تغيرت حياتنا مع الانترنت، نعم حقيقة يلمسها كل من اقتحم أغوار هذا العالم الفسيح المليء بالأخبار والأحداث والمتاهات، من منا لا يتذكر أيام الألفة والدفء حين كنا نجتمع حول مائدة واحدة نتجاذب أطراف الحديث، قبل هبوب رياح الانترنت والهواتف النقالة، نعيش الحياة بحب وامتنان متحدين مجتمعين، يمزح كل منا مع الآخر في جو عائلي جميل يريح النفس ويقوي أواصر المحبة والإخاء، نقهقه فرحا إذا دعا إلى الأمر داع أو بادر أحدهم بنكتة طريفة، نبتسم في وجه المتحدث ونثمن قوله، نتفقد الغائب ونسأل عنه، نقدر الحاضر ونسعد به، نتحدث عن ماضينا ومستقبلنا وما يدور في ذهننا، عن يومنا كيف قضيناه، وأسبوعنا كيف طويناه، نعبر عن ما نختلجه في صدورنا من مشاعر وأحاسيس خصوصا ونحن أمام آذان صاغية أمينة، وقلوب صافية بريئة، تعيش بجوارحها معنا لحظة بلحظة كل كلمة تخرج من أفواهنا.
أما وقد اقتحمت التكنولوجيا بيوتنا دون استئذان من كل باب ونافذة، وغزا الوايفي كل غرفة ومائدة، وظهر إدمان جديد من نوع خاص يضاف لقائمة السلوكيات البشرية المدمرة، أصبح من الصعب جدا بل من المستحيل أن تعود الحياة كما كانت من قبل وأن يعود الحب كما جاء برداء الصدق والدفاء، فحيثما حل بك الحال وقادتك قدماك، إلا وتجد كائنات غريبة منزوية في ركن من أركان المقهى أو المطعم أو أي مكان آخر يقصده العامة، تعبث في صمت بأجهزتها الالكترونية مختلفة الأحجام و الألوان، لا تتحرك إلا إذا أشارت للنادل بطلب مشروب، ولا تلتفت إلا بحثا عن مكان مناسب تعمل فيه إشارة الاتصال بشكل أفضل، تفضل الانفراد بنفسها لتعيش عالمها الخاص المحاط بهالة من الغموض والتركيز.
هذه المخلوقات التي تقضي ساعات طويلة حبيسة الهاتف النقال تسبح من موقع لآخر، ومن خبر إلى خبر، ومن مخاطب افتراضي إلى مخاطب آخر مجهول الهوية والمصدر، ضاعت معها المصداقية، وأصبحت العلاقات الإنسانية بتصرفاتها هذه فارغة من أي أساس أو قيمة، بل وتغير طعم التواصل الاجتماعي وجرد من محتواه الإنساني الطبيعي، وظهرت رموز غريبة وأشكال عجيبة حلت محل المشاعر الإنسانية النبيلة، لتخلق حالة من الهروب النفسي وانفصام الشخصية بين خلفية المعبر ومشاعره الحقيقية، فأمكننا مثلا إيهام المخاطب بالفرح والسرور عن طريق استعراض رسومات افتراضية معينة، مع أننا نعيش في واقع الأمر أعلى درجات الضجر والاكتئاب، وأصبح من السهل جدا أن نحصل على مئات الأصدقاء، وأن ندردش في عشرات منتديات التعارف، لكننا في نفس الوقت نحس بالوحدة والوحشة والرغبة في الكلام بشكل مباشر مع أحدهم، والتعرف عليه عن قرب بشخصه وهيئته.
أما إذا وقع بصرك اليوم على مجالس الأحباء أو الأصدقاء أو الزملاء، فكأنك حجزت مكانك في بيت للعزاء، أو كأن صاعقة من السماء نزلت على كل فرد فأخرسته عن الكلام وطارت بتفكيره وخياله إلى عالم آخر يعيش بمفرده فيه دون الحاضرين معه، فتتحقق بذلك مقولة وكأن على رؤوسهم الطير، وقد ترى مثلا أحدهم مقهقها بأعلى صوت وهو يحدق ببصره في شاشة هاتفه الذكي مع أن جو المجلس غارق في الصمت والكآبة، وقد تراه على نفس الوضع بادية عليه علامات الانزعاج والغضب رغم أن الكل منشغل في صخب المرح والدعابة.
هكذا تغيرت حياتنا وتصرفاتنا مع دخول عالمنا عصر العولمة الرقمية، وهكذا تأثرت المجتمعات البشرية في روابطها البينية تأثرا بالغا جعلها تدخل في منعطف خطير يُنبئ بتفكك أخلاقي واجتماعي لا يبشر بالخير.