كيف "صعد متوسّطو الكفاءة إلى السّلطة"؟ : حوار مع صاحب كتاب "المديوقراطية" ـ ترجمة وتقديم: محمّد عادل مطيمط

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم:
نترجم هنا كلمةMédiocre الفرنسيّة بعبارة "متوسط الكفاءة" لأن الأمر يتعلق بمجال العمل والتسيير في المجتمعات المعاصرة، التي بعد أن كانت تفوّض إدارتها إلى من يتمتعون بالأهلية التامة في مجالاتهم، انتقلت تدريجيا نحو وضع يقتضي توظيف من هم في مستوى "المعدّل العام"la moyenne générale  (المتوسّط)، ونحو الحطّ من درجة الكفاءة الوظيفية إلى المستوى المتوسطMédiocre ، بل والى ما هو أدنى من المتوسط. أما ما يسمّيه "آلان دانيو" هنا بالمديوقراطيةMédiocratie  فهو حسب رأيه سيطرة هذا المستوى اليوم على مجالات العمل والتسيير بشكل عام، إنه كما يقول "المستوى المتوسّط وهو في طور الفعل"(La médiocrité en acte  )، أو قل في طور التحكّم. وإذا أردنا أيضا تحميل العبارة شُحْنةً أخلاقية وسياسية فإنه يمكننا أن نستخدم لفظ "تفاهة"، (ومنها التافه: جمع توافه وتافهين) أو "رداءة" أيضا، وذلك قياسا على  درجة الانحطاط الحاصل وعلى ما لحق بالمجتمعات من ضرر اجتماعي ومعرفي وسياسي من جرّاء صعود وتفشي هذا النمط الجديد من التسيير. وفي الحقيقة، يضعنا المعجم الفرنسي أمام المعنيين في الآن نفسه: فالجذر اللاتيني mediocritas يعنى أن يكون الشيء في مستوى متوسّط (fait d’être moyen) وهو ما يتأتى من معنى medium، أي milieu. ولكن المعاجم الفرنسية تحيلنا أيضا إلى المعنى الثاني الذي يدلّ على المستوى الأدنى من المتوسط (Dont la valeur est inférieure à la moyenne) وعلى التفاهة أو حتى الرّداءة (Qui n’est pas intéressant, qui est très mauvais).

ويعتبر "آلان دانيو" في حواره هذا مع الصحفي "ماتيو ديجان" Mathieu Dejean في مجلّة "إنروكيبتيبل" Les Inrockuptibles (وقبل ذلك في كتابه: المديوقراطيةLa Médiocratie  الصادر سنة 2015 بمونريال)، أن ظاهرة انحدار مستوى الكفاءة إلى الدرجة المتوسطة التي برزت أولا في المجال الاقتصادي عبر تحويل الحرفMétiers  إلى وظائفEmplois ، لم تلبث عدواها أن سرت بسرعة كي تطال المجالات المعرفية والإدارية والسياسية. وهو ما شكّل مشهدًا مجتمعىًّا قائمًا على تدنّى مستوى الكفاءة في كل المجالات، حيث يصعب على المثقفIntellectuel  أو المفكر، أو كذلك السياسي بالمعنى الكلاسيكي أن يتبوأ داخله مكانة محترمة. وعلى الصعيد السياسي بصفة خاصّة، لا يتعلق الأمر مثلما يبيّن "دانيو" بتيّار الوسطLe Centrisme  الذي يحاول الجمع بين مقتضيات اليمين ومقتضيات اليسار(بشقّيهما المعتدل والمتطرّف) بل بما يسميه الوسط المتطرّفL’extrême centre  الذي يقود في النهاية إلى إلغاء كلّي لليسار ولليمين، بل وإلى إلغاء تيّار الوسط نفسه مُبْقِيًا فقط على خطاب تمويهي ومنمّق يتظاهر بالمعرفة هو خطاب الحوكمةGouvernance  الذي يهدف إلى الاقتصار على تنسيق المتطلّبات الظرفية لمكوّنات المنظومة النيوليبرالية المتطرّفة وعلى إخفاء الآثار السلبية الناتجة عن ذلك (= سفسطةSophistique ). يقف هذا التطرّف الوسطي اليوم في مواجهة شاملة مع كل مكونات اللعبة السياسية والاجتماعية التقليدية مهددا إياها جميعها بضرب من التوتاليتارية غير المسبوقة تاريخيا. ويمكننا الاستشهاد بالاحتجاجات الأخيرة في فرنسا وبعض الدول الأوروبية، التي التقت فيها قوى يسارية ويمينية (قوى سياسية تقليدية = ديناميكية اجتماعية وسياسية حقيقيّة) على مواجهة منظومة لا-سياسيةApolitique  ومديوقراطية متطرّفة تهدّد استمرار الديناميكية السياسية التقليدية تهديدا جدّيًّا.

