هل يمكن للترجمة أن تمثل سلاحا تستطيع به قوى العولمة تحقيق صياغة ملتبسة وملغومة للواقع والحقائق، ضمن تمرير مصوغاتها الاستراتيجية؟
ذلك ان عملية التواصل عبر النص المترجم، وفي ظروف صراع مصالح هذه القوى، تصْطفي مصطلحات ومفاهيم بعينها، وتصوغ تصورات ذات أغراض وأهداف موجهة، قد تكسب صورة الواقع دلالات مخاتلة، ما يشي بأننا قبالة فعلين متنافيين: العولمة كهيكلة ناجزة للعالم في سعيها الى تثبيت الوحدة والتنميط، والترجمة كمحاولة لأنسنة هذا العالم بإحلالها للتواصل وتعدد اللغات والمعاني والدلالات.
بهذا الهاجس، يتحدد مقصد المساهمة هنا، في البحث عما يسمح باستيضاح العلاقة بين الترجمة والعولمة، وصولا الى فهم حيثياتها، والتعرف على أوضاعها بصورة أجلى، من خلال التماس الجواب عن تساؤلات من قبيل: ماذا عن طبيعة هذه العلاقة في ظروف حرب المصطلحات والمفاهيم الرائجة راهنا؟ أية وقائع عبّر عنها توظيف الترجمة ضمن أهداف استراتيجية لقوى بعينها؟ وكيف عن السياق الذي يحكم هذا التوظيف؟
وهل في الامكان النظر الى ما يطلق عليه «الترجمة الليبرالية»، والتي تميز، في الحاضر، الخطاب الاعلاني للشركات الكونية، كشاهد على وطأة هذا التوظيف؟ وما هي الآليات التي ابتدعتها قوى الهيمنة الفكرية للعولمة في «ضبط» عملية الترجمة؟ وأخيراً، ما الذي قدمه درس الترجمة العربية في هذا الصدد؟
رُهاب الترجمة
ورغم عديد المحاولات التي راكمت تصورات ومنهجيات تباينت قيمتها، وشكلت رصيداً لا يستطاع تجاهل ما ينطوي عليه من اجتهادات، ظلت الترجمة، حتى عهد قريب، معزولة عن ساحة البسْط والمطارحة، باعتبارها قطاعا هامشيا غير محدد المعالم، لم يدرس ككل مستقل، بسبب من تقاطع مهام بحثها وتوزع مشكلاتها على جملة حقول معرفية (علم اللغة، المنطق، على النفس، الانثروبولوجيا، التربية...) (١)، وان جاز القول انه وفي مجرى تحقيق التواصل مع الآخر، مثلت قناة مهمة من قنواته، رسولا متجولا بين الحضارات، وفعلا ثقافيا متقدما، استهدف محاولة تأسيس حوار انساني، وتنمية الوعي به، وتلمس الدلالات التي يتيحها التأويل، وتمثل قضايا الاختلاف والنسبية والانفتاح، وهو ما عبّر عنه جورج شتاينر G.Steiner بقوله: «اننا، حين نتحرك بين اللغات ونترجم، انما نكتشف صبْوة الفكر الانساني نحو مراودة الحرية».(٢) Read Moreذلك ان رهانات التواصل مع الترجمة تبدو ممتدة، منذ ما أطلق عليه جاك ديريدا G.Derida اللحظة البابلية»، وان احتفظت بأول ممارسة دوّنت عنها، حين ترجم ليفيوس اندرونيكوس L.Andronicun اوديسة هوميروس الى اللاتينية منتصف القرن الثالث الميلادي، ليشق بعدها الأدب الاغريقي طريقة لدى الرومان(٣)، وانتهاء الى الدورالذي تلعبه مجددا في تفعيل التعاطي بين الشعوب والثقافات.
ومع تواتر هذه الرهانات، فانها لم تكن على قدر متساو من الفعالية، او من وجهة واحدة من الدقة، فيما نهضت على توجهات متباينة، بحسب المرحلة والغرض والاوضاع والأطر والقوى التي رسمت معالمها، وحددت تقنياتها وطرائقها.
فقد نحت في أحيان، الى فرض نموذجها «المدمّج»، وكرّست فكر ومنطق التبعية والاذعان ، أو ما يطلق عليه «العقل الاسير» The Captive Mind ، حين تولت خدمة قوى تنفذ سياسات معلنة وغير معلنة، وسعت نحو تمرير مفاهيم ثقافية وسياسية، من خلال الايهام تارة، أو بالطرق والاساليب المباشرة تارة أخرى(٤).
وتم ذلك عبر انتقاء مصطلحات ومفاهيم بعينها، أو ترجمتها بأطر خاصة، وفق قيم ومعايير مسبقة، وتوظيفها سياسياً او انثروبولوجيا بمستوى مهني عال، عبر وسائل اعلامية محترفة وعالية التقنية، ما حدا بالباحث الايطالي لورنس فينوتي . Venuti الى الحديث عن «فضائح الترجمة»، في اشارة واضحة لمدى مقدرتها على اعادة صوغ المفاهيم، والتحكم في دلالاتها، وبالتالي الاسهام في تشكيل العقول، وتعزيز طمس الذات(٥). على انه، ومع الاشكالات والمصاعب التي تواجه الترجمة، وفي ظروف التفاوض والمناقشات والاتفاقيات الدولية التي تحاول احتكارها هذه الايام، يبدو ضروريا الاحتكام الى معايير أربعة متداخلة في نقل المصطلحات والمفاهيم: معيار الوضوح Clarity ، ويتصل بامكان استخدام هذه المصطلحات والمفاهيم كأداة للتواصل العلمي عبر استجلاء عناصرها ومتضمناتها، ومعيار النطاق Scope ، ويعنى بمدى شمولها للمواقف والوقائع التي تتضمنها، ومعيار الصدق Truth ، ويتعلق بمدى قدرتها على الاشارة الى وقائع ملموسة، وأخيراً معيار الاستهداف والغرض Purpose ، بالتوقف عند أصولها المرجعية، واستجلاء القصد منها، وكلها معايير تؤكد على ان عملية الترجمة لا تعكس مجرد صيغة لغوية، انما تحمل في طياتها تعبيرا عن خيارات فكرية وحضارية للتواصل مع الآخر، ومن ثم فهي ليست مجرد عمل تقني ضيق الأفق، ينغلق دون ما يمور به المشهد الدولي من رهانات، وما يحويه نشاطها من مظاهر صراع وتكيف وتمثل، يتعين البحث عن اجابة عليها فيما وراء الترجمة Meta-Translation ، تلك التي تستطيع تقييم السياسات السائدة في هذا النشاط.
شواهد
وثمة شواهد عديدة في توظيف الترجمة ضمن أهداف استراتيجية لقوى بعينها، بما قد يسمح هنا باستبصار ظروف هذا التوظيف، وبكشف العلاقة بين شروطه المادية والرمزية، حيث يتبدى على شكل تجارب عديدة، يتعين رصد تفاصيل البعض منها كالتالي:
التجربة الاولى، تواترت حين ورثت الثقافة العربية في القرون الاسلامية الأولى ثقافات الهند وفارس واليونان، وكادت حركة الترجمة في اوروبا خلال العصر الوسيط ان تكون محصورة في نقلها من العربية الى اللاتينية، مع سعي المترجمين اللاتينيين الى التعرف على هذه الثقافات عبر امتلاك النص العربي المترجم، عن طريق تشذيبه وتهذيبه بالحذف والاضافة واعادة التنظيم، بزعم التقرب من القارئ الغربي، كيلا يستشعر وجود أي مسافة ثقافية تفصله عن الفكر المترجم، ولكي تظل نظرته الى الآخر العربي ثابتة لا تتغير، تتحكم فيها الثنائيات التي خطّتها بعض الكتابات الاستشراقية.(٦)
والأمر هنا يتعلق بتقنيع النص المترجم من العربية، مع اغراقه في الشروح، واعادة تزويقه وتبويبه، واختزاله الى عوالم مصغّرة، والتعامل معه في أحيان كبضاعة للافتتان، وموضوع للاستيهام وتناهب روائح القديم والنكهة الشرقية، لكي يتلاءم مع ذوق الاوروبي، الباحث عن مشاعر جديدة في أرض الفطرة و«التوحش» الجميل.
