وهنا سيظهر للمترجم أن ليس هناك من "ترجمة واحدة"، وأن فعل الترجمة هو القيام باختيار بين عدة افتراضات. صحيح أن كل شيء قابل للترجمة والتفسير، لكن يحدث أحيانا ألا يكون مناسبا الحديث عن الترجمة، فعبارة التكييف ستكون المصطلح الأكثر ملائمة. إن الأهم خلال وضع الصورة النهائية للترجمة هو البحث عن أقل ما يمكن من التباعد عن النص الأصلي، ذلك لأن الترجمة هي دوما تقريبية، وتبقى على الدوام عنصر تقدير ذاتي: إن "الـ" ترجمة غير موجودة.
تهتم مؤلفات كثيرة بالمشاكل النظرية التي تثيرها الترجمة، وهذا جانب أساسي لا يخلو من أهمية، لكن ما صار يكتسي أهمية قصوى في السنوات الأخيرة هو المشاكل العملية للترجمة باعتبارها نشاطا ديناميا ومهارات عملية يمكن وصفها والتحكم فيها وتعليمها، ومن هنا الاهتمام بالأسس الديداكتيكية للترجمة في مؤلفات الديداكتيكيين(1) الذين يركزون على السيرورة التي من خلالها ينتقل نص من لغة إلى أخرى، مستحضرين العناصر الثلاثة المكونة لعملية الترجمية (المترجم، النص، المتلقي)، ومثيرين كل المعطيات والصعوبات التي يطرحها كل مكون في علاقته بالمكونات الأخرى، ومشددين على الكيفيات والطرائق الواجب اكتسابها لمواجهة هذه الصعوبات وإزالتها.
في هذا الإطار يندرج مؤلف الباحثين ج.هاردان وس.بيكو (1990)(2)، وهو يتكون من قسم منهجي يقدم النشاط الترجمي في شروطه ومراحله ومحطاته ووسائله ومشاكله، ومن قسم عملي يشتغل على نصوص إنجليزية وفرنسية.
ويسعى هذا المؤلف إلى أن يكون مدخلا إلى ممارسة الترجمة، مدخلا إلى منهج وطرائق المترجم. وهو يأخذ بالمقاربة التطبيقية في هذا المدخل لسببين أساسيين: أولا هناك مؤلفات تدرس المشاكل من زاوية نظرية بطريقة شاملة. ثانيا، لا يكفي الانطلاق من نظرية مهما كانت قوية وشاملة، ذلك لأن الترجمة تشبه أداء مقطع موسيقي، فهي تحتاج إلى الكثير من التقنية وتفرض في أشكالها الأكثر تعقيدا الكثير من الفن والإلهام. ولهذا ينبغي البحث عن تعلم الترجمة بتطبيق المنهجية وبمعاينة وملاحظة ممارسة الترجمة. وهذا ما يفرض القيام بمسح لهذا المجال وتعيين المشاكل التي تعترض المترجمين و"تركيب" ترجمة. Read Moreولا يمكن القيام بكل هذا دون تفكير في اللغة. فمن الضروري اكتساب وعي لغوي يمكن من تجاوز التحويل اللاواعي للوصول إلى المقارنة الواعية المعللة، فالكثيرون يدفعهم المنطق اللغوي اللاواعي إلى إسقاط بنيات لغتهم على لغة أخرى، ولهذا يكون من الضروري القيام بدراسة مقارنة للغتين عند الترجمة. فعندما نقول لغتين، فذلك يعني منطقين ورؤيتين للعالم، ويعني ذلك أيضا أن النحو هو الآلية الحاملة للمعنى، وهذا يدعو إلى القول إنه ليس هناك من ترجمة دون مقاربة واضحة للنحو، ليس فقط باعتباره خزانا للأشكال، بل بالأخص كإوالية ضرورية في بناء المعنى.