وبالمناسبة، يستطيع القارئ أن يلاحظ التوازي بين انحطاط مستوى الكفاءة في منظومة الحوكمة اللاسياسية (النيوليبرالية) في الغرب، وصعود التيارات الإسلامية في بعض دول جنوب المتوسط. فما يسمّى بالإسلام "السياسيّ" "لا-سياسيٌّ"Apolitique  في جوهره، وهو يتماهى بشكل لافت مع منطق المديوقراطية النيوليبرالية الغربية. إنه يقصي الكفاءات ذات الأهلية لحساب مستوى متوسّط ورديء في أحيان كثيرة. فليس من الغريب في تجارب حكم الإسلاميين أن ترى "جزارًا" أو بائع "بيتزا" يُعَيّنُ وزيرًا للصحة أو للثقافة، حيث يتمّ ذلك في انسجام تام مع منطق القابلية للمبادلةInterchangeabilité  المُعمّمِ والناتج عمّا يقتضيه النسق من تدنٍّ شاملٍ لمستوى الكفاءة. وما لم يكن الأمر كذلك فإنهم يعيّنون "الخبراء" الذين هم بطبيعة تكوينهم التقني محدودو الأفق وغير قادرين على إقامة رؤية شاملة ونقدية بالانطلاق ممّا يقومون به. ثمّ إن الأهم من ذلك في الإسلام السياسي هو النزعة الامتثاليةConformisme  التي من شأنها أن تعطّل، باسم الجماعة أو بموجب الامتثال لما ينصّ عليه الدين، كل ردّ فعل مدني ضدّ المنظومة الاقتصادية. فالإسلام السياسي  (الذي هو مثل المديوقراطية تماما ليس باليمين ولا باليسار بل ضربًا من الوسط المتطرّف بغطاء ديني = ممّا يزيد الطين بلّة مثلما يقال) يجد تبريرا خطيرا لهذا التدمير للديناميكية السياسية في نصوص تراثية ودينية قديمة. وهو ما يسهّل عليه التلاعب بعقول الجماهير المتعطشة للخلاص، ويجعل منه تبريرًا فائق النجاعة لمتطلبات الهيمنة النيوليبرالية التي تبحث دائما عن التخفي وراء الأقنعة المنمّقة. ولعل السمة الأخرى البارزة في هذا التقاطع (أو التوازي، بل وحتّى التماهي) بين المديوقراطية والإسلام السياسي، تتمثل في القدرة على التلوّن والتقلّب في المواقف (من منظور التصوّر السياسي التقليدي الذي يشترط الانسجام في الخطاب)، أي في ما يسميه الكاتب في هذا الحوار بالسفسطة. وما الاتّجاه الإسلامي السياسي نحو التحالف غربًا مع العالم الانجلوسكسوني، وكراهية التنوير الفرنسي وإرث الثقافة الإنسانوية اللاتيني (حيث أنّ ذلك يفسّر جانبا كبيرا من المعاداة الشرسة للغة الفرنسية لدى بعض "السياسيين" و"المثقفين" المغاربة)، إلا مؤشّرًا عميقا على ذلك.