والتجربة الثانية، حدثت في الجزائر ابان الاحتلال الفرنسي، حيث يذكر المؤرخ الفرنسي اندريه جوليان A.Julien أن المترجمين الفرنسيين هناك، كانوا يحملون رتبا عسكرية، وكانوا يعملون بالتعاون مع ادارة التوجيه المعنوي التابعة للجيش الفرنسي، بهدف فرض نصوص بعينها تسوّغ للفكرة الاستعمارية.(٧)
كذلك فانه في أول عهد الاحتلال الانجليزي لمصر، كرّس وليام ولكوكس دعوته لمحاربة الفصحى، مطالبا باقصائها عن ميدان الكتابة والأدب، واحلال العامية محلها. ولعل أهم محاولاته في هذا الصدد، ترجمته نصوصا أدبية لشكسبير الى العامية، أو كما كان يسميها «اللغة المصرية العامة».(٨)
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت تتبلور علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة العربية، والتي ركزت، ضمن ما استهدفته ، على مجال العمل الثقافي، والترجمة بالاخص، فكانت مجلة (المختار) ذات الحجم الصغير والثمن الرخيص والطباعة الجيدة من أهم ما قدمته، ومثلت هذه المجلة الترجمة العربية للمطبوعة الامريكية الشهرية (Reader DigestS) أي «الأكل المهضوم للقارئ»، ولعبت دورا ملوحظا في تهميش وعي القارئ العربي.
ويلفت النظر في القيم التي روّجت لها هذه المجلة أمران: الأول، ان النجاح مرهون بالحظ والمصادفة، والثاني، أن العدل الاجتماعي معلق بأريحيّة السادة وكرم المستعدين للتبرع والاحسان.(٩)
وبدءا من عام 1953، باشرت (مؤسسة فرانكلين) الامريكية نشاطها في النطاق العربي، وشهدت الستينيات ذروة نشاط الترجمة عبرها، وتوزيعه على مواقع متخصصة وحقول معرفية محسوبة، وبالذات حقلي التربية وعلم النفس، الذي أطلقت عليهما «فن صناعة البشر»، وتضمنت ترجماتها تقديم زاد ثقافي امريكي، يعالج القضايا التي تواجه المواطن العربي، والتبشير بمثالية النمط الامريكي في الحياة، ووضع موسوعات ودوائر معارف للهجات الجماعات الاثنية العربية.
ويندرج في هذا الاطار، تجربة عالم اللغة الامريكي يوجين نايدا E.Nida ، واهتمامه بمن يترجم لهم، للتأثير عليهم وادخالهم الى المسيحية، عن طريق تذليل الصعوبات التي تواجه ترجمة نصوصهم، أو نقل الكتاب المقدس الى لغاتهم، عبر الافادة من مستويات الاستخدام والدلالات النفسية للكلمات، وانجازات نظرية القواعد التحويلية التوليدية Grneratuive Transformational Grammar في توجيه هذه الترجمة.( ١٠)
وحول نقل الكتاب المقدس الى اللغات غير المعروفة، التي يتكلم بها سكان الجماعات «البدائية»، يتحدث جيمس كليفورد G.clifford عن ترجمة الانجيل التي قام بها المبشّر والانثروبولوجي الفرنسي موريس لينهارت M.leenhardt ما بين عامي 1902- 1926 الى لغة الهوايلو Houailou ، وهي احدى اللغات الميلانيزية، اذ يرى كليفورد بأنه: «لم يكن سهلا على الاطلاق ان يستورد المرء الها غريبا من سياقه الأصلي، وان يعيد توطينه داخل المشهد الديني الميلانيزي».(١١)
أما أحدث وقائع تحريف الترجمة، فهو ما تمارسه حاليا منظمة المتاحف العالمية ICOM ، حين ترجمت مصطلحات التاريخ المصري القديم والحضارة الفرعونية الى اللغة اليونانية، مغْفلة لغتها الأصلية، وهي اللغة المصرية القديمة. ولم تقتصر على ذلك، بل ادرجت هذه المصطلحات في دورياتها الرسمية العالمية بلغة يونانية، لا بالمصطلحات الأصلية التي كتبت بها.
وهذا المسعى اقرب الى تزييف التاريخ، مع تعّمده تمرير ترجمات خاطئة، تخالف واقع المصطلح الأثري بدواله الصوتية والتدوينية التي عرف بها منذ العصور المصرية القديمة، من مثل تسمية هرم خوفو باسم هرم «كيوبيس» Cqui biS ، مما ينتج عنه نطق المصطلحات المصرية القديمة بشكل خاطئ، بما قد ينسبها زوراً الى الحضارة اليونانية، وليس الى الحضارة المصرية القديمة، ومن ثم يسهم في محو أصلها ومسمياتها الفرعونية، واندثار لغتها الأصلية، حين يتم استبدالها بأخرى، وهو ما يعدّ انتهاكا صارخا للأعراف الدولية، ان فيما يتصل بمجال الترجمة النصيّة للمصطلح، أو فيما يخص الحفاظ على العلاقة بين الآثار وأصحابها وموطنها ومرحلتها التاريخية والحضارية.( ١٢)
ومؤخرا، تشهد مدوّنة الرواية العربية هيمنة خيار عولمي لأعمال منها، تتواتر ترجمتها الى اللغات الاوروبية، مع سعي البعض من الروائيات العربية الى شرقنة ذواتهن، باستبطان تنميطات الآخر عن الذات الشرقية من كتاباتهن، جريا وراء دغدغة عواطف القارئ الغربي، وهو ما يفسر تفضيلهن لأعمال تتناول قضايا عن الحريم والجسد والارهاب وختان الاناث والأصولية، وتقديمها على هيئة طعوم فولكلورية نيّئة (١٣)، مع تعرض هذه الاعمال في ترجمتها للتحوير والتمويل، اتساقا مع متطلبات السوق الغربية.
السياق:
وراهنا، تتواتر مؤشرات في تجليات العولمة، توحي بتأثيرها في تشظي عملية الترجمة وتوجيه مدلولاتها، وتمظهرها كعامل توجيه سياسي، وارتباطها بالآليات التي تقوم عليها، من شركات كونية واطار مؤسسي (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي للانشاء والتعمير، ومنظمة التجارة الدولية) وطفرة تكنولوجية ومنظومة ثقافية.
وتمثل هذه المؤشرات مجتمعة، السياق الحالي لتوجيه نشاط الترجمة، يمكن تفصيلها كالتالي:
(١) تزايد احتكار السوق اللغوي الكوني:
حيث يتم في اطار أوضاع العولمة، تبنيّ مصطلحات جديدة، تحل محل ما كان سائدا من مصطلحات اعتبرت قديمة وغير مناسبة (الاعتماد على الذات، القطاع العام، العدالة الاجتماعية، استغلال الموارد الطبيعية، استصلاح الأراضي، السيادة الوطنية...)، واستبدالها بأخرى (نهاية الايديولوجيا او التاريخ، آلية السوق، التكيف الهيكلي، الشراكة، حقوق الانسان، صدام الحضارات، حرية الأديان، حق الاقليات، المجتمع المدني، تداول المعلومات، الفرص والتحديات، لا جنوب او شمال بعد الآن، الأجندة المستقبلية، ثقة المستثمرين، بنية اقتصادية صديقة للاستثمار...)، وكلها تمتلك معاني فضفاضة وحمولات متباينة، تتبدل أو تؤول دلالاتها لتوجهات واضعيها ، كي تصل الى أهدافها العملية، على غير حقيقتها، في مجتمع دولي تعوز معظمه المعرفة، وشدة قابليته لاستهواء الفكرة، ترويجا لصلاحية النظام العالمي الجديد، وتصويره على انه الخيار الوحيد الممكن.
ذلك أن «ثقافة» هذا النظام، تبتدع لغة خاصة بها، تتظاهر بالعلمية وبالقدرة على فتح آفاق التقدم والرّفاه، فيما هي في الحقيقة تمتلك مراوغتها الدلالية.
ويعاين شريف حتاتة هذه اللغة، حيث: «في العالم الثالث، يطلق على عملية تسليم الاقتصاد للشركات المتعددة الجنسيات، تخلص من احتكار الدولة. وتعني اعادة الهيكلة، خلق اقتصاد يخدم على الديون الخارجية بتكوين احتياطي للنقد، وتقليص الانفاق العام على الخدمات، وتوجيه الاقتصاد نحو التصدير، وليس لسد احتياجات الناس، بينما كانت تعني في الماضي اعادة توزيع الدخل مع زيادة الانتاج والاصلاح الزراعي وتوسيع الخدمات. وتعني الهيكلة، انتقال السيطرة الكاملة على الاقتصاد الى الشركات المتعددة الجنسيات. واصبحت الشفافية هي حرية رأس المال الاجنبي في ان يطلع على كل ما يحدث في بلادنا دون قيود، مع احتفاظ الشركات المتعددة الجنسيات بأسرارها خلف سياج من الكتمان. واصبحت مقاييس السوق هي التي تحدد ما هو خير وما هو شرّ، ما هو مفيد وما هو ضار، وما هي نماذج السلوك والأخلاق التي يجب اتباعها».(١٤)
ويتم هذا التشظي في اطار ما يشير اليه عالم الاجتماع الفرنسي بيربور ديو P.Bourdieu بتوسع نطاق «السوق اللغوي الكوني» بما يشمله من احتكارات وعلاقات قوى واشكال من السيطرة، لها منطق نوعي، يسعى نحو احتواء التصورات التي تبني الوعي بالآخر، بل وبالعالم ومعرفته بما يستتبعه من اغفال الخصوصيات وردم الحدود.( ١٥)
(٢) تنامي السطوة المتزايدة للغة الانجليزية:
ويعد تنامي سطوة هذه اللغة من أهم مؤشرات توجيه الترجمة، رغم ما يسود حاليا من نشاط متزايد لاحياء تحالفات لغوية أخرى (الفرانكفونية، الاسبانوفية...).
