالمي، [ أورده الأستاذ عبد الهادي بوطالب في درسه الافتتاحي بجامعة مدينة سطات المنشور بجريدة "الاتحاد الاشتراكي الأسبوعي" العدد 30، نونبر 2002، ص، 7 ].
الاهتزاز التذوقي العارف:
وهو تجاوب واع مع الإبداع الفني غالبا ما يكون مسبوقا أولا بقصدية. تتمثل هذه القصدية في اختيار المنتوج المشاهد لقيمته الفنية التي سبق اختبارها بمرجعية فكرية وجمالية ما. قد تتجسد هذه المرجعية في أداء أستاذي لممثل كبير، كما قد تتجسد في القوة والشجاعة الفلسفية والتمكن الفني لمخرج "مفكر"... بحيث تكون للعمل في هذه الحالة القدرة على تحريك خبرات وذاكرة ومعرفة وتجارب إبداعية متقاطعة، اكتسبت كرصيد عبر تربية الإحساس والذوق والذهن. وتستطيع الذات التي تهتز بهذا الشكل تجنب ما يحدث حتما للذات المرتبطة بصمام أمان الإسقاط، أقصد يقظة الواقع المريرة التي ينتهي بها الاهتزاز الاسقاطي الساذج.
من جهة أخرى يمكننا القول بأن هذا الاهتزاز يترافق فيه نوع من التزاوج بين التلذذ والمتعة التي غالبا ما تنتهي بالفهم والإدراك المتعدد المستويات "لرسالة" العمل الفني. يمكن هذا الفهم من القدرة على ترجمة العمل الفني، مرة ثانية بعد أن "ترجمه" صاحبه، من اللغة السمعية البصرية السينمائية أو التلفزيونية، إلى اللغة الأبجدية ترجمة مبدعة. تستطيع هذه الترجمة إن كانت مبدعة بالفعل، أن تنقل تلك المتعة وذلك الفهم النقدي المُقدر لقيمة العمل الفني.
يتبين لنا إذن بأن الفرق الأساسي بين اللغة الأبجدية واللغة السمعية البصرية يكمن في أسبقية تحريك العقل وعملياته العليا ومهاراته التجريدية بالنسبة للأبجدي من جهة، و بأسبقية الجسد والانفعال والإحساس والوجدان بالنسبة للسمعي البصري، فكيف يمكن الحديث عن ترجمة بينهما علما بأن الأدوات والوسائل وآليات بناء التعبير والتصورات والدلالات تختلف جذريا بينهما؟ ثم ماذا لو كان العمل المراد ترجمته من السمعي البصري إلى الأبجدي منتوجا فنيا عالي القيمة أي، ذا تعبير خاص ومستحدثُ "العلامات" و "الرموز" حسب اللسانيين؟
يبدو لنا أن تعريف الفن في هذه الحالة سيجنبنا بعضا من الغموض والخلط السائدان في هذا الميدان فما الفن وما أهم تعريفاته؟
باختصار نقول بأن الفن بعد التزيين والتجميل للمعروض بمهارة هو:
أ/ "مجموعة من القواعد المستخدمة لبلوغ غاية معينة جمالا أو خيرا أو منفعة كانت. وهو بذلك متعارض: 1/ مع العلم كمعرفة خالصة مستقلة عن التطبيقات. 2/ ومع الطبيعة كقوة منتجة بالفطرة. بهذا المعنى ترتبط تعابير مثل الفنون الميكانيكية بمهن مثل فن النجارة وفن الهندسة... والفن هو أيضا: الفنون الجميلة التي يكون الهدف الرئيسي فيها هو إنتاج الجميل، والجميل تشكيليا على وجه الخصوص مثل الرسم والنحت والنقش والمعمار وفن الديكور...إلخ.
