في بداية الألفية الثالثة، صدر لماريو بارغاس يوسا رواية "حفلة التيس" عن دار النشر "غاليمار" الشهيرة. في هذه الرواية تحدث الروائي عن مدينة عليها أحد الطغاة الذي يذيق شعبه الهوان. استطاع ماريو بارغاس رسم صورة مرعبة لذلك الطاغية، مستعيناً بحسه الروائي العميق، وبتجربته الأدبية الفنية. نجح في تقصي فترة تاريخية، سياسية تصعب على الرواية تناولها بنفس الشكل.
ثمة وصف عميق ودقيق للدواخل الشخصيات ومشاعرها، وحالات الهلع والذعر التي تنتابها، ووصف آسر للشوارع والبيوت والحدائق والطرقات والروائح، وزرقة البحر وفق منحى بصري لا يترك شيئاً إلا ويجد له حيزا في رواية الأرواح الباحثة عن الطمأنينة في تضاريس تلك الجمهورية المضطربة والقلقة، فتتحاور بخوف، وتحيا بخوف، وتموت بخوف... لكنها تتغلب في النهاية على هذه العقدة، وتقتل الطاغية.
بشجاعة نادرة، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، تناول الكاتب التجربة الدموية التي خاضها رافييل ليونيداس تروخيو في جمهورية الدومينيكان خلال ثلاثين سنة. بهذه المناسبة، التقت مجلة "باري ماتش" الفرنسية بهذا الكاتب المثقف وأجرت معه حوارا في ما يلي نصه:
- ما هي الاختلافات الأساسية بين الرواية في أمريكا الجنوبية وفي أمريكا الشمالية وفي أوربا؟
+ لانستطيع إقامة فروقات جغرافية، جهوية أو لغوية. إذا كان ثمة مكان تسود فيه الفردانية فهو الأدب، حتى ولو أن كاتبا يعبر عن ذاته بفضل اللغة والثقافة والتقليد، فإن هذا القاسم المشترك يكون أقل أهمية من الإبداع الفردي والمحيط الاجتماعي والخيال واللغة والتاريخ الشخصي للكاتب. أحسن دليل على ذلك هو أنه توجد قرابات بين كتاب متباعدين جغرافيا. فالأكثر وفاء لفلوبير هو كلارين، كاتب إسباني عاش في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكتب له أن صادف صاحب رواية "مدام بوفاري". ما كان له أن يؤلف كتبه لولا قراءته لكتابات فلوبير. سارتر لم يكن بمقدوره كتابة "دروب الحرية" لولا دوس باسوس. لولا فلوبير لما وجد مئات الكتاب.
- وأنت على من تعتمد في وجودك؟
+ على جماعة كبيرة من الناس، شجرة أنسابي شهيرة جدا: فلوبير، مالرو، فولكنر، تولوستوي، سرفانتيس.
- في روايتك "حفلة التيس"، استعرت من تولوستوي هذه الإرادة لكتابة جدارية تاريخية؟
+ رواية "الحرب والسلام" وطموحه فائق الحد أثرا في بشكل كبير. بواسطة هذا الكتاب، تولوستوي "أراد منافسة القانون المدني"، حسب تعبير بلزاك. زد على ذلك أن هذا الأخير هو الذي أعطى أفضل تعريف للرواية بحيث اعتبرها ديوان الأمم. إنها إحدى عجائب الذكاء. هذا ما حاولت تطبيقه في كل أعمالي. فإذا كان المؤرخون عاجزين عن حكاية بعض الأشياء، فإن الروائيين بمستطاعهم فعل ذلك. هؤلاء يستعملون الخيال والفانتازيا المحظورين على المؤرخين.
- متى خطرت على بالك فكرة تأليف هذا الكتاب؟
+ عندما كنت طالبا، سمعت الناس يتحدثون عن رافائيل ليونيداس تروخيو كان يشكل صنفا من الدكتاتور النموذج. في سنة 1975، أقدمت شركة "بارامونت" السينمائية على اقتباس إحدى رواياتي بجمهورية الدومينيكان التي سافرت إليها وقضيت بها ثمانية أشهر. خلال هذه المدة، سمعت عنه أشياء لا تصدق. بدأت أقرأ كل الكتب التي تطرقت إلى نظام حكمه، وهذا ما أعطاني فكرة كتابة رواية عنه. منذ تلك اللحظة باشرت بحثا استغرق إنجازه عشرين سنة. أعدت قراءة صحف ذلك العهد، تفحصت الوثائق الرسمية للنظام الحاكم (آنذاك)، التقيت بشهود وضحايا، ووجهت أسئلة إلى وزراء سابقين، بل حتى إلى الرئيس بلاغير. وباعتباره متعاونا مع تروخيو، تولى بلاغير الحكم خلفا له بطريقة سلطوية، قبل أن يعطي الانطلاقة لمسلسل دمقرطة البلاد وينتخب سبع مرات عن استحقاق نسبي لمنصب رئيس الدولة. يالها من براعة منقطعة النظير! ذهب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لأجل فضح النظام الذي يشارك فيه وطلب المساعدة.