فبواسطة الانجليزية ، تم احراز تقدم هائل في العديد من الصناعات الثقافية، مثل هندسة اللغة وتكنولوجيا المعلومات، مما جعلها تمتلك مزايا تنافسية، بحكم مكانتها التاريخية وضخامة حجم الجماعة الناطقة بها، في سيطرتها على بعض المجالات، كالعلاقات الدولية والسياحة والنقل والتعليم والبحث العلمي ووسائل الاعلام والاتصال (٦٥٪ من برامج الاذاعة ، ٧٠٪ من الأفلام، ٨٥٪ من المكالمات الهاتفية الدولية، و٨٢٪ من الوثائق المخزنة في الانترنت، وكتب مترجمة من الانجليزية اكثر من نظيرتها في اللغات الأخرى).( ١٦)
ويبدو تأثير طغيان هذه اللغة، في تقليص دور اللغات الأخرى، وضمنيا للرؤى والتحليلات الصادرة عن دولها، والتي نادرا ما تستطيع اختراق حدودها الضيقة، كالحال مثلا فيما يتعلق بالتحليل الفرنسي الناقد للعولمة، ناهيك عن ان نشاط الترجمة يرتبط بوجود تعددية لغوية، تسعى الى التواصل بينها، ما قد يطرح تساؤلات حول تدني دور الترجمة، مع تراجع هذه التعددية أمام سيادة لغة القطب الواحد.
(٣) تقييد الترجمة وتسليعها
ذلك انه، وفي اطار تقنين عمليات الاتصال الراهنة، لم تعد الترجمة، وخاصة العلمية منها، في المتناول، الا بشروط منظمة التجارة العالمية، كما ورد في اتفاقية «برن»، وصادقت عليه اتفاقية «الجات»، التي شددت على اجراءات عنيفة تتخذها حيال من تسوّل له نفسه ترجمة ما يعنّ له. ويتم ذلك، برغم الحفاظ على حق المؤلف، أو ما أطلقت عليه هذه الاتفاقيات «حق الملكية الفكرية».(١٧)
والأمر هنا يتعلق بالتمييز بين نظريتين للترجمة: الأولى، تصوّب نحو تواصل انساني، يقوم على قاعدة الندّية بين كافة المجتمعات والثقافات، ويتعلق بالتنوع الثقافي والانفتاح على مختلف التجارب الحضارية، والتبادل الحرّ لمنجزات العلوم والتكنولوجيا والفنون، فيما تقوم النظرة الأخرى على صيغة برجماتية، منطقها محاصصة بين المؤلف والمترجم، وبينهما دار النشر، وهدفها الاستئثار بالمنجزات الانسانية واحتكارها، عن طريق تقييد الترجمة وتسليعها.
(٤) استخدام لغة تقنية ومعقدة
ويتم ذلك عبر الاحلال وهم اللغة التقنية المعلومانية الواحدة، التي توحّد بين البشر جميعا، كما قد يقع في الظن، بما يبدو انه معجم تكنوقراطي محايد، لتغليف ما تنطوي عليه من امور، والمصادرة على اية أسئلة محتملة، بواسطة استخدام قياسات كمية وجداول رقمية واحصاءات بيانية.
ففي عالم يقوم على السرعة والكفاءة والفعالية، تتميز اللغة في بعض من استخداماتها بابتعادها عن الكتابة، وبالتالي انخفاض القراءة بفعل الكمبيوتر، واستسلامها للنظام الرقمي Digital ، القادر على تحويل النص والصوت والصورة الى علامات رقمية، يمكن نقلها من خلال الحاسب الالي وأجهزة المعلومات والأقراص المدمجة والبرمجيات، وكلها أوضاع تقتصر على المنتفعين بهذه اللغة وحدهم، وتزيد من تعقيد عملية ترجمتها.
(٥) التهوين من علوم المجتمع
وجنْب هذه الشواهد، يسود لدى العديد من الخبراء والكتّاب في الولايات المتحدة حاليا (روبرت كابلان، بنيامين باربرن صمويل هنتنجتون...) نغمة تقوم على التهوين من علوم المجتمع، تلك التي تمثل الحاضنة المعرفية Epistimological Incubator لرعاية المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالتاريخ والمجتمع والثقافة.
وحجة مرددي هذه النغمة، ان هذه العلوم لم تعد تمتلك امكانية مقاربة ملابسات الحاضر، حين لم تستطع ان تتنبأ بسقوط المعسكر الاشتراكي مطلع تسعينيات القرن العشرين، او انتعاش، «الصحوة» الاسلامية، مع افتقارها لوجود تطورات جذرية مماثلة لما يسود في علوم الطبيعة، ذات التطور اللافت في منجزاتها ودقتها ومقدرتها التنبؤية.
الآليــــات
يرفد هذا السياق، آليات ابتدعتها القوى ذات المصلحة في تكريس عملية العولمة، يهيئ النفاذ الى ما وراء ظاهرها، الكشف عن رطانة ممارساتها الترجمية. وتشير خبرة التاريخ، الى ان انحراف الأقاويل الخطابية في الفلسفة الاغريقية القديمة. أدى الى ظهور «ريطوريقا» ارسطو، كبلاغة تجمع بين الاهتمام بالاسلوب والحصانة الاخلاقية، وأوجدت في الحضارة العربية عناية ببلاغة الاقناع في اطار البيان والمناظر.
أما ريطوريقا العولمة، فأعلنت قسْريتها منذ لحظتها الأولى، بفضل التكنولوجيا التي جعلت من نذرها أمورا ممكنة، وهو ما يتمثل في الانتشار المتزايد لاتاحة الاتصالات الحديثة ونظم وتكنولوجيا معالجة البيانات، والتحول العالمي الذي شهدته الوسائل الحديثة المتعارف عليها، في مجالات مثل الحملات السياسية القومية والتسويق والدعاية، والحرب المتصاعدة للمعلومات واستخباراتها، ساعد عليها تزايد مسامية الاقتصاديات والمجتمعات، وتحرير الأسواق والاستثمارات، وما يتعلق بها من مواصفات قياسية للمنتجات ووسائل الترفيه والثقافة والتعليم. والأهم ، أن ما حدث كان أمراً منطقيا ونتيجة متوقعة، في سياق سلسلة الأحداث التي ادت الى ظهور القطب الأوحد في فترة ما بعد الحرب الباردة.( ١٨)
وطبيعي ان تنسحب هذه الاوضاع على ريطوريقا العولمة، وخاصة ما يتصل بمعجم لغتها، واستتباعاً ترجمتها، عبر آليات بعينها يمكن معاينتها، مع اشارات لأمثلة لها، كالتالي:
(١) التحويل في دلالة المصطلح المترجم
وفي علم الترجمة ، يتم التعبير عن هذا التحويل بمصطلح «الانتحاء» Tropism ، ويعني ترجمة مصطلحات ومفاهيم للدلالة على معان غير منطبقة على الحقائق، وبمعزل عن دلالاتها في لغتها الأصلية، كي لا تلبث مع التداول ان تزداد قوتها التعميمية على تبديل فكر في اتجاه مقصود، أكثر ملاءمة لمصلحة واضعيه.
ويمارس هذا الانتماء ضمن اطار ترجمي ملتبس، تشح فيه المعلومات المتصلة بكافة جوانب المصطلح المراد ترجمته، أو يتم فيه، عن قصد، تسريب دلالة له بعينها، بواسطة عدوى التوجهات المقصودة التي تسعى الى رفع حصتها من التأثير الى حدّها الأقصى، واستثمار جملة الفوارق المميزة بين لغتي المصدر والهدف.( ١٩)
ومن الأمثلة الدالة على ذلك، انه، وفي غمار انشغال النظام العالمي الجديد بالحرب ضد الارهاب، تترجم لفظة «الشهيد» العربيةن تارة الى Martyr واخرى Suicide Bomber وتعني «من قتل نفسه».