ب/ الفن هو الإستطيقا...حيث يدل على كل إنتاج للجميل من خلال أعمال إنسان واع. وينطبق هذا التعبير بصيغة الجمع خاصة على وسائل التنفيذ. أما بصيغة المفرد فينطبق على الخصائص المشتركة للأعمال الفنية. بهذا المعنى يتعارض الفن مرة أخرى مع العلم كما تتعارض الفنون مع العلوم، ولكن من منظور آخر: الفنون تنتمي للغاية الإستيطيقية، بينما العلوم تنتسب للغاية المنطقية." [ André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie volume 1. 3iéme éd PUF 1993 p 79/80 ].
والفرق في الفنون الجميلة بين الفنون التشكيلية والفنون الإيقاعية هو "أن جوهر الأولى هو المكان والسكون، على حين أن جوهر الثانية هو الزمان والحركة"، [ المعجم الفلسفي، سبق ذكره، ص، 165. ].
وعلى العموم واعتمادا بالأساس على ما سقناه من تحديدات سابقة على هذا الجزء من الكتاب، نخلص إلى التعريف التركيبي والإجرائي التالي للفن:
هو معرفة وإتقان حِرفيّ أولا، ثم قدرة فائقة على التخييل ثانيا، ثم تمكُّنُ ُ من التعبير عن ما يدور في العقل والسريرة ثالثا، وتنتج هذه القدرات الثلاثة صيغا وأشكالا غير مألوفة مهما كان نوع وحجم الموضوع المعالج، اعتياديا أو سبق طرقه مرارا.
ينتج عن ما سبق أن الفن ليس لا نقلا حرفيا للواقع، ولا تشويها له. بل هو كما يقول الفيلسوف الألماني "ف. ج. هيغل" تجاوز للطبيعة ووعي بعدم إمكانية محاكاتها.
إن الفن الرفيع والحالة هذه، يحتاج بالضرورة ذاتا مؤهلة لاكتشافه كما يؤكد على ذلك العديد من المفكرين. في هذا السياق يقول المفكر المغربي عبد الله العروي على لسان ادريس الشخصية الرئيسية في الكتاب/السيرة الذهنية "أوراق": "...ارتقى إدريس من مستوى الاستهلاك إلى مستوى التذوق، أدرك أن أصالة الفن السينمائي تكمن في كونه ملتقى الفنون الأخرى من أدب وموسيقى ورسم وطراز معماري وغناء ومسرح. كل فن لا يعرف إلا بالممارسة..." [ عبد الله العروي، "أوراق"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، طبعة 1989، ص، 181 ].
إن التمتع بالفن الرفيع كما إنتاجه، قدرة على الانخراط والمشاركة في معمعة ثنائية تخلقها ذاتان: ذات مبدعة وذات متذوقة، كلاهما بلغت درجة عالية من التواصلية LA COMMUNICABILITE.
هكذا إذن أعتقد أن ترجمة الأعمال السمعية البصرية تستدعي بالضرورة تجاوز التفسير إلى التأويل، وذلك بالنظر إلى كل ما أفضنا فيه القول حول الاختلاف الكبير بين خصوصيات التعبيرين وما سنعمقه أكثر في ذلك لاحقا.
إن الكتابة السمعية البصرية كتابة متعددة المستويات الدلالية. لذلك فنظرية الباطن والظاهر الموجودة عمليا في كل شيء، وموجودة بالضرورة وفوق العبث عن المعقولية في كل ما هو إنساني فني عميق التواصل مع العالم وإشكالياته الكبرى، تنطبق على الإنتاج الفني الراقي منه على وجه الخصوص أكثر مما تنطبق على غيره. ومن هنا نسوغ لنفسنا الإدعاء بأن التأويل هو الأداة العقلية الأكثر نجاعة ومردودية وملائمة في عملية "ترجمة" السمعي البصري إلى الأبجدي والعكس صحيح.
