الأرجح ان power point هو أكثر برامج الكومبيوتر إثارة للنقاش عن أثر الحاسوب سلباً على تفكير الناس في الأزمنة المعاصرة. وفي المقابل، لعله البرنامج المعلوماتي الأكثر حضوراً في مكاتب مؤسسات الخدمات المختلفة، والقاعات التعليمية والرسمية، والاجتماعات بأنواعها، وحلقات الدراسة وغيرها.
ومع التوسّع الهائل للأعمال المتصلة بالمعرفة، وخصوصاً في الاقتصاد والتجارة، بات حضور برنامج «باور بوينت» Power Point المتخصّص في عرض الشرائح الضوئية جزءاً بديهياً من تلك الأنشطة. وعلى رغم اشتهاره بأنه جزء أساسي من مكوّنات تطبيق «مكتب مايكروسوفت » MicroSoft Office، صُنع أصلاً في شركة «ماك آبل» المُنافسة قبل عشرين سنة، على يد مبتكريه روبرت غاسكنز ودينس أوستن. وفي العام 1988، اشتراه بيل غيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت» العملاقة، في مقابل 14 مليون دولار، فشكّل أولى صفقاته وربما أكثرها نجاحاً. ولا يصعب فهم سبب الذيوع الهائل لصيت برنامج «باور بوينت» في الغرب... هناك أولاً الانتشار الواسع للأساليب المتطوّرة في التعليم، عبر مراحله المختلفة، ما جعل ذلك البرنامج الرقمي بشرائحه الملونة، ضيفاً شبه دائم الحضور في المدارس والثانويات والجامعات. وهنالك ثانياً التحوّل النوعي في القاعدة العريضة للقوى العاملة غرباً، والتي لم تعد تتألف من عمال المصانع (البروليتاريا كما سموا في بعض أدبيات الاقتصاد السياسي في القرن التاسع عشر)، بل صار موظفو الأعمال المكتبية يشكلون الشريحة الأبرز من الأيدي العاملة. وأما في الدول العربية والنامية، فقد تآلف برنامج «باور بوينت» بسهولة مع أصحاب العمل الفكري، الذين يمثلون نخباً في تلك البلدان، وخصوصاً أولئك الذين يتعاملون مع الشركات الغربية العملاقة والتي صارت من «أهل الدار» مع تقدّم العولمة وآلياتها وتوطدها في الوطن العربي. وكذلك شَقّ «باور بوينت» طريقه بيسر الى كثير من الجامعات، وخصوصاً غير الرسمية، في تلك البلدان. إذاً، ثمة شيء من الترف، أو ربما من الحرص على إبراز التفوق وعلو الكعب والتقدم في التقنيات ومعارفها، وكذلك بعض من الإدعاء، في حضور برنامج «باور بوينت» في البلدان العربية. وعلى رغم ذلك الإدعاء المتكل على التفوّق العلمي، فإن ذلك البرنامج يعتبر من أكثر برامج «مايكروسوفت أوفيس» سهولة، بل لا يجد كثير من مستخدمي الكومبيوتر صعوبة في تعلمّه بأنفسهم، بعد أن ينجزوا تدريباً أساسياً على الحاسوب وبرامجه الأولية.
جانب مظلم للبرنامج الضوئي: يتميز برنامج «باور بوينت» بأناقة متألقة يصعب إنكارها. وتبرز على أشدها حين تلتمع الشرائح الضوئية الملونة ورسومها البيانية في قاعات مطفأة. وحينها، تبدو العروض الضوئية لـ «باور بوينت» أقرب الى عروض السينما، حيث يندمج الخيال مع ما تراه العين المخطوفة بالضوء واللون والشاشة. ولم تَبخل عليه بالنقد مجموعة كبيرة من المقالات الصحافية الغربية التي لاحظت بلوغه سن العشرين، كمثل المقال الافتتاحي للأميركي لي غوميز عن عشرينية «باور بوينت» والذي ظهر على الصفحة الأولى من صحيفة «وول ستريت جورنال» أخيراً. ولاحظ ذلك المقال أن «باور بوينت» من أكثر برامج الكومبيوتر تعرّضاً للنقد والسخرية والتهكّم عالمياً. وأورد غوميز أن ذلك البرنامج المعلوماتي سهّل عرض حتى أكثر المعلومات العلمية صعوبة، بالنظر الى ميزاته البصرية المتقدمة. وفي المقابل، فإنه قدّم ثوباً زاهياً وقشيباً لعرض الأفكار الأشد سطحية، بحسب قول غوميز الذي شدّد على أن أسوأ ما فعله «باور بوينت» هو فرض نوع من نمطية في عرض الأفكار، ما أثّر في طريقة التفكير نفسها. لقد ترعرع جيل بأكمله في ظلال برنامج يحوّل المعلومات الى رسوم بيانية مزينة، مع أسطر قليلة الكلمات ووجيزة الإيقاع والمحتوى. ووضعت كثير من الدول الغربية مقرراتها المدرسية في صيغة شرائح بأسطر قليلة ورسوم كثيرة، على غرار ما يوحي به ذلك البرنامج المعلوماتي. وتدريجاً، بدا ذلك الجيل وكأنه يهتم بالسير على تقاليد «باور بوينت» وعروضه البصرية، أكثر من اهتمامه بمضمون تلك الأفكار أو تحليل أبعادها وما تحمله من