كذلك تترجم لفظة «الجهاد» الى Holy War ، وفي الادبيات السياسية الامريكية الى «سفك الدماء حبّا في القتل والارهاب».(٢٠)
وهذه الامثلة أقرب ما تكون الى المواقف الأيديولوجية، قدْر بُعدها عن طريق الوضوح المفاهيمي. ذلك ان كل تحويل، هو بمثابة احالة من دلالة الى اخرى، وكل انتماء هو صرف لفظ، او انتهاك قصد، او اعادة تشكيل معنى، من أجل توليد دلالة أخرى، تنبثق معها امكانيات جديدة للتفكير والعمل، بقدر ما تنْسج علاقات مغايرة مع الحقيقة.
والأمر هنا يتعلق بقناعات تضفي معاني موجهة على تلك المصطلحات المترجمة، بوضعها في سياق غير محايد، وصوغها بشكل مشوّه، وتحويل حقل دلالاتها، كي تضحى تحت سلطة تداولها، ورهن تخليق ايديولوجيا لمتلقيها، الى الدرجة التي تصبح فيها أشبه بلغة أخرى يجري التعبير عنها، ليست هي اللغة التي تثري البديهة وتضيء الحقيقة، ولكنها: «لغة الغالب، التي تفكر بدلا منك» على ما يذكر فيكتور كليمبرر . V.Klemperer (٢١)
٢ - احتكار تعريف المصطلحات المترجمة
وهي الآلية الثانية في ريطوريقا العولمة ذات الصلة بالعمل الترجمي، وتعرف في علم اللغة بمصطلح «المحاكاة بعبارة أخرى» Paraphrase ، وتعني الانطلاق من قول، ثم شرحه وتأويله على صياغة جديدة، بنية ومعجما، توهم بوجود تكافؤ دلالي.(٢٢)
وتختزن هذه الآلية في اشتغالها، آليات أخرى فرعية، يجري وضعها أو استخدامها، كالزحزحة والتفكيك والتوسيع والتضييق، فضلا عن الاختلاف والتوليد والاكتفاء بالنفحة الاطلاقية المعلنة، عبر مركبات وانساق معرفية أخرى، بما لا يدعم الاستدعاء الايجابي للمصطلحات.
والمثـال الابـرز هنـا ، هـو مصطـلح «القريــة الكونيــة» The Global Village ، الذي صاغه عالم الاجتماع والاتصال الكندي مارشال ماكلوهان nahulcM.M مطلع ستينيات القرن العشرين، وركز فيه على دور التطورات المتسارعة لتكنولوجيا وسائل الاتصال في تقليص سرعة حركتها للمسافات، وتحويل العالم الى قرية كونية واحدة.( ٢٣)
والمصطلح بهذا المعنى وثيق الصلة بالعولمة، وربما مثّل صورتها الجنينية، ويتراود مع نزعة ما بعد الحداثة. حين جاور بين العالم والقرية، وزامن بين أنماطهما وقيمهما وأمزجتهما.
والمقصود بهذا المصطلح، هو ان العالم لم يعد مسكنا لكيانات مجتمعية مفصولة ومعزولة عن بعضها، إذ أفضت التطورات الثورية المتصاعدة في تكنولوجيا الاتصال الى حقيقة ان المجتمعات أضحت متواصة على درجة مدهشة ومتعاظمة من الكثافة.
وثم معنى آخر للقرية الكونية، هو ان العالم صار مترابطا على هيئة عضوية، بحيث ان ما يحدث في أي بقعة فيه يؤثر على جميع بقاعه الأخرى، مهما تباعدت المسافات او تنافرت الثقافات او اتسعت فجوة التطور والرفاهية والنمو، بما يقرّب الشؤون العالمية من المعنى الاجتماعي لتعبير القرية، الدال على عمق الروابط وشدة الاعتماد المتبادل ومدى الحاجة الى التضامن بين سكان هذا الكوكب.
على ان هذا التواصل لم ينتج بعد قبول المتبادل، الضروري للتعايش في سلام، ولا الالتزام المشترك بأغراض موحدة، وهو امر حيوي لتحرير قطاع كبير يعاني غوائل الجوع والفقر، ولا الألفة وحس الانتساب الحقيقي لكيان موحد هو الانسانية، باعتباره الحاضنة الأساسية للشعور النبيل بالحرية.
وعلى العكس من ذلك كله، لم يكن العالم مكانا أكثر خطرا وتهديدا او عصفا بالأمن مما هو عليه في الحاضر، بما اثبته واقع القرية الكونية الراهن، والذي تمخض عن مستوطنة غريبة أو جزر منفصلة، يربط مناطقها المتباعدة توحّد تليفزيوني وبضع مدنا تتركز فيها وسائل الصناعة الحديثة والتكنولوجيا العالية، بما يشي ان المصطلح بمثابة محاولة لطمس التناقضات الاجتماعية والثقافية الجديدة، الناتجة عن ثورة التكنولوجيا.
ذلك أن (٨٠٪) على الاقل من سكان العالم، ما زالوا يفتقدون حرية الوصول الى الوسائل الاساسية لتكنولوجيا الاتصالات، وحوالي (٥٠) دولة لديها اقل من خط تليفون واحد لكل مائة نسمة، وخطوط التليفونات في مدينة مانهاتن الامريكية اكثر من كل الدول الافريقية جنوب الصحراء. وعلى حين يوجد لدى الولايات المتحدة (٢٥) جهاز كمبيوتر لكل مائة شخص، فانه حتى في كوريا الجنوبية سريعة النمو، لديها (٩) اجهزة فقط، فبينما ينخفض العدد في غانا الى (11.0٪)، اضافة الى ان استعمال الانترنت ما زال الى حد كبير قاصرا على اوروبا الغربية والولايات المتحدة (٢٤) وكلها شواهد تجعل من الدلالة القارة لمصطلح القرية الكونية، حال توسيع تناقلها ونشرها ومداومة استخدامها، عبر ترجمته ، أمراً خادعا.
(٣) ابتداع سرديات لتقنيع توجهات الترجمة
ويتم ذلك من خلال انشاء قصص تشكل قرى العولمة صوتها السردي الاوحد، كمرتكز ادراكي يتأسس حوله نطاق كامل من التصورات الموجهة، مع اقصاء كافة القصص الاخرى.
والامر هنا لا يخرج عن دائرة الافادة من فعالية الحكي الانسانية العتيقة كتعبير يمكن توجيهه وترويجه، من خلال وسائط اعلامية شتى ومتعددة على نطاق العالم بأسره.
من اهم هذه السرديات المفاهيمية، اطروحة فرنسيس فوكوياما F.Fukuyama عن نهاية التاريخ، وفرضية صدام الحضارات لدى صمويل هنتنجتون S.Huntinfton ، والتي تبدو كبرامج استراتيجية في خدمة النظام العالمي الجديد. واستتباعاً، فانه ، وفي محاولة لتوجيه العولمة الى التعاطي مع اسلوب الحياة الامريكية، يصوغ جورج ريترز G.Ritzer سردية مفاهيمية لهذا التوجيه، في حديثه عن «الماكدونالدية» Macdonaldization باعتبارها: «تلك العملية التي تنتشر بمقتضاها المبادئ الخاصة بالطعام السريع، وتصبح سائدة في قطاعات أوسع من المجتمع الامريكي وبقية أرجاء العالم».(٢٥)
ويشير ريتزر الى هذه المبادئ على انها: تطبيق معايير الكفاءة، امكانية التنبؤ، القدرة على التقدير الكميّ والحساب، الاهتمام بالجودة، الضبط والرقابة، واستخدام تقنيات آلية منظمة بديلا عن الجهد البشري (حاسب آلي، سوبرماركت، محلات كبرى، مواقع تسويق على الانترنت، قنوات تسويق تلفزيونية، ماكينات صرف آلي، تسويق عبر التليفون، بطاقات ائتمان، جامعات ماك...)، بما يشي بعدم قصر النظر الى هذه السردية كمجرد صيغة امريكية لتقديم الطعام، بل بوصفها ترشيدا عصريا لمختلف مجالات الحياة في المجتمع الحديث حال ترجمتها الى لغات مختلفة.
الترجمة الليبرالية:
ولعل ما يطلق عليه راهنا «الترجمة الليبرالية» Liberal Translation يمثل احدث ما توصلت اليه آليات عولمة الترجمة، كشكل جديد لاعلان الشركات الكونية عن منتجاتها، ينتشر عبر نقل حملاتها الدعائية الى لغات العالم الاساسية. ساعد على ذلك تنامي طموحات استهلاكية لدى شرائح وفئات بعينها، تتسق مصالحها مع العولمة (كومبرادور من وسطاء الصفقات الضخمة وممثلي الوكالات والشركات الكونية، خبراء قانون واقتصاد وتأمين لتفسير الاتفاقيات الدولية، مضاربين في الاسهم والسندات والاوراق المالية، عاملين في مجال المعلومات، مشتغلين في المنظمات غير الحكومية المموّلة من الخارج شرائح من الانتلجنسيا العاملة في اطار السوق، نخب عليا من البيروقراط والتكنوقراط...)، وهي فئات تحدث ثورشتين فيبلن Th,Veblen عن مثيلاتها، في نظريته عن الطبقة المترفة والاستهلاك المظهري.