إن التأويل في نظرنا هو المفهوم الأسلم كأداة للمرور من الأبجدي إلى السمعي البصري، عوض الحديث عن الترجمة بمعناها التفسيري. نقول هذا ونحن نعلم أن الترجمة نفسها قد تستدعي أحيانا الإستعانة بالتأويل. كما يمكن القول ردا على كون السيناريو كتابة أبجدية، باعتباره أساس الفيلم السينمائي والتلفزيوني، بأن السيناريو بمعناه المحترف ليس إلا مشروع صور ومناخات، مخطوطة على الورق بلغة أبجدية صحيح، ولكنها لغة إيحائية بشكل قوي على التخيل والتخييل، تركز على الوقائع والمواقف الدرامية، وتصف أوضاعا وأحداثا وانفعالات تقع في صميم التجربة الإنسانية. يرسم هذا المخطوط –السيناريو - تقاسيم الشخصيات الأساسية والفاعلة في الحكاية ويضع لها سمات مميزة. ويكتب كل هذا في سيناريو الفيلم بأسلوب غير أدبي إن صح التعبير، أي أنه يكتب بأسلوب مُسَنًّنٍ ذا قدرة تبليغية عالية على مستوى التخييل والتصور الذهني المُشخص، وذلك بالنسبة لأصحاب تقنية "تخصيب الأفكار".
نحن إذن في هذه الحالة أمام انتقال من تقليد تعبيري إلى آخر، من عصر اليدوي العقلي إلى عصر الآلي الإلكتروني، والتعارض هنا قائم بين أسلوب تعبير إنساني فردي ويدوي من جهة، وأسلوب تعبير إنساني جسدي انفعالي مزروع فيه الإلكتروني كوسيط بمنطقه الخاص وبتقاليده الجماعية في الإنجاز. يقول "ميشال أورلانديني" وهو مدير الإبداع بوكالة إشهارية: "...على المبدعين أن يفكروا بمشاعرهم أكثر من ذكاءهم، فينبغي للإبداع السمعي البصري أن يوظف الشحنات الانفعالية فكاهية كانت أو درامية أو تعاطفية. فمن الأساسي تخزين الانفعالات اليومية واسترجاعها كاملة في اللحظة المرغوبة، فمعرفة تبليغ الاهتزازات وكيفية المشاهدة والملاحظة مهنة، بل عقيدة حتى". [ بيير بابان "لغة وثقافة وسائل الاتصال"، ترجمة ادريس القري، منشورات الفارابي، 1995، ص، 9 ].
في خصوصية التعبير السمعي البصري:
إن الاختلاف بين اللغتين الأبجدية من جهة، والسمعية البصرية من جهة ثانية أمر سيقت فيه شواهد علمية وأدبية متعددة. فقد أكدت اختبارات نفسية وفيزيولوجية أجريت على مشاهدين للتلفزة وللسينما من جهة، كما أجريت لقراء الأبجدي المكتوب من جهة ثانية، وذلك بواسطة ربطهم بجهاز قياس الإشارات الدالة على نشاط الدماغ عند تلقي اللغتين الأبجدية والسمعية البصرية، دلت على اختلاف درجة تشغيل فصي الدماغ عند استعمال أو تلقي اللغتين. فقد تبين أن الفص الأيمن المسؤول عن الانفعال والعواطف والفهم الكلي للأشياء، يشتغل أكثر مع السمعي البصري من تلفزة وسينما ... في حين أن الفص الأيسر المشرف على وظائف التحليل والتجريد وإدراك التفاصيل والربط المنطقي الاستدلالي يشتغل أكثر كما يحدث منذ قرون، مع اللغة الأبجدية. [ بيير بابان، مذكور سابقا، ص، 25... ] ولا يجب أن يُفهم من هذا الفصل بين اللغتين المقارنتين هنا، وجود انفصال بينهما على غرار الفصل بين المتحضر والمتوحش لدى الأنثروبولوجيين الكولونياليي النزعة، بل ينبغي القول بأن الأمر يتعلق بطريقتين في الفهم، تختلف أولوياتهما الترتيبية مع حدة تميز أكبر كلما تعلق الأمر بفن مسبوك بإبداعية عالية. ومن المؤكد أن هذا الاختلاف في ترتيب الأولويات بين اللغتين له انعكاسات على ما يثيره ويطوره كل منهما أكثر لدى المتلقي من قدرات ذهنية أو أنماط سلوكية من خلال التجارب الانفعالية.