الأخطر من كلّ ذلك في النهاية هو أن يسير العالم نحو هيمنة مديوقراطية مُعَمَّمَةٍ تتسلّح تارة بالسفسطة وطورا بالدين، أو بهما معا في الآن نفسه، لِتَمْحُوَ ما تبقى للبشر من قدرة على الفعل التاريخي الحقيقي، ولِتُحَوِّلَ كوكبَ الأرضِ إلى ما يشبه المَدْجَنَةَ.

تقديم المجلّة:

عندما وقع طرد الصحفي "دانيال مرميه" Daniel Mermet من إذاعة فرنسا الدولية في شهر جوان 2014، صرّح لمجلّة "إنروك" قائلا: "ها أنّ متوسطي الكفاءة قد عادوا إلى الهضبة الخصبة". أمّا الفيلسوف "ألان دانيو" فهو يذهب من خلال رؤيته للمشهد العالمي الراهن إلى أبعد من ذلك قائلا: " لم يحصل أيّ استيلاء على الباستيل، ولا أي شيء يُشبه حريقَ "الرايشستاغ" ولم تُطْلقْ الباخرة الرّوسية "أورور" بعدُ أيّة طلقةٍ. ورغم ذلك فإن الهجوم قد انطلق فعلا وها إنه قد توّج بالنصر: إنّ متوسّطي الكفاءة قد استولوا على السلطة". تلك هي الثورة الصامتة التي يقوم "ألان دانيو" بتحليلها من كل جوانبها في كتاب المديوقراطية، الذي كان لصدوره أثر الصدمة.  وخلال زيارته لباريس مؤخرا، شرح لنا هذا الأستاذ في العلوم السياسية بجامعة مونريال الأسس التي ينبني عليها تفكيره في المسألة.

قيم من الحوار:

  • مجلة "إينروكيبتيبل": كيف استولى متوسّطو الكفاءة على السلطة حسب رأيكم؟ ومنذ متى أصبح للمستوى المتوسط شأن؟
  • "آلان دانيو": تنقسم جينيالوجيا استيلاء متوسطي الكفاءة على السلطة إلى فرعين: فرع تمتد جذوره إلى القرن 19، أيّ إلى تلك الفترة التي تمّ فيها تحويل الحِرَفِmétiers إلى وظائفٍemplois ، حيث اقتضى ذلك تنميطاstandardisation  للعمل، وحيث تمّ تصوّر ما يمثل مُعدَّلا نمطيّا moyenne standardisée ضروريّا لتنظيم العمل على نطاق واسع، وذلك وفقا لنموذج الاغتراب المعروف الذي كان ماركس قد تحدّث عنه. فقد تمّ جعل هذا العمل المتوسّطTravail moyen  شيئا غير متجسّد وفاقد للمعنى. وهو ليس سوى "وسيلة" لرأس المال كي ينمو وللعمال كي يحافظوا على بقائهم.

أمّا الصورة الثانية لهذا الاستيلاء على السلطة فإنها تكمن في التحوّل من السياسةPolitique  إلى ثقافة التصرّفCulture de gestion . فلقد أدّى التخلّي المتنامي عن المبادئ العظمى، وعن التوجّهات والمواقف المنسجمة لصالح المقاربة الظرفية circonstancielle - حيث لم يعد هناك من يتدخل سوى "شركاء" يلتقون حول مشاريع محدّدة ودون استدعاء فكرة المصلحة المشتركة - إلى تحويلنا إلى مواطنين يُذعنون إلى قواعد اللّعبة ويستسلمون أمام كل ضروب الممارسات الغريبة عن المبادئ والكفاءات والمبادرات. ويُطلق على فنّ التصرّف هذا اسم "الحوكمة" La gouvernance .