اذ مع تناص هذه الطموحات الاستهلاكية ، ازداد تنافس الشركات الكونية، تلك التي تعد احدى التجليات الاساسية لعملية العولمة، في تسويق منتجاتها، واتخذت في مجال نشر خطابها الاعلاني شكلا جديداً للترجمة، هو الترجمة الليبرالية، من كونها تتميز بكل الخصائص النوعية للمذهب الليبرالي: الاعلاء من القيمة العملية باعتبارها معيار الفاعلية، المنافسة الحرّة بين اللغات، الغاء لوائح تنظيم التبادل بينها، مع حرية التصرف في قنوات الاتصال، من خلال نظام لا تشكل فيه الحدود المادية والجغرافية عوائق حقيقية، ما ادى الى التعامل مع اللغات، لا كمنتجات قابلة للتحسين او الاهمال او التطور فحسب، بل وايضا تقسيمها وترتيبها على شكل درج تصاعدي، له اهميته في المجالين السياسي والاقتصادي.( ٢٦)
وأدى التطور التكنولوجي الحالي الى تغيير كبير في استراتيجيات الاتصال لدى هذه الشركات التي وجدت من الضروري التواصل، وبصورة متزايدة، مع مستهلكين في كل انحاء العالم، يتحدثون لغات مختلفة، وينتمون الى ثقافات متباينة، ما دعا الى ازدهار الاعلانات الشاملة، وتعميم حملاتها ذات الصبغة الدولية، وهي اعلانات وحملات تخاطب انساناً جديدا هو «المستهلك العالمي»، عبر وسائل اتصال عديدة، قادرة على غزو كافة المناطق، والتغلغل ضمن كل الفئات.
ولتحقيق هذا الهدف، يتعين ترجمة خطاب هذه الاعلانات الى لغات المستهلكين المحليين، وهو ما ادى الى تزايد حجم ترجمتها، خاصة مع انفتاح مناطق لغوية جديدة كالصين أمام التجارة الدولية.
وتتفوق في هذا المجال، العلامات التجارية Brands المشهورة لمنتجات هذه الشركات، مع تحوّلها الى رموز (بيبسي كولا Pepsi-Cola -) تويوتا Toyota ، ماكدونالد Macdonald ، فولكس فاجن Volks Wagen ، بيتزا هت ... Hut Pizza)، وهي علامات يمدّها احترام مستهلكيها بالقدرة على المنافسة، والاحتفاظ بموطئ قدم راسخ في السوق لسنوات عديدة، ليس لأنها تقدم مزايا فريدة وخدمة موثوقة وأساليب تقنية مبتكرة فقط، بل لأنها كذلك تقيم صلة عميقة بالثقافات المحلية، عن طريق ترجمة خطابها الاعلاني بما يلائم هذه الثقافات.
ولتفعيل أثر هذه العلامات، تضيف الشركات الكونية التي تملك هذه العلامات، وسائل اضافية لترويجها، كالصور والأغاني والموسيقى والكتابة المنطوقة، وتنشرها عن طريق الفيلم والفيديو والكاسيت والصحف والمهرجانات والحفلات، تحريكا لرغائب المستهلكين، وكجزء من دعم ثقافة الاستهلاك التي أضحت أكثر انتشاراً منذ التسعينيات.
ويلاحظ في هذا الصدد، ان تقنيات ترجمة هذا الخطاب الاعلاني، تختلف طبقا لنموذج تنظيم الشركة الكونية وهدفها واستراتيجيتها في التسويق والاعلان، حيث يمكن تمييز نمطين لهذه التقنيات: الأول، يعتمد نقل خطابه الاعلاني بطريقة شبه حرفية، دون اعتبار خصوصيات ثقافة الجمهور المتلقي، خاصة اذا كان هدف الشركة لا يتعدى مجرد غزو السوق. وثانيها: يتمثل في تطبيع وتوطين الخطاب المترجم، باستخدام اساليب الثقافة المنقولة اليها في ترجمة هذا الخطاب بتصرِّف، بغية ارضاء كل فئات المستهلكين، وبالذات اذا كان هدف الشركة هو الاستيطان التجاري.
ويعدّ النمط الاول من الترجمة، انعكاساً منطقيا لتنظيم مركزي لدى الشركة المصدرة للمنتج، يهدف الى دمج العاملين جميعا، ومنهم المترجمون، داخل نفس البنية الخاضعة لسلطة موحدة. أما النمط الثاني، فيبدو نتيجة لتقسيم خاص ومغاير للعمل، ضمن رقابة لامركزية في صوغ الخطاب الاعلاني. وفي هذه الحال، يعمل المترجمون عادة داخل وحدات متخصصة ، مرتبطة بصفة غير مباشرة بالشركة الأم.( ٢٧)
اجمالا، يمكن القول ان ترجمة هذا الخطاب الاعلاني، تقوم على عدم الالتزام بالنص الأصلي، وقابليتها لكافة أنواع التحريف، وقياس جودتها بمدى «ابتكار» المترجم وقدرته على تحقيق المواءمة الصعبة بين هوية النص الاصلي وخصوصيات التلقين ما دام لكل سوق ولكل بلد نوع بعينه من الخطاب ومن الصياغة اللغوية ما يناسب ثقافته وعاداته، بما يشي ان هذه التقنيات تخضع قسْراً لنزوات المنطق الاقصادي المهيمن.
يساعدها في ذلك، ان الخطاب الاعلاني نفسه يمتلك في مقوماته مسوّغات تجعله قابلا للتحريف. فالى جانب بعده الاقتصادي الاجتماعي المرتبط بالدعاية التجارية، يكتسي هذا الخطاب طابعا ثقافيا، يتثمل في مكوناته اللغوية ذات الطاقات الايحائية المتشظية، والمعتمدة غالبا على التعمية، حين يتولى تغييب بعض أؤْ كل مظاهر الجانب الاقتصادي المرتبط بالمنتج (ثمنه، أهمية تسويقه، المنافسة المميزة للسوق...)، في محاولته اقناع المتلقي، بصفته المستعمل المحتمل لهذا المنتج، بأن الاعلان عنه لا يحثه على الشراء، بل يحاول أن يقدم له مجموعة من الخدمات، وذلك لاخفاء المنفعة المادية الحقيقية التي تحرك كل العناصر الفاعلة في العملية الاعلانية، وهي تعمية تفضي الى قابلية لغة هذا الخطاب، حال ترجمته، لمدلولات مواربة، بما يستدعي التفكير في صوغ خطاب أخلاقي، حول طبيعة هذه الترجمة الليبرالية وطرقها وأهدافها.
العنف الرمزي
وكافة هذه الآليات، التي يتم عبرها التلاعب بترجمة المصطلحات، ذات الصلة بالموضوعات والهياكل والبنى والعمليات الاجتماعية للنظام العالمي الجديد، هي أقرب الى «الهيمنة الفكرية الكونية» التي تمثل احدى السمات الرئيسية للعولمة، وتدار بواسطة ما أطلق عليه جوزيف ناي J.Nye ووليام أوين W.Owen القوة الناعمة Soft Power ، من وسائل اعلام جماهيري وأنظمة تربوية وأفلام ودراسات وبحوث ومعارض ومهرجانات واسواق، والتي لا تعتمد على بطش الاساطيل والمدافع، وانما تلجأ الى أسْر العقول والافئدة، من اجل زرع الآراء وفرض المواقف.( ٢٨)
يُسعفها على هذا التلاعب، ان المصطلحات، وان اتسم البعض منها بتحدد الدلالة، لا تتصف دائما بالموضوعية والحياد، خاصة عند ترجمتها ونقلها من مجالها التداولي الذي تشكلت من صلبه الى مجال آخر، حيث تكتسب ظلالا دلالية معينة، في اطار ظروف الخطاب المترجم وملابساته اللغوية وغير اللغوية، مع الاستغلال المبالغ لابعاد التعرّجات التي تملكها الألسنة، وتباين الامكانيات التي يتمتع بها المعجم في كل من لغتي المصدر والهدف، وتعدد المخزون الدلالي للمصطلحات، وتأثير توجهات القوى والعوامل الحضارية والثقافية في معانيها، بل وثقافة المترجم ومعتقداته ومدى بيانه وعلمه بتعبير الجاحظ.