إن عمل المترجم ومحطات ترجمته وطرائقها ووسائلها لا يمكن إدراكها إلا في علاقة بمقتضيات هذا المنطق المزدوج، هذه الرؤية المزدوجة للعالم. لكن الترجمة هي، من جهة أخرى، اكتشاف ومغامرة شخصية. فالتمهيد للترجمة لا يعني تناول هذا المؤلف أو ذاك للنظر في ما تختلف فيه لغتان، ذلك لأن الشروع في الترجمة هو أن تكتشف ذلك بنفسك، هو أن تقف على أن كل ترجمة هي حالة خاصة، وأن الوصفات التي يمكن استخلاصها من الأسلوبية والنحو المقارن لا يمكن إهمالها، لكنها ليست دائما طريقا مضمونا، إذ ينبغي دائما النظر في ملاءمتها للنص الذي ستترجمه. وهذا لا يعني أن الترجمة عملية شخصية بشكل مطلق، فمهمة المترجم مسار صارم مؤلف من نقط مرور ضرورية، يعني أنها عمل ينقسم إلى محطات كثيرة ضرورية ومرتبة بشكل دقيق.
من المفروض في المترجم أن يفهم النص أولا. ولكي يفهم، من الأحسن أن يعلم أن هناك عادات ومواقف وتصورات لغوية يمكن أن تمنع عنه الفهم، وعليه أن يقف عندها، وأن يواجهها بالشك المنهجي، ألا يأخذ أي شيء على أنه صحيح إلا إذا تيقن من ذلك، أن يفحص كل شيء، ويراجع كل شيء وعندما يفهم النص، عندئذ فقط يمر إلى هذا البرنامج الترجمي.
1 – استخراج المعلومات
2 – تحليل المعلومات (بناء المعنى)
3 – بناء الترجمة
4 – وضع الصورة النهاية ومراقبة مجموع العمل.
تتحدد وظيفة المرحلتين الأوليين في تحديد خصائص النص، ثم محتواه، وينبغي قدر الإمكان رفع كل صورة من صور الغموض واللاتحديد بالنسبة لطبيعة النص، بما أن الترجمة ينبغي أن تكون صورة وفية قدر المستطاع. وينبغي في هذا المستوى طرح كل الأسئلة الممكنة: من يتكلم أو من يكتب؟ إلى من يتوجه الكاتب؟ ما هي مقاصده؟ ما نوعية النص؟ ما انتماؤه الزماني؟ ما مصدره اللغوي والثقافي؟… وغيرها من الأسئلة التي لا ينبغي أن يتعامل معها المترجم ببخل، لأنه في هذا المستوى من القراءة اليقظة تظهر إشارات أساسية.
وبعد ذلك، يمكن الاحتكاك بمحتوى النص، بإرساليته: الموضوع، طريقة معالجته، الحقول الدلالية والمعجم الذي يشغله… وبفضل هذا التحليل المفصل للنص يمكن بناء المعنى. وبناء المعنى يعني وضع أسس الترجمة ورسم هندستها، يعني معالجة تسلسلات الجمل وتحديد عناصرها والطريقة التي بنيت بها. وبخصوص الثيمة، يتم التركيز على مشاكل الغموض العرضي أو المقصود ووضعه في إطاره السياقي.
وهنا –أي في هذا المستوى-، تعترض المترجم ثلاث صعوبات في سعيه إلى فهم النص: صعوبات تتعلق بالمعجم، وأخرى بالمرجعيات الخارج-نصية، والصعوبات النحوية والتركيبية.
وبعد هذه القراءة اليقظة والمكثفة، وبعد هذا التحليل المفصل الدقيق، يكون المترجم قد شيد لا ترجمة بل خطاطة للدلالة. ومن أجل ذلك، فقد سار مع النص في مجراه، منتبها ليس فقط إلى تنظيم الخطاب وترابط الكلمات بل إلى نظامهما، وجامعا سلسلة من وحدات المعنى التي تكون مادة خاما منقولة في لغة غير كاملة. وهذا ممر ضروري يسمح بالتأويل الملائم.
لكن لا ينبغي أن نغفل اللغة التي سنترجم إليها، ولا يمكن انطلاقا من بداية عمل الترجمة التقليل من أهميتها في تشييد المعنى.
وبهذا نصل إلى طرائق الترجمة. وهي عادة ما تحدد في سبع طرائق:
1 – الاقتباس
2 – النسخ
3 – الترجمة الحرفية
4 – النقل
5 – التغيير
6 – المعادلة
7 – التكييف.