هاتان الظاهرتان قادتا بعض المفكّرين في القرن العشرين إلى القول إنّ المديوقراطية لم تعد مسالة هامشية  تخص أشخاصا ينقصهم الذكاء  ويستطيعون رغم ذلك أن يصبحوا ذوي شأن، ولكنها أصبحت اليوم نظاما قائم الذات. في هذا النظام، يجد المرء نفسه، وهو الأستاذ أو الفنّان أو المدير، مُجْبَرًا على الخضوع لوضعيات تسلّطية حتّى يضمن بقاءه.

ونتيجة ذلك على الصعيد السياسي هي أن كلّ موضوع تتمّ مقاربته بناء على منطق "إيجاد الحلّ" Problem solving. ولعلّ ما يحدث في فرنسا هذه الأيام أمرٌ ذو دلالة في هذا السياق: فللرّد على الهجمات الإرهابية يتمّ اللجوء إلى القصف، أي أن الرّد يتمّ باستخدام إستراتيجية الحلّ بالمعنى الجراحي للكلمة، في حين أن المطلوب هو التأنّي وسلوك طريق الحكمة.

  • "إينروك": هل يرتبط ظهور المديوقراطية بثورة الثمانينات الليبرالية وبهيمنة النزعة الامتثالية Conformisme في المؤسسات ، وكذلك بما نتج عن ذلك من إخضاع قسري لعالم العمل ؟
  • "آلان دانيو": نعم، والأمر صحيح بقدر ما أن الحوكمة التي ركّزتها فئة التكنوقراط التي اشتغلت مع "مارغريت تاتشر"، قد جعلت من الليبرالية المتطرّفة مقاربة واقعية[1]. وبذلك فإن الخيار النيوليبرالي لم يعد مجرّد خيار،  بل أصبح شيئا عاديّا تماما مثل التنفّس. لقد نجحت الحوكمة في إظهار الايدولوجيا النيوليبرالية على أنها معرفةSavoir  وعلى أنها نمط حياة اجتماعي، كما لو كان ذلك هو الأساس الذي يجب أن يرتكز عليه النقاش، في حين يُفترض أن يكون هو المشكل.

لم يعد هناك منذ الآن كلام عن المصلحة المشتركة، إذ يتمّ التصرف كما لو أن المصلحة العامة ليست سوى مجموع المصالح الفردية التي يجب على كل الأفراد أن يدافعوا عنها باستمرار. وقاد ذلك إلى تحويل المرء إلى مجرّد "لوبي" صغير يدافع عن مصالحه الخاصة أو مصالح فئته. وذلك هو ما ينمّي ثقافة المكائدla culture de grenouillage  والتوافقات المشبوهة.

  • "إينروك": أنتم ترون أنّ " الخبيرL’expert يمثل الوجه الأساسي للمديوقراطية"، فكيف تفسرون هذه المفارقة؟
  • "آلان دانيو": لا يكتفي الخبير بتوفير المعرفة للأشخاص الذين يقومون بالمداولة. فهو ايديولجيIdéologue  يقدّم خطابه على أنّه معرفة. في الجامعة، يجب على الطالب أن يسأل نفسه من هنا فصاعدا حول ما إذا كان يريد أن يصبح خبيرا أو مثقفاIntellectuel ، علما وأن وظيفة الخبرةl’expertise  تتمثل خاصة في بيع  المرء لمعارفه إلى متدخلين يهمّهم ضبط حجم  ما ينتجه عملنا الفكري بطريقة موجّهة، أي بطريقة تحقّق المصالح.
  • "إينروك": تذكرون في هذا السياق عميد جامعة مونريال الذي قال سنة 2011: " يجب أن تكون الأدمغة ملائمة لحاجات المؤسسات".
  • وهو كذلك تمامًا. الأمر أشبه بما ذهب إليه "باتريك لو لاي"Patrick Le Lay [ الرئيس المدير العام السابق لTF1] الذي قال سنة 2004: " إنّ ما نبيعه لكوكاكولا هو زمن الدماغ البشري المتاح"( "Ce que nous vendons à Coca-Cola, c'est du temps de cerveau humain disponible". ). فذلك العميد ينظر إلى مؤسسته – وهي إحدى الجامعات الفرنكفونية الأكثر أهمية - باعتبارها تبيع أدمغة إلى المؤسسة الصناعية.  بل إنّ هذه المؤسسة تشغل هي بنفسها عدّة مقاعد في مجلس إدارة تلك الجامعة، وبالتالي فإنها تساهم في تقرير اتجاهها.