يستلزم إنتاج واستهلاك السمعي البصري من جهة أخرى، امتلاك القدرة على الانغماس في مناخ "سحري" ينبغي على صانعي هذا المنتوج حيازة الحساسية الكافية لإنتاجه. ويتم إنتاج هذا "السحر" الأخًّاذ في السمعي البصري عند النجاح في خلق "خيمياء" تنسجم فيها كل مكونات الصورة والصوت، مسبوكة في مناخ يكاد يجعلك تلمس الأجساد وتشم الروائح وأنت ترى الصور على الشاشة، عندها تشكل الخطوط والألوان، والظلال والملامح، والحركات المرئية والإيقاعات الصوتية، والحوارات الدالة والأضواء المعبرة أو المانحة للخصوصية التواصلية للأشكال...ويشكل كل ذلك لمقدمة الصورة أو موضوعها هالة روحية هي عبارة عن إطار مُرصَّص، قادر على تحريك الدواخل وجعل المتفرج، حتى اليقظ منه، يسترجع الانفعالات الإنسانية العميقة والكونية في صورها الأكثر استنفارا لكيان الإنسان المعاصر. في هذا السياق أيضا تصبح الجمالية الدالة جمالية المسموع والمرئي في نفس الآن. وخلافا لما يمكن أن يفهم اختزاليا، فإن هذه الجمالية هي نتيجة لانصهار كلا العنصرين أي، الصوت والصورة في بنية لا تمايز بينهما وليست مجرد حصيلة لتجميعهما تعسفا. أفكر في الهالة الروحية التي تغزو المتفرج وهو أمام الحصيلة التأثيرية الساحرة بعمقها الفكري والوجداني لفيلم: "Eyes wide shut" لستانلي كوبريك، على سبيل المثال لا الحصر. والمثال من السينما الأمريكية لأننا نعتقد بأن اكتساحها لشاشات العالم ليس نتيجة فقط لقوة الدولارات التي تدعمها وتصنعها، بل هو نتيجة أيضا لذكائها ولإبداعية عباقرتها الكبار، خاصة عندما يصبحون رموزا لهوليوود نفسها، تتعيش على أسطورتهم بعدما ساهمت في خلقها.
إن المنتوج السمعي البصري السينمائي خاصة والتلفزيوني بدرجة ثانية ومغايرة كما سنبين ذلك في مكان آخر من هذا البحث، يفرض من خلال الانغماس فيه أولا تلقيه جسديا وحواسيا والعيش فيه وضمنه وتحت تأثيره. لذلك يقال عن عمل فكري ما ملائم بأنه مقنع بدقته ووضوحه وتماسك استدلالاته وانسجام عناصرها، بينما يقال عن عمل سمعي بصري سينمائيا كان أو تلفزيونيا، بل حتى مسرحيا ولم لا، بأنه مؤثر يمسك بتلابيب الوجدان ويسافر بالمتفرج بعيدا في عالم خاص بمناخاته وشخصياته الواقعية والذاتية في نفس الوقت. إنه منطق الجذب والانجذاب في الأدرمة la ‘dramatisation’، منطق المفاجئة والإثارة، مقابل الإقناع العقلي والإفحام المنطقي المرتب تجريدا وبرهنة.
التضخيم والتفخيم:
تبدو الترجمة من الكتابة الأبجدية إلى الصورة السمعية البصرية إذن ممكنة. وهي كذلك بمعنى أن كل مشتغل بالسمعي البصري يجد نفسه مضطرا إلى "ترجمة" ـ التعبير عن ـ تصوره لموضوع ما في كليته، فكريا ووجدانيا، بتقنيات خاصة. تستلزم الترجمة في هذه الحالة استخدام أدوات غير الكتابة. إنها الأدوات الإلكترونية للتصوير والتقاط الصوت.
