ارتبطت ممارسة الترجمة، في تاريخها الطويل، بالأحداث الاجتماعية والسياسية الفاصلة وبالتحوّلات العميقة في تاريخ الثقافات والحضارات، وبالصّراع على السلطة والنفوذ، وانصب عمل المترجمين في البداية على نقل النصوص القانونية والدينية، وكان مطلوبا من المترجم أن يُبلّغ ما يحمله من رسائل تبليغا أمينا لا تبديل فيه ولا تحريف، لأن الترجمات الدينية تتمسّك بقدسية الكلمة ولا تسمح بأي حذف أو إضافة. ثم خرجت ممارسة الترجمة لاحقا من المجال الديني إلى المجال الاجتماعي والمعرفي العام، فأصبح المترجم وسيطا بين المؤلّف والمترجم له، أي ذلك القارئ الذي لا يشارك المؤلّف نفس اللغة "وهذه الواسطة تجردت من حقوقها تجرّدا، وقامت بحقوق غيرها قياما" .
وأما طرائق الترجمة، فقد ظل يتجاذبها على مرّ التاريخ قطبان متصارعان: يتعصّب أنصار القطب الأوّل للترجمة الحرفية، أي "الأمينة"، ويرفضون رفضا باتا ما كان يُعرف "بالترجمة الحسناء الخائنة".وهي ترجمة المعنى التي يجعلها الديداوي مطيّة البيان، ورديف الوضوح، وهي في جوهرها "نقل المعنى من لغّة إلى لغة أخرى سواء كان هذا المعنى هو المعنى الذي يرتكز على الدلالة والمدلولات المرتبطة بالواقع والعالم المحيط، أو المعنى السياقي والموقفي الذي يتصل بسياق أو بموقف معين، أو المعنى النصي الذي يتجلى من الجمل المترابطة في تسلسلها". وخلص روبين براور من تحليله للعديد من النصوص المترجمة لقناعة تفيد بأن طرائق الترجمة انعكاس لتصوّرات المرء عن زمانه، وأن الأفكار التي تسود في عصر من العصور تساهم إلى حدّ كبير في تحديد قيمة الترجمة فيه.
ومثلما اختلف الدّارسون حول مناهج الترجمة وطرائقها، اختلفوا أيضا حول الغرض والغاية من الترجمة. ففي الوقت الذي يدعو شلايرماخر إلى النقل الأمين للنص المترجم، وإلى الحفاظ على خصوصياته الأسلوبية والتعبيرية وعلى طابعه الأجنبي من أجل أن تؤدي الترجمة دورها في إنجاح عمليات التثاقف وتشجيع التنوّع، نجد مقابل هذا النموذج الذي يمّحي فيه المترجم، ويتوارى خلف الأعمال الأجنبية، مدرسة أخرى ترى أن الهدف الأساسي من الترجمة هو إقامة علاقة مع الآخر وإنجاح عملية التواصل بين الشعوب والألسنة المختلفة، ومن هذا المنظور، فالترجمة ليست مجرّد تعبير وأداة تبليغ بل هي وسيلة لتقريب المعنى، ليس لمنطوق النص الأصلي، بل لفهم القارئ المستهدف، وهي بهذا المعنى أيضا "عمل على اللغة، وتفكير فيها مما يسمح للثقافات المختلفة أن تتواصل وتتحاور في ما بينها، فهي المثاقفة التي تسمح للنص بأن ُينقل من ثقافة إلى أخرى، وأن يُصاغ في قوالب مختلفة، تمنحه بفعل ذلك دلالات ووظائف جديدة" (الهواري، الوصلة الشبكية نفسها).
ولا غرابة بعدئذ إذا رأينا أن أزهى عصور الفكر وأشد المنعطفات في تاريخ الأمم قد اقترنت بازدهار حركة الترجمة لكونها حركة إثراء واغناء للثقافة المحلية.
غير أن للترجمة مقتضيات لابد من الوعي بها، إذا أردنا لها أن تؤدي وظيفتها في إبلاغ المعاني وإحكام الدلالات، بما يجعلها سهلة الاستيعاب والتوظيف، خاصة في ضوء التسارع المتواصل في تطوّر وسائل الاتصال ونظريات التواصل. وفي هذا السياق، طفت على السطح مقولات جديدة على صلة بعمل المترجم مثل مفهوم «القراءة"، بمعنى "الفهم العميق للنص المترجم". ففي الترجمة، تكون القراءة من فرد ينتسب إلى حضارة لنص ينتسب إلى حضارة مغايرة، وهي بهذا المعنى العام شكل من أشكال التفاعل بين طرفين، يتم خلاله إعادة صياغة المقروء من خلال تدخّل محدود من المترجم. وأما المقتضى الثاني، فهو "الفهم التاريخي"، أي قراءة النص المترجم ضمن سياق تاريخي وواقعي. ويستند هذا المفهوم إلى" الاعتقاد بأن معاني النص، أي نص، هي في النهاية ما يفهمه القارئ من ذلك النص".