- كيف استطعت أن تتعايش خلال عشرين سنة مع تروخيو، كاليغولا القرن العشرين؟
+ الأدب يسمح بتحويل القبيح إلى جميل، واللئيم إلى كريم. على ذكرك كاليغولا، إذا أعدت قراءة ألبير كامي، فسوف تهتز مشاعرك..تروخيو هو الوجه الدال على الطاعون السلطوي. قليلون هم الدكتاتوريون الذين جنحوا مثله إلى العنف والشراسة والفساد. لقد تفوق في جعل جمهورية الدومينيكان مسرحية هزلية هو من كتب لها السيناريو وقام بأدائها وإخراجها.
- كيف وصل إلى هذا الحد؟
+ الجيش، الكنيسة، الشعب ووزراؤه والولايات المتحدة، كلهم ساندوه وغضوا الطرف لمدة طويلة عن انتهاكاته. الدكاتاتوريون ليسوا أعراضا طبيعية، إنهم ينشأون مع بعض التعقيدات. لقد اعتقد شعب الدومينيكان أن هذا الزعيم سيحقق الاستقرار والأمن وبعض الازدهارفي البلاد. عندما أقدم سنة 1937 على اغتيال ما يقارب 20 ألف من الهايتيين تصاعدت شعبيته مرة أخرى. الشعوب كانت سريعة التأثر بخارطة القومية. لم يفقد مساندة الكنيسة والولايات المتحدة إلا في العامين السابقين لمقتله.
- ما هو الشيء الذي جعل من تروخيو شخصية روائية؟
+ استطاع أن يفعل ما شاء فعله لدرجة أنه تقدم للانتخابات كمرشح من المعارضة ضد نظامه الخاص. ولما بلغ نجله تسع سنوات عينه عقيدا، في سن الثانية عشر رقاه إلى رتبة جنرال. كان تروخيو يشعر بالخجل من أصوله الهايتية. لذا عمل أي شيء لأجل تبييض جلده. كان يتحقق من إخلاص وزرائه عن طريق مضاجعة نسائهم. في أمريكا الجنوبية كان الإحساس بالإهانة عارما، ومع ذلك لم يعبر أحد من سكانها عن احتجاجه.
- بينوشي، ستروسنر، تروخيو، سوموزا، نوريغا..لماذا يوجد الكثير من الدكتاتوريين في أمريكا اللاتينية؟
+ لايوجد عندنا تقليد ديمقراطي. كانت حضارتا المايا والأزتيك متقدمتين جدا، لكنهما لم تكونا ديمقراطيتين، بل كانتا حضارتين استبداديتين. في ما بعد، لما نزلت أوربا إلى القارة، فرضت دينها وثقافتها بطريقة أحادية. وعندما انقسمت أمريكا الجنوبية إلى جمهوريات مستقلة، حاولت هذه الدول مداولة وتمرير بعض الأفكار الديمقراطية لكنها ظلت حكرا على الأقلية ولم تنفذ إلى سائر الهرم المجتمعي. أذن الفراغ وحل محل الأحزاب السياسية والمؤسسات التي لم تكون موجودة أصلا. عمري الأن (2002) 66 سنة، سلخت ثلاثة أرباع من حياتي تحت وطأة الدكتاتورية، وهذا طبعا ما يجعلني أتمرد باستمرار.
- ما ذا تقول عن فيديل كاسترو؟
+ التقيت به في بداية عقد الستينيات. كنت أعتقد مثل كثير من الناس أن الثورة الكوبية هي ما كنا نبحث عنه. اعتقدت أنها زاوجت بين الاشتراكية والحرية. كان ذلك خطأ فادحا. فيما بعد، فهمت أنه لم يطبق سوى النموذج الاشتراكي السلطوي، فقمت بفضحه، وأنا الآن شخص غير مرغوب فيه بالجزيرة حيث صودرت كتاباتي.