يضاف الى ذلك عدم الاستقرار بازاء التعبير عن الظواهر المستحدثة في الفنون والصنائع، وقلة وضوح مجازفات الترجمة مع المصطلحات الدالة عليها، خاصة مع مصطلح يرتدي امتيازاً نوعيا مثل العولمة، تتداعى فيه ذاكرة اللغة، حتى لتضحى الكلمات المعبّرة عنه في حال من حضور الغياب، وغياب الحضور.
ذلك ان اللغة ليست لوحة قيادة، صممت لتخدم التعبير عن ظواهر ناجزة، وهو ما يعني ان نقل المصطلحات الدالة عليها وترجمتها، يقتضي الوعي بأبعادها الاجتماعية، ودلالاتها الفلسفية والمعرفية، بما يضمن لها الجلاء والحضور والقابلية والسيرورة، قصد تفْعيل قوتها التعميمية ، ومنها صلاحيات تعبيرية أكثر دقة.
من هنا يجوز القول ان الهيمنة الفكرية التي تمارس في الحاضر على مستوى الترجمة، قد تصل الى نوع من العنف الرمزي على من لا يملكون القوة أو القدرة الكافية لمقاومتها. نتيجة عدم تكافؤ العلاقات بين البلدان المتقدمة، صاحبة نص المصدر المترجم في العادة، وبين البلدان النامية الاقل تقدما، المنقول اليها النص. والتي تجعل من رهان الهوية ومن ثقافتها الأصلية، الملجأ والدرع الواقي وسلاح المواجهة في الآن نفسه، فيما لا تمتلك غالبا القدرة على الاستقبال والانفتاح.
وعدم التكافؤ هنا تؤطره حدود تاريخية. وطبيعة العلاقات السائدة بين الجانبين: القوة والمعرفة من ناحية البلدان المتقدمة، والضعف والتبعية من نصيب البلدان النامية، بما لذلك من تأثير على اضعاف وعيها بالذات والتاريخ، وقلة قدرتها على استيعاب الاسهامات الثقافية الوافدة عليها، وخلق تبعية فكرية متزايدة بين البعض من قواها الاجتماعية، والتشكيك فيما يمثل تحدّيا لها.
الدرس العربي
ويواجهنا هنا سؤال ماثل: ماذا عن درس الترجمة العربي في علاقته مع متن العولمة؟
البادي انها علاقة ملتبسة: فمن ناحية، يتباين الموقف الحاضر للغة العربية، رغم دخولها منذ منتصف السبعينيات المجال الدولي، كلغة رسمية من لغات العمل الست في منظمة الامم المتحدة، وهو تباين يراوح بين عولمة تمارس على هذه اللغة ضغوطا هائلة، وتفرض عليها أقصى درجات المرونة وسرعة الاستجابة للمتغيرات العالمية، وبين فكر محافظ، يتخذ موقفا حذراً من العلم والتكنولوجيا، لاعتقاده ان استيراد هذه البضاعة «الدخيلة»، القادمة من الغرب، لن يترتب عنه الا غرْبة الثقافة العربية، بما يحيل قصارى جهد هذا الفكر في الترجمة الى الاكتفاء بما ذكره أئمة العرب القدامى حول الدخيل والمعرّب، بدعوى الحفاظ على الطهارة اللغوية والأصالة الفكرية.( ٢٩)
ومن ناحية أخرى، تتباين كذلك حركة الترجمة، ان فيما يتصل بضعف النقل الى العربية، أو بالاهتمام بما يترجم منها.
شاهد ذلك، ما يورده تقرير التنمية الانسانية العربية الاول لعام ٢٠٠٢، من ضعف حركة الترجمة بعامة في الاقطار العربية، وضمورها الفادح، مما يكاد يقضي على دورها المأمول في نقل المعرفة وتوطينها باللغة العربية.
وتكشف الاحصاءات في هذا الصدد، ان ما يترجم في هذه الاقطار من كتب، لا يزيد عن خمس ما يترجمه بلد أوروبي صغير مثل اليونان، يقل عدد سكانه عن (٥٪) من السكان العرب، وان اجمالي ما يترجم منذ انشاء بيت الحكمة في عهد الخليفة العباسي المأمون حتى الآن، يوازي ما تترجمه اسبانيا في عام واحد حاليا.( ٣٠)
وبالنسبة للترجمة من العربية، يلاحظ اهتمام لافت من قبل جهات أجنبية عديدة بها، عن طريق المتابعة الفورية لكل ما يصدر عن العالم العربي من نشر طباعي والكتروني، وذلك بهدف تعريته معلوماتيا، وابقائه تحت الرقابة الدائمة.
أما جهود ترجمة متن العولمة الى العربية ، فالملاحظ توزعها وتشتتها بين الاقطار العربية، بل وداخل كل قطر منها، بما يضعف فاعلية هذه الجهود ويقلّص أثرها، يوضحه التركيز على ترجمة نصوص الخطابات الكونية (أعمال ليوتار، كينيدي، توفلر، فوكوياما، هنتنجتون...)، وان غلب عليها الالتقاط الموسمي لاعمالها الاكثر شهرة، والاقتصار غالبا على مرجعيتها الأثيرة في اللغة الانجليزية، والترجمات المتكررة، وتصاعد الترجمات عبر لغة وسيطة.
واذا كان «منطقيا» أن تتفاوت درجات الدقة والأمانة في الترجمات المتكررة، او تتناءى العلاقة بالأصل حال اعتماد بعض الترجمات على لغة وسيطة، فان التباين في دقة ترجمة المصطلح، والاختلاف في التعامل معه، يمكن أن يؤدي الى فوضى مصطلحية.
واستتباعا لهذه الوضعية، تعاني الترجمة العربية لمتن العولمة قصورا واضحا، يقف على رأسه عدم التدقيق التعبيري حول مصطلحات العولمة،ومن ثم عدم اتفاقها على استخدامات لها واضحة، توضحها المؤشرات التالية:
(١) تعدد المصطلح اللساني العربي
وهو تعدد ناجم عن استبداد ظاهرة الترادف، أي كثرة استخدام المترادفات، التي تصل في أحيان الى حدّ الهجنة والمسْخ.
مثال ذلك وقوع لفظ «العولمة» أسير فائض مترادفات عربية عديدة، راوحت بين التسمية اللغوية والاصطلاح (الكونية، الكوكبة، التكوكبية، تدويل العالم، الكوْننة، الكونائية، الشوْملة، التكوّر، السلعْنة، الكابتالية الجديدة، الجلوبالية، الليبرالية المعلومة...)، فيما آثر آخرون «العولمة»، باعتبارها أكثر دلالة من الكوكبة، لأن حقيقة العولمة لا تقف عند حدود كوكب الكرة الارضية Globe ، ما دامت السيطرة على الكواكب الاخرى أحد مطامحها. وهو ما جعل الغلبة للفظ العولمة، رغم احتكام المترادفات الاخرى الى الافضل والاقدم، وربما الأكثر سلاسة. على ان الامر لا يقتصر فحسب على مصطلح «العولمة»، بل يمتد ليشمل كافة المصطلحات الأخرى المتصلة بها، والتي يتم نقلها الى العربية بصورة مشوّهة ومبتسرة.
اذْ يلاحظ كذلك، تعدد التسميات التي تطلق على الشركات الكونية (الشركات متعددة الجنسية، الشركات متعددة القوميات، الشركات العالمية، الشركات فوق الكونية، الشركات عابرة القوميات، الشركات دولية النشاط، الشركات العابرة للقارات، الشركات متعدية الجنسيات، الشركات الخارقة لحدود الأوطان، الشركات المتخطية القوميات، الشركات متعدية القوميات، الشركات الكوكبية...)، على ما بين بعض هذه التسميات من تمايز.
ويبدو التراوح التعبيري ايضا، حول ترجمة المصطلح الأجنبي Privatization (الخصخصة، التخصيص، الخوصصة، التحول الى القطاع الخاص، التفويت، التخاصيّة: الاستخصاص...).
والأمر ذاته بالنسبة لكلمة Computer ، التي ترجمت الى اكثر من كلمة (كمبيوتر، حاسب آلي، محْساب، عقل الكتروني، محيسب كهربائي، حيْسوب، محسبة، حاسوب، نظامة، رتابة...).
(٢) عدم التمييز بين المصطلحات
ومع كثرة هذه المترادفات، ثمة خلط يسود الترجمات العربية، مع عدم تمييزها بين المصطلحات، والمثال الاشهر هنا ما يتصل بمصطلحي (العالمية) Universalism و«العولمة» Globalization ، رغم تقاربهما في اللفظ، واشتقاقهما من كلمة «العالم»:
فالعالمية تمثل نزوعا لحلم مثالي قديم ومتجدد، يصوّب نحو بناء مجتمع انساني، يقوم على قاعدة الندّية بين كافة الامم والشعوب، دون اعتبار للعرق او الثقافة او الطبقة او بناء القوة، ويتصل بالتنوع الثقافي وتقبل ثقافات الغير وتفهمها، والتوجه والرغبة في مشاركة الآخر، والانفتاح على مختلف التجارب الحضارية، والتبادل الحرّ بينها لمنجزات العلوم والتكنولوجيا والفنون، انطلاقا من قيم الديمقراطية وحقوق الانسان واحترام القانون وحماية البيئة وتحسين ظروف المعيشة لكل البشر.