ولكن، وحتى لا يتم الانزلاق بعيدا عن المعاني الأصلية للنص الأصلي، تشترط هذه النظرية الوعي بأن" لكل لفظ ثلاثة معان: المعنى الاشتقاقي والمعنى الاصطلاحي والمعنى العرفي، والمحدد في فهم النص هو المعنى الاشتقاقي الذي يربط اللغة بالواقع وبالمنطق، وعلى أساس من التفسير اللغوي، ينبني المعنى الاصطلاحي، ولكن كلا المعنيين السابقين يبنيان على أساس من الاستخدام العرفي للفظ، والمعنى الاشتقاقي في اللغة هو الثابت، لأنه أصل اللغة، وأما المعنى العرفي فهو المتغيّر، نظرا لتغيّر الأعراف والاستعمالات المختلفة للفظ عبر العصور، وأما المعنى الاصطلاحي، فهو محاولة الجمع بين المعنيين، والترجمات هي قراءات جديدة تُفقد فيها المعاني الاشتقاقية الأصلية للألفاظ ". وعليه فإن الترجمة شكل من أشكال القراءة من جهة، والتبليغ من جهة أخرى.
إن الوعي بهاتين الآليتين المنهجيتين من شأنه أن يفتح آفاقا جديدة أمام نظريات الترجمة، ويجعلها تساير تطوّر المعارف الحديثة، والتي بفضلها لم تعد الترجمة مجرد نقل لنص من لغّة إلى لغة أخرى، ولم يعد المترجم مجرد ناقل، بل أضحى له دور إيجابي يأخذ بعين الاعتبار علاقة النص بالواقع، الذي أُنتِج فيه، وبالواقع الذي يُنقل إليه، وهذا ما دعا جون جونستون إلى التأكيد على "أن الفهم التقليدي للترجمة بصفتها محاكاة لنص أصلي، أو مجرد نقل له إلى لغة ثانية، هو فهم غير كاف في التطبيق، ويقوم على نظرة جامدة ومغالطة للغة، والافتراض القائم على القول بأن معاني الألفاظ لا تتغيّر...افتراض واه ". من هذا المنظور فإن المفردات تتغيّر كما تتغيّر التعابير المصطلحية عبر العصور، فالخطأ كل الخطأ إهمال الدلالات والسياقات التاريخية أثناء الترجمة. ذلك أن هذه الحرفة، كغيرها من الصناعات والفنون، ليست بمعزل عن تأثير الزمان والمكان، بدءًا بالنصوص التي يقع ترشيحها للترجمة، والغايات والأغراض التي من أجلها تتم الترجمة، وانتهاء بالمناهج والطرائق، ومن الخطأ أن يُجهد المترجم نفسه في دفع أسباب، هذا التأثّر أو أشكاله، فليس بالوسع ممارسة الترجمة خارج إطار التاريخ والجغرافيا، ولا وجود للمعاني، أو الدلالات خارج ذلك المضمار. وإن المنطلق هو أن الترجمة عملية دينامية تنمو وتتطوّر مناهجها ووسائلها مع الوقت، وأنها قد تتحوّل في بعض الحالات، وفي بعض المجالات، إلى عملية إبداعية، محسوبة الخطوات والدرجات، تراعي مكوّنات النص الأصلي، وتتجاوب مع متطلبات القارئ المستهدف، وتحقق التوازن والمعادلة بين الطرفين: فكما أنها ليست صورة جامدة أو صدى مشوّها للأصل، تغترب فيه النصوص عن مجالاتها الدلالية وسياقاتها التاريخية، فإنها لا تخلّ أيضا بأخلاقية الوفاء للنص الأصلي. وهنا بيت القصيد: كيف يستطيع المترجم العربي أن يُحافظ على أصالة النص الذي ينقله، دون أن يُغفل حق المتلقي في قراءة نص سلس اللغة وبيّن الدلالة وواضح العبارة؟. وكيف يمكن قراءة تاريخ الترجمة العربية في ضوء هذه المنطلقات؟