- سنة 1990، تقدمت للانتخابات في مواجهة مع ألبرتو فوجيموري. لماذا انهزمت؟
+ اسأل الناخبين البيروفيين..لم تكن عندي ملكة رجل سياسة. بعد ولاية ألان غارسيا، أخذت الديمقراطية تنهار في البيرو، التضخم المفرط نخر البلاد. لقد أحسست بأن الدكتاتورية وصلت بعدما أسرعت الخطى، لذا قررت المشاركة كمهني في السياسة. لن أقوم بنفس الشيء مرة أخرى، لكني لست نادما على أي شيء. لقد استفدت الكثير. إن ممارسة السياسة يوما عن يوم توحي بالدسائس والمناورات والوقاحات. كنت ألقي في اليوم الواحد عشر خطب أحيانا. لقد لاحظت أني لم أستطع تجنب الأفكار والسلوكات الجاهزة والكليشيهات مع أني رجل كلمات.
- تعيش موزعا بين لندن وباريس ومدريد وليما، هل تخاف من الهيمنة الأمريكية؟
+ إن الهيمنة الأمريكية شبح صنعه القوميون، إنها عبثية. التقليد الفرنسي يستبعد فكرة الحدود. فحينما باشرت قراءة الكتاب الفرنسيين في البيرو، لم أكتشف فرنسا وحدها بل اكتشفت العالم. فولتير، فلوبير، بودلير، ملارمي، بروست، سارتر، مالرو وكامي طوروا أفكارا مقبولة في العالم بأسره.
- أليست الثقافة الفرنسية مهددة من طرف الإمبريالية الأمريكية؟
+ أنا أمارس بانتظام التدريس في الجامعات الأمريكية. فإذا كانت هناك هيمنة، فهي هيمنة الثالوث الفرنسي: لاكان، دريدا، فوكو، بالإضافة أخيرا إلى بورديو. هؤلاء دعامات التعليم، لا نستطيع المساس بهم. من المحظور القول إن لاكان كان ثرثارا أحيانا. إن فرنسا هي التي تستعمر الجامعات الأمريكية وليس العكس.
- كنت في فرنسا إبان فترة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بماذا تفسر صعود اليمين المتطرف؟
+ أنا أشعر بالقلق. ليس من الطبيعي أن تتمخض إحدى أعرق وأصلب الديمقراطيات في العالم عن يمين متطرف بنسبة 20 %. إنه بالأحرى تصويت للاحتجاج؛ ذلك أن الفاشيين يمثلون أقلية في فرنسا. اليسار هو المسؤول الأول عن هذه النتيجة. لقد أبان عن لامسؤوليته عند قيامه بحملة منظمة ضد العولمة. فهو نظر إلى توحيد الأسواق كمؤامرة تحيكها الشركات المتعددة الجنسيات والرأسمالية المتوحشة، بيد أن هذه هي حجج الفاشية. إنها تشجع على الذود عن حمى الأمة وكذا على العنصرية وكره الأجانب. الليبرالية هي أساس الديمقراطية. توجيه أصابع الاتهام إليها يعد لعبا بالنار. على خلاف ما هو عليه الحال في إنجلترا وإسبانيا، لم يقم اليسار بعصرنة آلياته، وها هو يجني ثمارا مرة بسبب ذلك.
- ما ذا سيصدر لك مستقبلا؟
+ أشتغل منذ ثلاث سنوات على سيرة جدة الرسام بول غوغان. هذه المرأة الناشطة الاجتماعية والنسائية قبل الحالة النهائية، كان أبوها بيروفيا. لأجل تطوير أفكارها، فطنت إلى ضرورة مزاوجتها بأفكار الإصلاحيين والثوريين. أما في ما يخص غوغان، فقد كان أول فنان في أوربا تجرأ على محاربة النزعة العرقية المركزية. تمثل اعتقاده الراسخ في كون القارة العجوز سوف تشهد انحطاطا إذا لم تنفتح على الثقافات الأخرى. سافر إلى بانما وبوليزيا، أراد كذلك الذهاب إلى الصين وجزيرة مدغشقر.
- هل ينتابك القلق من الصفحة البيضاء؟
+ كلا، لم أشعر به أبدا. الشيء الوحيد الذي أخشاه هو ألا يكون عندي الوقت لكتابة ما أود حكيه. لدي مشاريع كثيرة، وأعلم أني لن أعيش عمرا أطول لإنجازها.