أما العولمة، فهي النقلة النوعية الحالية في تطور النظام الرأسمالي، كواقع اقتصادي تكنولوجي معلوماتي سياسي اقرب الى المصلحة والبرجماتية، منطقتها امبراطورية على امتداد الأرض والفضاء الذي تتحكم فيه القوة الكبرى، وهدفها الهيمنة على اقتصاد العالم وجعله سوقا واحدة مفتوحة لانتاج الدول المتقدمة، ووسيلتها الانفتاح الاقتصادي والشركات الكونية والخصخصة والفيض الحرّ للمعلومات والاعلام.
(٣) تنازع الجهود بين ترجمة المصطلح وتعريبه
ويلجأ المترجمون عادة الى التعريب، وهو ما تواتر استعماله منذ بيت الحكمة، حين يتعذر ايجاد كلمات عربية دقيقة للمصطلحات الأجنبية. ويتم ذلك بتمثل الكلام الاجنبي في العربية، وجعله وجها من وجوه التعبير، فيها، اما بتغيير أصوات الكلمة وبنائها بما يوافق اللسان العربي وابنيته، او بادخالها في صورتها دون تغيير.
ويكاد يجمع الباحثون على جواز استعمال هذه الطريقة، مستدلين بما ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف من ألفاظ معرّبة(٣١) ، وما لجأ اليه فصحاء العرب بعد ذلك من استخدام المولّد او الدخيل من الألفاظ الأعجمية، والمحدّث في الراهن.
على انه، رغم اباحة التعريب كذلك من قبل المجامع اللغوية العربية، فانه لم يتم استثماره بصورة فعالة بازاء متن العولمة، فيما تتباين الجهود بين ترجمة مصطلحاتها وتعريبها.
مثال ذلك ترجمة مصطلح «جينوم» Genome الذي شاع في اطار الثورة التكنولوجية الحالية، الى «خريطة الشفرة الوراثية للانسان»، أو «السفْر الوراثي» ، أو «المعجم الوراثي»، بدل تعريبه الى «جينوم» مباشرة، لنشتق منه «جينومي» و«جينومية» و«جينوميات» و«جينومي»، وهي مقابلات معرّبة لمصطلجات انجليزية قائمة بالفعل.( ٣٢)
(٤) الاقتصار على الاقتباس من التراث العربي
ويطلق عليه «الترجمة بالمؤالفة»، باعتباره يؤالف مصطلحا معاصرا من لغة المصدر الاجنبية مع مصطلح قديم من لغة الهدف العربية.
ويعتبر عدد من الباحثين ان التفتيش في الاعمال والقواميس عن مفردات ملائمة للتعبير عن المصطلحات المرتبطة بالعولمة، دون تغيير أساسي في معاني هذه المفردات، طريقة يجب تقديمها على غيرها، لما تفيده في احياء تجربتنا الحضارية وتواصلها، وفي ذلك تحقيق لاستمرار التراث واصطفاء لمعجمه، وانما للشعور القومي، واعتزاز باللغة العربية.
والنقد الذي يوجّه الى هذه المؤالفة، انها قد تثقل كاهل الكلمة المترجمة، وتبعدها عن دلالتها الصحيحة. مثال ذلك الترجمة الجزائرية لعبارة (Brain Drian هجرة العقول) ، والتي ترتبط، كظاهرة، بنذر العولمة، الى «فرار الأمخاخ».
وهذه الطريقة تتراود مع نزعة الحنين الى الماضي والارتباط به، أي مع نزعة «تراثوية»، تفترض ان لكل مصطلح جديد اصل في التراث ، ما قد يؤدي الى استخدام المهجور من الكلمات، والسقوط فيما يمكن تسميته «الاغتراب المعجمي» Lexicological Alienation الأمر الذي قد يبعدنا عن تيار الفكر العالمي، ويجعلنا نتفرد بلغة تكاد تكون خاصة بنا، عبر واقع تعبر عنه هذه اللغة التي لا تنتمي الى راهنيته، هو واقع مسحوب الى داخل هذه اللغة القاموسية.
صحيح قد نوفق في العثور على كلمات تصلح لاداء معان جديدة، لكن غالب المصطلحات الأجنبية قد يعْسر ايجاد أصل تراثي لها، خاصة وان طريقة الاقتباس من التراث لا تتيسر لكل الباحثين، بل للمتعاملين منهم معه بالدرجة الاولى، وهو تراث لم يخضع بعد لعملية تحقيق دقيقة.
(٥) النقل الاعتباطي للمختصرات
ويشار في الأخير الى شاهد بارز لأزمة الترجمة العربية مع متن العولمة، ويتصل بترجمة الترميزات والمختصرات التي تشيع في اللغات الاوروبية، حين يتم نقلها الى العربية نقلا اعتباطيا، قوامه الاجتهاد الفردي.
فهناك من المترجمين العرب من يميل الى الرسم الصوتي، بمحاكاة أصوات المختصر الأجنبي ومقاربتها بأصوات عربية، وآخرون يفضلون الرسم الهجائي، فينقلون الحروف الاجنبية الى العربية، مع اختلاف في طرق النقل واختيار الأصوات او الحروف العربية المقابلة.
يزيد من هذا النقل الاعتباطي للمختصرات، صعوبات التعامل مع تطبيقات الحاسب الالي، بسبب تباطؤ تنسيق الحروف العربية المستخدمة من خلاله، وعدم تطوير دمج شق معالجة الصوتيات مع النظم الذكية لمعالجة اللغة آلياً، وعدم تحسين طرائق معالجة لوحة المفاتيح الخاصة بالحروف العربية.
وفي المجمل، يمكن القول ان بعضا من وجوه أزمة الترجمة لدينا، يتّسق مع ثقافة عربية ما زالت تعتمد على المستورد الأجنبي في كافة نواصيها من علم وتكنولوجيا، وعلى لغة لم يتسنّ لتعبيرها مجاراة هذه النواحي بعد.
ومع ذلك ورغمه، فان خارطة التحديث الحضاري في العالم العربي، وعلى مدى مراحل تاريخية متتابعة، صاغت من المعطيات ما يكفي لاستنتاج حقائق اربع، يقيم تواتر ملاحظتها الدليل عليها، ونرى على ضوئها ان مسالة الترجمة، وبخاصة مع تصاعد نذر العولمة، تعدّ في مقدمة مشكلات التحديث والتكوين الثقافي القومي، المستقل والمنفتح في آن:
الحقيقة الأولى، صحة الواقعة التاريخية التي أثبتت أن الدخول الفاعل، أو التفاعل، في تجربة تحديث حضاري عربي، واعية لشروطها الذاتية ولحظتها الحضارية وسياقها الكوني الجديد، لا يتوقف على الترجمة وحدها، بل، وبالدرجة الأولى، على كون أهل اللغة العربية أنفسهم من المشاركين عمليا في صناعة الحضارة.
والحقيقة الثانية، نجاعة المقولة التربوية القائلة بأنه يكاد يكون من المتعذر استيعاب الثقافات استيعابا حقيقيا تكوينيا، أي مكوّنا للشخصية الثقافية المنتجة المبدعة، ما لم تكن اللغة القومية، المعبّرة عن روح الأمة، هي الأداة الموصلة لمضمون هذه الثقافات.
والحقيقة الثالثة، وجاهة التصور الانثروبولوجي الذي يرى أن الترجمة ليست مسألة لغوية، بل قضية حضارية في العمق، لأن اللغة ليست ألفاظاً أو مجرد أداة للتعبير، بل رؤية للعالم، وبعداً فاعلاً يفرض على الفكر جملة من القيم.
أما الحقيقة الرابعة، فتبدو من صواب المبدأ القائل ان الترجمة في ظروف علاقة السيادة، تستهدف تنمية الشخصية القومية، على حين تهدد، في حالات التبعية، الذاتية الحضارية، وتحافظ على تحقيق وتكريس هذه التبعية.
ويظل السؤال حاضرا: كيف يمكن أن نحقق، في اطار التواصل مع العولمة، وضمنه الترجمة، حرية التعبير عن الذات، وحرية التعرف على الآخر؟
نضع السؤال محوراً للتأمل، باعتباره مداومة لهموم قديمة ومستعادة.