وقد نوقش هذا التصنيف، وهو ما يزال قابلا للمناقشة، ذلك لأنه يمكن السؤال عن قيمة الطرائق الثلاثة الأولى كأفعال ترجمية. فإذا نظرنا إلى الأمور من زاوية دينامية الترجمة، فإن النشاط الترجمي هو الأهم، وتموضعنا في وضعية المترجم، إزاء هذا المشكل أو ذاك، هو الذي سيبرز ملاءمة هذه الطرائق أو عدم ملاءمتها.
فالترجمة الحرفية لا يمكن اعتبارها من طرائق الترجمة بالمعنى الدقيق، فهي تؤدي إلى أخطاء كبيرة. وإذا كان مهما جدا الحث على ضرورة اتباع النص خطوة خطوة من أجل إنشاء خطاطة للدلالة، فإن الأهم أيضا هو العمل على ترجمة المعنى وليس سلسلة الكلمات. والترجمة الحرفية عندما تهتم بعنصر واحد في خطاطة الدلالة أو بوحدة من وحدات المعنى، فإنها تولد ما يسمى بالنسخ، ومن أمثلة ذلك:
Molesquine نسخ عن Mole-skin
Touline نسخ عن Tow-line
الفرنسية الإنجليزية
وغالبا ما يكون هذا النسخ نتاج ضغط ثقافي قوي تمارسه لغة على لغة أخرى، وهو ما يعبر أحيانا عن كسل أو نقص في الإبداع اللغوي.
والاقتباس لا يختلف كثيرا عن النسخ، لأنهما يعبران معا عن عجز من التجربة الحقيقية المناسبة. ويحدث الاقتباس عندما يدعوك متكلم بالفرنسية إلى تناول Un drink، مقحما هذه الكلمة الإنجليزية في اللغة الفرنسية، ووسائل الإعلام هي أكثر ما يفرض هذا النوع من الكلمات.
أما الطرائق الإبداعية في الترجمة والضرورية لكل مترجم فهي خمسة:
1 – النقل
2 – التغيير
3 – المعادلة
4 – الإضافة / الاختيار
5 – إعادة التركيب.
والنقل في شكله الأكثر بساطة هو تغيير في المقولة النحوية وهو قد يمس عمليا المقولات النحوية، ويمكن أن يتدخل في ترجمة بعض الأفعال:
He ran out Il sortit en courant
He sailed across the Atlantic in 20 days Il a traversé l’Atlantique en 20 jours
وحركة النقل ينبغي أن يمارسها المترجم بشكل انبساطي تلقائي.
أما التغيير، فهو في معناه البسيط تغيير زاوية النظر بشكل يسمح بالتعبير عن نفس الظاهرة بطريقة مختلفة.
وهكذا يمكن القيام بهذه الترجمة:
Remember to look the door N’oublie pas de fermer la porte
It is easy Ce n’est pas difficile
نفس المعاني، تم التعبير عنها بجمل مثبتة في الإنجليزية وبجمل منفية في الفرنسية. ويمكن أن نمر بسهولة من التغيير إلى المعادلة، فما يميزهما أن المعادلة تعطي الأولوية للمقام في صياغة الرسالة، في حين أن الترجمة على العموم تشتغل انطلاقا من النص بحصر المعنى.
أما التكييف فهو يطرح صعوبات عندما يتعلق الأمر بترجمة الصور والاستعارات وخصوصا الألعاب بالكلمات.
أما الإضافة والاختصار، فلا يمكن الفصل بينهما، وهما تنتجان عما يلي:
ـ بما أن المادة المعجمية والحقل الدلالي مختلفان، وبما أن القواعد التركيبية مختلفة، فمن الطبيعي أن وحدات المعنى لا تماثل عددا من الوحدات المعجمية المقابلة.
ـ بعض العناصر المكونة للمعنى يمكن أن تكون صريحة في لغة ومضمرة في لغة أخرى.
ونصل إلى إعادة التركيب: يحدث في الغالب ألا نقدر، في سلم الجملة، على بناء الترجمة على الأسس البنيوية المقدمة من طرف لغة المنطلق، سواء لأسباب تتعلق بالسلامة الدلالية للمعنى، أو لأسباب تتعلق بالالتئام التركيبي. الأمر الذي يفرض إعادة تركيب ملائمة.