ويستلزم استعمال هذه التقنية الكتابية بالضوء والصوت – من جهة أخرى - تجاوزا لإتقان تشغيل الأجهزة، إلى القدرة على جعلها تمنح أقصى إمكاناتها في الوقت الملائم. ويعني الوقت الملائم استغلال الإمكانات اللامحدودة للإلكتروني ـ بما فيها ما قد يعتبره البعض استعمالا سيئا له ـ لبلورة تصور محدد وعميق فنيا، ربما كان غير مألوف إلى حد بعيد. في هذا الإطار لابد من الحديث عن تقنيتين ومصطلحين أساسيين نعتبر استيعابهما والعمل بهما أكثر من مهم بالنسبة لكل مشتغل بالسمعي البصري على وجه العموم، سواء في التلفزة أو في السينما بل حتى في الفوتوغرافيا والفيديو. هذان المصطلحان والتقنيتان هما التضخيم والتفخيم، Amplification – Modulation.
يعني المصطلحان في معنى أول: تنقية وتطهير الصوت والصورة من كل الشوائب غير المرغوب فيها، قصد تحقيق درجة عالية من الجودة فيهما. أما في معنى ثان وهو الملتصق بالإبداع وإنتاج الجمال بالتالي، فترتبط التقنيتان بالتحكم في مكونات الصورة والصوت عبر التضخيم والتفخيم، حجما وكثافة وتلوينات وطوابع قصد المرور إلى إنتاج ما أسميناه أعلاه بالهالة الروحية. يتوقف التمكُُن مما ذكرناه على مدى قدرة التقني، ومن وراءه في الواقع المخرج أيضا، على "زرع" الآلة في جسده والإحساس بها جزء منه ومن حساسياته المرهفة. كما يتوقف على درجة انسجام تصوره الفني والفكري للعمل الذي هو بصدده. فالتقنية لا يمكنها، مهما كانت درجة التمكن الاحترافي منها، فعل أي شيء إبداعا مع رأس فارغة وقدرة تخييلية ميكانيكية إن لم تكن عقيمة.
يراد بالتضخيم والتفخيم بعد الحذق والمهارة العالية، باستعمال المؤثرات الخاصة الصوتية والبصرية العالية الدقة، ولتحقيق التبريز والتكبير والتمويه وإعادة البناء الأقرب إلى الواقع، يراد بهما تمرير الخفي الكامن وراء الظاهر من دلالات ومواقف وآراء، وهو ما ويرسم بالنور في الصورة وبالطوابع والنظرات في اختلاجات الصوت. ذلك ما يمنح في النهاية للأمكنة والأزمنة والوقائع كما للشخصيات وأشيائها الصغيرة هالة روحية تحييها في جسد المتفرج وانفعالاته.
تخصيب الأفكار:
لن نلجأ إلى استلهام Jean METRY. في استبعاد التقابلات غير المقنعة لأغلب علماء اللسانيات بين الكتابة الأبجدية والكتابة السمعية البصرية. عوض ذلك، سنفحص تقنية أخرى للعمل على السمعي البصري أفرزتها خصوصيته. ونشير في هذا السياق إلى أن هذه التقنية التي سنتحدث عنها استلهمت من تقاليد قديمة للعمل في ميدان الصحافة أساسا.
يتعلق الأمر بتقنية "تخصيب الأفكار" Brainstorming [للتفصيل أنظر بيير بابان، سبق ذكره.]. تقوم هذه التقنية على "عَصْرٍ" للدماغ يطبعه التداعي الحر الجماعي، يكون مطلوب فيه من الجميع التعبير "بتلقائية" ووضوح وبساطة عن كل ما يخطر بالبال فيما يخص الموضوع المطروح للتخصيب والترصيص. على أن تتلو هذا العمل تصفية وتنقية وتنسيق ما استقر عليه الرأي من الحصيلة وفقا لما يتصور للعمل من شكل. ويعتبر شرطا التلقائية والبساطة أساسيين لإتيان هذا النوع من التقنية أكلها. فبالتلقائية والبساطة يُضمن رفع الرقابة المنمطة للوعي وللذوق في حد أدنى، يمنح الحرية لتصور الجديد والجريء من الأفكار والتصورات، وذلك ما يجعل الانتقال من الأبجدي إلى السمعي البصري صعبا وذا خصوصية تعبيرية ما فتئنا نوضحها ونسطر عليها. فالتلقائية تتيح مرور العاطفي والإنفعالي مع المنطقي والعقلاني وإلى جانبه، بينما البساطة تمكن من وضع أسس الصياغة السمعية البصرية من أدرمة وحكي لا تقوم إلا على البساطة والوضوح في الرؤية والمسار.