متخيلات وقيم وتراتبيات وغيرها. وباختصار، من المستطاع النظر الى ذلك البرنامج المعلوماتي وكأنه «محدلة» ثقيلة تسير على تلافيف الدماغ المُعقّدة فتحوّلها الى مسطح يخلو من التركيب والتشابك والتعقيد والتعمّق التي تميز الفكر الانساني. وفي لقاء لغوميز، أقر مخترعا «باوربوينت» الأميركيان غاسكينز (63 سنة) ودينس (60 سنة)، بأن كثيراً من النقد الذي طاول برنامجهما مُحق، خصوصاً لجهة قدرة البرنامج على إلباس حتى أشد الأفكار سُخفاً، ثوباً بصرياً مقنعاً ومؤثراً ما يعني نوعاً من «المساواة» المأسوية بين التسطيح والتعميق. ويمكن العثور على كثير من هذا النقد في الموقع الالكتروني الذي يحمل أسم أحد هذين الصانعين «روبرت غاسكينز. كوم» RobertGaskins.com. في ظلال مأساة مكوك الفضاء «كولومبيا»: من الآراء النقدية الكثيرة المُتضمّنة في ذلك الموقع، يبرز رأي إدوارد تافيت، البروفسور في علوم الكومبيوتر والعروض الغرافيكية من جامعة «يال» الأميركية. ويرى تافيت في ذلك البرنامج تعبيراً صادقاً عن روح السوق المركنتلية والزبائنية، التي «تُعهّر» الأشياء والأفكار، فلا تهتم سوى بإظهارها بشكل قابل للبيع والشراء والتداول! ولا يتردد أيضاً في تحميل «باور بوينت» بعض المسؤولية في كارثة احتراق المكوك الفضائي «كولومبيا» في العام 2003، إذ دُفنت الكثير من الأخطاء في الضوء الملون الساحر للعروض البصرية القوية التي قُدّمت فيها الاستعدادات لإطلاق ذلك المكوك! ويُشدّد على أن كثرة تداول «باور بوينت» جعلته مطية لأنواع لا حصر لها من سوء الاستعمال. ويخلص إلى ملاحظة مفادها أن البرنامج مفيد بمقدار ما يستخدم كطريقة لعرض ملخصات عن الأفكار والمقترحات، وبمقدار ما يبعد عن إعطاء الانطباع بأنه يقدم عرضاً وافياً عن الآراء والأفكار. والمفارقة أن غاسكينز لا يعترض على انتقادات تافيت اللاذعة، ولو أنه لا يقرّ بها كلياً. ويروي بنفسه نكتة مفادها أن أفضل طريقة لهزيمة جيش معاد هي إرسال رزم من برنامج «باور بوينت» الى قادته، ما يؤدي الى تشوش قدرتهم على اتخاذ القرارات الصائبة. ويوافق أيضاً على أن كثيراً من المديرين والاساتذة توقفوا عن كتابة وثائق مفصلة ومشغولة بدقة عن أعمالهم الفكرية، مكتفين بصوغ الشرائح الضوئية على طريقة «باور بوينت» لعرض أفكارهم! والمفارقة أن غاسكينز وزميله دينس لا ينظران الى نفسيهما كمستعملين دائمين للبرنامج الذي ابتكراه، بل أنهما يجهلان الكثير من المواصفات التقنية المبهرجة التي أُضيفت إليه خلال العقدين الماضيين. والارجح أن ذلك البرنامج ساهم في نشر ثقافة ميّالة الى مزيج من الكسل والتواني من جهة والاستعراضية المُبهرة والمتحذلقة وشبه البهلوانية من الجهة الأخرى. وكذلك يلاحظ كاسكينز بذكاء أن هذا البرنامج كُرّس كمُكوّن أساسي في نظام التشغيل «ويندوز» وتطبيقاته، ما يعني أن أعداداً متزايدة من الناس ستصل اليه وتتدرب عليه وتستخدمه و...تُسيء استخدامه أيضاً. ويزيد في قوة ذلك الميل أيضاً الانخفاض المتواصل في أسعار أجهزة العرض الضوئي، ما يعني أنه قابل للحلول ضيفاً دائماً في المنازل أيضاً. وكذلك يؤدي الميل المتصاعد لصوغ كتب الأطفال على هيئة شرائح «باور بوينت» الى ضرب ملكة التعبير عند الناشئة، فبدل تعلّم صوغ الأفكار بوضوح في مقاطع تتكامل لتصنع موضوعاً، يميل هؤلاء الى كتابة مفككة الى أسطر مختصرة وفقيرة المحتوى وضعيفة البنية لجهة القدرة على تنظيم الأفكار ورصف أشكال التعبير عنها لغوياً. وتجدر الإشارة الى أن غاسكينز وزميله دينس تركا شركة «مايكروسوفت» في التسعينات، وأسّس كل منهما لنفسه شركة مستقلة. ويعترفان بوجود حاجة لصنع برنامج رقمي مماثل لـ «باور بوينت» بحيث يوضع على الانترنت فيُسهّل عروض الشرائح عبر الشبكة الالكترونية الدولية، لكنهما يعلنان أنهما لن يصنعا بنفسيهما هذا البرنامج المعلوماتي المقترح أبداً... ليس بعد تجربتهما في المدى الواسع الذي وصل اليه سوء استعمال «باور بوينت» وما ولّده من آثار سلبية مديدة.
------
هذا المقال نشرته جريدة الحياة لعددها الصادر يوم 03/08/2007 ، وقد ارتأينا نشره هنا لتعميم الفائدة.