نحن في عالم يتمّ فيه إنتاج المعرفة من أجل تحقيق حاجة المؤسسة، في حين أن دور المثقفين يتمثل في جعل المؤسسة موضوعا للتفكير. لقد تكلم "ادوارد سعيد" عن ذلك بشكل جيّد: إنّ الخبير لا ينشغل بما يَنْتُجُ عن مَعْرِفَتِهِ. بإمكان أن يكون المرء جيولوجيّا، كأن يذهب للبحث عن الزنك أو النحاس في "كاتنغا"، ولكنّه سيكون عديم الكفاءة تماما عندما يتعلق الأمر بالتفكير في تأثير هذه الممارسة على صعيد شامل في "الكونغو". فالصناعة لا تريد من الخبراء أن يكونوا أكفّاء لأن ذلك لا يخدم مصلحتها.

وفي مقابل ذلك، يكون نشاط المثقف نشاط شخصٍ هاوٍAmateur ، بمعنى شخص متعلّق بموضوع تفكيره، وشاعر بأهمية كل جوانب ذلك الموضوع بالنسبة إليه، وهو الأمر الذي يقتضي منه أن يكون متعدد الاختصاصات (Interdisciplinarité ).

  • "إينروك": لقد بينتم كيف أن الخطاب السياسي أصبح مسكونا بلفظ ذو نبرة وسطيةcentriste هو لفظ "حوكمة". فهل أنّ ما تستنكرونه من وراء كلمة "مديوقراطية" هو نهاية التصورات اليوتوبية؟
  • "آلان دانيو": أنا لا أَصِلُ إلى هذا الحد. فلا يتعلق الأمر بمصطلح وسطيcentriste ، ولكن بالوسط المتطرّفl’extrême centre الذي برز اليوم – وهو نقيض ذلك تقريبا. فالخطاب الوسطي يتموقع بدهاء على المحور يسار/يمين، في حين أن الخطاب الذي ينتمي إلى الوسط المتطرّف لا يتحمّل وجود أي خطاب مغاير له. (...)

إن أنصار الحوكمة أبعد ما يكون عن الاعتدال خلافا لما قد يوحي به خطابهم. إنهم سفسطائيو الأزمنة الحديثة الذين يُتقنون فن التملّق للنقابات عبر إيهامها خلال المنتديات الاجتماعية بأنّهم يرغبون في أخذ مطالبها بعين الاعتبار. ولكنهم في الحقيقة يعملون قبل كل شيء على كسب ودّ تلك النقابات. وادّعاؤهم بأنهم توفيقيّون هو في حقيقته خطاب متطرّف يتزامن غالب الأحيان مع ممارسات ظالمة ولا-ديمقراطية. فالنظام الذي يهدّد التوازن البيئي بنسبة 80 في المائة، ويسمح لِنِسبَةِ 1 في المائة من الأثرياء بامتلاك 50 في المائة من الأصول العالمية Les actifs mondiaux، ليس من الاعتدال في شيء.