خلاصة القول أن هذه التقنية تمنح مستعملها إمكانية التعبير الشامل إن استطاع ذلك. وبكلمة أخرى فهذه التقنية تمنح الجسد والحواس فرصة المشاركة في التفكير والتعبير، مما يجعل هذا الجسد حاضرا بقوة في المنتوج النهائي وقبله في الكتابة التخطيطية الأولى ( السيناريو).
وعلى العموم فإن تقنية تخصيب الأفكار تستعمل أساسا حتى يكون للفن معنى وحجة ليسمى كذلك، وهو ما يتمثل أيضا في تحدى الفهم لدى المتفرج، ذلك أن "فهم عمل فني يعني الوعي بأنه إبداع حقيقي، وبأنه يتضمن اعتراضا ورفضا للمعايير السائدة، كما يحمل طموحا لأشياء مختلفة" كما قال Jean Casseau.
إن الحديث عن البساطة والتلقائية حديث عن الجمالية والصدق والمتعة والتذوق بالتالي. فليس الجميل والصادق والحقيقي هو الصعب على الفهم إلا بقدر اغتراب الذات عن جسدها في ميدان الفنون. كما أن خلط الواقعية بالاستنساخ المشوه للواقع والمختزل والمسطح لغناه وتعدده ليس فنا إلا بمقدار اغتراب العقل عن الفكر، واغتراب الإحساس عن خصوبة الحياة في الجسد الواحد. فالمستعصي على الفهم يعبر عن خلل في البناء وعن عدم اتساق فيه. وقد قال عالم الفيزياء والموسيقار الشهير "Richard Feynman": "يمكن للمرء أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها" [العلم في منظوره الجديد، ترجمة د. كمال خلايكي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 134، 1989، الكويت ]، كما أعلن "هيزنبرغ" عالم الرياضيات وصاحب نظرية المجموعات Théorie des ensembles، بأن " الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء أهم مصدر للاستنارة والوضوح". ومع ذلك فإن الجمال حصيلة، وهذه هي المفارقة التي تدخل في صلب تكوين الفن ووجوده، للجهد والتعب والبحث والتنقيب والنقد واليقظة الفكرية دون التنميط وأحادية اتجاه الوعي والذوق. يقول الموسيقار العبقري "موزارت" في هذا السياق: "مخطئ من يظن أني نلت فني بمثل هذه السهولة، فما من أحد كرس من وقته وتفكيره مثل ما كرسته للتأليف. فليس ثمة أستاذ كبير لم أعكف على دراسة موسيقاه مرارا وتكرارا." [p, 46 ibid.]
واضح إذن أن اللغة السمعية البصرية لغة خاصة من حيث علاماتها ووحداتها ورموزها ومقاطعها إن نحن تبعنا المكونات اللسانية للغة الأبجدية. من هذا المنطلق إذن نقول ونعيد بأن لا إبداع في السينما والتلفزيون من دون فهم عميق ل"منطق" لغة وثقافة السمعي البصري في تميزه، كما نؤكد على أن الكتابة للسمعي البصري تحتاج ترجمة وتأويل الأفكار المجردة والتصورات والمقولات والمواقف المتفلسفة، إلى صورة وصوت جسديين ملموسين وحسيين، تمكن الإقامة فيهما والانغماس في هالتهما الروحية وبالتالي الاهتزاز لهما ومعهما.