وتلزم الإشارة إلى أن المترجم، وإن كان حرا في اختيار الطرائق التي توحي له بها قراءة النص وتحليله، فإنه ملزم باحترام مجموعة من الاصطلاحات والاستعمالات التي لا تكون دائما محددة بشكل دقيق وتثير ترددات مشروعة. ويمكن القول إنه في هذا المجال ليس التطابق هو الذي سيقدم أمنا كبيرا، لكن الحالة قد تفرض هذا التطابق بمعنى الحفاظ على الشيء كما هو في/وبلغته الأصلية، عندما يتعلق الأمر بترجمة أسماء الأعلام والأقيسة والمرجعيات الثقافية والألعاب بالكلمات… فبالنسبة لأسماء الأعلام عادة ما لا تترجم، وتضاف إليها عناوين المؤلفات وتسميات المنظمات… إلا إذا فرض الاستعمال تاريخيا مقابلات معروفة. وما يمكن استخلاصه من هذه الملاحظة أن التعامل مع هذه العناصر يتعلق بمستوى معلومات متلقي الترجمة. فهنا تظهر بالنسبة للمترجم ضرورة الاستعانة بالإشارة التفسيرية، فهي تعمل على تنوير المتلقي. ويفضل أن تكون مختصرة، مندمجة في النص. صحيح أن احترام النص هو في كل الأحوال القاعدة الجوهرية عند المترجم، وإذا حدث أن صادف المترجم لعبا بكلمة غير قابل للترجمة، فإن إشارة تفسيرية من المترجم إلى القارئ يمكن أن تشير إلى ذلك.
أما المرحلة الأخيرة في الترجمة، فهي وضع الصورة النهائية والمراقبة الكاملة الشاملة لمجموع العمل. فمهمة المترجم لا تنتهي تماما عند بناء الترجمة. ذلك لأن تجربة المراجعين بينت أن المراقبة والمراجعة الدقيقة تسمح غالب الأحيان بتجنب عدد من الأخطاء. ينبغي التأكد أولا من أن مجموع النص، أي مجموع خطاطة الدلالة، قد تمت معالجته، وأن التصميم الإخباري للترجمة يناسب مقتضيات النص، ومن الملائم أن نراجع أن كل ما يكون النص من حيث الإخبار قد تلقى الاهتمام الضروري، وينبغي في النهاية السهر على تصحيح الترجمة المقترحة (الاحترام الصارم لمعايير واستعمالات اللغة).
وهنا سيظهر للمترجم أن ليس هناك من "ترجمة واحدة"، وأن فعل الترجمة هو القيام باختيار بين عدة افتراضات. صحيح أن كل شيء قابل للترجمة والتفسير، لكن يحدث أحيانا ألا يكون مناسبا الحديث عن الترجمة، فعبارة التكييف ستكون المصطلح الأكثر ملائمة. إن الأهم خلال وضع الصورة النهائية للترجمة هو البحث عن أقل ما يمكن من التباعد عن النص الأصلي، ذلك لأن الترجمة هي دوما تقريبية، وتبقى على الدوام عنصر تقدير ذاتي: إن "الـ" ترجمة غير موجودة.
وإذا انتقلنا إلى وسائل الترجمة، فعلى المترجم أن يتسلح بكل الوسائل الإحالية والمرجعية الضرورية لإنجاز مهمته (الموسوعات، المونوغرافيات، المعاجم…)، والقراءة بصفة عامة تقدم لنا الكثير من المعلومات المهمة.
وإجمالا، فالترجمة هي أساسا ممارسة، لا تلعب فيها ذاتية المترجم دورا صغيرا، والقسم الأول من هذا الكتاب حاول مقاربة هذه الممارسة في عمليتها وفعليتهاn
(1) تمثل لهذه المؤلفات بما يلي:
Christine Durieux – Fondement didactique de la didactique. Didier Erudition, Paris 1988.
(Didactique de la traduction littéraire), table ronde, in. La traduction littéraire scientifique et technique, actes de colloque international, organisé par AELP, 21, 22 Mars 1991, Paris, Latilu éditeur.
Revue Palimpsestes, n° 1, 2, 3, 4 et 8. Presses nouvelles de Sorbonne.
(2) نقدم هنا ملخصا للقسم الأول من هذا الكتاب:
Gerard Hardin Et Cynthia Picot, Translate, Initiation à la pratique de la traduction, Manuel Dunod, Bordas, Paris 1990.