الاحالات
١ Traduire, Paris, Publiction de la Sorbonne. 1994. p19. D. et M. Lederer (eds : Interperter pour Seleskonitch, . –
٢L. Lotringer.. Paris. Albin Michel. 1978 p437. Steiner . G: Apres . Babed. Traduction Francaise. Paris -
٣ Calvet. L. : La Guerre des Langues .. Paris. -
Payot . 1987. p63.
٤ - فائز بن علي الشهري: «الترجمة والعولمة»، مجلة (علامات)، المجلد (١٢)، يونيو 2003، جدة، ص٨٢٢.
٥ - يعمل لورنس فينوتي مترجما واستاذا للأدب الايطالي بجامعة تمبل، في ولاية فيلادلفيا الامريكية. وتعتبر ترجمته لكتاب (حكايات خيالية) للأديب الايطالي تارشيتي الى الانجليزية، نموذجا عالي القيمة.
وفي كتاب (فضائح الترجمة)، يورد شواهد لهذه الفضائح، بدءا من ترجمة الكتاب المقدس، مروراً بترجمات الشعر والفلسفة من اللغتين اليونانية القديمة والالمانية، حتى الترجمات المعاصرة للرواية اليابانية والكتب الرائجة والصحافة التجارية، لمزيد من التفصيل يراجع:
Ethics of Difference .. London Routledge and Kegan Poul.. 1999 Venuti.. L: The Scandals of Translation- Towards an
٦ - رشيد برهون: «الترجمة ورهانات العولمة والمثاقفة»، مجلة (عالم الفكر)، المجلد (٣١) ، يوليو- سبتمبر ٢٠٠٢، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص١٧٧- 178.
٧ - حنفي بن عيسى: «واقع الترجمة في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، في (المجلة العربية للثقافة) ، سبتمبر 1982، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، ص٣٣-٣٤.
٨ - نشر ولكوكس مقطوعات من روايات شكسبير، مترجمة الى العامية، في مجلة (الأزهر) عام 1893، وكان يرأس تحريرها، لمزيد من التفصيل، يراجع:
نفّوسة: زكريا سعيد، تاريخ الدعوة الى العامية وآثارها في مصر، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الثانية، 1980 ، ص٠٣-٦٦.
٩ - محمد حسنين هيكل: بين الصحافة والسياسة، بيروت، 1987، ص٦١.
١٠ - يعتبر يوجين نايدا اول المهتمين بالدراسة العلمية للترجمة، ساعده على ذلك تخصصه في علم اللغة الانثروبولوجي، وينطلق في ذلك من فكرة ان جميع الثقافات العالمية هي أدوار مختلفة لثقافة انسانية واحدة، وهو ما يتناسب مع توجهات بعض رجال الكنيسة، ممن يسعون لنشر كلمة الرب للناس سواسية.
ويتفق كذلك مع نعوم تشومسكي، في افتراض وجود قواعد لسانية كلية تنطبق على كافة اللغات.
اقام نايدا نظريته على ترجمة الانجيل، وقدّم كعضو في (جماعة ترجمة الانجيل) طرحا لاهوتيا لعملية الترجمة، يراجع:
Leiden. Brill 1974.. p33-34. Nida.E: The Theory and Practice of Translation
١١ - منى بيكر: «ترجمات السرديات وسرديات الترجمة- هل حقا الترجمة جسر بين الشعوب والثقافات؟. مجلة (فصول)، العدد (٦٦)، ربيع 2005، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص٢٦. نقلا عن :
Studies 1998.. p680. (eds.). Literary Criticism- Literary and Cultural Leenhardt.s Evangelism in R. Davis and R. Scleifer Clifford.. J.: The Translation of Cultures - Maurice
١٢ - عبدالحليم نورالدين: «ترجمة مصطلحات التاريخ المصري القديم». من اعمال (مؤتمر منظمة المتاحف العالمية)، الاسكندرية، سبتمبر 2005.
١٣ - سبق للكاتبة المصرية قوت القلوب الدمرداشية ان نشرت روايتها الاولى بالفرنسية وعنوان (الحرملك) عام 1937، وعرضت خلالها مواقف وعادت سالبة للمرأة، وتساءل يومها طه حسين عن جدوى تعريف الاجانب بهناتنا، يراجع: طه حسين: «فصول في الأدب والنقد» في (المجموعة الكاملة لاعمال الدكتور طه حسين)، الجزء الخامس، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1974، ص395- 397.
١٤ - شريف حتاتة: العولمة والاسلام السياسي، القاهرة، كتاب الاهالي، 1002، ص٧٣.
١٥ - بيير بورديو: اسئلة علم الاجتماع- حول الثقافة والسلطة والعنف ص139- 149.
١٦ Holborow. M.: The Politice of English. London -
Sage Publications.. 1999. p61.
١٧ - مصطفى عبدالغني: الجات والتبعية الثقافية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة ١٩٩٩، ص٤٥- ٤٦.
١٨ - برانيسلاف جوزوفيتش: «بين الهيمنة الفكرية على مستوى الكوكب وخطة التنمية على المستوى الدولي»، في (المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية)، العدد (١٦٦) ديسمبر ٢٠٠٠، مركز مطبوعات اليونسكو، القاهرة، ص١٧.
١٩ - كمثال مشهور لهذا الانتماء، يورد محمد مردموك بكتال ما تعرضت له ترجمة لفظ الجلالة (الله) الى اللغة الانجليزية، والذي يترجم الى God، ليلاحظ ان الكلمة الانجليزية هنا لا تثير في ذهن القارئ الانجليزي ما تثيره كلمة (الله) لدى القارئ العربي، فكلمة doG في الانجليزية تؤنث بـGodness وتجمع على Gods، بينما الله، هو واحد لا شريك له، كلمة ليس لها مثنى، ولا جمع، ولا مؤنث، ذلك ان التصور الذي تشير اليه كلمة (الله)، هو تصور يقضي على الشرك، عكس الكلمة الانجليزية، ولم يجد بكتال في الانجليزية كلمة تقابل كلمة (الله) في العربية، ما حدا به ان يحتفظ بها في الانجليزية كما هي (Allah) لمزيد من التفصيل يراجع:
An Ex[lanatory Translation . New Yourk 1993. p61-65. Pckthall. M.M: The Meaning of the Glorious Koran
٢٠ - محمد ناصر الشوكافي: «الترجمة الثقافية»، مجلة (علامات)، المجلد (٤٨) يونيو 2003، جدة ، ص٣٣١.
٢١ Traduit par E.Guillot . Paris. Albin Miched 1998. p40. Klemperer. V.: La Langue du Troisieme Reich -
٢٢ - آن روبول وجاك موشلار: التداولية اليوم- علم جديد في التواصل، ترجمة سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2003، ص٢٧٢.
٢٣ - صاغ ماكلوهان مصطلح القرية الكونية أواخر الخمسينيات، وظهر لأول مرة في كتابه:
Explorations in Communication. Baston. Beacon press.1960.
ثم طوره بعد ذلك في كتاب تال:
Man. London. Routledge and Kegan poul 1962. The Gutenburg Galaxy- The Making of Typograplic
ليرسي قواعده النظرية في كتابه المشهور:
London Routledge and kegan Poul. 1964. Understanding Media- The Extensions of Man.
٢٤ - على حسين شبكشي: العولمة نظرية بلا منظر، القاهرة، بدون دار نشر، 2001، ص169.
٢٥ - noitarolpxE .sisehT -noitazidlanodcaM ehT :.G .reztiR
And Exension. London. Sage Pubications.. 1998. p17-19 .
٢٦ - ماثيوفويدر: «ماهية الترجمة الليبرالية» ، ترجمة أمل الصبان، القاهرة، كلية الالسن، مجلة الألسن للترجمة، العددد الثالث يوليو ٢٠٠٢، ص١٠-١١.
٢٧ - المرجع السابق، ص١١.
٢٨-Foreign Affairs).. March - April 1996. p6. Nye.J.S. and W.A. Owen: America Information Edge in )
٢9 - نبيل علي ونادية حجازي: الفجوة الرقمية - رؤية عربية لمجتمع المعرفة، سلسلة (عالم المعرفة)، رقم (٨١٣)، اغسطس 2005، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص١١٣.
٣٠ - نادر فرجاني (محرر رئيسي): تقرير التنمية الانسانية العربية للعام ٢٠٠٢، برنامج الامم المتحدة الانمائي، الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي، عمّان (الأردن)، ٢٠٠٢، ص٧٦.
٣١ - جلال الدين عبدالرحمن السيوطي: الاتقان في علوم القرآن، بيروت، المكتبة الثقافية، 1973، ص١٢١- 148.
٣٢ - نبيل علي ونادية حجازي، مرجع سابق، ص352.
محمد حافظ دياب باحث واكاديمي من مصر