التراص والترصيص:
يتميز السمعي البصري من جهة أخرى عن آلية انبناء الأبجدي، الذي يرتبط تقليديا بالاستدلالي العمودي والتجريدي من افتراض واستنباط، بكونه أفقي أكثر منه عمودي. فنقطة انطلاقه بؤرة متكاملة وممغنطة ينتظم حولها كل المعمار السمعي البصري الفني للحكاية سينمائية كانت أو تلفزيونية. تشكل هذه البؤرة الغاوية للعناصر التي ستكمل بناءها قطب الرحى الذي يخلق "سُرًّة" تجميع وتراص بقية العناصر حولها، وذلك حسب شكل هذه العناصر وصلاحيتها في اقتصاد السرد وجرعة الانفعالات المراد إثارتها لدى المشاهد. تحكم منطق هذا التراص تلقائية الوقع على الجسد وإن كان التصور مبيتا أي، مفكرا فيه ومصمما عقليا كاختيار وكرؤية.
إن التراص والترصيص كتقنية للحفاظ للكتابة السمعية البصرية على هالتها وإدهاشها وجسديتها، إنما يتم بهندسة النقطة بجانب نقطة ولون بجانب لون وتصميم بجانب تصميم، ولقطة بجانب لقطة ومشهد بجانب مشهد، لتنبثق عن ذلك في النهاية الحكاية، والصورة النهائية للعمل الفني. ومعلوم أن عملا بهذه الكيفية ينبغي له منذ البداية أي منذ اللقطة والحركة والكلمة الأولى، أن يوضع على سكة المناخ الماسك بالتلابيب الانفعالية والتخييلية للمشاهد. وإذا حدست حساسية الفنان ذلك وأصابت، وجد ذلك المناخ الذي قال عنه الكاتب والروائي التشيكي الشهير "ميلان كونديرا" بأنه يجعل الوقائع والشخصيات تتتالى وفق منطقها الخاص الذي يجعل الكاتب في النهاية مجرد تابع يدون ما تمليه عليه.
إذا تمت عملية الكتابة بالتراص والترصيص، سهلت إلى حد كبير اللحظة الأخيرة في انجاز العمل السمعي البصري وهي العملية التي تتم وفقا لمخطط وحساسية التراص والترصيص: إنها عمليتا التركيب والمزج. ذلك أن الإيقاع والتدفق الدرامي يكونا متوفرين في المادة السابقة الفائضة روحا وديناميكية، لأن بؤرة التراص تكون قد فرضت خط الاستمرار وطابعه العام.
ومهما يكن من أمر، فينبغي أن لا ننسى بأن حديثا متقنا بلغة الكلام عن السمعي البصري ليس في نهاية المطاف إلا ترجمة لحديث كان من المفروض أن يكون باللغة السمعية البصرية. ومع ذلك فقد برهن كبار النقاد السينمائيين وكبار الكتاب للسينما كما المخرجون المبدعون، أنه بالإمكان إبداع نص أبجدي يضاهي متعة عملا فيلميا جميلا. إلا أن إبداع نص نقدي مكتوب عن فيلم أو إلى جانبه على طريقة تقنية التراص والترصيص، ستتطلب بالضرورة أن يكون الفيلم نفسه إبداعا حقيقيا، إذ لا يخرج الحي من الميت إلا العلي القدير، أما الإنسان الذي يعتدي على السمعي البصري كما يحدث في الغالب الأعم ليس بالمغرب فحسب، بل وفي أغلب البلاد العربية حيث لا فرق لدى "الكلاميين" بين السينما والتلفزيون من جهة، وبينهما الاثنان واليومي الاعتيادي بل الرديء في الغالب الأعم، فلن يحدث له إلا ما حدث "لبروس جيمس" عندما عرض على تركي رسما لسمكة فقال له التركي: "لو انتصبت هذه السمكة يوم القيامة في وجهك لتتهمك بأنك صنعتها دون أن تمنحها روحا فكيف ستدافع عن نفسك؟".