  • "إينروك": يبدو أن المديوقراطية تتمتع بقدرة عجيبة على تجريد كل شيء من بعده السياسي) tout dépolitiser)، في حين أن ما تطرحه يمثل موقفا متطرفا: أنتم تذكرون مثلا قانون 78 الذي يقيّد بصرامة الحقَّ في التظاهر والذي تم اعتماده في "كيباك" سنة فكيف يمكن إعادة تسييس المجتمع(repolitiser la société)؟
  • "آلان دانيو": أنا أناضل من أجل العودة إلى استخدام مصطلحات ذات معنى، أعني كل تلك الكلمات التي سعت الحوكمة إلى إلغائها والسخرية منها أو استيعابها: المواطنة، الشعب، الطبقات، النقاش، الحقوق الاجتماعية، الثروة المشتركة... فقد تمّت الاستعاضة عن هذه المفاهيم ب "شراكة"، "مجتمع مدني"، "المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات"، "المقبولية الاجتماعية"، الأمن الإنساني"..الخ. هناك الكثير من الكلمات الفضفاضة التي أزاحت من الحقل السياسي مرجعيّات عقلانية كانت ذات دلالة. بل إن كلمة "ديمقراطية" هي نفسها قد تمّ تعويضها تدريجيّا ب"حوكمة". فهذه الكلمات تستحق أن نعيد تأهيلها على غرار كلمات "مريضPatient " "مستخدمusager" "مشترك" "مشاهدspectateur" التي وقع تعويضها بكلمة "حريف"Client. إن اختزال كلّ شيء في أنظمة تجارية  يُلغي السياسة ويقود إلى اندثار المرجعيّات التي تسمح للناس بالفعل.

لا يمكننا أن نختار بين الفعل أو التفكير: فاذا كنا قد قمنا بفعل ما، فان معنى ذلك أننا قد فكّرنا مسبقا، ولكي نفكّر يجب أن نمتلك المفاهيم المناسبة. وما يتمّ الآن تدميره ليس تصورات يوتوبية بل هو تقاليدٌ تَعْبَويّةٌTradition mobilisatrices  عرفها التاريخ. فلم تعد الدول اليوم تمثّل سوى شريكٍ لمؤسساتٍ تتمتّع بمنزلةٍ مكافئةٍ لمَنْزِلتهَا. هناك مصالح صغيرة يقع إلصاقها بالمصالح الكبرى ولكن لا توجد خلال ذلك مفاهيم مشتركة.

  • "إينروك": هل يمثل المنتدى العالمي للمناخ COP21 مثالا جيّدا عن مسار الحوكمة هذا، طالما أن تمويله يأتي من مؤسسات وبنوك تمارس التهرّب الضّريبي؟
  • "آلان دانيو": ما يرمز إلى الحوكمة في المنتدى العالمي حول المناخ COP21 هو تلك الاستعدادات المتمثلة في أن برنامج العمل يتضمّن مقترحات متأتية من المدافعين عن البيئة بقدر ما يتضمّن مقترحات متأتية من شركة "توتال". وإذا كان الغاز أفضل من البترول من وجهة نظر مناخية، فان "توتال" تقترح تبنّي ذلك حتى وإن أدى الأمر إلى تدمير الموائد المائية. تلك هي الحوكمة: ظاهرة تتحول فيها علاقة الهيمنة - التي يحاول فيها الأقوياء دفع الضعفاء إلى تبني مشاريعهم من خلال نقاشات واستشارات هزلية يتم خلالها محو التناقضات - إلى موضوع كبير للنقاش العمومي.

 

[1] عبارة تاتشر الشهيرة هي : « There is no alternative » . وقد قامت تلك الأطراف الممثلة لإيديولوجية السوق هي نفسها بتقديم الإسلام السياسي (الصاعد إلى الحكم في بلداننا بعد ما أسماه الغرب بالربيع العربي)، على انه إسلام معتدل أو حداثي ومستنير...الخ من طرق التنميق والسفسطة التي تمّ ويتمّ استخدامها إلى اليوم. فلا تملك المنظومة النيوليبرالية حيلة أخرى لإقناع الناس بما لا يمكن الاقتناع به.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